الثلاثاء ٢ تموز (يوليو) ٢٠١٣
بقلم موسى إبراهيم

نساء 6

أسلمت لنسائم الصباح جدائلها حين أطلّت من نافذة بيتها مشرعةً إياها تستقبلُ خيوط الشمس التي تكوّمت أمام النافذة تنتظر الحسناء لتطلّ على الدنيا هذا الصباح، في حديقة المنزل تطاولت شجيرات الورد بقبّعاتها مختلفة الألوان وعطورها الشهية مستقبلةً وجه الحسناء المتلألئ وعينيها الجميلتين الناعستين القابعتين في جفونها.
مرّ هو في طريقه إلى العمل، كان مسرعاً، ينجز الخطوتين بخطوة، أنيق الهندام، يحمل حقيبةً صغيرة، وبين شفتيه تهتزّ لفافة تبغ ملأت محيطه بالدخان، وعبقه مختلطاً برائحة عطره الفرنسيّ.

كان الآخرُ، يجلسُ أمام منزلها، ينتظرُ إشراقتها المعتادة كلّ صباح، يقرأ كتاباً عن الحبّ، كان منغمساً في حنينهِ إليها، يتلو على مسامع المارّة ما جاء في كتاب الحب، تارةً تبتسم له الحروف، وتارةً أخرى تصفعه بقوّة، يضع أمامه تماماً قبّعة سوداء فيها تجمّعت نقود معدنية، ألقاها المارّة من ابتسموا لحروف الحبّ في تلاوته أو من تلذّذوا بصفعات الحبّ أيضاً، متسوّلٌ هذا الآخرُ وترانيمه حروف كتاب حب.

لمحهُ الأنيقُ على هذه الهيئة فتوقّف، وابتاع منه ابتسامةً، همّ بإلقاء قطعة نقدية في القبّعة، إلا أنّ الحسناء وصلت في تلك اللحظة هابطةً من منزلها الجميل، مارّة بالورود والزهور والعصافير، تعلّق في جدائل شعرها خيوط الشمس، تمسك في يدها وردة، كادت تذوب من نعومة يدها، ألقت تحية الصباح.

إلتفت الأنيق نحوها، وما تزال قطعة النقود في يدهِ تتدلّى قبل لحظة السقوط في قبّعة الأخر، أسرّ لنفسه: "قبلة من حسناء .. تغني عن ابتسامة حب" أسرّ الآخر لنفسه : "وردة من حسنائي .. قد تكفيني العمر ابتساماً" أسرّت الحسناءُ لنفسها: "وردة للمتسوّل المقيم الـ ينتظرني في كلّ صباح.. تساوي ملايين القبل من شفاه أنيقٍ مارق"
منحت وردتها للآخر المتسوّل .. ثمّ مَضت

(24)

كانتْ تحبّه قبل أن يموت، حتى أنها عند موته رفضت دفنه، وصنعت منه مومياء، ثمّ أسكنت جسده صندوقَ زجاج، سكتَ الرجلُ المومياء أعواماً كثيرةً، قبل أن يخرج عن صمتهِ، ويبدأ العزف، لماذا بدأ العزف..؟ ربما لأن الشيطان دخل حجرتها، وبدأ يراودها عن نفسها، فانتفض الحبّ في جسد الرجل المومياء، وبدأ العزف، ربما لأنها بدأت تتعوّد غيابه الحاضر في مومياء صنعتها، ربما لأنه اشتاق القبر، عندما قتلته، لم تفكّر إلا بكرامتها، ولكنها لم تحرق جسده، بل أبقته أمامها في هذا الصندوق الزجاجي، فقط كي تبتسم كلّما رأته يعزف ويبكي! في غمرة ابتسامتها الصفراء، غمز لها الشيطان بعينه فاشتعلت أنوثتها، أخرجت علبة الثقاب من جيب حقيبتها، سحبتْ عوداً .. ومرّرته على قلبها الحارّ، فاشتعل المكانُ أنوثه، هو ما زال يعزف على أوتار القماش، مومياء، الموتُ سبق الحب منذ زمن، اشتعل المكان، اشتعلت الأرض والسماء والهواء والعطر، اشتعلت أنفاسها، قبّلت هواء المكان، لم يرحل الشيطان، أمطرت المكان بالدموع، لم تنطفئ النار، جلس الشيطانُ بجانبها، وابتسم، فانتفضت أنوثتها وارتعدت خصلات شعرها، فقأ عينها .. توقّف الرجلُ المومياء عن العزف .. حملت شيطاناً .. وأسمتهُ "مومياء" انتقاماً.

(25)

كان الفرح يغمر قلبها، تخطو برشاقةٍ مثل الفراشة، عائدةً إلى المنزل، تحمل في يدها الناعمة ورقة بيضاء طُبِعَتْ عليها نتائج اختبار الثانوية العامة، تقديرها الممتاز سيؤهلها لدخول كلية الطب في أكبر وأعرق الجامعات في بلدها، في طريقها إلى المنزل تتراقص جديلتان شقراوتان فوق رأسها، ويعبّ ثوبها المرقّع من الهواء البارد ما يكفي جسدها كي يتجمّد، لكنّ فرحتها ولهفتها للقاء الحب والسعادة في عيون والدها تمنحها الكثير من الدفء، صارت تتخيّل لحظة لقائه، سيكون واقفاً على عبتة المنزل، لا يأبه بمن يمرّ أمامه من الناس، يفكّر بها ويتشوّق للقاء طبيبة العائلة الفقيرة، قد يهوي مغشياً عليه من فرحته، ربّما يكون الآن قد حضّر باقات كثيرة من الورد الأحمر الذي يبيعه في السوق على باب المنزل، وربما رشّ الكثير من العطر في هواء المنزل احتفالاً بطفلته الصغيرة، لن يتمكّن حزنه على زوجته التي توفّت العام الماضي من إفساد هذه الفرحة، لن يتمكّن الفقر المضقع من سلب سعادته بهذا اليوم الرائع، ما زالت تتخيّل تلك اللحظة وتبتسم وهي تخطو، ماذا ستفعل عندما تلقاه .. ؟ ربّما عليها أن تترك نفسها في أحضانه الدافئة لبضعة دقائق، أو ربما لن تكفيها قُبَلُ الدنيا على يديه ووجنتيه. وصلت إلى المنزل، لم تجد والدها، ولم تجد باقات الورد الأحمر، ولم يتسلل أيّ عطرٍ عبر أنفها، سألت عنه المارّة، لم يجبها أحد، ترقرق الدمعُ في عينيها، أسرعت الخطة نحو السوق، وجدته يبيع الورد الأحمر لفتيات الأحياء الراقية، وينادي على الورد كأنّه يغنّي، وتغمره السعادة لما حققه من ربح في "عيد الحب" متجاهلاً فتاته الصغيرة، وفرحتها الموؤودة.

(26)

في هذه الصالة الكبيرة، وحدها هي تقبع خلف مكتبها، تستقرّ على الكرسيّ الأسود، وعيناها تحدّقان في شاشة أمامها، أخبرتها زميلتها في الطابق العلويّ أنّه يخفي سراً عنهم، خبراً سعيداً،لم يتوقّف قلبها عن الخفقان منذ ليلة البارحة، كانت تعلم أنّ هذه اللحظة آتيةٌ لا محال، وأنّ نظراته الحانية، وهمساته الدافئة لم تكن مجرّد إيماءات زائفة، بل حقيقة تقول أنه يحبّها،تنتظر أن يخطو إليها، كعادته، يخطو إليها كالفرسان، وينحني لها، ثمّ يمسك بيدها ويقبّلها راجياً أن تقبل به زوجاً لها ..هبط من الطابق العلويّ، يحمل أوراقاً كثيرة، والجميع حوله يدفعون به وكانّهم يشجّعونه لأمرٍ ما، خفق قلبها أكثر،واقترب منها، ظلّه يسبق جسده، وعطره يتشبّث بالهواء، ويحبط محاولات الياسمين الغارق في الإناء. وصل إليها، فاستقرّت عيناها في عينيه..أمسك يدها، قبّل يدها، جلس ..قال: سوفَ أشتاقُ لكِ .. في بلاد الغربة .. ودّعها .. ثمّ غاب

(27)

على حافة الجدار العلويّة، تُرِكَتْ عصفورةٌ جميلة للإنتظار، لم يعد عصفورها من رحلته، بدأت السماءُ تمطر، تبلّل الجدار، تبلّل ريشها، لم تخطُ خطوةً واحدة، ما زالت تنتظره، تتلفّت يمنةً ويسرةً باحثةً عنه في الأفق البعيد، أمّا هي، فكانت تُمسكُ كوباً من الشّاي الساخن، وتنتظرُ معها عودتهُ، عودة العصفور، تُسنِدُ ذراعاً على حافة النافذة من الداخل، وترفعُ كوب الشّاي إلى فهمها حيناً بعد حين. لماذا تذكّرها هذه العصفورة بما حدث لها قبل أن يسافر هو في رحلةٍ طويلة، ظنّت أن غيبته لن تطول، لكن ها هو العام العاشر ينقضي منذ رحيله، ولم يعد بعد، الفرق بينها وبين هذه العصفورة أنّها ليست حرّه، والفرق بينه وبين العصفور أنه ليس وفياً لعشّه، حتى العصافيرُ المهاجرة تتحلّى ببعض الوفاء تجاه أعشاشها، أمّا هو فعشرة أعوامٍ دون خبر أو مكتوب يطمئنُ قلبها الذي يتجمّد في برد الإنتظار، لم يغمض لها جفن منذ أن رحل، لم تتوقف دموعها عن الإنهمار منذ أن رحل، لماذا لا يتعلّم الرجال من العصافير فنّ الوفاء والحب..؟ نظرت من جديد إلى العصفورة المبللة بالمطر، ربّما كانت تستحم، تُسلّي نفسها، قطرات الماء الهاطلة تتفجّر فوق ريشها فتنثر الماء نثراً، لماذا لا تحتمي هذه العصفورة بغصنِ شجرة، أو بسقفِ عش..؟ مثلي ..؟ هل تحاولُ الإنتحار في غيابه..؟ أم أنها تزيدُ من رصيد العتاب..؟ عليها أن تختبئ قبل أن تموت برداً، ربما عليّ أنا أن أنبّهها .. هل يستحق الذكورُ كل هذا الوفاء ..؟ خرجت من المنزل، تحمل مظلّة المطر، تخطو نحو الجدار، وتلوّح بيدها للعصفورة كي ترحل وتبحث لها عن مكانٍ تختبئ فيه، همّت بالإقتراب لولا أنّها رأت ما صعقها! كان العصفورُ جريحاً على الأرض، ينتفضُ من البرد، والقطّ الشرير يقتربُ بحذر من العصفورة التي تضحّي بنفسها كي لا يلتفت القطّ الشرير نحو عصفورها الجريح .. ظلّت هي تحت المطر .. تبكي والدموعُ تنهمر.

(28)

كعادتها، تخرجُ من بيتها متأنّقة، تحيطُ جسدها الجميل سحابة من العطر الفرنسيّ، تقف على ناصية الطريق، تنتظره ليقلّها إلى المستشفى الذي يقيم فيه زوجها المريض، توقّف سائق التاكسي بمحاذاتها، أولج القرص الدائري في مكانه المخصص، ثمّ أشعل المسجل، كانت فيروز تغنّي للصباح، يفعل هذا تلبية لطلبها، فهي تحب سماع فيروز في طريقها إلى زوجها، أدار المحرك، ومضى يشق طريقه إلى المستشفى في الإزدحام. قالت له: "اليوم قد يكون لقائي الآخير به" ثمّ أطرقت تفكر، إستلّت من علبة السجائر لفافة، أشعلتها وتابعت: "وعدته بأن يرى وجهي الجميل في كل صباح، وها أنا ذا أفي بوعدي وأقطع هذه المسافة من أجله، فقط كي يبقى سعيداً، أعلم أنه سيموت اليوم، فالتقارير الطبية لا تخطئ، والأطباء أخبروني بذلك أمس، لكنني وعدته ولن أخذله.." ظلّ السائق صامتاً، لم ينبس ببنت شفه، كل ما فعله أنه أخفض صوت المسجل قليلاً، وزاد من سرعة المركبة. أضافت: "أتعلم.. أنا أحسدك على حياتك، رغم الفقر والعوز، إلا أنّك سعيد، لديك زوجة وأطفال، تعود إلى منزلك آخر النهار، تحمل لهم شوقاً كبيراً، ربما لم تستطع أن تدخلهم أرقى المدارس، أو أنك حتى لم تشترِ لزوجتك فستان سهرة منذ سنوات، لكنكم سعداء، تخرج ضحكاتكم من قلوبكم قبل أن تمر من أفواهكم، تجتمعون يوم العطلة حول مائدة واحدة، تتبادلون الأحاديث، تشاركون بعضكم البعض الفرح والحزن" أومأ السائق برأسه موافقاً، ولكنه لم ينبس ببنت شفه، أكملت: "كنت أتمنى أن ألتقي بأبنائي وبناتي يوم العطلة، وأن نتبادل الأحاديث، لكنهم لا يحضرون إلا في الإجازات السنوية، كل واحد منهم يقطن في سكنٍ داخليّ، ولا يتذكروننا إلا حين يحتاجون لأقساط المدارس والجامعات... سحقاً لهذا الواقع.. إنها ضريبة الحياة الكريمة، حتى أنت .. تدفع ضريبة السعادة .. الفقر... أما أنا وزوجي فندفع ضريبة الحياة الكريمة .. القطيعة والوحدة" أومأ برأسه مرة ثانية، وظل متلزماً بالصمت حتى وصلوا إلى المستشفى، توقف وأشارها لها بأنهم وصلوا، ودّعته وغادرت متجهةً إلى البوابة، همّت بالدخول إلا أنها تذكرت شيئاً نسيته في التاكسي، ذهبت لتحضره، وجدت السائق يهم بالنزول من مركبته، كأنه سيدخل معها إلى المستشفى، يحمل بعض الأطعمة، سألته : "إلى أين ..؟" أجابها : "زوجتي تقيم هنا منذ سنتين، وأنا أواظب على زيارتها يومياً كي لا تشعر بالوحدة..."

(29)

أسندَ ظهرهُ إلى الحائط، ريثما تمرّ، حضرت هذا الصباح تجرّ خلفها أريج جميع أزهار الحي الذي تسكنُ فيه، جدائلُ شعرها الكستنائيّ تُلوّحُ لهُ وتلقي عليهِ تحية الصباح، "صباح الخير .." قالتها بدلال، ردّ عليها التحية بصوته الرجوليّ ذي البحّة الصباحية، عيناهُ ما تزالان تمارسان الخجل والوقار، كلّ الأشياء من حولهم كانت تدرك أن مشاعر الحب التي تنمو بينهما لن تموت، أكملت في طريقها إلى المكتب، وأكمل هو في طريقه إلى غرفة الطعام، عاد يحمل كوب القهوة في يده، جلس خلف مكتبه المجاور لمكتبها، وباشر العمل، كانت تُزاحم الهواء الذي يمرّ إليه، تلتفت إليه، تخطف نظرةً، ثمّ تعود إلى العمل، خيّم الصمت، كانت تنهيداتها ترسل برقياتِ عتابٍ له، وكان صمته يبرّرُ خجله، يقضيان يومهما هكذا .. تنهيدات ثم صمت .. صمت .. صمت ..

رن جرس هاتفه النقّال، فالتفتت هي إليه .. كأنه هاتفها وليس هاتفه، أجاب على المكالمة، بدأت تحدّث نفسها: "لا بد أنها والدته، دائماً تتصل به في مثل هذا الوقت، ماذا تريد يا ترى؟ وما شأني أنا؟؟؟ يا ربي هذا الرجل سوف يذهب عقلي.." هو: "أمي .. قلت لكِ اليوم يعني اليوم .. لن أقبل بالتأجيل من جديد .. أرجوكِ يا أمّي .. حسناً .. حسناً .." أنهى المكالمة، إرتسمت على محيّاه السعادة والغبطة، كان سعيداً جداً على غير عوائده، والتفت إليها ثمّ قال: "اليوم سأذهب مع أمي .. لنرى زوجة المستقبل .. " كان يخاطبها والسعادة تكاد تقفز من عينيه لتبدأ الرقص!! صعقها هذا الخبر، وما صعقها أكثر، أنه آثر الصمت طيلة هذه الأشهر، وعندما نطق .. قال كفراً!! "يريد الذهاب ليرى زوجة المستقبل.. سيخطب فتاة غيري .. آه يا ربي .. هذا الرجل بدون إحساس .."
بعد انتهاء ساعات العمل، عبست في وجهه، خرجت ولم تودّعه كعادتها، لحق بها منادياً: "انتظري .. لماذا لم تقولي حتى مبروك؟؟" كان متجهماً عابساً أيضاً.. أجابته ببرود : "مبروك .."

في المساء، كانت غاضبة، بل ثورة من الغضب، ترتّب المنزل بعصبية، تنثر الأشياء هنا وهناك، قررت أن تنام علّ النوم ينسيها همّها، حضرت أمّها، أخبرتها بأن تجهّز نفسها .. سيأتيهم ضيوف هذه الليلة، تململت .. ولكنها في النهاية خضعت للأمر وبدأت بتجهيز نفسها. بعد ساعة رن جرس الباب، ذهبت هي لفتح الباب، كانت سيّدة يرافقها هو مبتسماً...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى