الخميس ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم فاتن رمضان

أمى

قصة قصيرة

إلى كل امرأة عجزت عن الإنجاب .. أهمس لها : انتظرى مفاجأت الله .. كم هى مدهشة ورائعة "..
كل عيد أم وأنتِ سعيدة..

لم تفلح محاولاتها المستميتة لاسترضائه ، كان قد عقد العزم وقرر ألا ينظر للوراء ، سحب حقيبته القديمة من فوق الدولاب ودون أن ينفض ما عليها من أتربة بدأ بإلقاء الملابس بها وبطرفة عين كان قد لملم هذه الملابس مع كتبه ولم ينس البرواز القديم لصورته مع أبيه .

انطلق كالسهم المارق من باب الغرفة ، فلحقت به وأمسكت ذراعه لكنه دفعها بحركة عصبية لا إرادية منه لتسقط عند باب الشقة ... تألمت ... ليست فقط للسقطة وإنما لرحيله المفاجئ ، استجمعت كل قواها ونهضت لتلقى عليه النظرة الأخيرة ... اغمضت عينيها ومعها باب الشقة وعادت لغرفة النوم وجلست على المكتب وفتحت الدرج لتخرج منه صورته القديمة وبدأت بالبكاء .

ظن أن رحيله هذه المرة سيكون ككل مرة ... أيام ثم يعود ...لم يكن يكرهها ويحب أباه كما يدعى بل إن ذكرياته مع أبيه لا تتعد أصابع اليد ، حتى تفاصيل وجهه لا يتذكرها ، أما أمه الحقيقية فلم يرها ... ماتت بعد ولادته بإسبوع ، أما هى فلم تكن مجرد أم بل كانت له حياة كاملة ...يدرك جيدا تضحيتها لكنه لا يستوعب فكرة أن يشاركها غيره بها.

كثيرا ما اقسمت له أنها لن تتزوج لكنه لم يصدق ... وربما لم يشأ أن يصدق ... ربما لأنه أدرك فى قرارة نفسه أنه لابد أن يشجعها وأن يوقف نزيف التضحيات .
ذهب لصديقه ليقيم عنده ... مشهد مكرر لمسرحية بلهاء معلومة النهاية،وقد حفظ صديقه حوارها لذا لم يتعجب ،فتح باب الغرفة وأدخله صامتا .

كان بكاؤها هذه المرة حارقا ،فقد كانت تخفى عن الجميع مرضها وأن أيامها بالحياة على وشك الانتهاء ... بكت مرتين ... له ولنفسها ... كانت تحلم أن ترى أبنائه ، وحين أمسكت بصورته تذكرت عيد ميلاده السادس بعد أن أصابته الحمى ولم يشف إلا بعد أن وهبته دمها ، حينها فقط شعرت أنها أمه فدمها يجرى فى عروقه ....احتضنته بشدة وأقامت له هذا العام حفلتين ؛ لشفائه ولميلاده .
نصف ابتسامة تسربت إلى شفتيها حين تذكرت إمساكها له وهو يقبل فتاة صغيرة فى فمها ويقول لها بلثغة ظريفة :أحبك ... كم شعر بالخجل منها ... وكم شعرت بالفرحة العارمة ....
ليست نادمة على تلك السنوات ولو عاد الزمن لكررت نفس الأحداث .
مر اليوم قاسيا وفى الصباح توجهت للمستشفى لتمكث بها ، وبعدها بدأ مرضها يتطور بصورة سريعة حتى وصلت لأقصى درجات الوجع ؛ كانت تدخل بغيبوبة ثم تستيقظ لتبحث فى وجوه الحاضرين عنه... كانت تنتظره وتثق أنه آت لا محالة .

لم يفرغ حقيبة ملابسه لأنه كان واثقا من عودته قبل الليل ... وضعها على الأرض واستلقى بجسده على السريرولم يستيقظ إلا والليل قد طرق أبواب النافذة... قام قلقا ثم نظر فى تليفونه فلم يجدها قد اتصلت به لكن عناده لم يجعله يتنازل وظل صراعه بين عشقه لأمه ورجولته يقتات عليه ...
لم يذهب هذا اليوم للجامعة ؛ هاجمه إكتئاب شديد ، ارتدى ملابسه ونزل للشارع ولم يكن منزله بعيدا ... نصف ساعة وكان قبالة العمارة ...لكن كرامته تغلبت على قلقه ، نظر للشقة وكأنه أراد أن يطمئن على وجودها ثم انصرف .
لم تفلح المسكنات معها فالألم قويا والموت يتجه سريع الخطى نحوها ... لم تكن تتمنى أكثر من رؤيته ... كانت تناديه كلما استيقظت وحين لا يرد تغمض عينيها وتستسلم للنوم .

مرت أربعة أيام ويبدو أنها كانت كفيلة لهزيمته ؛ فقد انهارت قواه وسقط صريع القلق وأحب أن يقطع الشك باليقين ... تجرأهذه المرة وسأل ، وحين أٌجُيب سقط على الأرض وبدأ الندم يعصر نفسه ... ولم يشعر إلا وهو فى أحضانها كطفل صغير على سرير المستشفى ...
كانت حالتها تتدهور بسرعة مذهلة ... ولا وقت للتفكير لديه ... تطوع ...وكانت الفحوصات لصالحه وصالحها ... قالوا لها إن هناك متبرع ولم يذكروا اسمه – هو طلب ذلك - ... بدأ العد التنازلى وبيوم العملية نظرت إليه نظرة إلتهام صممت أن يكون آخر من ترى ثم اغمضت عينيها .... استغرقت الجراحة تسع ساعات ... استيقظ هو قبلها ، نظر إليها وقد علت وجهه إبتسامة عريضة ضعيفة ... مد يده ليلمس يدها واقترب بوجهه إلى وجهها وهمس بأذنها : أمى ... أمى ....
استيقظت على كلماته وشعرت أنها بالسماء السابعة ... اختلطت دموع الفرح بدموع القلق والخوف ... حركت شفتيها بصعوبة شديدة لتهمس بحروف اسمه !!!

♥♥♥

قصة قصيرة

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى