الأربعاء ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
بقلم فيصل سليم التلاوي

النخلة الذكر

كأنني لم أرها قبل هذا اليوم رغم تكرار مروري بهذا الشارع، فقد تبدت لي وسط جزيرة الشارع أمام مستشفى القصرالعيني، وحيدة منتصبة القامة مثل نخلة عبد الرحمن الداخل، و قد تناءت بطبع النخل عن بلد النخل.

و ما شد نظري إليها ضحى ذلك اليوم، كان الفضول ذاته الذي يدفع معظم عابري الشارع إلى إرسال نظرات محملقة صوب قامتها المديدة، بل والتريث في سيرهم لدى بلوغها، و ربما مواصلة ليّ رقابهم نحوها بعد تجاوزهم إياها، متابعين ذلك المشهد الغريب الذي لم يألفوه من قبل.

كان متسلق النخلة يلف جلابيته حول وسطه ويشد طرفها بأسنانه، وقد تجاوز منتصف المسافة بين سطح الأرض وقمة النخلة تقريبًا، وقد تمنطق بحزام جلدي عريض جمع جذعه النحيل إلى جذعها، فكأنهما على رأي المثل الشعبي قليل الحياء مؤخرتين في سروال واحد، و حول جذعها كانت تتحلق مجموعات من الفلاحين ناحلي الأبدان في جلابيبهم الفضفاضة، تصعد نظراتها عاليًا، فيحسبها الناظر متلهفة لتلقف عراجين النخل التي سيطوح بها هذا المتسلق. لكنه سرعان ما يدرك أنها تنتظر دورها في مسابقة من نوع ما، بينما اختلطت تعليقات المنتظرين والمارة بين السخرية والتشجيع و التساؤل:

  مش باين عليها تمر خالص.

  يعني مش عارف إنها نخلة ذكر.

  لا والله معرفش، ربنا يبعث له بنت الحلال.

بينما تجرأ أحد المارة و التمس حل اللغز لدى الشاويش، الذي يقف على رأس الجماعة الملتفة حول النخلة آمرًا ناهيًا، و الذي يحاول صرف المارة عن التوقف، و دفعهم إلى مواصلة سيرهم.

  و النبي يا حضرة الشاويش هو في إيه فوق النخلة ؟

  و مالك إنت يا أخينا؟ دي تجربة دفاع مدني.
  دفاع مدني؟! حتدربوهم على قطف النخل، و بعدين ترسلوهم للواحات إن شاء الله .

و واصل سيره غير منتظر لجواب يشفي غليله .

عندما وصلت جانب النخلة، و أرسلت نظراتي مثل غيري إلى الأعلى ملاحقًا ذلك المتسلق، الذي كان قد تسمر في مكانه فويق منتصف النخلة بقليل، و قد ارتجفت يداه و رجلاه، و ارتعد سائر بدنه، و لم يعد قادرًا على مواصلة الصعود أو الهبوط، رغم كل الصرخات التي يطلقها من ينتظرون دورهم أسفل النخلة.

عندها فجأة بدأ ينحدر هابطًا، يشده الحزام إلى جذع النخلة، و لا يحسن التحكم في مواضع قدميه، أو التمسك بيديه: فيهوي سريعًا بينما نتوءات الجذع تنهشه، و تحدث له تسلخات في باطن ذراعيه و فخذيه، اللتين شمرهما قبل البدء في التجربة، وهو يحاول التشبث ليخفف من وطأة سقوطه على الأرض.

وما أثار دهشتي أنني رأيت الوجوه و قد غمرها ارتياح غريب، و سرت في أوصالها طمأنينة و دفقة أمل بسبب فشل محاولته، بينما ارتفع أكثر من صوت قائلاً:
 ضاعت الخمسة جنيهات.

يتدافع الجمع المنتظر، وكل واحدٍ يطبق يده بإحكام على ورقة خمسة الجنيهات متقدمًا نحو الشاويش مؤملاً أن يكون هو المتسلق التالي، بينما ينتزع الشاويش ذلك السد الجلدي الذي يسند به أسفل بطنه، ليرسله رجراجًا على رسله برهة، ريثما يشتت تزاحم هذا الجمع المتدافع بلسعات من سوطه، ثم يعود سريعًا للتمنطق بحزامه حفاظًا على الهيئة والهيبة، و بعد أن يكون قد دفع بمتسابق جديد صوب الهدف، بعد أن يدس في جيب الشاويش خمسة جنيهات جديدة، فالتجربة على حساب المُجرِب.

يندفع المتسلق الجديد صاعدًا في خطواته الأولى، دون أن يوثق نفسه بالحزام إلى جذع النخلة، لكنه لا يلبث أن يتكور على نفسه ملتصقًا بالجذع غير بعيد عن سطح الأرض، لا يبرح مكانه صاعدًا أو هابطًا، بينما تختلط الأصوات زاعقةً، بعضها يحثه على مواصلة الصعود، و أخرى تسخر من التصاقه بمكانه، و تطالبه بالهبوط
و إفساح المجال لغيره.

  ما تكمل يا جدع انتَ.

  ما تلم نفسك بقَ وتنزل يا أخينا، و تسيب غيرك يجرب حظه.

لكنه يزداد تشبثًا بالجذع كأنه لا يطيق فراقه و هو يصرخ مغتاظًا:

  و قيراطين الأرض اللي بعتهم علشان التأشيرة والتذكرة، أردهم إزاي؟

  أنزل كيف يا خلق الله؟ أنا لازم أسافر، أيوه لازم أسافر، خلوا في قلوبكم رحمة.

لكن لسعات حزام الشاويش التي ناشت قفاه لم تكن تعرف الرحمة، و ما استطاع أن يحمي نفسه من لسعها بالصعود قليلاً، فهوى إلى الأرض، و ظل متكومًا مكانه كأنه لا يريد أن يبرحه، و قد طارت من بين يديه أماني السفر الجميل و ركوب الطائرة، والعودة بالخير الوفير والتلفزيون الملون، والعباءة الصوف على كتفي الحاج شعبان.
ضاع كل ذلك في غمضة عين.

يندفع متسلق جديد، يبدو شديدا سريعًا كأنما يمناه تسابق يسراه مصعدًا صوب قمة النخلة، بينما عيون المنتظرين ترمقه شزرًا و تنكس أبصارها كأنها قد خسرت الرهان، و تمتزج تعليقاتهم الحانقة:

  منين جاي العفريت ده؟ من" سيوه" و لا من "الفرافرة"

  ما خلاص فاز فيها مستنيين إيه؟

  يا عم طول بالك. ما يمكن عايزين أكثر من واحد.

  طيب، افرض نجحنا هو إحنا حنشتغل هناك قطف نخل وبس؟

  في ألف شغلانة يا عم، المهم ننجح و نأخذ التأشيرة.

  و هناك بنراضيه لعمنا، بندفع له المعلوم كل شهر زي ما بعملوا الناس وبنسرح على راحتنا.

  وتلاقيه هو عايز كده، لا عنده نخل ولا حاجة، بس بتلكك.

قبل أن يهبط المتسلق الذي بدا للجميع أنه قد فاز بالرهان، ومن الجهة التي كانت عيون الفلاحين توزع نظراتها بينها وبين قمة النخلة، نهض عن كرسيه أمام المقهى تاركًا نرجيلته، و أقبل يتباطأ في سيره ذلك الرجل البدين ذو الثوب الأبيض الضيق، الذي أعيته محاولة الجمع بين تنافر اتجاهي بطن لابسه وقفاه ، وقد عمم رأسه بكوفية بيضاء وعقال، بينما أرخى العنان لقدميه لتتفلطحا على راحتهما على جنبات نعله ذي الإصبع- غير العدواني، كأنه كان يتابع صقره الذي أرسله للصيد، و ها هو يحتفي به وقد التقط طريدته.

قبل أن يختلط الرجل بالجمع، كان الشاويش "متولي" قد خف للقائه ليحادثه على انفراد، لكن مجموعة الفلاحين المنتظرين تبعته وتحلقت حولهما، ولم تتح لأحد أن ينفرد بأحد.

  هذا هو الشخص المطلوب.

قال الرجل ذو الكوفية والعقال. بينما أجاب الشاويش:

  و لماذا تستعجل يا بيه ؟ فقد يأتي من هو أفضل منه.

  لا.لا.هذا ممتاز وهو من نبحث عنه.

  و ليه ما نجرب تاني وتالت - طال عمرك- ليكون عندنا احتياط، وحتى لا يطلب كتير و يضع لنا شروطًا تعجيزية؟

  و حتى تجمع خمسات وخمسات.

همس أحد اليائسين الذي لم يعد يأمل في فوز ولا تأشيرة.

  خمسة في عيونكم.

قال الشاويش مغضبًا، ثم واصل تودده مخاطبًا الرجل ذا الثوب الأبيض.

  استرح يا طويل العمر على المقهى و راقب المشهد، وأنا أسجل لك أسماء الفائزين وعناوينهم لتعمل لهم تصفية في يوم آخر.
راقت الفكرة للرجل، فعاد إلى جلسته و نرجيلته، بينما واصل الشاويش متولي تجربة الدفاع المدني، وواصلت سيري وليّ عنقي للوراء بين الفينة والأخرى حتى غابت النخلة عن ناظريَّ، لكنها استقرت في ذاكرتي لسنوات طوال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى