الثلاثاء ٢٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
الإرهاب الفرنسي
بقلم فؤاد وجاني

أم الحرب على الإرهاب

لم تستفد فرنسا من تجاربها المريرة السابقة على أرض تامزغا، أو لعل نبل سكان القارة السمراء حال بينهم وتلقينها درسا أقسى من الذي حصلت عليه. والدول كالإنسان، تتألم وتشتاق وتتذكر أيضا، لكن بعضها لا تعتبر بالتأريخ، ولا تتوب عن جرائمها إلا لوقت يسير حتى تتعافى من كبوتها فترجع إلى ما كانت عليه.

ما هي الدوافع الحقة للحرب على مالي التي تجمع لها فرنسا العتاد والمؤن من بلاد النفط والعقال في الشرق وأعني دولة آل نهيان في الإمارات، وتحشد لها الأرض والجند والسماء من أنظمة أفريقيا المتواطئة لغاية الحفاظ على الكراسي وعلى رأسها نظام محمد السادس وبوتفليقة؟

إن كانت حربا لأجل وحدة مالي كما يزعمون، فالأولى بها أحرار سوريا الذين يستشهدون كل يوم على أيدي جنود بشار الأسد، أو السودان الذي بات مقسما في عصرنا إلى شمال وجنوب، أو الشعب المغربي بها أحق ضد جماعات البوليزاريو الانفصالية. إنما تسعى القوى الامبريالية إلى تقسيم أفريقيا إلى دويلات لضمان نفوذها بعد أن وحدها السعديون الذين وصل نفوذهم إلى تمبكتو، وجمعها المرابطون الذين امتدت بلادهم حتى نهر النيجر.
المفكر والناقد السياسي نعوم تشومسكي يصرح: "لا توجد حرب ضد الإرهاب... هناك استيلاء على موارد الطاقة والمواقع الحيوية". لكن، يمكن الجزم قولا مقتضبا إن هناك ثلاثة دوافع محتملة للحملة ضد مالي، وهي مرتبطة فيما بينها ارتباطا وثيقا متشابكا وتتفاوت درجاتها من حيث الأهمية:

أولها الصراع المحتدم بين فرنسا والصين لأجل استغلال خيرات أفريقيا. فقد صرح وزير المالية الفرنسي بيير موسكوفيشي خلال زيارته ساحل العاج الفاتح من ديسمبر الأخير في 2012 بوجوب محاربة النفوذ الصيني المتزايد للسيطرة على أسواق غرب أفريقيا، وأعرب أمام الصحافيين: " الواضح أن الصين حاضرة أكثر فأكثر في أفريقيا... ويجب على الشركات التي تتوفر على الإمكانات الشروع في الهجوم. يجب أن تكون أكثر حضورا على الأرض. لابد لهم من خوض المعركة"، ثم أضاف فاضحا مخططات فرنسا في المستقبل القريب: "أفريقيا تزدهر. في عام 2012 سيصبح جنوب الصحراء في المركز الثاني من حيث النمو على الصعيد الجهوي بعد آسيا بنسبة 5.5 في المئة...وتكمن الظاهرة الجديدة في قدرة النمو الأفريقي على تحفيز النمو في فرنسا، ونحن نود أن نكون حاضرين هناك".

ثانيها، العمل على بسط النفوذ السياسي لأجل استمرار الاستغلال الاقتصادي لأفريقيا، فما زال لفرنسا الحق الأول في شراء أو رفض أي موارد طبيعية موجودة في أرض البلدان الفرنكوفونية، حتى لو استطاعت تلك البلدان الأفريقية الحصول على أسعار تفضيلية في أماكن أخرى فإنها لا يمكن أن تبيع لأحد حتى ترخص لها فرنسا ذلك. وعلى المستعمرة السابقة أن تعرض العقود الحكومية على الشركات الفرنسية أولا ولو حصلت على قيمة أفضل مقابل المال من طرف ثالث.

وهذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تلجأ فيها فرنسا إلى الأمم المتحدة لأجل بسط نفوذها على مالي وأفريقيا كلما شعرت بخطر استقلال حقيقي. فقد لجأ ساركوزي إلى الأمم المتحدة لإضفاء صبغة شرعية على إزاحة الرئيس الإيفواري لوران غباغبو بعد أن دعا فرنسا إلى مراجعة العقود الموقعة معها، علما أن ساحل العاج يصدر ثلث احتياط العالم من الكاكاو وله مستقبل واعد في مجال النفط. ولم تكتف فرنسا بإحداث حرب أهلية انتقامية هناك بل قامت بتدمير كل أسلحته ومنشآت قواته الجوية بأمر مباشر من ساركوزي مُسلمة السلطة إلى حليفها الحالي الرئيس واطارا، حتى يكون عبرة لمن يحذو حذوه من الجيران.
وقد كان الرئيس الإيفواري السابق غباغبو قاب قوسين أو أدنى من توقيع معاهدة مع الصين، يتم بموجبها إنشاء جسرضخم بنصف السعر الذي اقترحته الشركات الفرنسية، بل ويكون الدفع بمنتوج الكاكاو وليس بالعملة الصعبة كما تفرضه فرنسا فكان مصيره ما كان.

وفي المجال السياسي، يمول المتقارعون الفرنسيون حملاتهم الانتخابية لأجل الحظوة بمنصب الرئاسة بأموال أفريقية، وبعد الفوز قد ينقبلون على رؤسائها إذا ما دعت ضرورة الموارد، كما حدث للرئيس الإيفواري غباغبو والليبي القذافي.

ولا تختلف نظرة الرئيس الفرنسي الحالي هولاند إلى أفريقيا عن سالفه المحافظ ساركوزي، فإذا كان الأخير يراها من زاوية الاستغلال المباشر فإن رؤية هولاند مغلفة بقناع الشراكة.
وبلغة الأرقام، وإذا تفحصنا الميثاق الاستعماري الذي أنشئت بموجبه العملة الموحدة للدول الفرنكوفونية، فإننا نلاحظ أنه يفرض على أربعة عشر بلدا عضوا أن يودع كل واحد منهم 65٪ من احتياطاته من النقد الأجنبي في حساب في خزينة فرنسا المالية بباريس بالإضافة إلى 20٪ أخرى للالتزامات المالية لمشاريع قيد التنفيذ، أي ما مجموعه 85%، أي أن الدول الافريقية لا تستطيع التصرف سوى في 15٪ من أموالها الخاصة لأجل مشاريع التنمية الوطنية في أي سنة معينة. وإذا ما احتاجت دولة ما إلى أموال إضافية، كما هو الحال غالبا، فإن فرنسا تقرضها من تلك ال65٪ من احتياطاتها وبأسعار فائدة تجارية عالية. وهذا ليس كل شيء، هناك سقف للديون الممنوحة لكل عضو، فلكل بلد الحق في الحصول على ما يعادل 20٪ فقط من إيراداته العامة في العام السابق. وإذا كانت البلدان بحاجة إلى اقتراض أكثر من 20٪، فلا يمكنها ذلك. هكذا تعيش فرنسا وتنعش أسواقها المالية بالأموال الأفريقية على حساب استنزاف أفريقيا، بل وأكثر من ذلكم تستثمر أموال الأفارقة في أفريقيا لتدر عليها أرباحا إضافية واستعبادا أكبر.

وإذا ما تتبعنا قطاعات الماء والكهرباء والاتصال والنقل والموانئ والمصارف الكبرى والبناء والفلاحة فإننا نجد أغلبها في القارة السمراء مملوكا من قبل شركات فرنسية.
ثالث الدوافع يتجلى في القضاء على كل حركة تحررية أنى كان نبعها ومهما اختلف فكرها العقائدي والتنظيري، فالتحرر من الاستعباد الامبريالي غاية واحدة لكل شعوب القارة السمراء من شمالها إلى جنوبها وإن اختلفت تياراته. حسبك أن تنظر في تأريخ هذي الشعوب من قبل أن يولد المسيح لترى كيف كان الرومان يعاملون سكان شمال أفريقيا وغرب الصحراء ويسعون إلى إذلالهم واستعبادهم، وما أعقب ذلك من ثورات كبيرة قادها الملوك الأمازيغ آنذاك من فئة ماكرينوس وجوبا ويوغرطة، ولم يتوقف الرومان عن غيهم وظلمهم إلا بعد أن استحوذ الجنوبيون على روما وعرضوها للبيع ذات زمان مشرق.

والحقيقة أن كل قوة تحررية نابعة من الشعب وغايتها تنمية وطن أفريقي ولها منهاج واضح المعالم، مهما اختلفت عقيدتها، تزعج القوى الإمبريالية الفرنسية. فقد اشتركت فرنسا مع أمريكا والنظام المغربي والموساد الإسرائيلي سنة 1965 في اختطاف وقتل اليساري المهدي بن بركة الذي تحدث عن الاستعمار الجديد، والذي نهى عن التقاتل بين الإخوة الأشقاء، داعيا إلى الاستقلال الحقيقي لأفريقيا والدول العربية وإلى التحالف مع الدول اللاتينية الحديثة العهد بالاستقلال مادام الهدف واحد ألا وهو بناء الأوطان والتخلص من براثن الاستعمار.

ولم تترك فرنسا الجزائر إلا بعد قتل ما يفوق مليون نفس جزائرية، وكانت وراء ستار معظم الحروب الأهلية في أفريقيا، وأما الرعاية والشراكة الفرنسيتان فيختفيان حين يتعلق الأمر بالإبادة الجماعية لسكان أفريقيا كما حدث في بوركينا فاسو مثلا حين قضى أزيد من ثلاثمائة ألف نحبهم مابين سنتي 1993 و 2005.

الحرب ضد الحركات التحررية كما قال بول روجرز أستاذ دراسات السلام في جامعة برادفورد ببريطانيا "يمكن أن تتخذ اتجاهات مقلقة، وقد تكون لها نتائج عكسية مدمرة للغاية، وتعزز قدرات الحركات المستهدفة".

ستُهزم فرنسا كما هُزمت في الماضي لأن ثوار مالي يملكون نفسا طويلا ولا يرتبطون بوطن معين، بل قادرون على تحويل مواقعهم في الصحراء الغربية الشاسعة الأطراف، وهم قد أبانوا عن قوة تنظيمية كبرى واحترافية عالية في أداء المهمات العسكرية، وسيجرون قوى الامبريالية ومن بينها فرنسا إلى حرب طويلة الأمد يستهدفون فيها مصالحهم الاستراتيجية، ويستنزفون خلالها مواردهم المادية والبشرية، وقد تُثير هذه الحرب أزمات داخل فرنسا نفسها حيث يعيش الملايين المنحدرين من شمال القارة السمراء وغربها وجنوبها. غاراتها اليوم لن تزيد الثوار إلا قوة على قوة، وستكشف للعالم الوجه القبيح المقنع لفرنسا المستتر بقيم الحرية والمساواة والأخوة.

الامبريالية الفرنسية اليوم في ورطة كبرى، فكما تتحرر الشعوب من الحكام المستبدين، تثور الدول ضد مستعبديها الامبرياليين، بالأمس أطلق البوعزيزي صيحة الثورة فاندلعت في كل الربوع بسبب صفعة من شرطية، واليوم مالي تشعل شرارة التحرر من شرطة الامبريالية، ولن تكون الدولة الأخيرة، إنها البداية فقط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى