الثلاثاء ٢٦ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم عثمان آيت مهدي

السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة

ينقطع في غرفته لساعات طوال، طبيعة مهنته تتطلب ذلك. غدا يلتقي بأربعة أقسام، بمستويات وشعب مختلفة، ما يعني أنه سيقدم أربعة دروس مختلفة أيضا. يجب التحضير الجيّد، إنّه يخاف من ارتكاب أخطاء غير مسموح بها، أو من أسئلة بعض التلاميذ النجباء، وهذا ما يحدث غالبا، أو من زيارة مفاجئة لمفتش التربية والتعليم. وأكثر من هذا وذاك، ضميره المهني الذي كثيرا ما يؤنبه عند شعوره بتقصير في تأدية مهامه على أكمل وجه.
يستيقظ باكرا، يشرب قهوته على عجل، يتأبط محفظته ويخرج من البيت مسرعا، لأن موعد الحافلة إن تأخر عنه، سيضطر لانتظار ساعة أخرى، وهذا يترتب عنه تأخر عن العمل. لكن عمر متعود على الوصول في الوقت المناسب، وملفه الإداري يخلو من أيّ استفسار حول تأخر ما، ولا عن غياب. إنّه منضبط بحق، لا يسمح لأيّ كان تقديم ملاحظات له، هو في غنى عنها، أو مجانية لأسباب تافهة.

يدخل إلى القسم الأوّل، يسجل عنوان الدرس، يفتح الكتاب في الصفحة رقم كذا، إنّها قصيدة لعبيد بن الأبرص في "وصف البرق والمطر". بعد التمهيد والتعريف بالشاعر، يشرع الأستاذ في قراءة القصيدة قراءة نموذجية.

ينظر التلاميذ إلى بعضهم البعض، لم يتعوّدوا سماع مثل هذه الكلمات الغريبة، يشعر الأستاذ أنّ أمرا ما يحوم بينهم. يطلب من أحدهم قراءة النص، يحاول التلميذ قراءة القصيدة إلا أنّ صعوبة كثير من الكلمات حالت دون القراءة الحسنة التي يتطلبها مقام القصيدة. يبادر أحدهم الأستاذ بسؤال: هذا النص صعب للغاية، إنه من مستوى رفيع، من المفروض تقديمه للأقسام النهائية أو الجامعية. يردّ الأستاذ: إنها قصيدة من العصر الجاهلي، قالها شاعر لم يعرف المدرسة ولا الجامعة.

يبدأ الأستاذ في شرح القصيدة، ومعالجتها من حيث المناقشة وتحديد بناء النص، والاتساق والانسجام بين الفقرات والأبيات، وأخيرا إجمال القول في تقدير النص. ويسأل في الأخير سؤالا يعتبره تقويما لنهاية الدرس: هل من سؤال حول النص: يردّ الجميع: "لا". ويرغب الأستاذ في التأكد من صحّة إجابتهم: من هو عبيد بن الأبرص، وماذا تناول في قصيدته؟ أطرق التلاميذ رؤوسهم خوفا من توجيه السؤال لأحدهم. يضطر الأستاذ أن يعيّن تلميذا من الصف الأول. بصعوبة وبعد تردد يجيب التلميذ: هو شاعر عاش في العصر الماضي، وتناول قضية السحب والأمطار في فصل الشتاء..

أدرك الأستاذ عمر أنّ تعبه ذهب أدراج الرياح، إنّه كمن يحرث في الماء، لا سبيل لإيصال هذه المعلومات للتلاميذ، رغم تحضيره الجيّد.

ينتقل في الساعة الثانية إلى قسم آخر، يسجل على السبورة عنوان درسه: "البدل وعطف البيان، وما بينهما من فروق". يكتب الأمثلة، يقرأها، يناقشها ثمّ يستنبط القاعدة، وبعدها يختتم درسه ببعض التمرينات في مجال المعارف وإدماج أحكام الدرس: ايت بجملتين أحدهما تحتوي على بدل والثانية على عطف بيان. يمر على بعض التلاميذ لمراقبة إجابتهم، فيكتشف الهوّة بين شرحه للدرس واستيعاب التلاميذ. لقد كان التلاميذ خارج الإطار، خارج الدرس، خارج القسم، إنها كارثة، بعد جهد جهيد وعمل شاق من أجل إيصال معلوماته لهؤلاء، لكن دون جدوى..

يعلم الأستاذ عمر أنّ القسمين المتبقيين سيكون مصيرهما نفسه، عمل، جهد، شرح، طرح للأسئلة.. وفي الأخير، لا شيء، لا مقابل، لا صدى..

لم تكن هذه المرة التي يعاني فيها الأستاذ عمر من صعوبة استيعاب التلاميذ لدرسه، إنّها مرات عديدة. لقد طرح المشكلة على زملائه، على المدير، وكذلك، على السيد مفتش التربية والتعليم. واستمع إلى الكثير من التفسيرات والاجتهادات، لكن لم يحصل على الجواب الشافي. قد يكون السبب في شخصه، إنه أستاذ فاشل، لا بل في البرنامج الذي لا يتطابق ومستوى وميول التلاميذ. قد يكون في ضعف التلاميذ وتراكم سنوات الإهمال وعدم الفهم، لأن التعليم عملية تراكمية سلبا وإيجابا. قد يكون في إهمال الأولياء لأبنائهم وعدم متابعة دروسهم بالبيت. قد يكون لأسباب أجهلها، تعددت الأسباب والموت واحد.

لكن، ما العمل؟ يسأل الأستاذ عمر زميله. لا عليك، يردّ الزميل، تنتهي مهمتك بانتهاء الدرس، يبقى الاستيعاب والفهم لمن يرغب في ذلك، لستَ وصيا على أحد، يغوص البحر من طلب اللآلئ. إنّها سنة الحياة، فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى