الاثنين ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

قرار«الجزء الثاني»

رنَّ جرس الهاتف بشكل مزعج ومتواصل، فلوث الهدوء الذي كنت أنعم به، وانتهك السكون من حولي، وأنا بجلستي المدللة، المعتادة مع الكتاب... وقبل أن أرفع سماعة الهاتف همست في سري: اللعنة على هذا الجهاز وعلى من يحاول الاتصال في مثل هذا الوقت العزيز! ثم رفعت السماعة وقلت بعدم اكتراث وبلا مبالاة: نعم.

 أنا أياد، صديقك، ألم تعرفني؟!

 عرفتك، إبليس عندما يلهو ويصطاد(أجبته بشيء من الاستفزاز)

 سامحك الله، ولكن، لي عتب عليك! ( وقفة قصيرة) ثم أضاف بقسوة ليس من طبعة، إما الرضوخ أو الرفض!!

 اللهم اجعله خيراً!!

 نبر مستدرجاً: لقد كتبت عني حكاية، وقد ذكرت اسمي فيها بشكل صريح، دون إذن مني! وهذا لا أقبله ثم سكت، وكأنه يجس وقع كلماته عليَّ وينتظر رد فعلي!

 قلت: وماذا في ذلك؟ (وأنا أتكلف الابتسام)

 صرخ، كمن مسه شيطان : كيف، وماذا في ذلك؟ ثم أردف بإصرار، هل أنت واثق مما تقول؟!

 كل الثقة يا صديقي، وأضفت، لأنني كتبت عن أشياء وأمور كثيرة، دون أن آخذ إذنا أو أمرا من أحد.

 رد باستياء مبطن: عن ماذا كتبت؟ ها... أفصح!

 قلت بنبره حاسمة: كتبت عن الله والشيطان، عن المرأة الصالحة والعاهرة، عن المؤمن والقواد والكافر، عن الطفل البريء والغلام، ثم ختمت كلامي بتهكم، وكتبت أيضاً عن الرمح عندما يكون منتصباً وعن الصليب الذي يندي وهو يئن لوعة وشهوة واحتراقا بين الفخين، ترى لو أراد هؤلاء مقاضاتي، ربما كنت اليوم أعمل مع إبليس، حفاراً للقبور!! وتابعت متندراً، ومع ذلك، ولأنك أعز أصدقائي، أعتذر منك، وتابعت بصدق وتصميم، لم أقصد الإساءه... وكما قرأت بنفسك الحكاية؛ فكل ما أردته، هو تصوير جزء من حياتك، وتسليط الضوء على نقطة رأيتها غاية في الأهمية لأناس كثر، لما فيها من دروس وعبر، وأضفت بإصرار، هل أخطأت في ذلك؟ ثم نوهت قائلاً، تذكر ما قاله بوذا بهذا الشأن، هنيئاً للمعذبين الأبرياء، الذين قلوبهم بيضاء، كالفضة، وأنا واحدٌ منهم.

 تغيرت لهجته بسرعة نحو اللين، ورد: صديقي العزيز، لا اعتراض على ذلك!!

 قاطعته بحدة سائلاً: إذن، ما المشكلة؟!

 تمتم بما يشبه المواساة: المشكلة فيّ وليست فيك!!

 قلت مشاكساً: عجباً، حزورة هذه أم ماذا؟!

 تعتع منتشياً: أرجوك يا صديقي، جرب أن تفهمني! كن جاداً معي ولو للحظات، ثم استدرك، فأنا لا أمزح.

 أجبته بحسم: نعم، وها أنا أجتهد، كي أفهمك! ومن ثم أنا لا أمزح أيضاً، ولا أختبئ خلف كفي أو في ثيابي! وأردفت بعد تأن، لكن ما نوع المشكلة التي تعانيها؟ أقصد، ذكرت المشكلة فيك وليس فيّ؟!

 هذا جيد، أعني ستقتصر عليّ المسافات!!

 أي مسافات؟

 الشرح، التوضيح والإحراج! ثم أكمل بعفوية، الإحراج هو أطول أنواع المسافات التي يواجهها الإنسان في حياته، ولا ينافسه في ذلك، إلا الخجل!!

لم أستطع أن أكبح أو أقضم ضحكتي، فضحكت بصوت مسموع، لكن دون تهكم والله، وأجبته بلؤم حقيقي، أراك تتفلسف يا صاحبي! (أصبح مشهد الحوار فجأة لذيذاً جداً لي، بعد أن طاب وهو ينحرف هكذا دون ترتيب مسبق)

 صاح منفعلاً، كعود ثقاب اشعل: لا تغالط نفسك يا عزيزي الخبيث، فأنا وكما تعلم، درست الهندسة وليس الفلسفة...

 قاطعته بحزم، وبرغبة مسعورة للصدام: حسنناً إذن، قل ما في نفسك وعريها أمامي ومن خلال الهاتف...

سعل قليلاً، ثم نطق، حسنناً يا صديقي، سأقول... وأنطلق بالحديث، وكأنه أمام مباراة للسباق في الكلام، لم يعط لنفسه راحة ولم يتوقف، حتى أعلن عن جملته الأخيرة في نهاية حديثة، الذي جاء فيه:

عزيزي، سألت نفسي جاداً وبحماس منقطع النظير، ما دمت أنت قد كتبت عني حكاية، وذكرت اسمي فيها صريحاً دون تردد! فأنا أيضاً قارئ جيد، بل أكاد أجزم بأنني مدمن قراءة منذ الصغر؛ وكما تعلم بأني إنسانا متعلم، وحاصل على شهادة بكالوريوس في علوم الهندسة الزراعية، ما أريد قوله، أقصد، لا ينقصني شيئاً...

حاولت هنا مقاطعته عن الاسترسال في الكلام، دون جدوى! فتابع حديثة بنفس الحماس والرنة، وكأنه طلقة، انطلقت من بندقية، فلا توجد بعد قوة تمنعها من التوقف أو الرجوع إلا بعد أن تصل مداها أو هدفها... فأستكمل وقال بما يشبه التوبة أو الندم:

أرجوك يا صديقي لا تقاطعني، واجعلني أكمل حديثي(ودون أن ينتظر الرد) هتف، لذلك قلت في نفسي لأكتب قصة عنك!! كما فعلت أنت، خاصة بعد أن مقت الحياة بسببك، وكرهت خيالي الذي يطاردني من وراء قصتك... وهنا استوقفته بنزق، مستفزاً:

وماذا حصل؟ فأنا أتوق لهكذا مغامرات، أقصد، أحب أن يكتب عني الناس، خاصة عندما يكون القول، قصة قصيرة! ودون أن يتعب نفسه بالإجابة، وكأنه لم يسمع، استرسل قائلاً:

بدأت أكتب القصة، وكتبت اسمك الصريح، رد فعل، كتأنيب أو استعادة حق! دون خوف أو تردد، وكما فعلت أنت بالضبط، ولكن... أعني، صادفتني مشكلة، ولم أجد لها حلاً، سوى الرجوع إليك، وقلت في نفسي، لا ينقذني من ورطتي سوى صاحبي، عزيزي وكاتب حكايتي... وها أنا أتصل بك الآن!!

 أجبته بصبر، كما قلت لك في البداية، أنا كلي آذان صاغية، قل، أرجوك واعتقني، وتذكر بأني مازلت أفضل صديق تمتلكه في حياتك وباعترافاتك المتكررة اللعينة!

 ضحك، كالطفل ببراءة وقال: هذا صحيح وحق الرب، ثم سأل بغير توقع، إلا تشعر بأنك مغرور بعض الشيء؟!

 بصراحة شديدة قلت: هذا الذي تقول عنه- بعض الشيء – ضروري جداً للأديب، على الرغم من أني أراه اعتداداً وعزة وليس غرورا، وإلا، لكنت تاجراً أو بائعاً أو حتى ساقطاً للذمة والأخلاق!

 همس متكدراً، مصدوماً من إجابتي: أنا لم أقصد ذلك يا صديقي.

 أعرف هذا، ثم أطرقت، لكنني أردت فقط أن أبين الفرق بين الغرور والاعتداد، خاصة عند الفنان؛ ثم أدركت مباغتاً، إذن قل، ما المشكلة التي صادفتك؟ إنهاءً للنزاع!!

 سأقول، ولكن اصغ السمع جيداً ولا تقاطعني!

 لك ما تريد يا عزيزي، ولكن، لتعلم بأنك تعذبني بأفعالك غير المسؤوله هذه، أرحمني أرجوك، لقد أتعبتني وسّوت نهاري الذي كان ممتعاً، ونغصت عليَّ راحتي وسعادتي بعد أن قطعت جلستي المدللة العظيمة مع الكتاب، قبل اتصالك المنكود، اللعين هذا!

 قهقهة وصاح: سأقول والله، انتظر فقط لأبلع ريقي اليابس بسببك، سأفصح... ثم أدرك:

بدأت أكتب القصة، وما هي إلا سطرين حتى أصابني العجز، كمشلول، فتوقفت ولا أعلم لماذا؟ حاولت إعادة قراءة ما كتبت، ركزت، ثم تشتت بصري وزاغ حول السطرين المنحوسين، اليتيمين دون فائدة أو رجاء أو أمل التقدم أكثر، حتى ظهرت خيبتي وبانت لي، وكأنها حفرة كبيرة، تكفي لدفن عشرة أسود أفريقية فيها؛ بل وجدت نفسي أحلم، كما يحلم إبليس في الجنة!! عندها استسلمت لقدري، وقلت في سري، يجب أن أعترف وأمام نفسي، بأنني لا أستطيع ولا أجيد كتابة القصة القصيرة، والدليل هو إخفاقي الذليل، وعرفت بعدها بأن جموحي وطموحي لم يكن إلا فورة غضب غير مبررة... (توقف للحظة كي يستعيد أنفاسه أو ربما ليتذكر ما يريد قوله بعد أن أعد له مسبقاً) وأضاف، صحيح أنا أقرأ كثيراً، لكن ليس بالضرورة أن أكون أديباً... حتى قفزت أنت في ذاكرتي، ووسط كل هذه الأهوال والمصاعب... قررت أن أعطيك الفكرة وما أريد قوله، لتكتبه قصة وبعدها أهديك إياها، ثم هتف، وكأنه نسى نفسه، ليس لديك من خيار، أما الرضوخ أو الرفض! ها... ماذا تقول؟! هل ستكتبها؟

 (فترة سكون) ثم كسرت حاجز الصمت بقولي: لماذا لا تحاول مرة أخرى، وكما قال" ماوتسي تونغ زعيم الحملة ألفلاحيه، التحريرية الصينية، أولاً إخفاق ثم نجاح ثم إخفاق ثم نجاح " وسألته بخبث ليس قليلاً، ها... ما رأيك بأن تعيد المحاولة؟!

 همس منكسر الخاطر قائلاً: لديك لسان يا صديقي له قدرة على نشر الخشب! ثم هتف، أعوذ بالله، منشارك خبيث وسليط!! وأضاف، سأترك موضوع القصة بين يديك، هذا أنعم وأكرم لي وأرحم... ثم ودعني بحزن، قائلاً، سأبقى أقرأ لك كل ما تكتبه، لكن عدني، بأن لا تكتب عني مجدداً... وانقطع الخط...

قلت مندفعاً محدثاً نفسي، كمن به خبل:

اعذر لي جنوني يا صديقي وربما هفوتي، ولكنني بالتأكيد سوف لن أفي بوعد، لذلك لا أعدك، فالكتابة هي خروج عن النمطية، كره للرتابة، صلاة للحركة، السعي إلى الاستثناء لأنه صعباً، والفوز لا يكون فوزاً إلا إذا كان الأمر صعباً؛ هي حالة وليست جدل، لحظة صراع شاردة مع الذات، يتوهج فيها الخيال، يتقد وتستعر الشجون وتختلج، تحترق الكلمات وتلتهب، فتجدها سائحة دون إشارة أو إيعاز أو سلطة تسيرها... وهذه الخواطر التي تمر، قد نمسك بها، وقد تتبخر وتتسامى، كدخان في الهواء قبل القبض عليها، والذاكرة" وكما وصفها الكاتب الروسي تيشخوف، دولاب المحفوظات " تلعب الدور الرئيسي في خزن تفاصيل الحلم من عدمه(سرحت قليلاً مع ذاتي) ثم أردفت، كنت أتمنى أن يعرف أياد، بأن الخواطر تمر على جميع الناس، كالفراشات الهائمة، ومن يصطادها ويجعلها أسطرا على الأوراق، يكون له الحظ الأوفر بأن يكون كاتباً، ومن لم يستطع، فهو يبقى من عامة الناس، أقصد يكتفون بتلك الهواجس وهي تمر أو تغزو أذهانهم، دون الوقوف عندها أو تجسيدها على شكل عمل قصصي، فتطير منهم وهم لا يستطيعون اللحاق بها أو القبض عليها، وهذا ما حدث معك يا صاحبي بالضبط!! هذا يعني أنك صياد فاشل، لأنك حاولت الكتابة اكتساباً وليس بالفطرة، ولم تجعل القلم هو الذي يفعل ما يريد دون أمر أو تنبيه منك؛ والكاتب هو صياد وصائغ في نفس الوقت، يصطاد الأفكار ويصهر الخواطر ويحولها إلى قصص وحكايات دون أن يعلم كيف!! آه... لو يعلم أياد، بأن الفكرة هي البرق الذي عمره لحظات معدودة، لكنه مذهل، خطير، كالرعد والصاعقة... والكتابة هي تلك الومضة المتألقة، المتوهجة التي يصعب رؤيتها إلا للحظات، كعمر البرق، لكن أسرارها وخطرها يبقى كامنا ليس له حدود أو حواجز، كالأفق!

وبعد أن زهقت روحي بكل هذه الشروح والتساؤلات، قلت مستكناً، هادئاً، وكأنني لم أقل شيئاً: طريف صديقي أياد، هذا، وما يعجبني فيه بأنه كان صادقاً معي ومع نفسه وهو يتحدث عن مشكلته... هذا يعني بأنه لم يزوق الحروف ولم يكذب، كما يتنفس مثلما يحلو للبعض، وهم يسمون أنفسهم، وكلاء الله على الأرض!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى