الأربعاء ٢٨ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم هيثم نافل والي

لغز غازية العرافة

الإهداء: إلى الإنسان الشاعر العراقي قيس السهيلي وأصالته في الفن والحياة.

ليس كل طائر يطير، وليس كل من له أقدام يسير

قال بطل القصة باستسلام يتصف باليأس والقنوط، وهو يطقطق أصابعه:

أنا حمدان ابن العرافة غازية، وبصوت خفيض لا يكاد يسمع حدث نفسه وهو يستذكر ما جرى له، ويده ترتجف، محاولاً حبس دموعه بعد أن جفَّ لعابه:

لينشف الله الدماء التي في جسدي تسري، كيف فعلت ذلك وكيف طاوعتني يدي؟! ثم نوه متعالياً، معانداً: ربما كنت على صواب فيما فعلته؟!

تابع بلوعة تفوق كل وصف وهو يشعر بتعب جسده وعزاء قلبه، وكأن الدم قد تجلد في شرايينه:

أنا لست كأمي محظوظاً، بل أجد نفسي محروماً، رغم حبي الهائل لها إذ تعذبني الغيرة من قدرتها وشجاعتها وتوقد ذكاءها!! بهذه الكلمات التي كانت تجلده كالسوط... كان يتذكر ما فعله بأمه.

ها هو الآن يفكر بصوت انتهى عالياً، بعد أن ملَّ الهمس، وبقناعة راسخة وبصدق كان في بداية حياته يظنه لعيناً:

أم حمدان عمت سمعتها أرجاء الناصرية كلها بممارسة الطب الشعبي من خلال أعشابها ومراهمها وبعض من الأدعية المكتوبة على لفائف ورقية عتيقة؛ منها ما هو منقوع بالخل، ومنها ما تعرض إلى أشعة الشمس بعد دهنه بالعسل، بالإضافة إلى الخلطات العجيبة التي تقوم بصنعها، تلك التي تصعب على الشيطان أن يأتي بمثلها... وتنفي ما يقال بأنها تمارس الحيلة والدجل، وتدعي بقدرتها الخارقة على شفاء كل العلل.

قاربت غازيه السبعين، لكنها كما أغلب النساء تكذب وتقول: مازلت في الخمسين! يعلو أنفها المجدور نظارة طبية، سوداء مستطيلة العدسات، رخيصة الثمن.

احتفظت بنظارتها وقوتها وطلعتها الجملية البهية؛ عُرفت بشخصيتها الصلبة، الحازمة، الحاسمة، فعاشت وهي لا تهاب أحداً، كالسيل. تأتي بحركات، يخال وكأنها سكون! طغى صيتها على أنها أبصر من غراب، وعينيها أصفى من مقلته. وإذا رؤوها تتقدم نحوهم زاحفة بجثتها الثقيلة قالوا: جاء القدر الذي يعمي البصر!!

رزقت من زوجها بابن وحيد سمياه-حمدان- ثم غادرها زوجها دون رجعة؛ الزوج الذي لم يكن في حياته معنى كثير الخطر، ولم يترك بمغادرته أثرا، كحبات مطر، لامست سطح أرض بقيت عطشى لدهر؛ لا يعرف له مكان، أو كان حياً أو ميتا؟ ومع الوقت، تباعد به الزمن وطواه النسيان... هذا كل ما يتعلق بأبي حمدان.

إن لم يكن حمدان- الذي هو أنا - رجلاً سيئاً أو شريراً، فإنه بالتأكيد بليد... ولم يكن له أعداء في حياته سوى نفسه! ثم أردف بوحشية، كأحمق متطفل، وبطريقة حماسية تتسم بالسخرية:

لحمدان صوت مخيف كأنه صادر من قبر! وفي عينيه لؤم ممزوج بالعتاب، ويخال لمن يراه أنه كان بحاجة إلى قدر أكبر من العقل، أكثر من حاجته إلى الصحة!!

ضخم الجثة كأمه؛ له شعر أسود مجعد، يحتار فيه المرء وكأنه شعر مستعار؛ غالباً ما كان يرتدي قميصاً طويلاً، رمادياً داكناً، يتعدى فيه حدود ركبتيه، دعكته الأحجار، ولطخته الأوساخ؛ وكانت له طريقة لئيمة في الأكل لا تسرّ العين.

اتصف بقلة النشاط والحركة، سريع الاشتعال والغضب، ضحل التفكير؛ كما زادت تصرفاته طبع غريب، عبثاً أحاول وصفه، بل أن رؤية الأشباح في الليل، أكثر رحمة وأقل رعباً من مشاهدته وهو يمشي... فقد كان- سبحان الله - يتحسس الأرض بقدميه، وكأنه يريد نبشها كالديك!!
يتصرف أو يوحي للآخرين رغم كل صفاته المجنونة الغريبة تلك بأنه محتال كبير!! فقد كان الناس يخشون بكاءه المسرحي كلما همَّ بالكلام!! وقد كان يبالغ في مشيته، تلك التي تشبه مشية الحمقى والمهرجين! وغالباً ما يردد على مسامع الآخرين قوله بحماسة مفتعلة، وكأنه يريد إيقاظ الحنان في دواخلهم وبطريقة عشوائية غير صادقة:

جئت من أم تتصف بالغباء، وأب بالرعونة والمغامرة والدهاء، وأقارب بالبخل والسمعة الملوثة بالدناءة ومحكومون منذ ولادتهم بالشقاء، ولا يعرفون في حياتهم سوى الأحزان والأشجان... ثم يدعو عليهم بلسان سليط متعثر وبكلمات مرعبة، ينخلع القلب من مكانه عند سماعها، يرافقها بحركة آلية من رأسه:

ثقب الله قلوبهم وحطمها، وقطع كبدهم وسحقها؛ أو أن يقول: طفح الله تعالى غباءهم شراً وحولهم إلى شياطين خرس لا ينطقون!!

ورثت غازية- التي هي أمي - بيتا عن زوجها الضائع، المفقود؛ وكان في الحقيقة بيتاً لا يحتاج إلى الطلاء فقط، بل إلى تغير النوافذ والأبواب، القذرة المتهالكة والمتآكلة... فقد كان يبدو أشبه بمخزن لمصبغة موبوءة بالجرذان، تسرح وتمرح فيها الفئران، كالذي عمل فيها الكاتب تشارلز ديكنز في صباه- هذا ما قرأته مرة بالصدفة عن حياة ذلك الكاتب –

نشأت وكبرت في نفس البيت الذي وصفته مذ قليل، ولم أفهم في الحياة شيئاً، ولم أر فيها سوى أعمال أمي الجليلة في نظر الناس، والتي أمقتها جداً، بل أكرهها أكثر من كرهي للدراسة!! وهكذا غادرت المدرسة مبكراً، ثم عملت بأعمال حرة متنوعة كثيرة كرجل أعمال غير ناجح، وآخرها عندما التحقت في سلك الشرطة.

تعثرت بالترقيات كثيراً، حتى كدت في مرة أن أقدم على الانتحار، لولا صورة ابني المريض التي راودتني في تلك اللحظة.

تزوجت من امرأة تشبهني كثيراً... في تبرمي، وسوء طالعي، وحتى إصابتي بداء الحذر والخوف اللذين يلمعان في عينيي وكأنهما متأصلان بي منذ ولادتي، إلا من شيئين:

لها وجه مخيف ومهيب؛ وعندما تتحدث، تخرج الكلمات من فمها سريعة كالطلقة، فتمتعت بلباقة قلَّ مثيلها، لقد كانت مذهلة، لها قدرة على إنجاز مائة كلمة في الدقيقة!! وهذا ما أردت أن أتعلمه منها لسنوات طوال دون فائدة تذكر، وحتى هذه اللحظة التي أروي فيها... ما فعلته بأمي.

رزقت بطفل نحيف، شاحب، مريض دائماً، وكأن صحته تعكس سوء تغذيته!!

وكم حاولنا معالجته ومن قبل أفضل أطباء العراق دون جدوى.

لم أكن أسمح لأمي بملامسة ابني لا من قريب أو بعيد، لمعرفتي المسبقة بكذب كلامها، وفقر دليلها، وعدم نقاء سريرتها؛ ومن هنا جاء كرهي لأعمالها؛ لقد كانت تخدعهم جميعاً، وتأخذ مالهم دون وجه حق، وهم يسعون إليها زاحفين، يقبلون يديها متلهفين، ويرددون اسمها على شفاههم فرحين، متفائلين: العرافة غازية، بادعة السر والسحر، صاحبة الحظ المعين... حتى عمت سمعتها، الناصرية كلها- كما قلت -

بعد عناء وسنوات من الانتظار والتجلد والصبر والشقاء، ارتقيت ضابطاً... فلم يكن لي من هم إلا إلقاء القبض على تلك العرافة وبأي وسيلة كانت، وعن قناعة وجدتها راسخة في عقلي، كالوشم على الزند.

تدهورت صحت ابني كثيراً، وبدأنا نعد له الأيام لفراقنا والذهاب حيث اللا عودة، نحو عالم لا نعلم عن ماهيته سوى اسمه( الآخرة ) تلك التي سمعنا عنها الأقاويل...

أدخلت العرافة السجن بنزاهة وتجرد، فشعرت بانشراح وارتياح، وأنا القي عليها نظرة لا مبالية، فأذللتها، كما كانت تخجلني وتعذبني وتؤرقني الأيام بنهارها ولياليها، رغم من أنها كانت أمي.
بدأت زوجتي التي تشبهني وبملامح وجهها المخيف المهيب، وهي تدفن رأسها بين يدييها، تثير شجوني وبهمة وجدتها مثبطة، ربما محاولة منها لأيقاظ العطف القابع والنائم في داخلي... حين كانت تردد على مسامعي بكلماتها النارية السريعة وبصيحة تتسم بالاحتجاج:

لعنة الله على وقاحتي وصراحتي يا زوجي العزيز، ثم بلهجة مراضاة مواسية وكأنها تعلن عن توبتها، تابعت:

أرجوك حمدان، أتوسل إليك، لنجرب فك لغز العرافة، وذلك أن تعرض ابنك عليها، حتى وإن استدعى الأمر زيارتها في سجنها!! ثم أضافت متنازلة، متنهدة:

ستكون السماء غير مبتهجة لو فقدنا ابننا هكذا دون أن نحاول المستحيل لإنقاذه(شعرت حينها بأنها أصبحت شخصاً مغلوباً على أمره)

قابلت كلامها بأنين صامت، ساخر يتسم باليأس... أطبقت بحذر أطراف شفتي محتاراً، مشككاً وقلت بعد أن واتتني الجرأة موافقا بحركة من رأسي وبلهجة كئيبة مدارياً فيها ما يغلي بداخلي من تأنيب وتذمر وسخط، وبنفس مقطوع:

سيكون لكِ ما أردتِ. ثم تطلعت إليها متقهقراً، متخاذلاً، منزعجاً، وأنا ابتسم لها بعدم ارتياح متبرماً، متضايقاً بشكل مؤثر وبنفاد صبر يتصف في آنٍ واحد بالضعف والتحدي:

غداً سأجعل ابننا بين أيدي العرافة، ولنرَ!!

الإهداء: إلى الإنسان الشاعر العراقي قيس السهيلي وأصالته في الفن والحياة.

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى