الجمعة ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
برحيله
بقلم حسن توفيق

هوى صرح ثقافي شامخ

في الزحام البشري الفوضوي، يتسابق الناس، يتدافعون، أقواهم – بدنياً لا عقلياً – هم الذين يتصدرون الصفوف، هم الذين يخطفون ما فيه يطمعون، أو ما به يحلمون. الزحام ليس مقصوراً على البسطاء وحدهم، ففي غابة من الفوضى يتصارع الجميع، يخوضون في الزحام، لا يلتفتون لمن تعثرت قدمه، بل قد يدوس بعضهم عليه. وفي الزحام تنطلق الغرائز لتحقيق المنافع والمطامع، مشروعة كانت أو ممنوعة. في الزحام لا مجال للعقل.

الدكتور عبد الغفار مكاوي كان واحدا من القلائل الذين لا يحبون الزحام البشري الفوضوي، لأن في أعماقه زحاماً كبيراً، لكنه زحام متناسق، لا مجال فيه للفوضى، ولا للرعونة. عوالم عديدة، قد تبدو للوهلة الأولى متناقضة، لكنها تتآلف في أعماق عبد الغفار مكاوي. يقال إن بين الشعر والفلسفة عداوة، لكنه جمع بينهما. يقال إن بين الشرق والغرب خصومة، لكنه مزج بينهما. يقال إن العمل الأكاديمي يعوق حركة العمل الإبداعي، لكنه وفق بينهما وتألق فيهما، رغم كل ما وجهه الكارهون لأي عمل متألق من سهام وما حاكوه بأحقادهم من مكائد، وقد واجه عبد الغفار مكاوي ما وجهه إليه هؤلاء بالصمت النبيل وبالترفع عن الصغائر وبالتسامح المثالي النادر.

أحسست بهول الفجيعة ولوعة الفقد، حين اتصل بي الصديق الشاعر الدكتور نصار عبد الله، ليخبرني أن عبد الغفار مكاوي- الإنسان الذي أحببناه منذ عرفناه، قد رحل عن عالمنا يوم الإثنين 24 ديسمبر 2012 ومما ضاعف من إحساسي بالفجيعة ولوعة الفقد أني كنت أعيش في أجواء الذكرى الثامنة والأربعين لرحيل بدرشاكر السياب الذي رحل عن عالمنا يوم 24 ديسمبر سنة 1964بعد حياة قصيرة لم تتجاوز غير ثمان وثلاثين سنة وكنت قد أحببت هذا الشاعر الرائد الكبير منذ أن تفتح وعيي على الحياة الثقافية والأدبية، أما عبد الغفار مكاوي فقد رحل إلى الديار التي لم يعد من الذاهبين إليها أحد عن عمر يناهز الثالثة والثمانين، بعد أن أثرى المكتبة العربية بعطاء متنوع وغزير في الفلسفة والأدب والسياسة والترجمة.

على ضوء معرفتي الوثيقة بأستاذي عبد الغفار مكاوي، أقول إن قلبه الرقيق كان باقة حب، يهديها لكل سائر على الدرب، فهو لا يتعالى بعلمه- رغم عمقه وغزارته- على أحد، حتى لو كان هذا الأحد ممن في قلوبهم مرض. وإذا كان كثيرون ممن عرفوا عبد الغفار مكاوي يؤكدون أنه إنسان حيي وخجول، فإني أتصور أن الحياء عنده قناع رقيق، يبعده عن الخوض في السفاسف والترهات، فهو يحرص دائماً أن يكون مستمعاً مصغياً، لا متكلماً، حين يجد نفسه وسط حشد كبير، وربما يكون هذا ما أشار إليه الصديق الدكتور عبد العزيز المقالح – منذ أكثر من ثلاثين سنة – حين روي كيف التقى مع عبد الغفار مكاوي للمرة الأولى، فيقول: «.. أشار صلاح عبد الصبور إلى أحد الجالسين وقال: هذا هو عبد الغفار مكاوي صاحب الترجمة الجيدة. كان الدكتور عبد الغفار يجلس صامتاً يتابع الحديث بحياء وتواضع شديدين قبل أن يبدأ في المشاركة فيه، ولابد أن نعرف أن الحياء والتواضع هما أبرز سمات عبد الغفار مكاوي الإنسان والأستاذ وقد ظلا يرافقانه وينموان مع نموه الفكري والأدبي إلى هذه الساعة. كانت تلك بداية اللقاء، بداية تاريخ صداقة نمت وتوطدت، وجعلت من الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي واحداً من أهم الأساتذة الذين علموني...».

في إحدى قصائده العميقة والحزينة، وهي قصيدة «تأملات ليلية» أتوقف عند عدة سطور منها،متسائلاً: هل كان صلاح عبد الصبور يصور نفسه فيها وحده، أم كان يصور أيضاً أصدقاءه الجادين المتأملين، وفي صدارتهم صديقه الحميم عبد الغفار مكاوي؟.. هذا ما قاله صلاح عبد الصبور:

.. وكأني نهر
يهتف بالمجرى:
أرجعني للقمم البيضاء
حتى لا يشربني الحمقى والجهلاء

عبد الغفار مكاوي واحد من الكبار الذين أسسوا «الجمعية الأدبية المصرية» - تلك الجمعية التي ظلت تبث إشعاعاتها الجادة والباهرة على الساحة الثقافية والأدبية في مصر منذ أواخر الخمسينيات من القرن العشرين الغارب، ولا أستطيع الآن أن أتحدث عن هؤلاء المؤسسين الكبار، لكني أذكر بعضاً منهم، متمنياً ألا تخونني الذاكرة، فمن هؤلاء: صلاح عبد الصبور – فاروق خورشيد – الدكتور عبد القادر القط – الدكتور عز الدين إسماعيل – الدكتور حسين نصار – الدكتور شكري محمد عياد – عبد الرحمن فهمي – محمد عبد الواحد- بهاء طاهر. وفي الستينيات قرر هؤلاء أن يضموا إليهم جيلاً جديداً من الأدباء الذين بدأوا يشقون طريقهم، وكنت أنا والدكتور نصار عبد الله، من بين الذين تشرفوا – وقتها – بعضوية الجمعية الأدبية المصرية،وكان صلاح عبد الصبور أول من أطلق على عبد الغفار مكاوي لقب «الحكيم» تقديراً منه له وعرفاناً بفضله وعلمه، وفي خضم المناقشات الليلية المحتدمة، كان صلاح عبد الصبور يقول فجأة وبحسم: عايزين نسمع رأي «الحكيم» فينطلق عبد الغفار مكاوي للحديث بدقة ورقة ليستا مغلفتين بما أسميه «قناع الحياء» لأنه لا يتواجه مع حشد ممن لا يعرفهم، وإنما يتحدث من القلب وبالعقل إلى أصدقاء يحبونه مثلما يحبهم.

هذه سطور متعجلة، ليست متمهلة، وبالتالي فإنها ليست متأملة، قصدت منها أن أصور إحساسي بهول الفجيعة ومرارة الفقد بعد رحيل أخي الأكبر وأستاذي عبد الغفار مكاوي، هذا الصرح الثقافي الشامخ الذي هوى، والذي أقف أمامه حائراً.. هل أكتب عنه باعتباره شاعراً، أم باعتباره كاتباً مبدعاً للقصة القصيرة؟ وماذا عن مسرحياته، وماذا عن دراساته المتعمقة في الفلسفة، ودراساته وترجماته للشعراء الألمان، الذين يجيد لغتهم إجادة مطلقة، ونقل قصائد عديدة لهم إلى لغتنا العربية بصورة رائعة، ولابد هنا أن أشير إلى ترجمة عبد الغفار مكاوي لقصائد الشاعر الألماني العالمي برتولد بريشت، والتي حفظت منها الكثير عن ظهر قلب.

رحل عبد الغفار مكاوي.. الحكيم الذي كان يشتاق دائماً إلى «البلد البعيد».. البلد الذي يكون فيه الإنسان – بحق – صديقاً للإنسان، ويبدو أنه سيظل – حتى بعد رحيله- يتساءل، كما تساءل من قبله بريشت الذي أحبه وجعلنا نحبه:

أي زمن هذا؟

إن الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة..

لأنه يعني الصمت على جرائم أشد هولاً.

البلد البعيد – عنوان أحد كتبه التي كان يحبها، سيبقى حلماً جميلاً في قلوب الذين يحلمون بأن يكون الإنسان صديقاً للإنسان، وليس أداة للغدر أو القهر أو القتل، ولم يفقد عبد الغفار مكاوي – طيلة حياته – رغبته في أن يشتاق للوصول إلى البلد البعيد، وها هو قد رحل إلى البعيد، ولكن قلبه سيظل باقة حب، يهديها لكل سائر على الدرب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى