الجمعة ١ شباط (فبراير) ٢٠١٣

فــي ظــلال الشعــر... والجواهري

أتحفني الأستاذ رواء الجصاني بثمرة جهد عظيم ساهم فيه مشكوراً هو والدكتور كفاح الجواهري...أقصد نسخة من التحفة المعنونة: الجواهري.. قصائد.. وتأريخ.. ومواقف.. فكان أن استحضرت في لحظة مسيرة عمرها حوالي 45 عاماً.. يمكن إيجازها بأن...

 1968... وكنا طلاب السنة الثانوية الأخيرة والعمر بين 17 و 18 عاماً ذروة التوثب والشباب، وكنا ندرس في مقرر اللغة العربية من الشعر التحرري العربي ودوره في مكافحة الاستعمار، وفي الاستقلال والنهضة الوطنية والقومية.. وهزتنا قصائد ومقتبسات أبيات للقامة الشعرية العملاقة.. الشاعر العظيم المرحوم محمد مهدي الجواهري.. وكانت بداية المعرفة.. وصار اهتمام ومتابعة.. حيثما أمكن..

 1978... وبعد بدء هذه الحال المعرفية بعشر سنوات، وبعد التخرج من الجامعة ودخول معترك الحياة الاجتماعية والأدبية.. وما أترف ساحة دمشق يومئذ بألوان وأنواع هذا الفن.. وتنادى أهل الفكر بأن صاحب القامة العملاقة سيلقي قصيدة في دمشق.. وتناهب عاشقو الفكر المكان ليس جلوساً بل وقوفاً وازدحاماً كحالة حشر.. ففي الحياة أشياء لا تتكرر.. وهذه حالة منها.. فيجب ألا تفوت.. لأنها تبقى من أكثر محطات مسار الحياة إشراقاً وسطوعاً..

وكان الحضور بكل ما يتمثله من مستويات سياسية واجتماعية وأدبية.. وقام ذلك الشيخ الثمانيني.. نخلة نجفية تزداد سموقاً وشموخاً على الأيام.. مثلما يبدو في الصور على أغلفة دواوينه وما كتب عنه من كتب.. لكنه واقتداء بالمثل: ليس من رأى صورة كمن رأى وسمع شخصاً.. قام ذلك الشيخ بفتنته الساحرة التي تحير ناظره.. هل يقرأ على الوجه وغضونه خبرة الأيام والسنين أم عذابات الاغتراب عن الوطن أم تحمل آلام الجماهير التي طالما أطلقها قصائد خالدات.. لكن ما لا ينسى.. تلك الإلقائية، تلك العنفوانية في الإلقاء.. لكأنه أسقط خمسين سنة من العمر فعاد ابن ثلاثين.. عصفت به الحماسة.. جن به النشيد.. حملته عنقاء الشعر على جناحيها القويين عالياً.. ربما كنا نحس به أنه لم تعد قدماه تطآن الأرض.. صار بينه وبين جمهوره كيمياء ذات التهاب تألقي خاص لا يعرفه إلا من يعيشه حاضراً أبدياً... وبصوته الشجي المميز واللهجة العراقية المميزة التي لا تفارق عاشقها المدلّه بها.. يومها أطلق الشاعر درّته الخالدة "دمشق يا جبهة المجد".. وأعتقد أن الصورة التي زين بها التحفة –الكتاب، والحركة الإلقائية الشعرية للشاعر الكبير مأخوذة من تلك المناسبة.. وأقول إن هذه القصيدة تصلح لأن تكون لوحدها موضوع سفر مستقل قائم بنفسه.. يتناول لغتها.. روحها الشعرية.. تاريخيتها.. تلاوين عباراتها.. فقد تكتنز قصيدة مطولة في بيت وقد يكتنز ديوان في قصيدة.. ولقد تكون قصيدة ما.. فتحاً عظيماً في الشعر.. وقد كانت تلك القصيدة كل ذلك.. ولذا فالحديث عنها ذو شعاب يحتاج لأهليه.. وأهل مكة أدرى بشعابها.. وأتمنى أن يكونوا يوماً..

وأعود أمام التحفة - السفر، فأقول عنه إنه جزء مما خلفه هذا الشاعر العظيم.. والواجب على أمة تحرص على أن تجد نفسها أن تكرم عظماءها.. يقولون إن أحد السياسيين البريطانيين سئل مطلع القرن العشرين وبريطانيا في ذروة مجدها الامبراطوري الذي لا تغيب عنه الشمس عما إذا خيّر بين التخلي عن الهند أو التخلي عن شكسبير فأجاب فوراً التخلي عن الهند (وكانت توصف بأنها درة التاج البريطاني).. لماذا كان هذا الجواب؟ لأنه ومنذ حياة شكسبير قبل حوالي 500 عام وهناك وبشكل مستمر دراسة وبحث جديد وبحث على البحث ونقد على النقد حتى على العبارة وحتى على الكلمة وبتفاصيل التفاصيل.. ونحن ماذا نعمل بعظمائنا؟ سرعان ما نرميهم في المجاهيل وغياهب النسيان؟ إن لدى هذه الأمة عظماءها لكن لم تظلم أمة عظماءها كما فعلنا.. ماذا تعني أمة بلا ماضٍ؟ ماذا تعني أمة تتنكر لعظمائها بحيث لا يبقى من يتذكرهم إلا الدارسون المختصون؟ ماذا يعني أن ننساق وراء حملات الحياة الاستهلاكية السريعة والعابرة؟ كيف تستنهض الهمة إلا بالتمثل بأعاظم الأمة؟ قد يكون اختلاف في السياسة وما يتفرع عنها.. لكن من يختلف على الفكر والأدب والشعر؟ ألا تريد الروح ما تتغذى به وقد شبعت من المبتذلات اليومية؟... ألا يأخذها الحنين إلى العبقرية وأهلها؟ أما من وتر في النفس يرن فتتناغم عليه عبارة الشعر؟.. وأقول.. لا.. لن يفقد ذلك.. لن يعدم.

وفي السفر، في الصفحة 76 قصيدة بعنوان "الساقي" أبياتها العشرة وقد كتبها الشاعر وعمره في الخامسة والعشرين.. لوحات متداخلة في زهاوتها.. وفي كل بيت دنيا من الجمال.. هي التي اجتذبتني حتى طغت علي ورأيتني أتمثل ما استطعت جمالية الأبيات.. وأشير بداية إلى صعوبة اعتماد حرف الضاد قافية.. لأن كلماتها قد تكون قليلة وانسياق الكلمات جمالياً قد يكون صعباً بسبب ثقل حرف الضاد.. لكن الصائغ الحاذق لا يصعب عليه سبك النفائس وشبكها لتكون علائق في النحور وعلى الصدور..

 في البيت الأول:

لا تعدكم سنن الهوى وفروضه
فالروض يضحك للغمام أريضه

يبدأ ﺑ لا الناهية، وهي أمر.. ولئن كان اتباع السنن ليس حتماً فإن اتباع الفرض أمر واجب.. وأما لماذا هذا الاتباع فلأن الروض وأريضه وما حوى من جمال وإشراق راح يضحك للغمام الكالح العابس.. فهل هو يسترضيه استمطاراً؟ أم أن الروض وذكره يكفي ليضفي البهجة والسرور؟ وهل كالضحك تعبير عن الحبور؟ أي استقطاب لوني بين الأرض والسماء؟ وأية تقابلات مفتوحة في اللون والصورة والكلمة ومعانيها؟

 في البيت الثاني:

ما أبهج الزهر المرقرق في الضحى
يجلو العيون شعاعه ووميضه

لنتصور اللوحة اللونية المرسومة بالكلمات الشعرية: البهجة التي يحملها تماوج الزهر وميسانه بسبب هبوب نسيم صبا الضحى فيروح الزهر في حركة رقراقة متراقصة تسحر العيون في التماعاتها اللونية بين شعاع بامتداد لوني طويل أو بوميض كبرق لوني خاطف.. هذا التضاد بين الوميض والشعاع كم يستحضر في ذهن القارئ المتمعن من تكثيف في كهربائية البصر وفيزيائية المشاهدة.. وفي انفجار العبارة الشعرية!!

 وفي البيت الثالث:

والروض شعّار له من ورده
نفس ومن سجع الطيور قريضه

وهنا التمثل والتجسد في ذهن الشاعر أن الروض صار شاعراً (وإذ يستعمل الجواهري صيغة المبالغة الجديدة من شاعر، وهي شعّار لإعطاء مفهوم الكلمة بعداً أكبر) فهذا الشاعر الشعّار يستمد نفسه الشعري من ورده الذي حواه وهو الروض.. وأما الشعر القريض فيستمده من سجع الطيور التي تغرد في أفياء هذا الروض وعلى أفنانه

 وفي البيت الرابع:

والجو محتشد الغيوم رواقه
بيد الرياح متى تشأ تقويضه

نعم لقد أصبح الغيم مثل بيت ننظر إليه من الداخل.. يظلنا سقفه الكثيف وتتوزع ردهاته وما بين أعمدته وعلى طول رواقه وتفرعاته.. لكن كل هذا البيت رهن بيد الرياح وحركاتها.. وكل المرتسمات سرعان ما تعبث نسمات سراع فتغير تلك الأروقة وما ابتني منها في النظر.. وسرعان ما يتهدم بأن تتغير أشكاله.. وهذا ما عبر عنه الشاعر بتقويض البناء.. ويلجأ الشاعر إلى لعبة الاستدلال اللغوي.. أن يذكر جزءاً من العبارة ليستدل به على الكل.. فقد ذكر اسم الشرط "متى" وفعله "تشأ" ولو أكمل جواب الشرط لقال "تقوّضْه"، لكن القافية فرضت استعمال المصدر "تقويضه" ليفيد في أمرين أو أكثر.. الأول، كما سبق القول، استكمال جواب الشرط، والثاني إرضاء القافية، والثالث استكمال موجب فعل الرياح، فلئن كانت ساكنة استمر رواق الغيوم ولئن هبت فإن التقويض هو المصير، ولذا كان تقويض في محل عطف بدل على رواق المصدر ولاستئناف إتمام المعنى وهذه حالة بلاغية يعرفها مختصو اللغة.. إذ كثيراً ما ينوب المصدر عن الفعل والفاعل والمفعول وغيرها.. وقد تكون هذه حالة تختص بها اللغة العربية..

 البيت الخامس:

وكأنما جاء الربيع إلى الثرى
بالحسن عن سمج الشتاء يعيضه

الشاعر بعدما ذكر الروض والزهر يريد أن يؤكد ذلك بمجيء الربيع وما يحمل معه من الحسن الذي يمحو نقيضه سمج الشتاء.. وأديم الأرض الذي ربما آذاه سمج الشتاء فقد حمل الربيع من الحسن لتعويض الأديم عما فعله الشتاء..

 وفي البيت السادس:

والكأس يجلوها أغنُّ يكاد من
فرط النعاس يؤوده تغميضه

مع الربيع ومع اجتناء الهوى سنناً وفروضاً ما يستوجب حالة نواسية صارخة يتخيلها أو يتمثلها الشعراء.. حالة كأس في يد ساقٍ جميل أغنّ يجعله جماله ودلاله ورقته لا يطيق تحمل النعاس فكأنما أوقعه في الأود من الإعياء وبحيث لا يطيق فتح جفونه..

 في البيت السابع:

إيه نديمي قد جمعت لناظري
أمرين كل لا يبين غموضه

هل هي الشكوى من العجز عن اجتلاء محاسن النديم الساقي بحيث تحير فيه نظر الشاعر لما رأى من تضادات وتعارضات.. وقد سبقه للإقرار بذلك من قال: والضد يظهر حسنه الضد.. ومن قال: وبضدها تتمايز الأشياء.. والشاعر إما أراد إتباع أغوار هذا الضد ليستكشف نواقصه يناديه الضد الآخر.. بحيث وقع في الحيرة التي يوضحها البيت الثامن:

أمواج خدك والتوقد ضدها
ومذاب خمرك واللهيب نقيضه

وأرى في هذا البيت القصيدة كلها، إنه البيت القصيدة:

إن تدرّج اللون في خد الساقي النديم كأنه أمواج.. لكن ذروة الاحمرار في الخد تجعله في حالة توقد بالحمرة.. والمفترض أن الأمواج تطفئ التوقد.. لكنها لم تفعل ذلك في خد النديم فأوقعت الشاعر في الحيرة .. ولتكتمل الحيرة بتضاد آخر أن الخمر الذي يحمله الساقي، وهو سائل، يجب منطقياً أن يطفئ اللهب الناجم عن اشتعال النار.. لكن أيضاً لم يفعل.. ويعمد الشاعر إلى الجناس المعنوي في الكلام بين أمواج ومذاب الخمر وبين التوقد واللهيب، وبين الضد والنقيض.. وكلها تلاوين في العبارة لإغناء معناها..

 وفي البيت التاسع:

طول الجمال وعرضه لك والهوى
وقف عليك طويله وعريضه

وهنا نجد الملاعبة الكلامية الجواهرية المعهودة دلالة على العمق والتمكن في اللغة وفي العبارة الشعرية وتقابلاتها: أما المحبوب فقد امتلك طول الجمال وعرضه واحتواه جميعاً، وأما المحب فقد رهن هواه كلياً لمحبوبه لكن إذا كان الجمال ذا طول وعرض فإن الهوى وبصيغة مبالغة على وزن فعيل فإن صفاته أنه طويل وعريض.. لم يفعل الجواهري شيئاً كثيراً سوى إعادة سبك وصياغة فخرجت بأحلى هيئة من يد جواهري حقيقي..

 وفي البيت العاشر والأخير:

أما الغرام بكم فإن قصيده
وقف عليكم بحره وعروضه

وفيه تدرج الهوى فصار غراماً، والغرام غُرم، والغرم ثقل.. ومع ذلك فهي ليست شكوى بل تأكيداً للحب والارتهان له.. وأول الارتهان أن صار المحبوب يخاطب بلغة الجمع: بكم.. وهذه لها أسبابها: فقد تكون حالة الجمع يقصد بها صفات جمال المحبوب أو تعدد الرؤى عنه والصور المتخيلة، أو ربما فرضتها العبارة الشعرية وإن كنت أعتقد أن الشاعر لا يضيق بإيجاد البديل ولذا لا أرى ذلك السبب.. مهما يكن فلئن كان في البيت السابق قد وقف على المحبوب كل الهوى طوله وعرضه وهذا قد يتساوى به كل المحبين لكنه في البيت العاشر يصر على التميز كشاعر فهو هنا يقف للمحبوب كل شعره وكل قصائده ببحورها وعروضها وهي أثمن ما يملك الشاعر وما يبذله من كيانه وعقله وروحه.

وبعد.. فإن الحاجة قائمة ودائمة للقارئ الحق ليزيد في نشر جمالية قصائد الجواهري وأبياته الخالدات مثلما تزيد التوشية في جمال الثوب المتقن التطريز.. وأؤكد أن لا حدود للجمال.. وبخاصة في الشعر.. فلتفتح الأبواب على أعماق الشعور.. والشعر بها جدير.. ولندخل إلى رحابه ومن بوابته العالية.. فلنحاول.. وإلى لقاء مع محاولة جديدة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى