الاثنين ١٨ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم محمد زكريا توفيق

الفن المصري القديم

يقول رسكين: «الأمم العظيمة تكتب سيرها في ثلاث كتب. كتاب الوثائق، وكتاب الفكر، وكتاب الفنون. لا يفهم أيا منها إلا بعد قراءة الكتابين الآخرين. لكن أصدقها وأحقها بالثقة هو الكتاب الأخير، كتاب الفنون.»

سنبدأ رحلتنا لدراسة تاريخ الفن التشكيلي بنظرة سريعة إلى الفن المصري القديم. لذلك، علينا أن نذهب إلى ضفاف النيل ونرجع بالزمن إلى الوراء آلاف السنين.

تعلم اليونانيون في مدارس المصريين وعلى أيدي كهنتهم. ثم نقلوا علومهم إلى العالم الغربي وباقي المعمورة. لذلك، دراسة الحضارة المصرية القديمة، ومنها الفن المصري القديم، لها أهميتها البالغة، لفهم جذورنا الحضارية بصفة خاصة، وفهم الحضارة الغربية الحديثة بصفة عامة، وهي حضارة بدأت بذورها في مصر هبة النيل.

ربما تتساءل، وما دخل مصر بالحضارة الغربية؟ مصر هي التي شكلت الفكر الغربي الحديث. فمثلا، استخدام السنة الشمسية في التقويم، وتقسيم السنة إلى 12 شهر، وتقسيم الشهر إلى أسابيع، واليوم إلى 24 ساعة. واكتشاف دائرة البروج.

واكتشاف الكتابة، وكذلك الدولة بمفهومها الحديث، والحكومة والضرائب والمدارس والقياس والموازين والقانون ومفهوم العدل والحق.

والرب الخالق والتوحيد والحياة بعد الموت والثواب والعقاب والجنة والنار والمعابد التي يعبد فيها الرب ويمجد وتقدم له القرابين. والفلسفة بمعني التساؤل عن الخلق والخالق. والفن والموسيقى والمسرح والحفلات وأعياد الميلاد وعيد الربيع والأدب والقصة والشعر والأساطير.

وصناعة الورق والزجاج والملابس والعطور وأدوات التجميل والتجارة بين الدول والزراعة والري. واحترام آدمية الإنسان، قصة خوفو والسحرة وقصة الفلاح الفصيح.

والامتثال للقيم والأخلاق، قصة الأخوين التي تشبه النبي يوسف وامرأة العزيز، وقصة الملاح التائه التي تشبه السندباد البحري. وقصة الفأر والأسد التي تشبه قصص أيسوب أو ميكي موس.

وآداب السلوك والحوار والمائدة، والقائمة لا تنتهي، إلخ، إلخ، إلخ. فجذور الحضارة الغربية، هي جذور مصرية بالتأكيد. وكما قال العالم الإمريكي بريستد، مصر هي فجر الضمير.

على ضفاف نهر النيل أيام قدماء المصريين، فيما تبقى من مدينتي منف وطيبة الشهيرتين أيام زمان، نجد إلى الآن، المقابر والقصور والمعابد العظيمة الهائلة التي ليس لها مثيل في العالم.

بالقرب من مدينة منف (الجيزة)، على حافة الصحراء، يوجد الهرم الأكبر، هرم الملك خوفو. فكم من آلاف السنين المحملة بعبق التاريخ قد مرت بهذا الصرح العظيم؟ وماذا يخبرنا هذا البناء الجبار الرائع؟
الهرم الأكبر يخبرنا بطبيعة شعب منظم مرتب دقيق مثابر متفان في عمله ومخلص في حرفته وفنه. وإلا كيف نفسر بناء هذا العمل الجبار، وقطع ونقل ورفع هذه الكتل الصخرية ووضعها في مكانها الصحيح، بهذه الدقة، باستخدام آلات وأساليب بدائية.

الملك خوفو هو باني الهرم الأكبر، ربما لكي يكون معبد ديني أو قبرا للملك. استخدم في بناء الهرم مئات ألوف العمال، واستغرق بناؤه 20 سنة. في المركز داخل الهرم، يوجد تابوت من الجرانيت وجد فارغا.

الهرم من الخارج كان مغطى بطبقة ملساء من الحجر الجيري، استخدمت بعد نزعها في بناء مباني القاهرة القديمة. لكي تتسلق الهرم اليوم، عليك أن تصعد 200 سلمة. عندما تصل للقمة، سوف ترى نهر النيل والصحراء التي تحيط بالوادي.

بني الهرم الأكبر على أرض مسطحة أفقية ملساء على شكل مربع متساو الأضلاع، مساحته 13 فدان وارتفاعه عن سطح الأرض 481 قدم. أوجه الهرم الأربعة، كل منها على شكل مثلث.

درجة الخطأ في تسطيح القاعدة لا يتعدى أربعة أجزاء من الألف في المائة. أو بالقياس العملي، ليس هناك خطأ على الإطلاق.

كل وجه يقابل إحدى الجهات الأصلية، شرق وغرب وشمال وجنوب. الخطأ في اتجاه ضلعي القاعدة، الشمال والجنوب، يبلغ ثلاثة أجزاء من مائة جزء في المائة. الخطأ في اتجاه ضلعي الشرق والغرب لا يتعدى تسعة أجزاء من مائة جزء في المائة.

هل هناك دقة في المقاييس والصناعة أشد من هذه؟ أحجار الهرم يبلغ وزنها ستة مليون وربع طن. هي كافية لعمل سور يحيط بفرنسا كلها. هذه الأحجار وضعت مع بعضها بدقة، بحيث لا يزيد سمك الفراغ الموجود بين حجرين عن خمس البوصة.

داخل الهرم توجد غرفة الملك. تحتها غرفة الملكة. غرفة الملك بها نافذتان أو ممران هوائيان. الأول يسمح بمرور الضوء الساقط من النجم القطبي مباشرة، حتى يضئ جثمان الملك في رقاده الطويل على الدوام. لأن النجم القطبي ثابت في مكانه في السماء دون باقي النجوم التي تدور حوله.

من ثم، يظل جثمان الملك مضاء في الليل أو النهار بصفة دائمة. أما النافذة الأخرى، فتقع جهة الجنوب. تسمح بمرور الضوء الساقط من نجم الشعرى اليماني، "سيرس"، الذي كان يمثل عند قدماء المصرين الإلهة إيزيس. لكي يضئ تابوت الملك مرة واحدة فقط كل عام. بذلك تستطيع روح الملك في رقادها الأبدي، معرفة عدد السنين التي تمر.

كذلك وضعت الأهرامات الثلاثة في أماكنها، ليس على خط مستقيم كما هو المتوقع، إنما في شبه خط مستقيم، لكي تمثل وضع النجوم الثلاثة التي تتوسط برج الجبار "أوريون" والذي يمثل الإله أوزوريس.

لماذا يهتم المصري القديم بالدقة المتناهية في الصنع. ألا يكفي وضع الأحجار مع بعضها على شكل كومة ضخمة ترتفع قمتها نحو السماء. لماذا يهتم المصري القديم بالشكل الهرمي الذي تطابق أضلاعه الجهات الأصلية بدون خطأ يذكر، وأي سر في ذلك؟

لماذا يهتم بأن تكون نسبة نصف محيط قاعدة الهرم إلى ارتفاعه قريبة من نسبة طول محيط الدائرة إلى قطرها والمعروفة لدينا بالقيمة "ط". ربما لأن هذه النسبة هي التي يكون فيها البناء مستقرا.

هل صحيح تم اختيار موقع الهرم لكي يكون مركز الكرة الأرضية، بمعنى أن خط الطول الذي يمر بالهرم يمر في نفس الوقت بأكبر مساحة أرضية يمكن أن يمر بها خط طول آخر، وكذلك خط العرض الذي يمر بالهرم هو الآخر يمر بأكبر مساحة أرضية.

هل كان المصري القديم يعلم أن الأحجار الجيرية المستخدمة في بناء الهرم، هي تراكمات بيولوجية من الأحياء الدقيقة التي كانت تعيش في الماء منذ ملايين السنيين.

أي أن كل ذرة في جسم الهرم كانت تنبض بالحياة في يوم من الأيام، مثل رفاة الملك والملكة اللذان يرقدان داخله. أم كل هذا من قبيل المصادفة؟

ما هي علاقة الهرم بالشمس؟ عندما تشرق الشمس في الأفق، تبدأ أشعتها الذهبية في تسلق وجه الهرم الشرقي، كأنها تصعد الدرج إلى السماء. عندما تبدأ في الغروب، ترى شعاعها القرمزي يهبط الوجه الغربي للهرم إلى أن يختفي رع في الأفق البعيد.

كيف وضعت هذه الأحجار مع بعضها بحيث لا يضغط ثقلها الرهيب على الغرف والنوافذ والممرات الموجودة داخل الهرم؟ كيف تتخيل ستة وربع مليون طن من الحجارة صنعت بمهارة الجواهرجي؟

إذا كانت دقة بناء الهرم تعتبر معجزة، فما بالك بعظمة الإدارة التي استخدمت لتشغيل هذا الجيش الغفير من العاملين في مشروع واحد، لكي تجعلهم يعملون في توافق وتجانس تامين دون تخبط أو تعارض في القرارات والأوامر.

التاريخ يخبرنا أنه لا يوجد ملك أو شعب، أخذ على عاتقه هذا العناء وبذل هذا الجهد في بناء صرح واحد بهذه الدقه والصبر ، لذلك جاء بمثل هذه العظمة.

تمثال أبو الهول، جسم أسد برأس إنسان. منحوت من حجر ضخم واحد. طوله 142 قدم و عرضه 65 قدم. يقال أنه يخص الملك خفرع باني الهرم الثاني. يمثل قوة الأسد الجسدية وذكاء الإنسان العقلي.

على ضفاف النهر، بين مدينتي منف وطيبة، ترتص سلسلة من قبور قدماء المصريين غرب النيل. خاصة بملوك وأمراء ووزراء وعامة المصريين القدماء.

يبدو أن المصريين كانوا يقضون معظم أوقاتهم في إعداد مثواهم الأخير، كمكان مناسب لاستقبال رفاتهم المحنطة بعد الممات. يبنون معابدهم وقبورهم من الحجر وبيوتهم من الطمي. لأن الحياة الأخرى هي الباقية والخالدة.

هذه القبور قطعت من الصخر. تدفن الرفاة في الجانب الأسفل. الجانب الأعلى من القبر، عبارة عن مسكن مكون من عدة غرف. الجدران منقوشة بالرسوم والكتابات الهيروغلوفية، تحكي قصة المتوفي المدفون في تابوت أسفل القبر.

رسوم الجدران تبين رتبة ووظيف الفقيد ومركزه الاجتماعي. وأخرى تصوره وهو يبذر الحبوب ويجني الثمار ويجمع التين والعنب، أو وهو يصنع الملابس ويصب قوالب الآجر.

عربات وسفن، العاب وحفلات ومآدب للرجال والنساء. تبين أن المصريين القدماء كانوا شعبا سعيدا محبا للحياة. وتوضح أيضا أنهم كانوا على دراية بالفنون والعلوم.

في كل اللوحات، تجد صورة الملك هي الأكبر حجما من كل رعاياه. الفنانون لا يعرفون الرسم المنظوري. الذي يبين العمق في الصورة والذي يربط الحجم بالبعد في المشهد. طابور من الجنود ترسم في حجم واحد وتبدوا غير طبيعية كأنها تتكوم فوق بعضها البعض.
ماذا يريد أن يقوله الفنان المصري القديم؟ إنه يريد أن يخبرنا ببساطة عن قصة في شكل صورة. وهو قد نجح في ذلك. الألوان التي كان يستخدمها، لازالت نضرة لامعة.

الكتابة الهيروغلوفية المصاحبة للصور ظلت مغلقة على الفهم حتى نهاية القرن الثامن عشر واكتشاف حجر رشيد، الذي مكن العلماء من فك أسرار اللغة الهيروغلوفية القديمة. فإذا عجزت الصورة عن توضيح القصة بالكامل، أكملت الكتابة ما نقص من تفاصيل.

نترك الآن الأهرامات في مدينة منف، ونبحر أعلى النيل. لنصل إلى مدينة طيبة ذات المئة بوابة. أعظم مدن العالم القديم قاطبة. المعابد بمدينة طيبة، حتى بحالتها الحاضرة، تعتبر من أبهى وأجل وأعظم المعابد التي عرفها العالم القديم أو الجديد.

المعبد المصري القديم، ليس ككل المعابد. تدخل المعبد عن طريق تماثيل أبي الهول على الجانبين. عند المدخل، توجد عادة مسلتان هائلتا الحجم. المسلة شكلها هرمي، لكنها طويلة جدا ونحيفة بالنسبة لطولها.

ترتفع إلى السماء لتمثل شعاع الشمس. مكتوب على جدران المسلة كتابات باللغة الهيروغلوفية، أدعية وتسابيح الملك باني المعبد، موجهة إلى الإله الذي بني المعبد من أجله.

مسلات كثيرة خرجت من مصر بطرق قانونية أو غير قانونية، لتزين ميادين المدن الأوروبية والأمريكية. أحدها توجد في ميدان "سنترال بارك" بمدينة نيويورك. تعرف باسم ابرة كليوباترة. صنعت أيام الفرعون العظيم تحتمس الثالث عام 1500 ق م. ارتفاعها 21 قدم وتزن 180 طن ومصنوعة من حجر الجرانيت الأحمر.

المعبد المصري القديم، يتكون من فناء أو أكثر، وصالات وأعمدة ومكان لإقامة الكهنة. في نهاية المعبد، توجد مقصورة أو غرفة الإله. وهي أقدس مكان في المعبد، لأن بها صورة أو تمثال الإله الذي بني المعبد من أجله.

قد يتقمص الإله صورة حيوان، قرد أو بقرة أو طائر أبو منجل أو تمساح. غرفة الإله تحظى بحراسة مشددة وتزين جدرانها بالنقوش والجواهر الثمينة. الكهنة فقط هم المسموح لهم بدخول هذه المقصورة. عامة الناس تؤدي طقوسها في الصالات أو الفناء الخارجي.

معبد الكرنك، بني خصيصا للإله آمون. بدأ بناءه ستي الأول وأتمه رمسيس الثاني. تعني كلمة كرنك الحصن أو المكان الحصين. معبد الكرنك يقع على بعد 2 ميل من مدينة طيبة، الأقصر حاليا.

يعتبر من الروائع بين معابد الأقدمين. بهو الأعمدة هو أكبر الصالات في العالم. يبلغ المعبد من الكبر والإتساع ما يجعله يتسع لبناء عدة كنائس في فنائه الرحيب.

عند بنائه، كانت به غابة من الأعمدة الضخمة عددها 122. الباقي منها الآن مئة عمود. مرتبة في تسع صفوف. أعمدة الوسط الإثنى عشر يبلغ ارتفاعها 60 قدم و30 قدم محيط مقطعها. الأعمدة الباقية لها نفس الحجم تقريبا.

تيجان الأعمدة على شكل زهرة اللوتس. زهرة اللوتس مقدسة لأنها تنمو على ضفاف نهر النيل المقدس. لهذا تستخدم أشكالها في تزيين الأعمدة والمعابد. أسطح الأعمدة وجدار المعبد مغطاه بالرسوم والحروف الهيروغلوفية.

المعابد المصرية القديمة، بنيت بطريقة تربط العابد برب المعبد وآلهته. المعبد يعتبر صورة مصغرة من الكون، بأرضه وسمائه. الأعمدة ما هي نباتات وأشجار تمثل الأرض. في معابد الدولة الحديثة بالأقصر بالقرب من الكرنك، سقف المعبد مطلي باللون الأزرق ومرصع بالنجوم المضيئة ومزين بالطيور، هذا يمثل السماء.

العمود له قاعدة مستديرة وساق طويلة ورأس على شكل زهرة أو نبات. رأس العمود قد تكون على شكل زهرة اللوتس المقدسة، أو زهرة نبات البردي أو شكل جريدة النخل.

أبواب كل المعابد تواجه شروق الشمس، وشروق النجم الشعرى اليماني، سيرس، الذي يمثل الإلهة إيزيس. حتى تدخل أشعته من باب المعبد وهو يشرق مع بزوغ الفجر وقبل شروق الشمس مباشرة، إيذانا ببدء فيضان النيل والعام الجديد.

الحجم الضخم للمعابد وأعمدتها الكثيرة العدد، ذلك حتى تظهر ضآلة الإنسان بجانب عظمة وقدرة الخالق. كما أن تكرار التماثيل والأعمدة المتشابهة، يرمز إلى الخصوبة والوفرة وتكرار فيضان نهر النيل، فكما قال المؤرخ اليوناني هيرودوت، مصر هبة النيل. أيضا نجد نوافذ علوية تسمح للضوء بالدخول لكي تلقي ظلال الأعمدة بالمئات على الأرض والجدران.

يعتبر معبد الرامسيوم الذي بناه رمسيس الثاني، من أجمل المعابد في مصر. يتكون من بقايا طرق وأعمدة متكسرة وصرح ضخم تهاوى نصفه. رمسيس الثاني، هو أكثر الملوك الذين بنيت لهم المعابد.

يضم معبد الرامسيوم تماثيل ضخمة لرمسيس الثاني. جانبا مهما من النقوش على الأعمدة وجدران المعبد، تحكي طبيعة الحياة في تلك الفترة. تسجل وقائع معركة قادش الشهيرة التي انتصر فيها الملك على الحيثيين وكيفية استعداده وتخطيطه للحرب.

المهندس المصري القديم، صمم معبد أبوسنبل بحيث تخترق أشعة الشمس المعبد مرتين في السنة، يومي 21 أكتوبر و21 فبراير، لتضىء تمثال الملك داخل المعبد. هذه المواعيد يعتقد أنها تمثل عيد ميلاد الملك وعيد تتويجه ملكلا. لكن بسبب نقل المعبد، جاء هذا الحدث متأخرا يوما واحدا عما كان عليه الحال في الأصل.

ملوك المملكة القديمة كانوا يعتبرون آلهة أو أنصاف آلهة. تتحكم في مصير الناس وأقدارهم. وتتحكم في فيضان نهر النيل والخصب والنماء. مفهوم ابن الإله ليس مقصورا على الديانة المسيحية.

عندما يموت الفرعون، تقام مراسيم تحنيط جثمانه ولفه بشرائط القماش ووضعه في تابوت داخل الهرم استعدادا لرحلته إلى الحياة الأخرى. هذه المراسيم تستغرق 40 يوما. ومن هنا جاءت قداسة الرقم 40، التي لازلنا نستخمها عندما نقيم أربعين الميت بتلاوة ما تيسر من القرآن.

لكن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن تحنيط جثمان الميت ليس كافيا. المطلوب شئ يشبه الملك أيضا، صورة أو رسم أو تمثال. بذلك نضمن عودة الروح "كا" للميت وعدم حدوث أي خطأ حتى يحيا حياة الأبدية. وكلما كان التمثال من الصخر أو الجرانيت الصلب، كان أضمن.
التمثال هو هذا الشئ الذي يساعد الميت على الخلود.

في البدأ كان التحنيط والخلود للملوك فقط. لكن سرعان ما انتقلت العادة للأمراء والوزراء ثم انتشرت بين الأثرياء وعامة الشعب.

تماثيل قدماء المصريين الخاصة بالمملكة القديمة والأسرة الرابعة، تعتبر من أجمل وأروع التماثيل بين كل الأعمال الفرعونية. تتسم بالبساطة والجمال والجلال. تعلق بالذاكرة، من الصعب نسيانها.

صانع التمثال، غير مهتم بتعبير معين للوجه، ولا يحاول ابهار المشاهد بفنه. لكنه يركز على الضروري والأساسي، ويحذف الباقي. تركيزه على الضروري فقط والأساسي هو الذي يجعل تماثيل المملكة القديمة فريدة ورائعة.

نظرة إلى تمثال خفرع الموجود في دار الآثار المصرية بالقاهرة والذي لا يضاهيه شئ، أو إلى تمثال منقرع وزوجته الموجود بمتحف بوسطن بالولايات المتحدة، توضح كيف كان الفنان والصانع في المملكة القديمة.

بالرغم من بساطتها وكونها مثل الرسوم الهندسية، إلا أنها ليست ساذجة وبدائية. إنها تشعرك بالتوازن الكامل بين الحقيقة والخيال، وبين ما نراه وما نحلم به. توازن ومزج بين الجسد الفاني والجسد الخالد.

المزج بين الأشكال الهندسة وما نلاحظه في الطبيعة هي شيمة كل الأعمال الفنية المصرية القديمة. الرسوم التي تزين جدران المعابد والمقابر توضح ذلك. هذه الرسوم لم توضع لكي نشاهدها نحن كما نشاهد الأعمال الفنية في المتاحف. لكنها رسمت لكي لا يراها أحد سوى ال"كا" أو روح الميت.

ليس الهدف هو التمتع بهذه الرسوم، بقدر ما هي تعليمات وإرشادات لروح الميت، حتى تأنس وتجد المجتمع والوسط الذي تركته في الحياة الدنيا. ممثلا في الرسوم والتماثيل، فتتعرف على المتوفي وتعود إلى جثمانه من جديد.

لكن الرسوم على الجدران تخبرنا، في نفس الوقت، بطبيعة الحياة في مصر القديمة بالتفصيل. النظر إلى رسوم القدماء قد يصيبنا بالحيرة. بسبب أننا لم نتعود على الرسم بهذه الطريقة. السبب هو أن القدماء كانوا يرسمون الأشخاص والأشياء لأسباب، تختلف عن أسبابنا نحن عندما نرسم اللوحات.

لم تكن رسوم القدماء بغرض إظهار الجمال والتكوين الفني فقط، إنما كانت بهدف اظهار الكمال والتمام أيضا. كل شئ يجب أن يظهر إلى ال "كا" بوضوح وبدون أي لبس أو نقصان.

لذلك كانوا يرسمون من الذاكرة وفقا لقواعد صارمة تظهر كل شئ بكل وضوح. طريقتهم في الرسم كانت تشبه طريقة رسم الخرائط الجغرافية.

مثلا، منظر حوض ماء رخامي محاط بالأشجار، كان يرسم الحوض كما يرى رأسيا من أعلى، والأشجار المحيطة بالحوض، ترسم كأنها ترى أفقيا من الجنب.

كل شئ يجب أن يظهر من أفضل زاوية يمكن أن تراه منها. جسم الرجل أو المرأة ترسم بنفس الطريقة. الرأس تظهر كبروفيل جانبي، العين تظهر من الأمام في مواجهة المشاهد. بذلك تكون كاملة الشكل.

الصدر والكتفان، يظهران من مسقط أمامي. الذراعان والساقان والقدمان من مسقط جانبي. القدمان كلاهما شمال. الفنان المصري القديم يعرف جيدا أن الإنسان البالغ لا يظهر هكذا. لكنه يتبع قواعد صارمة تجعله يحافظ على كل شئ هام بالنسبة لجسم الإنسان دون مساس.

إذ كيف يتثنى لرجل أن يقدم القرابين للإله ويقف أمامه وهو بذراع أو ساق واحده أو ذراع أقصر من ذراع؟

الفنان المصري القديم لا يرسم ما يرى، إنما يرسم ما يعرف. ويرسم كل شخص حسب أهميته ومركزه الاجتماعي. الإله أكبر حجما من الملك، والملك أكبر في الحجم قليلا من الملكة، دليلا على أهميتها الاجتماعية. الرئيس أكبر حجما من العامل، وهكذا.

لا شئ في هذه الصور حدث بالصدفة. لا شئ يمكنك تغيير وضعه، في أي صورة، بدون الإخلال بتوازنها وتكوينها الفني وجمالها. حاول أن تقلد طريقة المصريين القدماء في الرسم. ستجد من الصعوبة بمكان حفظ النسب وملء الفراغات والحفاظ على التكامل والتوازن. الرسوم المصرية القديمة خير ما توصف به هو التناسق والهارمونية والجمال.

في كل اللوحات، يثبت لنا الفنان المصري القديم، أنه لا تنقصه قوة الملاحظة أو تعوذه دراسة الطبيعة من حوله. كل طائر في الصورة أو سمكة مرسومة، تجد فيها الدقة والتفاصيل الرقيقة، التي تمكنا من معرفة نوع الطائر أو السمكة بدون عناء.

كل يد، بها أصابع، والأصابع في نهايتها أظافر مرسومة أو منحوته بكل دقة. ثياب النساء شفافة لا تنقصها التفاصيل الرقيقة.

بالنسبة للتماثيل، هناك قواعد أيضا وأصول يجب أن يلتزم بها الفنان. التمثال الجالس، توضع يداه على ركبتيه. والرجل يطلى جسده بصبغة أغمق من لون المرأة. الإله حورس يرسم في هيئة الصقر أو في شكل إنسان برأس صقر. الإله أنوبيس إله الموت في شكل ابن آوى.

لا أحد من الفنانين يريد أن يكون فريد عصره وأوانه، مميزا عن الآخرين. لكن يكفيه فخرا، أن يكون عمله في مستوى من سبقوه من الفنانين العظام. لذلك ظل الفن المصري القديم قرابة 3000 سنة بدون تطور أو تغيير يذكر.

لكن هناك رجل واحد، هو الذي هز الأسلوب الراسخ للفن المصري القديم من الأعماق. هو أحد ملوك الأسرة الثامنة عشر المعروفة بالمملكة الحديثة. وهي المملكة التي ظهرت بعد كارثة غزو مصر بالهكسوس وبعد التخلص منهم.

هذا الملك هو أمينوفيس الرابع. خرج على الآلهة المتعددة ودين الآباء والأجداد. وخرج أيضا على التقاليد المتبعة في فنون الرسم والنحت. نادى بالتوحيد وعبادة الرب الواحد. آتون، المعبود الذي يمثله قرص الشمس. وقام أيضا بتغيير اسمه إلى إخناتون. ثم قام بنقل ديوانه وحاشيته إلى تل العمارنة بعيدا عن العاصمة طيبة.

صور إخناتون على جدران معابد تل العمارنة لابد أنها أدهشت المصريين في وقتها، لخروجها على التقاليد والأصول المرعية. فهي صور خالية من القداسة والصرامة والجلال التي كانت تتسم بها صور وتماثيل الفراعنة العظام الذين سبقوه.

الصور والتماثيل الجديدة، تبين إخناتون وهو يحمل ابنته ويجلسها في حجره، أو وهو يتنزه مع زوجته في الحديقة، أو وهو يستند على عصاه. بعض صوره تبينه كرجل قبيح الخلقة بجسم غير متناسق الأعضاء.

ربما أراد إخناتون أن يصوره الفنانون على أنه إنسان نبي لا إله أو نصف إله. أو ربما كان مقتنعا كنبي، بالالتزام بالصدق والأمانه، حتى لو كانت في الأعمال الفنية.

لكن انفتاحة إخناتون في الفن المصري القديم لم تدم طويلا. ففي عصر توت عنخ آمون خليفة إخناتون، تم استرجاع ديانة الأجداد من جديد. ومعها، عاد الفن المصري القديم إلى سابق عهده. الف سنة قبل إخناتون، والف سنة أخرى بعده أو أكثر، لكن بدون أي تقدم أو تغيير يذكر.

الا فترة أخذ وعطاء، وتأثر وتأثير، بالفن في جزيرة كريت والمدن اليونانية القديمة، بين ثورة إخناتون الفنية والفنون في هذه البلدان للتشابه الشديد بينهما.

في المقال القادم، سوف أناقش الفن اليوناني القديم إن شاء الله. وهي سلسلة مقالات في مشروع دراسة للحضارة الغربية وتبسيطها للسادة القراء، فاللهم يسر وأعن.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى