السبت ٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٣
من الأدب الماليزي المعاصر

جزيرة واسطورة ورجل

سيّد محمد ذاكر سيّد عثمان

لكل جزيرة أسطورتها الخاصة بها. لكن هذه الجزيرة لا. ليس لها أي أسطورة. كانت بتعبير بسيط جزيرة ذات رمال بيضاء وشاطئ جميل وحظائر بهيّة على البحر. جزيرة نموذجيّة، أيقونة، كمعظم الجزر على حد سواء.

كان اسمه شهريار. أطلق عليه والده هذا الأسم، كاسم الملك في حكاية ألف ليلة وليلة. الملك الذّي أصيب بالإحباط من زوجته الخائنة، فاستحدث ممارسة فريدةً وهي أن يتزوج من فتاة ليلا ليقتلها في صباح اليوم التّالي قبل أن يتيح لها الفرصة لتتمكن من خيانته مع رجل آخر، وصادف أن أباه كان ضحيّة لخيانة امرأة.

لم يعرف شهريار أمّه. كان الابن الوحيد لوالديه، أخذه والده عندما هاجر إلى الجزيرة وهو لا يزال طفلا. سمع النّاس يقولون أن والدته تركت والده بسبب فقره كصيّاد فقير، لكنّه كان ماهراً في نظم الشّعر، وفي جعبته الكثير من القصص.

في كل ليلة عندما تمضّهما الوحدة يقرأ والده الشّعر ويسرد عليه القصص، فيشعر الطّفل بهدوء في جو يسيطر فيه صوت الوالد النّاعم والغني بالإحاءات، فيدركه النّوم من دون أن يشعر، ولكنه في مرات عديدة عندما كان يستيقظ يرى والده يبكي بصمت جالسّاً على درج المنزل، فيهرع من دون شعور إلى معانقة جسده الرّقيق، فيعانقه والده بدوره بقوّة. وعلى ضوء القمر يخيل إليه أن دموع والده تتحوّل إلى شذرات من الذّهب المتألّق.

ذهب الآن والده. قبره في أعلى قمة التّل بالقرب من منزله. لكنّه لم يتح له الفرصة ليسأله عن أمّه إلى أن مات. لم يستطيع أن يسأل أباه لأنه لا يريد أن يؤذي قلبه الرّقيق الحزين. وعندما وافت والده المنيّة حفر إلى جانب قبر أبيه قبراً آخر لأمّه التي لم يرها ولم يعرفها، لكن القبر ظلّ فارغاً.

لم يمضِ طويل وقت حتى تطورت هذه الجزيرة المهجورة. أصبحت منطقة جذب سياحي. ثم ازداد تطورها أكثر من ذي قبل فباتت في وقت لاحق مركزاً مالياً يسيطر على طول الشّاطئ.
قبل أن يتوفى والده شجعه على الدّراسة، لم يدعه يمارس مهنة الصّيد مثله، فدرس بجد والتحق بجامعة ممتازة، وأنهى تعليمه الجامعي. عمل في العديد من المؤسسات المالية الرّاقية بعيداً عن الجزيرة ثم عاد إليها مرة أخرى كمسؤول ماليّ في مؤسسة كبرى. ثم أصبح موظفاً إداريّاً ماهراً، لكن صعوبات والده الكثيرة والكبيرة التي كانت تعصف بحياته كصياد فقير مازالت ماثلة أمامه.

من المثير للأسى أن والده لم يعش طويلا لينعم تحت رعاية ورفاهية ابنه، فقد سقط مريضاً بعد عامين من بدء الفتى العمل ثم توفي قبل أن يتمكّن ابنه من الصّعود في المؤسسة إلى منصب راقٍ. ومع ذلك أحسّ أنّه رأى بصيصا من السّعادة في عيني والده اللتين بدوتا أشبه بزجاجتين مضببتين، وكأن الوالد المحتضر يرى نجاح ابنه مغروساً في أعماق صدره بالرّغم من حياة الضّنك طويلة الأمد التي عاشها.

ويبدو أن مصير والده التّعس لاحقه. لم ينجح شهريار أبدا في الحبّ. لا في المدرسة ولا في الجامعة، ولا في العمل أيضاً، جميع العلاقات انتهت بالفشل. لم يكن يعرف معنى عاشق أو محب، كان يقول أن الحبّيب لا يجلب لك سوى الحزن. وهذا بالذّات يجعل المستمعين إليه يضحكون بصوت عال، ينعتونه بأنه رجل سوداويّ مصدوم سيّئ الحظّ. لكن الغريب أنه لا يرى نفسه رجلاً سيئ الحظ، بالنّسبة له كان العالم عالم كفاح ومسؤولية أما بالنّسبة للآخرين فكانوا يظنّون أن حياته خالية حقا من السّعادة.

اضطر لممارسة الحبّ لكن جسده ارتعد أول مرة، وعندما قابل فتاة أخرى أحسّ بغيرة عمياء لا مبرر لها لأنّه لم يكن يعرف الفتاة، أما في المرة الثّالثّة فشعر وكأنه ألقي في الحضيض كقطعة من القمامة.

أخذ يفكّر في الحبّ، لكن أفكاره كانت مضطربة، كان يشعر دائماً بإحباط يمنعه من النّوم، كان يمشي بعض الأيام على طول الشّاطئ حتى الصّباح الباكر والحيرة تسيطر عليه وكان يتساءل مع نفسه كيف يمكن أن يقاوم كل هذا الوقت دون نوم. ثم قرر أن يبعد الحبّ عن تفكيره فمرارته خطرة يمكن أن تقتل الرّجل. بعد ذلك قرر أن ينسى تماما المرأة والحبّ.

عندما رأى جزيرته أصبحت مركزا مالياً للتّنمية في الدّاخل والخارج قدّم طلباً للعمل فيها، أراد أن يعود إلى جزيرته. مثل والده، ليتمكّن من الذّهاب إلى الصّيد في البحر الواسع ويترك للريح أن تداعب وجهه، ليتمكّن من قراءة قصيدة على درج المنزل حيث والده كان يفعل الشّيء نفسه وينظر إلى القمر الذّي تحوّل أشعته الدّموع إلى شذرات الذّهب المتألّقة، وليتمكّن مرة أخرى من تسلّق التّل المطلّ على البحر، ليقترب من قبر والده، وأمواج البحر تضرب الشّاطئ كما كانت الأحزان تحطم قلب والده.

أصبح يشعر في وحدته أنّه قريب إلى والده، لكنّ هناك شيئا واحدا لا يستطيع أن يفعله كما كان الوالد يفعل، أن يعانقة ابنه عندما يكتمل ضوء القمر فيحول دموعه إلى شذرات الذّهب.
في أحد الأيام التقى فتاة جميلة جداً. ما جذبه إلى هذه الفتاة أنّها كانت ابنة مقاتل عظيم ضد ظلم سلطة غير عادلة، تسيطر على المجتمع منذ وقت طويل. اُعتقل والدها آنذاك، وسجن مع أنصاره من المتمردين، وقُضي على حركته. لقيت الفتاة تعاطفاً من الجميع، من أبناء الشّعب وحتى من قبل العاملين مع السّلطة.

لم يستطع معرفة كيف التقى قلباهما، وكيف مال أحدهما إلى الآخر، كانت الفتاة قد وجدت عملاً في المؤسسة الماليّة نفسها بتدخل من صديق والدها، المتعاطف مع حركته، وصادف أنها عُينت في القسم نفسه الذّي كان يعمل فيه، كان يراها بعض الأحيان وعلامات الخوف والحزن على تقاطيعها، فيزداد عطفاً عليها، كانت الفتاة تحتاج إلى شخص تثق وتتمسّك به، وتشاركه مخاوفها وأحزانها. حاول في البداية أن يحبّها، لكنّه تساءل مع نفسه لماذا ينبغي أن يحمل نفسه متاعب إضافية فربما يضاف اسمه إلى قائمة المشتبه بهم من قبل السّلطة. وعلاوة على ذلك، لماذا ينبغي أن يعاني بسبب امرأة؟ لكن قلب الإنسان لا يمكن أن يقاوم فتاة جعلت منه ملجأً يقيها الخوف والقلق. عندئذ اتخذ قرار حمايتها، على الرّغم من انّه اعتقد أنّ قراره هذا هو أغبى قرار اتّخذه، لكنّه من جهة ثانية أخذ يبرّر بشجاعة تبنيه للقرار البليد التّافه.

هكذا بدأت قصة حبه للفتاة، وكان من سبيل المصادفة العمياء لا غير أن اسم الفتاة كان شهرزاد، على اسم الأميرة التي تزوجّها شهريار الملك، والتي استطاعت تغيير رأيه في ممارسته اليومية الدّامية، فتوقّف من قتل زوجاته عندما حلّ صباح اليوم التّالي في "حكاية من ألف ليلة وليلة" الشّهيرة. لم يكن هو ملكاً يقطع الرّؤوس، لكنّه كان يشعر بحنين إلى شهرزاد الأميرة الحكيمة، في كل مناسبة يتمشى معها على طول الشّاطئ، يستمع إلى حديثها.
كانت شهرزاد ترنو إلى تحقيق المساواة والعدالة للبشريّة ، وكانت ترى أن بإمكان البشر تحقيق ذلك لو وجد حكام لا يسرقون الثّروة من شعوبهم ويختصونها لأنفسهم، وبينما كانت شهرزاد تتكلّم كان شهريار يرى أمواج البحر الهادر تختفي في شقوق المساء ببطء. كانت تتساءل دائماً لماذا أصبح العالم الآن عبداً لنظام تم إنشاؤه بواسطة بعض النّاس ليكون تابعاً لسيد عظيم اعتاد أن يصدر الأوامر؟

فتحت شهرزاد أبواب التّفكير المحظور في ذهن شهريار، فأخذ يفكّر معها في معنى النّقود التي أصبحت أداة جميع الأنشطة الاقتصاديّة للإنسان. وان رأيها أن هذه الورقة حققت نوعاً من الشّر أقوى من كافة الشّرور الماضية وأن جميع الرّجال انغمسوا في محيطها، وأنها جعلت من الأثرياء الآن ملوكاً جدداً أصبحوا آلهة وأنّها قلبت العالم رأساً على عقب، وخلقت الحروب والكراهية والفوضى والجوع والفقر بين البشر، ورهنت حياة الإنسان على الأرض لقاء سيطرتها. بدا أن الفتاة متأثرة بأراء أبيها الثّوري، وأنها كانت تفكر في كل ذلك باستمرار، وكانت ترى أن طريق الله وطريق الإنسان في الحياة لا يلتقيان. فالإنسان اختار طريق الصّراع والحروب والسّيطرة، وأنه يعتمد الكذب والغش من خلال وسائل الإعلام من أجل خلق صورة زائفة أصبحت سلاحا سحريّاً لكسب السّلطة والنّفوذ فأصبحت الأكثريّة كالعبيد، خاضعة للأقليّة بسبب حاجتها للمال، ثم تدنّت فمُسخت إلى حيوانات كالماشية في المزارع تكدح لإنتاج أقصى قدر من الغلال، ليعود عصر الإقطاع في شكل جديد.

كانت شهرزاد تتكلم وهما يتمشيان كل يوم على شاطئ الجزيرة بينما كان هو يفكّر وينظر إلى الطّبيعة فيرى أشياء كأنه يراها أوّل مرة فإن كان كلامها عن الحبّ كان يرى في السّماء قوس قزح جميل ساحر، وإن كان كلامها على مستقبل النّاس كان يرى الرّمال تتحوّل إلى غيوم قطنيّة تعوم في السّماء ويرى طيور النّورس تصبح ملائكة تلقي الحجارة النّاريّة على الرّجال الذّين يريدون أن يصبحوا آلهة.

ازداد اقترابهما إلى بعضهما بالتّدريج، وازداد إعجابه بهذه الفتاة الجميلة ذات الرّوح القتاليّة. كانت ثقتها به كبيرة مترعة بشعور عميق من الإعجاب والحبّ. مشاعر الحبّ وحّدتهما للعيش في هذا العالم بشجاعة المقاتلين من أجل الحريّة. واحتفلا بزواجهما بعد وقت ليس بالطّويل بعد ذلك.

جلب ماضي عائلة الفتاة واعتقال والدها مضايقات كثيرة لهما في العمل وفي المجتمع، ثم أصبح أشبه بيد خفيّة تعبث في الظّلام لكن شجاعة شهرزاد بدّدت المضايقات، حتى أنّها لم تسفح دمعة واحدة. كرّست شهرزاد حبّها له، وفعل هو الشّيء نفسه، وبهذا الثّبات قضيا على محاولات التّطفل في حياتهما، لتخيّم السّعادة في البيت الصّغير وليشرق جوّ العائلة بقدوم بطفل لطيف ذي عينين حادتين قادرتين على اختراق قلب السّماء، وليتجدّد في الحياة عيون مقاتل جديد.

"نعم أريد أن يكون ابننا مقاتلاً شديداً" قالت ذلك وعيناها تخترقان بقوّة قلبه في العمق.
اُستدعيت زوجته يوما ما إلى مؤتمر يدرس تطوير العمل في البرّ الرّئيس ولمناقشة آفاق توسيع الخدمات ولمسائل أخرى عاجلة، بعد ذهابها بمدة قصيرة فوجئ بأخبار عاصفة شديدة أشبه بالإعصار، جعلت النّهار ليلاً مظلماً، ودفعت غيوماً سوداً شديدة تقذف مطراً ثقيلاً كقرب مفتوحة. أغرقت العاصفة معظم القوارب المتّجهة إلى البرّ، بما فيه القارب الذّي كان يقلّ الزّوجة، واختفى بغمضة عين جميع الرّكاب، بينما كانت عيون أقارب الضّحايا متعلّقة بفرق انقاذ ظلّت تعمل لعدة أيام دون جدوى.

عشعش الحزن في أعماق شهريار بشكل دائم، أخذ يطيل الجلوس على حافة البحر، كئيباً، كسيف البال مفعماً بالحنين لزوجته المفقودة التي يستحيل تعقُبها. بعد مدة سمع شائعة جعلته يشكّ أن زوجته ماتت، وأنها ربما حيّة، وأنّها هربت منه واختفت، فوثب إلى ذهنه أن للسّلطات يد فيما حدث، ثم جاءت شائعة أخرى تصبّ في الاتجاه نفسه، ثم ثالثّة، رابعة، ثم تواترت القصص فبات لكلّ يوم قصة جديدة، ولكثرة الشّائعات بات لا يعرف على وجه اليقين ما إذا كانت زوجته لا تزال على قيد الحياة أو لا، أكانت مخلصة أم لا، أماتت أم هربت، فازدادت حالته سوءاً ولم يشعر بأي تحسّن، ولكثرة ما سمع تخدّرت أذناه كأنه أصيب بالصّمم.
ثم وجد نفسه من دون شعور يحاكي والده فما أن يحلّ الليل بعد أن ينتهي من تلاوة بعض السّور، أخذ يجلس في مقدّمة الباب تحت ضوء القمر الجميل ينشد الشّعر للتّرفيه عن ابنه. تماما مثلما كان والده يفعل من قبل. وفي يوم ما توجّه الى البحر مع ابنه ليجعل أصوات موجات البحر مألوفة لديه، وليسمعه أصوات وهدير الرّيح. ثم أخذ يبكي في كلّ ليلة يكتمل فيها إشراق القمر، يبكي بصمت وهو جالسّ على الباب الأماميّ كأبيه بالضّبط.

فكّر طويلاً في اللعنة التي أصابته، أيّ نوع هي؟ لماذا لم يهنأ مع الحبّ. احتار في إيجاد سبب؟ الحبّ هو السّبب في الشّقاء، هذا ما استقر في داخله، ها هو كأبيه أحبّ وفقد السّعادة، أخذ يعاني وحيدا في عمق كأبيه.

لكنّه لم يكن يعرف ماذا عليه أن يفعل، مرّة يخرج للصّيد ويترك الرّيح تداعب وجهه، ومرّة يقرأ الشّعر على خطوة من منزله، في المكان الذّي كان يجلس فيه والده، يراقب القمر، وتتحول دموعه إلى شذرات الذّهب. ومرّة يصعد إلى التّل لمشاهدة البحر من بعد، جالسّاً قرب قبر والده محطّم القلب.
على ذلك المنوال نما الطّفل حادّ النّظرات كأمّه، عيناه تخترقان قلب السّماء، ومستقبله يختلف عنه.

لم يرث هو مهنة الصّيد كأبيه، بل عمل في مؤسسة أشبه بمزرعة ماشية، لكنّه لن يدع ابنه يرث منه عمله في المزرعة، عليه أن يبقي مثل والدته، الأميرة شهرزاد ابنة المقاتل، ليتركه يختار عمله، فقد يعيش مقاتلاً في كون الله.

ومن هنا كان يعيد على ابنه دائما قصص أمه عن المساواة والعدالة للبشرية "لم توجد تلك القيم لأن الأقليّة تعمل على سرقة أموال الأكثريّة وتختصّها لنفسها" يستمع ابنه له وعيناه تلمعان لا يستطيع إطفاء ضوء القمر أن يطفئهما.

وفي إحدى الليالي أخذ يبكي بصمت فاستيقظ ابنه وتقدم إليه بهدوء وبطء، وعندما اقترب منه عانق جسده الرّقيق، فاحتضن ابنه بإحكام ليظهر وجه زوجته في العينين. ويتحول ضوء القمر إلى شذرات الذّهب المتألّق، عندئذ أحسّ بحبّه لزوجته يتجدّد في عيني ابنه ويغمرهما معاً، ليكتشف أن خير طريقة لتمجيد حبه لزوجته أن يحيي ذكرها بتعليم ابنه وأصدقاء ابنه، وكل من يأتي معهم من ابناء الجزيرة كيف يكونوا أُسوداً وليس حميراً في مزرعة الحيوان، كان يحسذ أنّ حبّه يتجسّم في كلمات تنطق بها شفتا شهرزاد نفسها لا شفتيه.

كانت الجزيرة من دون أسطورة، وبوجود شهريار أصبح لها أسطورة.
أسطورة رجل أراد أن يقتل الشّعور بالحبّ حتى أدرك أن الحبّ لا يمكن قتله. يسيطر على البشر دائماً وأبداً مثل الحكاية القديمة في ألف ليلة وليلة.

سيّد محمد ذاكر سيّد عثمان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى