السبت ٨ حزيران (يونيو) ٢٠١٣

مملكة «ران» الاستعمارية

نادية سعد الدين

يبدّد المستوطن ايفري ران، بـ«مملكته» الاستعمارية المطلة على المساحة التي تركتها يدّ الاحتلال في قرية يانون النابلسية، مزاعم الاستيطان الديني الإيماني وقدسية المكان، بعدما تحلل من اكتساب الشرعية التاريخية، من دون مبارحته وظيفياً، نحو استلال الوجه الحقيقي للصهيونية الارتزاقية العنصرية.

فإذا كان ران، أسوة بمستوطني فلسطين المحتلة، لا يشذ عن نهج الاحتلال في استلاب الأرض والتاريخ بالعنف والإرهاب، إلا أنه يلملم، بين ثنايا تجمعه الاستعماري الاستثماري الجاثم فوق سفح جبلي جرى اقتطاعه عام 1995 من أراضي تلك القرية المنكوبة، تجليات الكيان الصهيوني النفعي، بخلفيته العسكرية الدينية، باعتباره كان أحد عناصر فرقة الكوماندوس التابعة لهيئة أركان جيش الاحتلال، وهو حالياً، كبير حاخامات المستوطنين في المنطقة، التي أضاف إليها صفة المستثمر بامتلاكه مجمعاً زراعياً صناعياً تزيد مساحته على 100 دونم، يدّر عليه ملايين الدولارات.
ولا تخرج هذه التوليفة المتناقضة عن ركائز المشروع الصهيوني وأهدافه الاستيطانية في فلسطين المحتلة، إذ لم تكن الصهيونية الدينية، كإحدى أبرز مكامن الدمج بين الدين والسياسة في الكيان الصهيوني، إلا مخرجاً شرعياً لأغراض الاحتلال، تجسد، عملياً، في إضفاء المستوطن «ران» ضرباً من القداسة على استيلائه على مساحة شاسعة من الأراضي التابعة للقرية الواقعة إلى الجنوب من مدينة نابلس، باعتبارها ملكاً له يستبيحها متى أراد.

يستقيم ذلك، عند الصهيونية الدينية، التي خرج المستوطن ران من رحاها، مع منظومة فكرية أيديولوجية تجاه قضايا الصراع العربي ـ الإسرائيلي تنطلق من منظور ديني توراتي تلمودي باتت تمثل معه «الهالاخاه» (الشريعة اليهودية) الحكم الفيصل في الشأن السياسي وفي العلاقة مع «الآخر»، مشكلة بذلك إطاراً تنسج منه أساطير عن أحقية «الشعب اليهودي» في «أرض إسرائيل التوراتية» وفق «وعد إلهي» تاريخي يشي بالخلاص على يدي «المسيح المنتظر»، ما سمح بإنتاج تجمع مغلق داخل إطار شمولي ونسق موحد يسود في أعطافه التعصب والتطرف (وفق الفيلسوف اليهودي كارل بوبر).

لا يتوقف هذا التأصيل عند حدوده النظرية فحسب، مثلما لا ينحصر عند أتباع الصهيونية الدينية وحدها، حيث عكست توليفة البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) الذي انتخب أعضاؤه في 22/1/2013 انتصار اليمينية التي باتت سمة عامة تكتسب مشروعيتها بين الأحزاب الأساسية في الحياة السياسية الإسرائيلية، والممثلة في الحكومة. ويتبين ذلك من خلال ميل دفة المقاعد، عند احتسابها، لمصلحة التيار اليميني الديني ولغلاة المستوطنين، عبر أحزاب الليكود و«إسرائيل بيتنا» (31 مقعداً)، وحزب «البيت اليهودي»، الذي ارتفع عدد مقاعده من 3 في انتخابات 2009 إلى 11 مقعدا، مستعيداً عافيته بقيادة المتطرف نفتالى بينيت الذي نجح في مخاطبة جمهور اليمين بشعاراته المتشددة الرافضة لإخلاء المستوطنات وتقسيم القدس وحق العودة واستئناف المفاوضات، مقابل التمسك «بأرض إسرائيل التاريخية» وفق التعاليم اليهودية، باعتباره وريث حزب «المفدال» اليميني المتطرف وحركة «غوش إيمونيم» الاستيطانية. بينما حظي حزب «يهودوت هتوراة» (حزب التوراة الموحد) الديني المتشدد بمقعدين زيادة على حصته في انتخابات 2009 التي فاز فيها بخمسة مقاعد.
يعّبر حزب شاس (11 مقعداً) عن مواقف غلاة المتدينين من اليهود الشرقيين، مطالباً بالأحقية التاريخية «للشعب اليهودي» في «أرض إسرائيل» التوراتية، ورفض تقسيم القدس وإقامة الدولة الفلسطينية المتصلة والمستقلة، مقابل التوسع الاستيطاني باعتباره فريضة شرعية وواجباً مقدساً، ولكنه يرى إمكانية التخلي، موقتاً، عن أجزاء من «أرض إسرائيل»، ليس تعاطفاً مع الفلسطينيين، بل حفاظاً على حياة اليهود، وإدراكه ان الزمن يدور لغير مصلحة الاحتلال. وفى المحصلة، لا يوجد اختلاف حقيقي بين الأحزاب، بمختلف توجهاتها اليسارية واليمينية والدينية، تجاه القضية الفلسطينية، حيث ترفع مجتمعة «لاءات» في وجه العودة إلى حدود 4 حزيران 1967 وتقسيم القدس وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين ووقف الاستيطان، مقابل الحديث عن دولة فلسطينية منقوصة السيادة ومنزوعة السلاح.

إن مشروع ران الاستثماري الذي يحوي مزارع للأبقار والأغنام والدواجن وأخرى لزراعة الزيتون والعنب ومصانع النبيذ وتغليف البيض والمنتجات الحيوانية ومعصرة لزيت الزيتون الذي ينتجه، هو ترجمة عملية للاستيطان الصهيوني وفق قاعدة «تهويد الأرض والسوق والعمل»، على حساب المواطنين الفلسطينيين.

وعملاً بمنطق «الكيبوتس»، الذي كان يسكن أنشأ «مملكته» بعد قولبة مفهومه، بحيث ما عاد ذلك التجمع الاستيطاني التعاوني الذي يضم جماعة من المستوطنين الذين يعيشون ويعملون معاً، وإنما بات تجمعاً عائلياً يتربع على رأس هرمه، رافضاً استقبال أي مستوطن آخر للسكن فيه، من منطلق أن الأرض التي استولى عليها ملك له وحده ولأبنائه العشرة. ولكنه أبقى على مضمونه الوظيفي بوصفه مؤسسة لتوليد جماعة شبه عسكرية، فباتت البؤرة الاستيطانية التي يقيم فيها معقلاً للمتطرفين الذين يتصيدون المزارعين الفلسطينيين بالترهيب والقتل، ووكراً لتفريخ منفذي الجرائم بحق الفلسطينيين عبر تنظيم معسكرات تدريبية لهم وتزعم عصابة متطرفة تسمى «فتيان التلال» تضم المستوطنين في البؤر الاستيطانية المجاورة والجماعات الدينية المتطرفة تحت حراسة جيش الاحتلال.

من خلال التسلح بفتاوى الحاخامات المتطرفين الداعية إلى قتل الفلسطينيين والسطو على أراضيهم وممتلكاتهم وطردهم، تنقضّ العصابات المسماة «فتيان التلال» على أهالي قرية يانون باعتداءات يومية، تستهدف عرقلة الزراعة التي تشكل مع تربية المواشي مصدر دخلهم الأساسي، ومنع وصولهم إلى أراضيهم الزراعية لاستغلالها والاعتناء بها، وإجبارهم تحت تهديد السلاح على مغادرتها وقتل المستنكفين منهم، من أنها مصنفة في المنطقة «ب» (بحسب اتفاق أوسلو 1993) التي يوكل حق إدارتها للجانب الفلسطيني، فيما يقوم جيش الاحتلال بمؤازرة المستوطنين وتأمين الحماية لهم ومساعدتهم في طرد المزارعين الفلسطينيين.

لا تتوقف جرائم المتطرفين عند هذا الحد، حيث يستبيحون بين الفترة والأخرى أراضي القرية نفسها بتخريبها وتدمير مرافق الحياة فيها أو تسييجها للسيطرة عليها وضمها لاحقاً، ومهاجمة المواطنين الفلسطينيين في دورهم وتخريب محتوياتها، والإغارة عليهم ليلاً والقيام بإحراق الحقول والمنازل وإطلاق النيران على البيوت وتهديد ساكنيها بالقتل في حال عدم مغادرتهم القرية، بالإضافة إلى قتل الكثير من رؤوس الأغنام ورعاة الماشية.

تتوالى عمليات نهب المستوطنين الأراضي الزراعية بذريعة التوسع الاستيطاني، ما أدى إلى قضم 14 ألف دونم من أراضي قرية يانون وتحويلها إلى مناطق مغلقة عسكرياً يُمنع السكان من الوصول إليها، أو استغلال طريقها الحيوي لأهالي بلدة عقربا وقريتي يانون وعورتا. ولا يسمح لأهالي القرية بالبناء في الأراضي المصنفة في الفئة «ج»، ما حوَّل القرية إلى «بقعة» منكوبة تفتقد أدنى مقومات الحياة. وجراء اعتداءات المستوطنين المتكررة والمنظمة، التي خفضت عدد سكان القرية إلى 108 أشخاص فقط، فقد اضطر بعض مواطنيها إلى الهجرة موقتاً إلى حين تمكنهم من العودة، فيما تشبث معظمهم بأرضهم وبحق الدفاع عنها.

ساعدت طبيعة منطقة قرية يانون السهلية المطلة على الأغوار الأردنية في جعلها محط اهتمام الاحتلال منذ العام 1967، فاستولى على معظم أراضيها لإنشاء مستوطنة «ايتمار» عام 1983، التي أقيمت على أراض مصادرة من قرى يانون وبيت فوريك وعورتا وتضم زهاء 500 مستوطن واستثمارات تقدر بنحو 40 مليون دولار، ثم استولى في منتصف التسعينيات على مساحات شاسعة تقدر بآلاف الدونمات لإنشاء مستوطنة «جدعونيم»، التي توسعت خلال الانتفاضة الثانية خمس مرات، بالإضافة إلى السيطرة على أراضي يانون الغربية في عام 2000 لإنشاء مستوطنة «غعفات علام ايفري ران» نسبة إلى الحاخام الروحي لمستوطني المنطقة، ما سمح للسلطات الإسرائيلية باستكمال السيطرة على معظم الأراضي في القرية، خاصة الجبلية منها، ضمن مشروعها الاستيطاني في محافظة نابلس الذي يضم نحو 15 مستوطنة وأكثر من 35 بؤرة استيطانية.

* كاتبة من الأردن.

نادية سعد الدين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى