الخميس ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم صونيا عامر

طريق العودة

اسمي مريم وعمري 90 عاما، لسوء حظّي، ولحُسن حظّي أنّني بصحّة جيّدة جدّا باستثناء الروماتيزم والعصبيّ، ممّا سيخوّلني إن شاء الله كتابة هذه القصّة:

أنا في المطار، ..... حيث قرّرتُ العودة، نهائيّا إلى الوطن، بالمعنى الأصحّ إلى قريتي، مسقط رأسي، حيث قرّرتُ الموتَ فيها.

لم أحضر كثيرا من المتاع، فأنا مع طول المدّة مللتُ ما لديّ، لم أعُدْ أرغبُ بشيءٍ سوى إنهاء قصّتي هذه، بلى كما وأرغب بالموت، لقد شِختُ كثيرا .... وتعبتُ من العمر.

سبحان الله، أذكر حين اشتريتُ بوليصة التأمين، كنت في ال 36 من عمري، حيث كنتُ بدأتُ أتقاضى ما يسمح لي بالادّخار.

وحينها أصررتُ على الموظّف أن يرفع سقف التقاعد إلى 90 عاما، فنحن نعمّر، قلتُ له حينها.

وبناءً عليه فهي سنتي الأخيرة حتّى للتقاعد، فبعد الآن لن أتقاضى راتب التقاعد حتّى.....

ما همني، فأنا الآن غنيّة، غنيّةٌ جدّا، أمتلك شركة، وأنا بجانب ذلك مشهورةٌ ومعروفة، فأنا كاتبةٌ وأديبة..... كما ولم أكُن لأتخيّل أنّ للنجاح كلّ هذا الثمن.

ولديّ من المال ما يكفي للكثير من العواجيز مثلي.

سوف نُقلع بعد قليل، وهذا جيّد فأنا في عجلة من أمري،،، لَكَم تغيّرت الطائرات، على مدى التسعين عاما.

مجنونةٌ أنتِ يامريم، كيف اتّخذتِ مثل هذا القرار،،، فلم يبقَ أحدٌ ممّن عرفتِ في قريتك تلك، رحم الله الجميع، بما فيهم المسكين زوجك، حبّذا لو كان حيّا، لكُنّا تسلّينا قليلا، حتّى ولو بالشِّجار... ولكنْ والحمد لله فلقد كان له ما أراد، عَشِق الوطن ، وانتهى فيه وهذا جيّد.

أولادي، أجل أولادي هم أيضا هرموا، وطفلي الكبير المسكين يعاني أمراضاً كثيرة، لطالما كانت زيادة الوزن عائقا على مدى العمر، فهو خَمول بالطبيعة، ولقد زادت من خموله هوايتُه تلك، فهو والحمد لله، أشهر من أن يُعرَّف، ولم يكُنْ موافقا قطُّ على رحلة الموت هذه، لكنّي رجَوتُه وأذعَنَ أخيرا لندائي.

أمّا الثاني، فهو الأوفر حظّا بيننا والحمد لله، فهو أكاديميٌّ بامتياز، وسعيدٌ جدّا مع شقرائه تلك، وبناته الاثنتين.
رحم الله جدّتي فلو كانت حيّةً لزوّجتْ بناتِ ابني لأولاد عمّهم، فهكذا العُرف، أو بالأحرى هذا ما عرفتُه أنا.

ولمَ لا فأين سيجدون مثيلا لهم، هذا ما قالوه حينها، أمّا أنا فكلّ ما يهمّني هو إنهاء الأمر.

لقد مضى وقتٌ طويل على ذلك، لن يجدي نفعا، كما لم يُجدِ قطُّ. غريبة هذه الدنيا، حيث تعطي كلّ ما لا نحتاجه، ولربّما نحتاجه، ولكنّ الإنسان بطبيعته يفتقد ما لا يملك، هذا كلّ شيء.

رحلة الموت هذه كفيلة بمحو الماضي، فهو قليل من التراب، حيث أرغب بالدفن الإسلاميّ، ليس الوثنيّ المعهود لدينا،،،،

حبّذا لو حُقِّق لي هذا لحلم، على العموم فأنا قد طلبتُ ذلك من أبنائي، علّهم يستطيعون تنفيذ وصيّتي، و إلّا فسوف أُوارى الثرى، كما العادة،، لا يهمّ، فلا فرق على العموم.

يا إلهي، لمَ هذا الخوف، ودِدتُ لو أنّ الطائرة توقّفتْ، أو عادت أدراجَها، غيّرتُ رأيي، لم أعُدْ أرغبُ في الذهاب. وطني هو ما عشتُ فيه، وهناك يجبُ أن أبقى إلى أن أموت.

ما بكِ يا مريم هيّا تشجّعي، فبعضُهم بانتظاركِ في المطار وسوف يُسهِّلون عليك المَهمّة، المال يصنع المعجزات، وأنتِ لديك الكثيرُ منه.

حبّذا لو استطعتُ إنشاءَ مأوىً للعجَزة، مشغلِ خياطةٍ للأرامل، أو حتّى حضانةٍ للأطفال، أو ربّما من الأفضل أن أُجريَ الدراسات أوّلا، وما هُم بأمسِّ الحاجة إليه، سوف أبدأ به.

ولكن، تشعر مريم بدوار مفاجئ وتحس بضيق بالنفس، وألم يكاد يشق صدرها، فتضغط على الزر طالبة المضيفة، لتسرع بدورها بمناداة الطاقم الطبي وإحضار التجهيزات الطبية المتاحة على متن الطائرة، لكن الطاقم سرعان ما يلبي النداء ليجد مريم قد فارقت الحياة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى