السبت ١٧ آب (أغسطس) ٢٠١٣

حكايتي مع الأدب

سمر حجازي

كثيرا ما سألت نفسي عن السبب الذي أخذني إلى عالم الأدب ،وأنا التي نشأت وترعرعت في بيت لا صلة له بالأدب بمعناه الاصطلاحي لا من بعيد ولا من قريب. أبي لم ينه دراسته الثانوية ،لقد اضطرته الظروف ليحل محل والده الذي توفاه الله باكرا ،فتولى هو وأخوته إعالة الأسرة بعد أن فقدت معيلها الأوحد. كنت ما أزال أبحث وأنبش ماضيّ حين تهادى بغتة إلى مسمعي صوت هادئ وحنون يروي لي الحكاية المعهودة التي لم أمل من سماعها كل ليلة قبيل موعد النوم. كان أبي يروي لنا حكاية واحدة يتيمة، ولكنه أبدا لم يتركني ااام دون أن يسردها لي أنا وأخوي الاثنين. بكل حواسي كنت أصغي إليه وكأنني أسمع القصة لأول مرة، والغريب في الأمر أن أبي كان يرويها لنا بنفس الحماس كل ليلة وكأنه هو كذلك يرويها لأول مرة. لا بد أني أخطأت حين قلت بأني نشأت في بيت لا صلة له بالأدب، فإذا استدعينا مفهوم الأدب الحديث نجد نوعا من الإجماع حول مفهوم معين للأدب و هو ما كل " كلام" جميل وبليغ يترك أثرا في النفس ويحرك العواطف ويبعث في نفس المتلقي المتعة والسرور دون أن يفقد حظه من الإفادة. هذا التعريف حفزني للعودة القهقرى إلى الماضي البعيد لاسترجاع مفهوم كلمة الأدب عبر تاريخ الأدب العربي الطويل ،فكثيرا ما شدتني التطورات التي طرأت عليها و أشعر بمتعة كبير و أنا أذكر نفسي بها.

ففي العصر الجاهلي مثلا يختلف مفهوم الأدب اختلافا كليا عن العصر الحديث ،فكلمة الأدب في ذلك العصر كانت محدودة المعنى و تعني تحديدا الدعوة إلى المأدبة أو الوليمة وأذكر في هذا السياق قول الشاعر الجاهلي كعب بن زهير: "نحن في المشتاة ندعو الجفلى ، فلا ترى الآدب فينا ينتقر" والآدب هنا هو الإنسان الكريم الذي يدعو إلى الوليمة. وقد تغير مفهوم الأدب بظهور الإسلام، إذ ارتبط بالدين ارتباطا وثيقا ،و يدل على ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه: " أدبني ربي فأحسن تأديبي". والأدب يعني هنا التخلق بتعاليم الدين. . وقد اتسع مفهوم الأدب في العصر الأموي ليشمل إضافة إلى تهذيب السلوك معنى تربويا تعليميا تثقيفيا وتهذيبيا وقد اتخذ الخلفاء والأمراء شخصيات سموها بالمؤدبين ليقوموا بتدريس وتعليم أبنائهم وقد اقتصر التعليم آنذاك على الشريعة الإسلامية وما يرتبط بها من الفقه والحديث النبوي وتفسير القرآن الكريم. أما في العصر العباسي فقد عمدت الدولة وبفضل اتساع رقعتها إلى تثقيف رجال الدولة الذين تولوا مناصب في الدواوين والوزارات ،ومن هنا كانت الحاجة إلى كتب تثقف هؤلاء وقد نذكر هنا على سبيل التمثيل لا الحصر كتاب " الأدب الكبير" والأدب الصغير" لابن المقفع و"أدب الكاتب" لابن قتيبة.

ومن الجدير بالذكر هنا أن الأدب أصبح في العصر العباسي حرفة وقد كان الخليل بن أحمد الفراهيدي أول من ذكر المصطلح " حرفة الأدب". وقد قال الثعالبي في كتابه المضاف والمنسوب: " حرفة الأدب آفة الأدباء". وذلك لأن المؤدبين اتخذوا الأدب لغاية التكسب. وقد شهد القرن الثالث الهجري تحولا نوعيا حيث تم تحديد مفهوم الأدب على أنه المأثور من الشعر والنثر وما يتصل بهما، أو يفسرهما، أو يدل على مواضع الجمال فيهما. وقد قال محمد بن المبرد في كتابه " الكامل": ( هذا كتاب ألفناه يجمع ضروبا من الآداب ما بين كلام منثور وشعر موصوف ومثل سائر وموعظة بالغة...). ومع انتصاف القرن الرابع عشر زالت لفظة الأدباء عن العلماء ورجال الدولة لتمنح للشعراء والأدباء ولعل خير من عرف الأدب في ذلك العصر هو ابن خلدون في مقدمته حيث قال: " الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم، والأخذ من كل علم بطرف". وبعد أن استرجعت تطور مفهوم الأدب الذي شدني وشغلني كثيرا في الأيام الأخيرة ناديت أولادي، فتحلقوا حولي وأخذت أسرد عليهم قصة "علي بابا والأربعون حرامي" محاولة أن أمرر لهم مفهوم الأدب من خلال قصة ملموسة لأنني أدرك أن اذهانهم الصغيرة لا و لن تستوعب مفهوم الأدب مهما حاولت و حاولت، و بالفعل ما إن توغلت في الحكاية حتى ارتسم مفهوم الأدب في أعين أطفالي واضحا يلتمع في أعماق أعينهم ، من خلال المتعة و اللهفة التي لاحظتها على جباههم الصغيرة و هم ينتظرون مني تتمة الحكاية.

سمر حجازي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى