الأربعاء ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم رندة زريق صباغ

الرِّبى لن يغلب اللِبى

قال العرب:- «ربّوني ودلّوني ع أهلي»... ليدل ذلك وإن دل على أهمية الوالدين وليس فقط الاّباء من جهة ولينفي ذلك مقولة العرب الأخرى:- "الرِّبى غلب اللِّبى"...

فللتربية إثر التّبني كما للتربية لإثر الولادة حق كبير ودور هائل في حياة الإنسان، لكن هذا الحق لم ولن يعلُ يوماً على النسب والإنتماء الجيني،الدموي والأسري...

فإن المتبنّى لن ينسى أو يتناسى جذوره التي لا يعرفها... سيبحث عن أصله وفصله وشجرة إنتمائه، وإن لم ينجح هو بذلك سيورث هذه الأمنية لأولاده وأحفاده كي يتابعوا البحث من بعده... فالحقيقة لا بد وأن تظهر عاجلاً أم اّجلاً.

ليس عبثاً على ما يبدو أن قامت ديانات معينة بتحريم التبني ونسب الطفل للعائلة المتبنِيّة... فإن الأمر أكبر، أكثر وأخطر من مجرد إشباع غريزة أمومة أو أبوة، فإن الحديث عن ماضٍ لن ينجح الحاضر بمحوه أبداً وبالتالي لن ينجح برسم مستقبل على هوى هذه الغرائز والنوايا حتى وإن كانت طيبة.

قصة السيد يوسف شوفاني-التي عرضت ضمن برنامج عوفداه مع ايلانا ديان- التي تشابه الخيال ما هي إلّا إثبات على ما قلته أعلاه، قصة كما في الأفلام بل كما في الأحلام، لا يمكن أن تخطر على بال ولا أن تكون واقعاً إلا بما تعذّر وما ندر. تركيبة هذه القصة وتعقيداتها لم تكن لِتُحَل لولا إهتمامه هو شخصياً بحلها ولو لم يُلَمِّح لحفيدته بمرام قلبه وهو على فراش المرض.

مات السيد شوفاني وحسرة كبيرة في قلبه وروحه جراء فشله بالتعرف على عائلته الحقيقية إذ لم يتم فك اللغز المحير في حياته، وهكذا تابعت حفيدته(لابنته) المشوار من بعده بكل جد واهتمام، ونجحت بذكائها وحنكتها في حل لغز عميق وغامض كان لحرف واحد كتِب خطأ في اسم العائله الدور الأكبر في ضياع حقيقته وفشل يوسف نفسه في حل اللغز قبل وفاته.

نجحت حنان زريق-أبو نصار من الوصول لعائلة جدها بعد سنتين فقط من وفاته لتكتشف العائلتان ونكتشف نحن بدورنا قصة عقدت ألسنتنا وأوقفت قلوب البعض لثوان معدودات.

يوسف شوفاني ذو القسمات الأوروبية والتي اعتقد لسبب ما طوال عقود حياته أنها ألمانية المصدر، بحث وبحث ولم يجد ضالته، تحدث عن حكايته في التلفزيون الإسرائيلي ذاكراً اسم العائلة المخطوء المكتوب بشهادة ميلاده، لكن للأسف مرت السنوات ولم يتصل به أحد من أهله الأصليين لأن حرفاً واحداً قلب الموازين، ولسوء حظه لم يشاهد الحلقة أحد من أهله الأصليين ففوَّتوا فرصة أن يروا الشبه المذهل حد الخوف بينه وبين والده الحقيقي أي أخيهم المتوفى.

صدف أن سكن يوسف شوفاني وابن عمه نعمان لسنوات في حارة واحدة في بئر السبع، لكن لم يحدث أن التقيا أبداً رغم أن يوسف لم يأل جهداً في البحث عن أهله متفرساً في كل الوجوه غير عربية التقاسيم التي تمر به.

على سرير المرض والموت قال الجد لحفيدته حنان:- "بدي أروّح ع البيت" لتفهم الأخيره أنه لا يقصد البيت الذي تربى وعاش به، بل البيت الذي وجب أن يتربى ويعيش به....وهكذا قررت ومنذ تلك اللحظة أن تتابع مشوار البحث وفاءً لجدها وإرضاءً لروحه.

طبعاً كان للتكنولوجيا –مشكورةً- ولجوجل تحديداً الدور الأول والأكبر في الوصول للحقيقة.

بدأت حنان المشوار انطلاقاً من اسم العائلة المدون في شهادة ميلاد جدها (بلوكيند) الذي لم يوصلها لأية نتيجة أو حتى معلومة، لتقرر بحنكتها أن تجري خلال بحثها تغييراً بسيطأً في ترتيب الاحرف حتى توصلت للاسم(بيلكند) الذي أخذها بدوره إلى حيث لم تتخيل، وليصدمها هول الشبه بين جدها يوسف وأحد رجال العائلة المنشورة في الموقع والمدعو يشاي.

يشاي بيلكند اليهودي الروسي الذي تركزت مهمته حينها في فلسطين، أقام علاقة مع امرأة هنا ثم عاد لدياره...فتقرر هذه المرأة بدورها وضع الطفل بعد ولادته على مدخل كنيسة في الكرمل لتتم رعايته هناك، وتركت معه شهادة ميلاده التي تحمل الاسم(يوسف بلوكيند).

طلب الكاهن من مديرة المدرسة التابعة للكنيسة أن ترعى الطفل، فقررت بعد أشهر معدودات أن تتبناه وتعطيه اسم عائلتها(شوفاني). كبر الطفل وتربى مع هذا الاسم العربي بقسمات غير عربية أشعرته دائماً بغربة لم يعرف لها سبباً... إلى أن أعطته قبل وفاتها شهادة ميلاده الحقيقية... وبدأ مشوار البحث.

تزوج يوسف شوفاني من فتاة حيفاوية مسيحية وأنجب منها أربع بنات وثلاثة أولاد، حمل قسم منهم ملامح والده الأوروبية في حين حمل الاّخرون ملامح أمهم العربية.ملامح يوسف ليست عبارة عن زرقة عينين وبشرة شقراء فقط، فإنها ملامح موجودة أيضاً لدى الكثير من العرب دون أن تثير الريبة أو الشك في أصله، لكن نوعية عيونه ولونها إضافة إلى تقاسيمه أكدت للناظر أنه غير عربي ولا شرقي بالمرة، ليتأكد كل ذلك بعد أكثر من سبعين عاماً على ولادته.

يوسف يشاي بيلكند....وما أدراك من هي وما هي عائلة بيلكند هذه....فقد تعدت الحقيقةُ القصة الإنسانية لتتحول لقضية قومية من نوع اّخر ...قصة تلخص الصراع على الأرض، التاريخ والوطن... وليشكل أولاد وأحفاد يوسف شوفاني- بيلكند لغزاً جديداً بكل ما فيه من جمالية ومعاناة في اّن.

حنان زريق حفيدة (خليل سليم زريق) ابن قرية عيلبون التي هجر أهلها عام48 وقتل شبابها بدم بارد على يد اليهود اللذين أرادوا فلسطين وطناً لهم... عم والدها (سهيل سليم زريق) قد تم حرقه حتى الموت أثناء نومه في غرفة أخيه لطف الذي نجا بأعجوبة من مؤامرة دبرت ضده بتهمة الشيوعية والوطنية الفلسطينية وبتهمة العمل ضد اسرائيل عام1952.

هي ذاتها حفيدة (يوسف يشاي بيلكند) الذي كان أبوه وأعمامه من رواد الهجرة اليهودية الأولى الى فلسطين واللذين عملوا كمخبرين توزعوا بين سوريا،مصر، العراق وفلسطين. نقلوا الأخبار والأحداث الى من يهمه الأمر تمهيداً للهجرات التالية...هم من صمموا علم دولة إسرائيل وغيرها من النتاجات التي ساهمت مساهمة كبيرة وحقيقية في قيام اسرائيل على حساب الفلسطينيين...وأما أختهم الأديبة فقد كانت سفيرة إسرائيل في الأمم المتحدة، نائب رئيس بلدية القدس،عضو كنيست كما أنها هي مؤسسة منظمة نعمات النسائية الإسرائيلية.

أما عم جد حنان(نعمان بيلكند) فقد أعدم شنقاً في سوريا بتهمة التجسس إنطلاقاً من صهيونته ووطنيته اليهودية .

هي المرأة ذاتها والإنسانة ذاتها...تجمع في طيات سنيها وذاكرتها من جهة وفي أحلام مستقبلها ومستقبل أولادها من جهة أخرى كل التخبط،التاريخ،الانتماء المزدوج والموجع بين عروبة وفلسطينية جدها لوالدها... وبين يهودية وصهيونية جدها لأمها.

أتراها سخرية القدر؟

أم تراها إحدى دلائل مصير مشترك لشعبين اّن الأوان أن يتفقا ويوقفا إراقة الدماء؟!

أم تراها رسائل تندرج بين الإنسانية، البشرية والإلهية يصعب علينا إدراكها وفهم كنهها؟!

أم إنها مجرد قصة نادرة ستمر مر الكرام ولن تغير في الواقع العام شيئاً؟!

لكن ماذا عن الواقع الخاص للعائلتين؟ كيف ستتغير حياة الأفراد فيها؟

هل سيساهم تغيير الإسم بتغييرات في المسميات؟!

أسئلة كثيرة وتساؤلات محيرة لن ننجح بالإجابة عليها...لكن الزمن والزمان قادران فعلاً على مدنا بالإجابات، الدروس وحكم الحياة.... فهل نتعلم؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى