الثلاثاء ١١ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
بقلم حوا بطواش

حياة جديدة

واقفة في غرفتي أمام المرآة أحدق في صورتي.

بعد قليل سألبس أجمل ثوب لي يبرز مفاتن جسدي الغض الرشيق، وأختار أثمن قلادة من بين قلاداتي الفضية والذهبية لأضعها حول رقبتي، وأغطي وجهي بطبقات الماكياج، وأتعطر بأفخر العطور، وأصفف شعري الأسود الطويل عاليا فوق رأسي ليضفي عليّ سحرا ووقارا. وسأرسم أجمل ابتسامة على وجهي وتلمع عيناي بفرح وبهجة. ولن يدري أحد بمكنون قلبي.

كل شيء على ما يرام.

بعد قليل سيتوافد الضيوف ليمتلئ بهم بيتي وتنطلق نغمات الموسيقى الهادئة والراقصة. روائح عطرة ستغطي المكان، قبلات على الخدود، تحيات متبادلة، ضحكات ستُطلق، كؤوس ستُرفع، وأصوات صديقاتي ستصل الى مسامعي يتهامسن بينهن: "كم هي محظوظة!"

وسوف تتأملني صديقاتي بنظرات محدقة، حاسدة، بعضها حاقدة، وسوف أشعر بالفخر والزهو وأنا أخطو مع زوجي بفخر ودلال، وسيهمس لي أعذب الكلمات في أذني، وسيطبع لي أحر القبلات على خدي، وسوف أوزع عليهم أجمل الابتسامات وأنا أمشي بينهم وأرفع رأسي به عاليا.

عيد ميلاده الأربعين حدث لطالما انتظره بشوق عارم. وقد دعي اليه كبار رجال الأعمال وزوجاتهم ولسوف يتناولون أطيب وألذ المأكولات ويُعجبون ببيتي الجميل الفاخر، الممتلئ بالورود الحمراء والبيضاء، والتحف الغالية، واللوحات الثمينة، والذهب والماس ومختلف الأحجار الكريمة، ولسوف يُفتنون بي ويحسدونني على الحب والمال والجمال والسعادة. ولا أحد سيلقي بالا الى أي نقص في بيتي الكبير الجميل، وحياتي السعيدة الهنيئة. لا قلب يمتلئ بالخذلان، ولا ألم يجثم على الصدر ولا جرح يثقل على الكاهل.

ترى، هل ستأتي سمر؟؟

لست متأكدة تماما. فقد تشعر بالحرج أمامي اذا ما فعلت وأتت. خاصة بعد تلك الليلة، قبل نحو شهرين، في حفلة رضوان بيك، إذ فاجأتها صدفة بفتح الباب عليها، هي وزوجي، في إحدى الغرف المعتمة. ولكنني اعتذرت فقط وأسرعت للذهاب والانقلاع. لم تبادلني سمر كلمة واحدة منذ تلك الصدفة المحرجة، ولا امتلكت الجرأة لرفع نظرها الى عيني. وأنا لست متلهفة أن أطمئنها بأنني لا أبالي. لم أعد أبالي بهذه الأمور.

زوجي رجل ذو مركز اجتماعي ممتاز بين رجال الأعمال، وسمعة طيبة، صافية. تزوجته قبل خمسة عشر عاما، وسرعان ما اكتشفت أن الزواج ليس أحلاما جميلة تتحقق، بل واقع نواجهه. فالحب بعد إفراغ الشهوة ينقلب الى عِشرة تسقط منه دغدغاته الأولى. كان يحتفظ بي في بيته الكبير، كأي تمثال جميل أو لوحة أو كرسي، ويقيم علاقات كثيرة مع العديد من النساء، بعضهن صديقاتي المقربات، مثل سمر. وأنا في هدوئي أتمزق حزنا على حالي، ينغرس الألم في صدري، وتتحطم روحي كصخرة في قاع الجبال.

وتقول لي أمي وهي تقصفني بنصائحها كما دائما، عليّ أن أتحمل الوضع ولا أدع شيئا يخرب الهدوء الذي يكتنف حياتي، تماما كما فعلت هي طوال حياتها. عليّ أن أدوس على نفسي وكرامتي حتى أحتفظ بحبه وأحافظ على بيتي.

أمي سيدة قوية جدا، هادئة، وقورة، اكتسبت قوتها من الهدوء الذي عاشت فيه، ومن أبي الذي كان يعشقها. إنها تأبى أن تعمل من الحبة قبة، كما تقول.

"دعيه يفعل ما يشاء، المهم أنه يعود إليك آخر النهار. يجب أن تكافحي من أجل حياتك وتحافظي على الهدوء الذي يعم بيتك." تقولها لي كأن الفلوس يجب أن تسكتني عن كل شيء.

وكذلك فعلت. عرفت الألم وعرفت الدموع والوحدة والمرارة. ولكنني بقيت متماسكة. تعلمت الرضوخ والسكوت، وأن أدوس على كرامتي، أحشرها تحت قدميّ، فقط كي لا يتزعزع الحب ويهتز البيت. سلمت بالأمر الواقع وبتّ أعيش بيدين مكتوفتين وعينين معصوبتين.

وما زاد من همي وأشجاني أننا لم نرزق بأولاد يخففون عني وحدتي ومعاناتي ويدخلون السعادة الى قلبي. بت أعيش أيامي ولا أجد من يدفئ برد روحي. وأسأل نفسي مرارا وتكرارا: إلى متى؟

ها أنا جاهزة تماما. ألقي نظرة أخيرة مطولة على نفسي، لأتأكد أن كل شيء على ما يرام. وأخيرا، أخرج من غرفتي بكامل أناقتي وأهبط الى الطابق الأول. أتأمل حولي. دقات قلبي تتفاقم سرعتها... تتصارع. يظهر زوجي أمامي ببذلته السوداء الأنيقة. يقترب مني وعلى وجهه تلوح علامات الخشية والقلق.

"كل شيء جاهز حبيبتي؟" يسألني.

"نعم حبيبي." أجيب.

"هل هناك شيء ناقص؟" يسألني زيادة في الاطمئنان.

"لا، حبيبي."

"جيد." يتفحص المكان بكثير من الحرص والدقة. ثم تتوقف نظرته لدي، يتأمل هيأتي من أخمص قدمي الى أطراف رأسي، ثم ترتفع ابتسامة الى شفتيه وهو يقول لي: "تبدين رائعة."

فأرد: "شكرا، حبيبي." يمد لي يده فأسلمه يدي وأخطو معه الى قاعة الاستقبال.

أسير ببطء. خطواتي مرتبكة. أفكاري متلاطمة. أصابعي تتشنج بين أصابعه. وفجأة، يلتفت إليّ... يسألني:
"هل أنت بخير؟"

"نعم، حبيبي." أجيب. "كل شيء على ما يرام."

يصل الضيوف. وعندما ينشغل بهم، ودون أن ألقي نظرة الى الوراء، أحمل معطفي وحقيبتي وأتوجه الى الباب الخلفي، أخرج الى الشارع. سيارة الأجرة تنتظرني... ستسرقني... وتخطفني من حياتي، من هدوئي وخوفي، وتأخذني الى حيث حياة جديدة تفتح لي أبوابها، تحفظ كرامتي وإنسانيتي.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى