الاثنين ١٣ آذار (مارس) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم نعيم عودة

اسطوانة المدير مشروخة

هذا يوم رائع ، فنحن في عطلة نصف السنة ونسيم الربيع يبعث في النفس إحساسا بالراحة وشعورا بالاستجمام.
كنت جالسا تحت الشباك والنسمات الكسولة تداعب الشعيرات القليلة المتبقية فوق رأسي.. سرحت
بخواطري بعيدا.. ورحت أقلّب أسطوانات عمري الكثيرة العتيقة .. تسمّرت عيناي على واحدة منها ..
إنها أسطوانة تحوي لوحات ذوات ألواح ودسر. نفضت عن الذاكرة غبارها لأستعرض ما يحويه جوفها
من ذكريات عفا عليها زمن وأسدل عليها ستار نسيان..
الوجه الأول:

شقراء .. مدينة تترامى أطرافها المبعثرة على طريق الحجاز .. تستلقي بيوتها على رمال النفود .. ساحاتها
الرملية تغريك بالمشي حافيا ، والمقاهي الشعبية بأسرّتها المرتفعة تدعوك إلى السهر والسمر (هات شاهي-
هات أبو اربع ) وتذكّرك بأيام امرئ القيس وهو واقف لدى سمرات الحي ينقف الحنظل في انتظار عنيزة.
والمدرسة الثانوية في الطرف الشرقي من المدينة.. ضخمة البنيان ، واسعة الساحات ، أمامها مسجد كبير
خلفه مساحة ترابية تكفي لبناء قرية صغيرة. هناك في تلك الساحة تقام احتفالات مديرية التعليم في نهاية
كل عام دراسي، فتغدو وكأنها سوق عكاظ في أيامه الخوالي .
ومدير التعليم .. رجل فاضل حقا ، بعيد عن الدنايا وخصوصا لغة الإنجليز .. قريب من معسكر الفضيلة،
ودود هاشّ باشّ دائما في غير ابتذال .. كان احترامه لنا يدفعنا إلى العمل الجاد والتفاني في خدمة العلم
والتعليم ، وكان سؤاله عنا يعطينا حماما أكثر مما تعطيناه كلّ الفيتامينات المتواجدة في صيدليات منطقة الوشم..
كان يؤمنا في صلاة الظهر عندما نكون في الإدارة، فأحرص على الوقوف خلفه في الصفّ الأوّل ، وعندما
تنتهي الصلاة أتراجع إلى الوراء لألبس حذائي فلا أجده، يضحك الزملاء ويشيرون إلى سيارة فورد عتيقة
تتجاذب جوانحها أطرافها غير مخفية دخانها الكثيف يتلوى خلفها كأنه ذيل مارد انطلق من قمقم وطار بعيدا:
أخذ سعد حذاءك كي تعود حافيا.. اشاركهم الضحك، ونعود جميعا أدراجنا إلى بيوتنا فأجد حذائي عند عتبة
البيت منتظرا إياي بينما سعد يقهقه من خلف بابه .

كانت الحياة سهلة وأمور معاشنا بسيطة وراحة البال متوفرة تماما كما يتوفر القلق المضني وينتشر التعقيد القاتل
وتفوح رائحة الإحباط في الجيل المعاصر هذه الأيام .
في نهاية العام الدراسي من كل عام ، يدعو مدير التعليم أحد كبار رجالات وزارة المعارف لحضور الحفل العام
للمنطقة. وكان يطلب مني أن أعدّ قصيدة ترحيبية ألقيها بين يديّ الضيف .. وكذلك فعل في تلك المناسبة.

جاء الموعد وكانت الشمس تميل نحو الغروب ، ونسمات من صبا نجد تهبّ في كل اتجاه ، والساحة الرملية
تكتظ بمئات المدعوين من الطلاب والأهالي وأعضاء الهيئات التدريسية في منطقة الوشم .. جلس وكيل الوزارة
وغاص في كنبة ضخمة ، على يمينه أبو عبدالله مدير التعليم ووكيله أبو سعد وموظفو الإدارة ، بينما جلس على
يسار الضيف وجهاء المنطقة يبرز من بينهم الهديان .. تاجر لا يقنع بالقليل وله في عالم التجارة صولات وجولات وبخاصة في أوساط المدرسين الجدد.. لا شيء يسرّه أكثر من أن ينتف ريشهم اولا بأول ، والويل
ككلّ الويل لمن يتعامل مع غيره من التجار. في الواجهة المقابلة وقف الجلاّل عريف الحفل يجلجل بصوته مرحبا
وقدّم مدير المدرسة الابتدائية ليلقي الكلمة الترحيبية . تقدّم المدير بخطوات ثابتة وامسك الميكروفون في ثقة
من يعلم أنه لا يعلم: بسم الله الرحمن الرحيم ، العلم نور والجهل ظلام. ويبدو أنّ الحرارة قد ارتفعت فجأة
فجفّ حلق العنقري.. وطقّت الاسطوانة ، وامتدّ الشرخ حتى وصل حافتها العظمى ، فظلّت الإبرة تتردد
بين طرفي العبارة التي نطقها ابتداء .. وسرت همهمة وحدثت حركة عصبية بين الواقفين خلف المدير الوجل،
تحرّك شخص وامتدّت يـد اختطفت الميكروفون منه .. بينما دفعته اليد الأخرى بعيدا في غير احترام.

لم يطق صبرا فتقدم . هذا هو سعود مدير الثانوية .. رجل قصير القامة دقيق الأنف صغير العينين فيه صرامة
الحجاج وفيه خوفه من الغزالة اذا تبدّت .

ألقى كلمته مزهوا كأنه ديك فصيح ، بينما انزوى الآخر مغلوبا يرتجف في ركن قصيّ .. ألقيت من موقعي
نظرة استظهر الوجوه: فوزي الصافي وعلي مجاهد وخضر والطلاّع والمختار ابو محمد – شلة أنس – تبدو عليهم
سعادة لا توصف . لقد سقط المدير .. مسكين .. إنه مدير ، نعم ، ولكنه غير مؤهل لمثل هذه المواقف .
ها هو قد نهض من غثرته ولوى عنقه في يأس المغلوب وعاد إلى بيته دون أن يشعر به أحد.

جاء دوري .. الآن يلقي الأستاذ الشاعر قصيدة ترحيبية فليتفضل.. لمع في عينيّ خبث فريد . مدير التعليم
ينتظر قصيدة ترحيبية أذكر فيها امجاد إدارته وصولات المدرسين وألمعية طلاب المنطقة .. وأنا أعددت قصيدة
فيها قليل من الترحيب وكثير من هموم إنسان ركلته حوادث الدهر بعيدا عن تراب منابته:

هتفت له شقرا تزغرد مرحبا أهلا وسهلا

بالشوق تنتظر اللقاء وقد بدا لك بل تجلىّ

ثمّ ترّجت على هدفي :
يا أسمر الوجه الملوّح إنها شمس البنادق

طلعت تدير عيونها الحمراء تنــذر بالصواعق

هذي الجماهير التي تحميك ظهرك كالفيالق

لا بدّ أن تمضي لقطع رؤوس صناع المشانق

ولفحتني الحميّة فاسترسلت رافعا رأسي مهددا حتى انتهيت ودوّى التصفيق .. ولكن وكيل الوزارة لم يصفق!!
أحسست بتخاذل مريب يدبّ في اوصالي .. كانت عيناي قد انحرفتا عن الجمهور الغفير وتسمّرتا على منصّة
وكيل الوزارة ومدير التعليم .. وفيما بعد ، عاتبني المدير عتابا رقيقا قلل من إحساسي بالهزيمة .

مرّت أيام وايام على ذلك الحفل .. وكنت عائدا من الإدارة إ لى بيتي ومررت برجل طيب كان يجلس أمام داره..
 السلام عليك يا أبا منصور .
 وعليك السلام . تعال يا استاذ. شلون محمد عندك ؟ كان محمد أصغر أبناء الشيخ .
 محمد زين .. لكنه ضعيف في الإنجليزي .
 أنت تدرّس انجليزي !
 نعم يا بو منصور .
 أنت مدرس زين بس لو ما تدرّس انجريزي .
 رحم الله أبا منصور فقد أصاب كبد الحقيقة.

الوجــه الثانــي :

كانت نساؤنا يجتمعن عصر كل يوم في منزل إحداهنّ ، ثمّ يقررن القيام ببعض الزيارات في اليوم التالي.وذات
يوم اجتمعت النسوة وقررن زيارة – حرمة – من أهل شقراء ، وقدّمت لهنّ صاحبة البيت الفواكه والقهوة
العربية والتمر .. تفضوا كلوا .. هذا ( برقدان ) ما تعرفونه !!

تغّر لون أم أشرف .. احمرّ وجهها .. يبدو أنها تذكرت مصيبتنا في وطننا وضياعنا في غربتنا ، فقالت لصاحبة
البيت في غير خشوع : هذا اسمه برتقال وهو يأتيكم من بلادنا .. أنا من الخليل وام ايمن من العباسية بلد البرتقال وهذه من يافا أم البيارات . صاحبة البيت لم تفهم كثيرا لكنها شعرت بقلّة علمها في مواضيع التاريخ
والجغرافيا كما اشعر أنا بضياعي مشرّدا بين هوان الزمان وحقارة المكان .

سعود ، إياه ، حجّاج المدرسة وقائدها وخطيبها المفوّه .. يقف أمام طابور المدرسة كلّ صباح حاملا عصاه ،
يشفط كلّ من يتأخر عصا على قفاه فيجري الطالب مهرولا وجلا . كان ذات صباح ، جاء أحدهم متاخرا..

هو عمدة طلبة المدرسة .. أصلبهم عودا وأكثرهم شراسة .. بدويّ من بيت المنقور . . لا يفهم نظاما ولا يهاب مديرا ولا يحسب حساب مدرّس . وصل الباب وتقدّم غير هياب ولا وجل. رفع المدير عصاه ألى ما فوق
رأسه كأعلى ما يمكن أن تكون .. وصكّ اسنانه وشدّ قامته القصيرة وتمطّى وعقد ما بين حاجبيه .. تقدّم ناصر
نحوه ثابت الخطى وفتح ذراعيه وضمهما حول خاصرة المدير ورفعه إلى أعلا !! نظر المدير إليه وقال بلغة فصيحة : أنزلني برفق .
فعل ناصر ذلك وبهدوء سار نحو صفه وكأنّ شيئا لم يكن . لكنّ المدير قرّر أن ينتقل من المدرسة الثانوية إلى
المدرسة الابتدائية.. وكذلك كان .

هنا بدأت معاناتي مع المدير الجديد .. رجل في اواسط الثلاثينات من العمر ، نحيف البنية عصبيّ المزاج ، دقيق
الوجه ، كثير التدخين ( في البيت فقط) لم يعمل في أيـّة مؤسسة تعليمية قط. كلّ خبرته في دائرة الجوازات..
مفتش جوازات.

من هنا كانت صرامته الواضحة تعبيرا عن قلة خبرته الإدارية، وممارسة لعمله السابق المبنيّ على الشكّ ومواصلة
التدقيق. دخل غرفة المدرسين .. ألقى تحية الصباح وقال : أنا عبدالعزيز، ثمّ أدار ظهره وتوجه إلى غرفة الإدارة
وجلس على الكرسي الدّوّار يحركه في كلّ اتجاه . بعد هنيهة جاء الفرّاش: انت يا استاذ ، المدير يبيك !
 هل أنت الذي تقوم بعمل جدول الدروس ؟
 نعم . أنا.
 اعمل لنا جدول جديد مراعيا كذا وكذا.
 إن شاء الله .
 أبيه بكره الصبح يكون جاهز. شكرا .

حظي مع المدراء طين أسود ونيلة مكررة .. يستغلون طيبتي ورغبتي الصادقة في العمل . يأمرني وكأنني أعمل سائقا عند أمه .. هذه هي ضريبة الغربة. وبعد أسبوع وصل مدرس جديد .. أرسل المدير في طلبي : وصل مدرس جديد .. نبي جدول جديد .. بكره ، هاه !! وتتكرر العملية أربع مرات في بداية العام الدراسي وانا
أكتب جدول الدروس طائعا راضيا بالمقسوم ظانّا أنّ الرجل يحفظ لي هذا الجميل .

ذات صباح .. دخلت غرفة الإدارة. نظرت إلى ساعة الحائط . الساعة متأخرة عشر دقائق.. ضبطتهاوخرجت
ثم عدت بعد قليل، وكان المدير جالسا هذه المّة .. وإذا الساعة متأخرة عشر دقائق مرة أخرى. مددت يدي إليها لأضبطها .. فإذا بزئير المدير من ورائي يجلجل :
 من أمرك بضبطها؟
 إنها متأخرة عشر دقائق وقد ضبطتها قبل قليل.
 أتركها هكذا .. أنا أريدها هكذا ..
 يا رجل انا لم أخطئ.. ثمّ قلت كلاما أكبر من ذلك وأوجع.
 أخرج من هنا. لا تدخل غرفتي . كان هذا إعلانا بإفلاس المدير في الإقناع.
 سأخرج . ولكن إياك أن تطلب مني شيئا بعد الآن .

وخرجــت مذموما مدحورا .

صالح ، مدرس الرسم ، شاب وسيم ورقيق لكنه يحب نقل الأحاديث من طرف إلى آتخر .. كان يأتيني كل يوم
ينقل إليّ ما يريد المدير أن يقوله لي ، وأنا أردّ عليه من خلآل صالح . جاءني يوما يقول : المدير سيلغي عقدك .
فأجبته : - وكنت قد رتبت أموري مسبقا – أبلغ صاحبك أنني سأنتقل من التعليم إلى جهة أخرى.
وظلّ صالح ينقل الحوارات بيني وبين المدير حتى نهاية العام الدراسي.
كانت النتيجة أنني تركت التعليم سنوات طويلة. وذات يوم التقيت المدير في سوق بالرياض وسلّمنا في غير

شوق .. وسألته : أين أنت اليوم ؟

قال : تركت التعليم وعدت مفتشا في الجوازات.

رحم الله ايام زمان .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى