الأحد ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٣
عن الحضارة «17 والأخيرة»
بقلم محمد متبولي

عن الثورة والاستقلال والمرأة

عندما نتحدث عن مدى قدرتنا على تحقيق إسهام حضاري حقيقي، علينا النظر لبعض الإشكاليات التي طفت على السطح مؤخرا، وتأتى في مقدمتها إشكالية ثورات الربيع العربي، فمع تعثر هذه الثورات وعدم قدرتها على تحقيق أهدافها إلا فيما ندر، بدا البعض وقد كفر بهذه الثورات وربما بجدوى فكرة الثورة عموما، بل وتمادى البعض الآخر ليقول إنها ثورات مدبرة، تهدف لإعادة تقسيم المنطقة ورسم خريطة سياسية جديدة لها، بهدف استبدال أنظمة موالية للغرب تعتمد على القمع ولا تحظى بشعبية كبيرة، بأنظمة أخرى موالية للغرب أيضا ولكن لديها القدرة على كسب قدر من الشعبية أو التعاطف، مستخدمة شعارات براقة أغلبها دينية.

إلا أن هناك أمرا هاما قد نسيه هؤلاء جميعا، إن أية قوة مهما بلغت لا يمكنها تحريك شعوب بأكملها في وجه أنظمتها المستبدة دون وجود حالة احتقان وصلت لحد الغليان والانفجار لدى تلك الشعوب، فالاستبداد والظلم والقهر وغياب العدالة وغيرها كلها أسباب ظلت تتراكم تحت السطح حتى وصلت لمرحلة الانفجار وأدت لحدوث هذه الثورات، والناظر بعين ثاقبة سيقول إن كل ما سبق ليس أكثر من قشور، فالسبب الحقيقي دائما وراء ثورات الشعوب هو أنها تصل لمرحلة الملل من تراجعها الحضاري، والتقدم بخطوات ثقيلة نحو المستقبل فتثور من أجل إحداث قفزة حضارية تاريخية كبرى، وبالتالي فحدوث ثورات الربيع العربي في حقيقته هو خطوة كبيرة جدا على طريق استعادة الوعي وإبداء استعداد للتقدم، وقطعا ستضيع هذه الخطوة إن لم تتبع بخطوات أخرى في نفس الاتجاه.

ثم ننتقل لإشكالية وصول الإسلام السياسي للسلطة، فقد بدا من وصلوا للسلطة من أبناء هذا التيار في أعقاب ثورات الربيع العربي مخيبين للآمال، وأصبح هدف الكثير منهم إحكام السيطرة على السلطة، وقمع المعارضة والتنكيل بها، ومع ذلك ورغم معارضتي لنظام جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فعندما أمعن النظر في ذلك الأمر، أجد أن شعوب الربيع العربي أرادت أن تستعيد هويتها وشخصيتها المتفردة على مر التاريخ، فلم تجد أمامها من يعبر عن ذلك سوى الإسلام السياسي، خاصة مع تراجع العروبيين والقوميين، على أثر التجارب الفاشلة لبعض الأنظمة العربية التي ادعت العروبية محاولة السير على خطى جمال عبد الناصر، ولكنها لم تستفد من تجربته ولم تعترف بأخطائه وربما خطاياه، ولكنها أرادت أن تستنسخ شعبيته، علاوة على تعرض العروبيين لحملات تشويه كبيرة، لذا فان وصول الإسلام السياسي للسلطة، من وجهة نظرنا قد لا يكون الاختيار الأمثل، ولكن يمكن اعتباره دلالة كبيرة على رغبة تلك الشعوب في الحفاظ على هويتها من الطمس.

إن ما سبق ينقلنا إلى إشكالية أخرى، فرغبة الشعوب العربية في التقدم والحفاظ على هويتها لا يمكن تحقيقها إلا بمشروع واضح للاستقلال الوطني، دعامته الرئيسية فكرة المقاومة، ولكنها مقاومة ما بعد الربيع العربي، فهي لا تعتمد فقط على مواجهة احتلال الأرض ولكنها مقاومة لكل أشكال الاحتلال، ضد احتلال الأرض حتى يخرج المعتدين، كل المعتدين، ومقاومة تسمح لنا بإدخال إلى ثقافتنا القيم الثقافية والحضارية المتماشية معنا والمفيدة لنا، وتقف بكل حسم في وجه محاولات تذويب ثقافتنا الخاصة واحتوائها في ثقافات أخرى بهدف طمس معالمها، مقاومة تواجه كافة أشكال التدخل في القرار الوطني والتأثير عليه، وتحقق الاستغلال الأمثل للموارد وتمنع إهدارها وتحكم الأغراب فيها، وتواجه الاحتلال الاقتصادي بنمو مبنى على القدرات الذاتية، مقاومة لهجرة العقول واستقطابها ونشر الجهل ووضع السفهاء في مواقع القيادة، باختصار إنها مقاومة شاملة لكل عناصر التراجع والتردى.

وننتقل إلى إشكالية المرأة، فمع صعود تيار الإسلام السياسي للسلطة يبدو أن الحقوق النذيرة التي حصلت عليها المرأة خلال العقود الماضية باتت مهددة، ولك أن تتخيل مجتمع يريد أن يتقدم ونصف أبناءه يسيرون معصوبي الأعين، ومقيدي اليدين والقدمين، محرومين من الإبداع والتفكير، قطعا إن ذلك لا يتماشى مع سماحة الإسلام، الذي جاء والمرأة تباع وتشترى كما البهائم فأعاد لها كامل حقوقها الإنسانية وكرامتها، ونحن نعول هنا على تصحيح المفاهيم الدينية كجزء من الثورة الفكرية التي سبق وتحدثنا عنها لحل تلك الإشكالية، وعلى نفس المنوال تأتى إشكالية الأقليات أو الفتنة الطائفية، والتي نعتقد إنها ليست أكثر من عرض جانبي لأزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة سيزول بمجرد زوالها.

ونأتي لآخر تلك الإشكاليات، وهى صعود حضارات أخرى غير حضارة الغرب ومواقفنا منها، مثل الصين والهند واليابان ودول شرق أسيا، وهنا يجب التفريق بين ظهور حضارات جديدة وبين تنويعات شرقا وغربا لحضارة الغرب، فصعود الدول السابقة حضاريا لا يمكن اعتباره ظهور حضارة جديدة، بل هي تجليات مختلفة لحضارة الغرب، تعتمد على نفس القيم المبنية على المنفعة والفردانية والتقدم والديمقراطية أو الشيوعية بشكلهما الحالي، صحيح أنه بعد فترة حضانة قد تمتد لقرون يمكن أن تتحول هذه التنويعات إلى حضارات مستقلة، إلا أن ذلك يجعل أمامنا مسارين للتطور الحضاري، أولهما أن نستورد القيم الغربية كاملة ثم نحتويها على أمل أن تنتج تطورا حضاريا مستقلا يوما ما، وهو ما لم نستطع فعله حتى الآن، أو أن نختار من بين تلك القيم ما يتفق مع رؤيتنا، ويخدم مصالحنا وندمجها مع قيم ثقافتنا بعد تنقيحها، ثم نسير مستقلين في تاريخ تطورنا الحضاري، وهو ما يبدو أكثر منطقية وواقعية بالنسبة لنا.

إجمالا لما سبق فان اختيار الشعوب العربية واضح جلى، لقد اختارت التقدم والهوية والاستقلال والمقاومة ولكن يبدو أنها لم تعرف أفضل الطرق لذلك بعد، وأخيرا لقد كان ذلك هو المقال الختامي لسلسة مقالات عن الحضارة، التي نشرتها في ديوان العرب على مدار ثلاثة أعوام تقريبا وأعددت لها قبل ذلك بعامين، وفى هذا الصدد فإنني أتقدم بخالص الشكر لديوان العرب على تبنيها نشر تلك المقالات خلال الأعوام الماضية، كما أتقدم بالشكر للأستاذ عادل سالم وأسرة تحرير ديوان العرب على المجهود الرائع الذي يقومون به، متمنيا لهم التوفيق، ومزيد من التعاون معهم ومستقبلا بإذن الله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى