السبت ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
رُؤى ثقافيّة «49»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

الثورة الرقميَّة واللغة العربيَّة!

في تقريرٍ صحفيٍّ نُشر بصحيفة «الوطن» السعوديّة، الثلاثاء 30 نوفمبر 2010، تحت عنوان لافت «اليونسكو تحتفل بالعربيَّة.. وتَراجُع الانجليزيَّة 50% على الإنترنت»، جاء ما يبدو مناقضًا للصورة القاتمة التي تظهر على مرايا مستقبل اللغة العربيَّة. حيث يذهب التقرير إلى أن المشاركين في انطلاق فعاليّات الندوة الدوليّة الثالثة حول التعدُّديَّة اللغويّة والعولمة والتنمية، بمكتبة الإسكندريّة، أجمعوا على أن الثورة الرقميّة تدعم التعدديّة اللغويّة وأن اللغة العربيّة من أكثر اللغات على موقع «فيسبوك»، وأن المحتوى المقدَّم باللغة الانجليزيَّة على «الإنترنت» قد تراجَع بنسبة 50%! كما يُشير التقرير إلى تأكيد مديرة برنامج ذاكرة العالم بمنظمة اليونسكو (جوي سبرينجر) أن اليونسكو تؤمِن أن اللغة هي أداة نشر السلام والمعرفة في العالم، وبوّابة التعرّف على الثقافات المختلفة، إلّا أنه بالرغم من ذلك، فإن التعدّديّة اللغويّة العالميّة تُواجِه خطر الانحسار؛ فقد أكّدت دراسةٌ حديثةٌ أن نِصف لغات العالم ستختفي بحلول عام 2050.

من جهة أخرى، يُشير (نيكولاس أوستلر)، عالم اللغويّات المتخصّص في تاريخ بزوغ وفناء اللغات، في كتابه «آخر لغة ثانية: اللغة الانجليزيّة حتى عودة بابل»، الصادر في ديسمبر 2010 عن دار «والكر بوكس»، إلى نهاية سيادة اللغة الانجليزيّة كأهم لغةٍ عالميّة ثانية؛ وذلك لعوامل أهمّها: انتهاء عصر الاستعمار الذي كان يفرض لغة الغالب على الشعوب المستعمرة المغلوبة، وأن الانجليزيّة، كلغةٍ أُمّ، قد كفَّت عن التوسُّع عالميًّا، فيما توسُّعها، كلغةٍ ثانية، آخذٌ في التقلُّص، هذا إلى نهوض القوميّات اللغويّة وتكاثف اعتزازها بلغاتها الخاصّة، [عدا العربَ طبعًا!]، حتى تلك التي كانت مستعمرات انجليزيّة، كسريلانكا، وتنزانيا. وكذا تراجُع بلدان أخرى عن اتّخاذ الانجليزيّة لغةً رسميّةً للتعليم الجامعي، كهولندا في عام 1990، يُضاف إلى ذلك تطوُّر برمجيّات الترجمة الآليّة عبر التقنية الحديثة التي سوف تُغْني عن تعلُّم الانجليزيّة أو غيرها من اللغات الأجنبيّة(1).

ولكن السؤال هنا إزاء كلام كهذا، يبعث الحماس العروبي عادةً: أيّ لغةٍ عربيّةٍ تلك التي يتحدّثون عنها على «الإنترنت»؟ أهي اللسان العربي، «غير ذي العوج»، أم اللسان الآخر، الذي كُلُّه عِوَج ومطبَّات، من المحيط إلى الخليج، لا أوّل لكهوفها ومنحنياتها وتعرّجاتها ولا آخر؟! إنها في الأغلب الأعمّ: العربيَّة العامِّيَّة، أو العربيَّة المكسَّرة، التي عَدَمُ وجودها خيرٌ من وجودها؛ لأنها معاول هدم للعربيَّة: التاريخ، والحضارة، والقرآن، والفكر، والأدب، والتراث، والبيان، ولا قِبَل لها بمنافسةٍ حضاريَّة! إنها لغةٌ رأسُ مالها الأبجديّة العربيَّة، وهذه الحروف موجودة كذلك في الفارسيّة؛ أفنقول إن لغة إيران عربيّة، فقط لأنها تُكتب بالحروف العربيّة؟!(2) إن هؤلاء الذين يتفاءلون بمستقبل العربيّة مسرفون في التفاؤل- إلى حدّ البَلَه- وقد لا يعرفون اللغة العربيّة التي يتحدّثون عنها، بل لا يعرفون العرب؛ فيُسمُّون ما كُتِب بحروف عربيّة: لغة عربيّة! أمّا واقع الحال فمخجل مخجل مخجل.

أ ولم أحدِّثكم مطوَّلًا عن ثقافة البناء والهدم التي نعيشها في واقعنا العربي؟ تلك الثقافة التي تجعل العربي، طفلًا أو راشدًا، لا يعرف إلى أين تسير سفينة نوح بثقافتنا المتخبِّطة في طوفان المتناقضات من المحيط إلى الخليج؟! إذن لا بأس بمناسبة ذلك الخبر عن مكانة اللغة العربيّة على «الإنترنت» أن تسمعوا وتعوا ما يلي، وإن كان مقتطفًا أقدم تاريخًا: وهو الخبر المنشور في الجريدة نفسها (الوطن، ع2337، الخميس 4 صفر 1428هـ الموافق 22 فبراير 2007م)، تحت عنوان «اللهجات السعوديّة تَدخُل البرمجيّات العالميّة مطلع 2008». يقول: «تدخل اللهجات المحليّة السعوديّة المحكيّة برمجيّات الحاسب الآلي العالميّة في مطلع عام 2008م. وقال مدير عام شركة مايكروسوفت: إن هناك تعاونًا لتطوير تقنيات استخدام اللهجات السعوديّة في البرمجيّات الإلكترونيّة، موضحًا أنه سيكون بمقدور أيّ مواطن، ينتمي لأيّ لهجة كانت، أن يُفرغ حديثه الصوتي إلى نصوصٍ مكتوبةٍ من خلال تقنية «فويس ريكوجنشن»، متوقِّعًا الانتهاء من تركيب اللهجات وبدء استخدامها خلال بداية العام القادم 2008م.» ومعنى هذا أننا الآن قد دخلنا عصر عولمة العاميَّة بالفعل، منذ أكثر من أربع سنوات. لقد قرأتُ ذلك الموضوع، في ذلك التاريخ، عِدَّة مرّات في اندهاش، وإنْ صَحَّ التوقيت فقد طُبِّق استخدام اللهجات في البرمجيّات الإلكترونيّة. ومن الطريف أن الخبر ذُيـّــل بالآتي: «هذه هي المرّة الأُولى التي نقوم فيها بإطلاق إصداراتنا باللغة العربيَّة والانجليزيَّة معًا، (وذلك لإدراكنا مدى أهمية اللغة العربيَّة للمستخدم في بلادنا والمنطقة)»!

فتلك إذن هي اللغة العربيّة المقصودة! فأيّ أهميّة للغة العربيّة هنا؟!

بل أيّ لغة عربيّة، والمواطن العربي صار ينتمي للهجته وقبيلته، ويفاخر بهما؟!

وكيف تلهَّج اللغة العربيّة حاسوبيًّا، بعد أن تحوّلت العاميّة إلى لغة مكتوبة، ودعاوى إبداعيّة مكذوبة؟! إذ من المعروف واقعيًّا وتاريخيًّا أنه ما أن تصير لهجة ما مدوَّنةً حتى تستحيل إلى لغةٍ مستقلَّةٍ، طال بها الزمان أو قصر. واللهجات الآن ليست مدوَّنة فحسب، بل هي محوسبة أيضًا! أصبحت اللهجات إلكترونيَّة حاسوبيَّة، وهناك مِن (النبهاء الغيورين على مصالح الوطن والأُمَّة) من يسعى لإدخالها في البرمجيّات الحاسوبيّة الحديثة، من أجل أجيالنا الصاعدة! وإنه لمن الطبيعي أنه: ما أن تتعدَّد المستويات اللغويَّة، ثم تُدوَّن، وتتعدَّد المستويات الثقافيَّة، ثم تُدوَّن، حتى يتمزَّق المجتمع، وتنقسم الدولة الواحدة إلى دُوَل! ولئن حَكَمَها الحديد والنار، أو ربطتها المصالح المشتركة إلى حين، فلن يستمرّ ذلك طويلًا، بل سيذهب كل فريق بتراثه، إنْ عاجلًا أو آجلًا، مشكِّلًا هويَّةً تزحف شيئًا فشيئًا إلى الانفصال والاستقلال!

وهكذا، فإن العامِّيَّة اليوم لم تعد لسانًا منطوقًا، أو شِعريًّا، بل صارت تقانيَّةً، تتوسَّل أحدث الوسائط الإعلاميّة والاتّصاليّة. ومن طرائفها، على سبيل مثال آخر- وما أكثر طرائفها!- مشروع ظهر مؤخَّرًا باسم: «ويكيبيديا مصري»، بالعامِّيَّة المصريّة على موسوعة «الوكيبيديا». تقرأ فيها، مثلًا، حول (برتراند راسل) ما نَصُّه:

«بعد ما راسل خلَّص من كتابه عن فلسفة «ليبنيز» سنة 1900 بدأ مشروعه الكبير في المنطق والرياضيات... والكتاب ده كتبه مع صاحبه الرياضي والفيلسوف الفريد نورث وايتهيد، وده كان أستاذه قبل كده. وفي سنة 1910 و1912 و1913 نشر التلت مجلّدات بتوع كتاب قواعد الرياضيّات بعنوان لاتيني Principia Mathematica. من وقت نشر مجلدات «قواعد الفلسفه» وجهة راسل الفلسفيه بقت معظمها تحليليه وأفكاره بقت من مصادر الإلهام للحركه التحليليه في الفلسفه Analytic Movement in philosophy، لكن شويه شويه ابتدى راسل يبعد عن المدرسه التحليليه ويهتم بـ«الأتوميه المنطقيه» Logical Atomism. معظم كتابات راسل في عشرينات وأوائل تلاتينات القرن العشرين بقت متوجهه للقراء العاديين بلغه سهله مفهومه، وراجت شوية كتب من كتبه دول بين الناس... ومع الكتب العلميه المبسطه دي ألّف كتب تنويريه في السياسه والمجتمع والتعليم والثقافه والدين وغيره. زي «ما هو إيماني» (1925) و«الزواج والأخلاق» (1929) و«مستقبل العلم» ( 1931) و«التعليم والنظام الإجتماعي» (1932). كل الكتب دي كات قويه وبيشع منها ذكاء. وراجت شوية كتب من كتبه دول بين الناس...».(3)

وعلى هذا النحو من (لغة العين) الجديدة، التي ذكَّرتني بشرح مدرِّسينا في المراحل التعليميَّة كلِّها؛ فهكذا كانوا يشرحون لنا، حتى مقرَّرات اللغة العربيَّة. لكن من حُسن طالعنا اليوم، نحن العربان، أن طرائق تعليمنا القديمة بالعاميّة قد أصبحت حيّة على الشبكة العنكبوتية، لنستغل هذه التقنية التي صنعها (الكفّار، عليهم من الله ما يستحقون!) لترسيخ علومنا وثقافاتنا ولهجاتنا! وما هو قادم أنكى وأمر! فلتَحْيَ اللغة العربيّة، إذن، التي تحتفل بها اليونسكو.. وتقول بتراجع الانجليزية بنسبة 50% على الإنترنت لحساب العربيّة!

(1) انظر: العيسى، حمد، «آخِر (لينغوا فرانكا).. نهاية سيادة اللغة الانجليزية كأهم لغة عالمية ثانية»، صحيفة «الجزيرة»، «المجلّة الثقافيّة»، العدد 334، 10 مارس 2011، ص19:
http://www.al-jazirah.com.sa/culture/2011/10032011/tar41.htm

(2) استعصى الفُرس على التعريب، مع استعمالهم الحرف العربي، واختلاط كلمات الفارسيّة بالعربية، ولم تستعص شعوب أخرى، كالإسبان القشتاليين، مثلًا. لم تتعرَّب بلاد فارس، على الرغم من خضوعها للعربيَّة طيلة ثلاثة قرون من التاريخ الإسلامي. ولهذا فأنت ترى ملالي إيران الآن، على اختلاف مستوياتهم، لا يكادون ينطقون العربيَّة، إلّا في قراءة القرآن، وبلكنة أعجميّة طاغية. ولعلّ السبب في هذا التأبِّي اللغوي هو العداء الحضاري القديم جدًّا بينهم وبين العرب، وازدراؤهم (العريق) للجنس العربي. ولذلك أسلمت إيران، لكنها بقيت على فارسيَّتها. وقد مرَّت الفارسية بأطوار: من الفارسيَّة القديمة والوسيطة والإسلاميَّة، التي انتقلت من الفهوليَّة القديمة إلى الفارسيَّة الغزنويَّة الإسلاميَّة، التي صارت لغة أدبٍ وعلمٍ في القرن الرابع الهجري.

(3) http://arz.wikipedia.org/wiki
[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «الثورة الرقميَّة واللغة العربيَّة!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12336، الأربعاء 10 أبريل 2013، ص32]،


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى