الاثنين ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٣
بقلم محمد زكريا توفيق

بيتهوفن عبقري الموسيقى الأصم

"الموسيقى التي سمعناها حتى الآن، جميلة. لكن الموسيقى التي لم نسمعها بعد، أجمل وأجمل". الشاعر "كيت"

"لودفيج فون بيتهوفن" (1770-1827م)، هو أهم مؤلفي الموسيقى الألمان، الذين ظهروا في العصر الذهبي للموسيقى الألمانية. ملامح وجهه، من الصعب نسيانها. تنم عن جدة وحدة وعواطف جياشة مكبوتة.

http://www.gramophone.co.uk/sites/gramophone.co
.uk/files/imagecache/gallery_main_image/Beethoven%20Free%20CROPPED.jpg

حكايته، تبدأ من نفس البداية المعروفة. طفولة بائسة، تتسم بالجهد والعرق. صراع مرير ضد ظروف غير مواتية وغير رحيمة. جده الهولندي، كان يعمل في شبابه، قائد أوركسترا في فرقة موسيقى عسكرية بمدينة "أنتويرب" في بلجيكا. كان الجد، في نفس الوقت، يعزف على آلة الأورغن في كنيسة "سانت جاك".

بعد ذلك، انتقل الجد إلى ألمانيا عام 1770م. استقر به المقام في مدينة بون، في الوقت الذي ولد فيه "لودفيج". الأب كان يعمل مغني "تينور"، لكنه من النوع الذي لا يصلح لشئ، أينما توجهه لا يأتي بخير. لذلك فقد وظيفته، ولم يبذل أي جهد للعناية بأسرته.

لكن الجد، حاول المساعدة بقدر ما يستطيع. كان الصغير "لودفيج" هو تسليته الوحيدة. لكن للأسف، الأيام الحلوة لا تدوم. مات الجد، وبيتهوفن لم يبلغ من العمر سوى 4 سنوات.

الأم الطيبة الصبورة، لم تدخر جهدا. فعلت كل ما في وسعها، لكن الأسرة كانت تزداد فقرا يوما بعد يوم. كانت تمر بهم أيام سوداء. شقاء وجوع، في هذا المسكن الكئيب بمدينة بون.

الأب، كان في حزن ويأس دائمين، لكن جاءته يوما، فكرة عظيمة. كان قد سمع عن عائلة "موزارت" وابنها الصغير المعجزة. وكيف كان الأب يطوف بابنه بلاد كثيرة في أوروبا، لكي يعزف "ولفجانج" ويبهر الملوك والأمراء.

إذا كان "موزارت" الصغير معجزة، ف"بيتهوفن الصغير"، يمكن أن يكون معجزة هو الآخر. لماذا لا يستغل نبوغ ابنه المبكر، في إعالة الأسرة وتغطية مصاريفها؟ على الفور، بدأ الأب في إعطاء ابنه الصغير البالغ من العمر خمس سنوات، دروسا مكثفة في الموسيقى والعزف على آلة الهاربسكورد.

كان الأب يجبر الطفل الصغير على مواصلة التمرين ساعات طويلة، في الليل والنهار. متناسيا حقه في اللعب والنوم. حتى جعل الصغير "لودفيج" يكره الموسيقى، وأي شئ يمت إليها بصلة.

لحسن حظ "بيتهوفن"، والإنسانية أيضا، فكر الأب في الاستعانة بمدرس خصوصي جيد، للمساعدة في تعليم ابنه. بدأ الطفل يتحسن شيئا فشيئا، ثم سريعا. وبات يحب الموسيقى.

حبه الأول، كان لآلة الأورغن. لذلك، سمح له بالدراسة مع "نيفي"، عازف الأورغن للبلاط. كان هناك أيضا راهب في دير بالقرب من مسكنهم، أبدى اهتمامه بالطفل، وقدم له مساعدات كثيرة.

لكي يتبع "بيتهوفن" خطى "موزارت"، أخذته أمه وهو في سن العاشرة، إلى جولة في هولندا. أقام هناك حفلات موسيقية في عدة مدن. لكن النقود التي حصل عليها كانت قليلة، والرحلة كانت كئيبة. لا بهجة فيها ولا سعادة.

عند عودته، قرر أن لا يذهب إلى هولاندا مرة ثانية. في نفس الوقت، كانت ثقته في نفسه ومهارته الموسيقية، تزداد يوما بعد يوم. كان في أحيان كثيرة، يأخذ مكان "نيفي" في العزف على آلة الأورغن بالكنيسة.

في سن الثانية عشر، ألف بعض السوناتات الموسيقية. كان يسمح له بالعزف على الهاربسكورد في دور الأوبرا. لكنه لم ينس دراسته المدرسية. كان يجيد اللغة الألمانية والفرنسية واللاتينية والإيطالية.

"بيتهوفن"، رومانسيات كمان رقم 2.
http://www.youtube.com/watch?v=GQC9UTvoVpU

بينما كان يدرس ويؤلف ويعزف، سنة وراء سنة في بون، كانت رغبته في مقابلة "موزارت" المعجزة، تزداد يوما بعد يوم. في عام 1787م، رتب له بعد الأصدقاء، رحلة إلى فيينا.

هناك، استقبله العظيم "موزارت استقبالا حسنا. بعد أن استمع "موزارت" لعزف "بيتهوفن" لقطعة موسيقية من تأليف "موزارت"، طلب منه أن يرتجل العزف.

أي يعزف، بدون نوته، ما يحلو له. بدأت أصابع "بيتهوفن" تداعب مفاتيح البيانو في مهارة وسهولة. إذا بالغرفة تمتلئ بالموسيقى العذبة الرائعة.

دهش "موزارت"، استغرق في السماع، ثم مال على أحد الأصدقاء، وقال له: "راقبوا هذا الشاب. لأن شهرته سوف تملأ العالم يوما ما".

بينما كان في فيينا، جاءت الأخبار الغير سارة، بأن والدته مريضة جدا. أسرع في العودة. الرحلة كانت طويلة وشاقة جدا. لكن الأم، الوحيدة في هذا العالم، التي كانت تفهمه وتقدر عواطفه، توفيت. ظل يبكيها ويقول: "كانت تسمعني عندما كنت أشكي لها همي، وأقول يا أمي. فمن أنادي اليوم؟"

تصرفات الأب كانت تزداد سوءا يوما بعد يوم. كان "بيتهوفن" يتولي أمره والإنفاق على البيت. بالرغم من ذلك، كان دائم العطف على والده. وكان يغضب بشدة، إذا أساء إليه أحد، أو وجه إليه إية إهانة.

عاد "بيتهوفن" إلى "بون". هناك بدأ في إعطاء دروسا في الموسيقى. لحسن حظه، كانت التلاميذ من عائلات محترمة غنية. كان غريب الأطوار بعض الشئ، لكن هذا لم يكن يمنع الناس من التقرب له وطلب صداقته.

من معجبيه في مدينة "بون"، الكونت الثري "والدشتين"، الذي كان يقدم خدماته له بصفة مستمرة. في الوقت المناسب، أهداه بآلة بيانو فخمة، كان في أمس الحاجة إليها.

مدام "فون بروننج"، كانت بمثابة أم ثانية له. كانت تفهم صمته جيدا، عندما كان يمر بحالة تأمل وإلهام. قادته لمعرفة أدب شيكسبير وميلتون وجويه. كانت تراقب نموه الثقافي عن كثب.

مرت السنون وهو في مدينة "بون". في سنواته الأخيرة، عندما أصابه الصمم والشقاء، كان يتذكر هذه الأيام ويعتبرها أسعد أيام حياته. ظل في "بون"، حتى وفاة والده عام 1792م.

قرر بعد ذلك، الذهاب إلى فيينا، أكبر مركز للموسيقى في ذلك الوقت. أحضر معه شهادات تذكية، من أعلام مشهورين في "بون". فتحت له أبواب النبلاء. حاول الدراسة مع "هايدن"، لكنه لم يعجب بطريقته.

بحث عن أساتذة آخرين. بالرغم من أنه كان يقول، لم أتعلم من "هايدن" شيئا، إلا أنه، في سنواته الأخيرة، كان معجبا بموسيقاه. لكن موسيقى "موزارت" هي الموسيقى التي كان يعشقها، ويفضلها على أية موسيقى أخرى.

آلة البيانو أصبحت الآن هي البديل لآلة الهاربسكورد في المنازل. وبات استخدام البيانو، كآلة مصاحبة، للأغاني وأنغام الأوبرا والمقطوعات الصغيرة، هي الموضة تلك الأيام. كان "موزارت" و"بيتهوفن"، هما أوائل عازفي البيانو المشهورين.

بدأت شهرة "بيتهوفن"، كعازف بيانو، في الانتشار في فيينا. كان يدعى بصفة مستمرة للحفلات الموسيقية كضيف شرف. كان لشخصيته سحر مغناطيسي.

ما أن يدخل في مكان ما، إلا ويعرف الجميع قدومه. حفلاته الخاصة في الصالونات، كانت بهجة للسامعين. ارتجالاته الموسيقية كانت أكثر من رائعة.

"فالنتينا ليزيتسا" تعزف على البيانو جزءا من سوناتا 57 "لبيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=xz7usUEPWsc

الأمير "ليشنوفسكي" وزوجته الساحرة، كانا يعيشان في ذلك الوقت في فيينا. كانا محبين للموسيقى، لهما أوركسترا خاص بهما، ملحق بالقصر.

كانا منبهرين بالشاب غريب الأطوار "بيتهوفن"، يرجوانه الالتحاق بالعمل لديهما في البلاط. قبل "بيتهوفن" العرض، بشرط أن يعفى من التقاليد والرسميات والالتزام بالإيتيكيت.

ربما كان من الأفضل، عدم إلزامهما بهذا الشرط. لأنه كان في أمس الحاجة، لهندمة وتلميع ملبسه وسلوكه لمثل هذه المناسبات. قضى "بيتهوفن" في قصر الأمير، وتحت رعايته، سبع سنوات. يقود الأوركسترا ويؤلف الرباعيات ويحي الحفلات، التي تقام كل يوم جمعة في القصر.

خلال نفوذ الأمير وزوجته، بدأت شهرة "بيتهوفن" في الازدياد شيئا فشيئا. بعد موت "موزارت" المبكر، أصبح "بيتهوفن" هو عبقري الموسيقى الأوحد، الذي تتمكز فيينا كلها حوله.

بعد أن أطبقت شهرته الآفاق، كان لزاما عليه أن يظهر أمام العامة. لذلك، قرر ترك بلاط الأمير، والعمل بمفرده. المستقبل، يبدو ملئ بالأمل والرجاء.

لكن، كما يقول المثل: "المؤمن منصاب". أو كما تقول الرواية، أن أحد المعجبين قال ل"موزارت"، بعد أن أبدع في عزفه: "على رسلك يا هذا. لو ظللت تعزف هكذا، ستموت مبكرا. فالآلهة لا تحب المنافسة". ها هو بطل قصتنا "بيتهوفن"، وهو في قمة مجده، يصاب بالصمم.

السبب، يرجع إلى عدم اهتمامه بصحته في معظم الأحوال. ففي أحد الأيام، عندما كان يكتب الموسيقى في أحد الحدائق، أمطرت السماء. لكنه كان مستغرقا في التأليف، غير عابئ بالسيول المنهمرة، حتى أصبح غير قادر على الكتابة على الأوراق المبللة. أصيب في ذلك اليوم بالبرد، الذي نتج عنه الصمم.

ذهب إلى طبيب بعد طبيب للعلاج. لكن بدون فائدة. الصمم يزداد يوما بعد يوم. لم تعد أعلى أصوات الأوركسترا أو هدير موجات التصفيق الحاد تصله.

"بيتهوفن" رجل خجول. في البداية، سبب له المرض إنهيارا كليا. لأنه لا يريد أن يعرف عنه جمهوره أنه أصم. أخيرا، باح بسره لتلميذه "رايز"، عندما كانا يقضيان أجازة سويا في الغابة. ولم يعد يسمع موسيقى زقزقة العصافير وأغاني الرعاة.

في وحدته القهرية هذه، كرس نفسه أكثر وأكثر للموسيقى. أصبحت تملأ قلبه وعقله، ولم تدعه يستريح. هذه الفترة، وهذه الروح، هي التي جعلت منه "بيتهوفن"، ووضعته في مكان أعلى من كل عباقرة الموسيقى الذين عاصروه أو سبقوه.

قال في يوم من الأيام: "من يستطيع أن يغوص في روح موسيقاي، سوف يعلو ويسمو فوق آلام هذا العالم". في الواقع، موسيقى "بيتهوفن" تمثل متعة حقيقية وصداقة روحية فريدة للموسيقى.

من أجمل أعماله الآتي: أوبرا "فيديليو". اللحن الديني (oratorio) "جبل الزيتون"، الذي يضاهي في الجودة أعمال "هايدن" و"هاندل". لحن القداس في (D). إفتتاحيته الموسيقية، "إيجمونت و كوريولانس". رباعياته الوترية. وأغانيه الرائعة.

قداس "بيتهوفن" مع ترجمة إنجليزية.
http://www.youtube.com/watch?v=gGNthTj3Hzk

كل الموسيقيين الكبار لحنوا أوبرات، لماذ لا يلحن هو الآخر أوبرا؟ لذلك، جاءت أوبرا "فيديليو". هناك في حدائق "شونبرون" الإمبراطورية، مقعد بين أشجار البلوط، كان يجلس عليه "بيتهوفن"، وهو يكتب ألحانها.

أوبرا "فيديليو"، تختلف عن باقي الأوبرات، في أن لها أربع إفتتاحيات. قال عنها "شوبرت"، أن كل منها أجمل من التي سبقتها. النص الشعري الأسباني للأوبرا، يصف قصة زوجة مخلصة. تتخفى لكي تنقذ حياة زوجها النبيل المسجون.

الألحان مليئة بالعذوبة. تعتبر من أحسن الألحان الغنائية التي ظهرت على المسارح. لكن أحداث الأوبرا نفسها، أحداث عادية. لذلك، مشاهدة الأوركسترا، وهو يعزف ألحانها، أكثر متعة من مشاهدة أحداثها حية على المسرح.

إفتتاحية "فيديليو" ل"بيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=v0Avp2Z9XS4

المسكين "بيتهوفن"، يبذل قصارى جهده في البروفات لأول عرض. لكنه لم يكن يستطيع سماع الأخطاء والنشاز في الأداء. كان في حالة غضب وألم نفسي بسبب الصمم، جعله يلقى عصاه على الأرض.

إذا أردنا حقا أن نعرف موسيقى وأسلوب "بيتهوفن"، سنجدهما في السوناتا والسيمفونيات التي قام بتأليفها. السوناتا، عبارة عن قالب موسيقي يحوي ثلاث أقسام رئيسية : العرض، التفاعل، المرجع.

حركاتها بالترتيب: سريع، بطئ، سريع. كلمة "سوناتا"، تعني إصدار الصوت من آلة موسيقية (أو أكثر). "كونتاتا"، تعني الغناء بالصوت البشري. في الواقع، "السوناتا" هي سيمفونية مصغرة.

في هذه القوالب الموسيقية، بين "بيتهوفن" كل الخلجات والانفعالات، التي يمكن أن يمر بها الإنسان. إنتقاله من حالة مزاجية إلى حالة مزاجية أخرى، يتم بسهولة متناهية وعبقرية فذة.

لكن، أي الأعمال يمكن أن نختار لهذا المقال؟ التذوق الموسيقي يختلف من شخص لشخص. ما يعجني، ليس بالضرورة هو الذي يعجب القارئ؟ فهل نختار سوناتا 17 للبيانو (العاصفة)، أم السوناتا البهيجة (E flat major)، أم سوناتا "ضوء القمر"؟

في أحد الليالي القمرية، كان "بيتهوفن" وصديق له، يتجولان في شوارع فيينا المظلمة. توقفا أمام منزل، يصدر منه لحن سوناتا من تأليف المايسترو. قال "بيتهوفن" لصديقه، دعنا ندخل".

عندما دخلا بدون إذن للمنزل، وجدا شابا يجلس ويقوم بصناعة زوج أحذية. بجواره أخته، فتاة عمياء تعزف على آلة هاربسكورد قديمة. اتجه كلاهما للقادمين، فقال "بيتهوفن": "عذرا لتطفلنا، لكنني سمعت الموسيقى. فهل تسمحا لي بالعزف لكما؟"

جلس "بيتهوفن" على آلة الهاربسكورد، وبدأ العزف. ترك الشاب الحذاء الذي في يده. مالت الفتاة العمياء إلى الأمام لكي تركز على تتبع النغمات التي بدأت تنساب في الغرفة.

بعد فترة قصيرة، ارتعش لهب الشمعة الوحيدة، ثم انطفأ نورها وعم الظلام الدامس. أسرع الشاب بفتح النافذة. فغمر ضوء القمر كل أرجاء الغرفة. الموسيقى أصبحت أكثر وهجا وإشراقا. الآن، ترقص الحوريات، وجنيات الماء، وربات الفن والشعر والعلوم التسع، في ضوء القمر الساحر.

سوناتا ضوء القمر ل"بيتهوفن"، عزف "فالنتينا ليزيتسا".
http://www.youtube.com/watch?v=OsOUcikyGRk

لعبت الموسيقى برأسي الأخوين، وأصابتهما بالدوار. عندما توقف العزف، صاحت الفتاة بالنشوة قائلة: "أنت بيتهوفن". ثم ترك بيتهوفن مقعده، وودع مضيفيه. هرول عائدا لمنزله لكي يكمل سوناتا ضوء القمر للبيانو. أشهر سوناتا في عالم الموسيقى.

السيمفونية، عمل رائع موسيقى، يقوم بأدائة مجموعة هائلة من الآلات الموسيقية والأصوات البشرية. وضع أصولها، "هايدن" و"موزارت". لكن خيال "بيتهوفن" بالنسبة للسيمفونية، فاقهما. رفع "بيتهوفن" السيمفونية، إلى آفاق أعلى وأرقى، غير مسبوقة. في الواقع، السيمفونية هي الدليل الحقيقي على عبقرية وسمو "بيتهوفن" في عالم الموسيقى.

هو يعرف جيدا، وهو يؤلف للسيمفونية، كيف يفاجئ المستمع. قام باستبدال الألحان الراقصة في سيمفونيات "هايدين"، بألحان تملؤها البهجة والسعادة. سيمفونياته التسع، مثل إلهات الشعر والفن والعلوم التسع، "الميوزات". سوف نذكر بعضها هنا.

السيمفونية الثالثة، "إرويكا"، كانت دائما هي سيمفونيته المفضلة. كان مهتما بأحداث عصره. حبه لفلسفة أفلاطون، جعلته متحمسا لكل الأفكار التي جاءت في كتاب الجمهورية لأفلاطون. لذلك، كان معجبا بنابليون بونابرت وأفكار الثورة الفرنسية.

سيمفونيته "إرويكا"، تبين النضال من أجل الحرية. ألفها تكريما لاسم "نابليون". قبل نشرها، علم أن نابليون أعلن نفسه إمبراطورا على فرنسا. صعق "بيتهوفن" وشعر بخيبة أمل كبيرة. غير رأيه، وقرر إهداء السيمفونية إلى الأمير "لوبكوفيتز".

السمفونية الثالثة (إرويكا)، لبيتهوفن.
http://www.youtube.com/watch?v=InxT4S6wQf4

السيمفونية الخامسة، هي الأخرى تمثل نضال الإنسان من أجل الحرية، المتوج بالنصر في النهاية. كان الشاعر "جوته"، يتأثر بهذه السيمفونية أكثر من أي عمل آخر.

كاتبنا المسرحي العظيم، توفيق الحكيم، كان مغرما بهذه السيمفونية إلى درجة كبيرة، ويعتبرها من أحسن أعمال "بيتهوفن". اقتبس محمد عبد الوهاب جزءا منها في أغنيته، "أحب عيشة الحرية".

السيمفونية الخامسة لبيتهوفن.
http://www.youtube.com/watch?v=GZxN57CC_AA

عندما كتب "بيتهوفن" موسيقى السيمفونية السادسة (الريفية)، كان يستمد ألحانها من الطبيعة والمراعي والحقول، التي كان يحبها حبا جما.

غناء الطير وزقزقة العصافير، خرير المياة في الغدير، حفيف أوراق الشجر يداعبها النسيم، أشعة الشمس الذهبية، تتسلل بين الأغصان لكي تفرش أرض الغابة بالدنانير المضيئة، كما يقول شاعرنا الرائع المتنبي:

غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا--- على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ
فسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الحَرّ عني--- وَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَاني
وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي--- دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَانِ

ثم يأتي الغيام والعاصفة والمطر، لكي تطل على المشهد. يتبعها الهدوء ورضاء الطبيعة وشروق الشمس الذهبية. المصحوب بالبهجة وأغاني الرعاة الجميلة.

إذا كنت حديث عهد بالموسيقى الكلاسيكية، فهذه هي السيمفونية التي تبدأ بها. جميلة ورقيقة ومهدئة للأعصاب. لا تحتاج لخبرة مسبقة لسماع الموسيقى الكلاسيكية. تصلح للعلاج النفسي والكآبة بعد سماع نشرات الأخبار هذه الأيام.

حاول تتبع آلة واحدة، ثم إثنتين، ثم ثلاثة، إلى أن تستطيع تتبع كل آلات الأوركسترا. لاحظ كل آلة، متى تعلو ومتى تنخفض، ومتى تسرع ومتى تبطئ، ومتى تبدأ ومتى تختفي، ليحل محلها أخرى من نوعها أو من نوع آخر.

حاول تتبع اللحن الأساسي، ومتى يتكرر في كل حركة. وما هي الألحان المساعدة. وكيف تتفاعل وتتعارض وتتحد. لاحظ المفاجآت، وقرعات الطبول، التي تمثل ضربات القدر والحرب، والنغمات الحادة التي تمثل الأنوثة، والغليظة التي تمثل الذكورة، وهكذا.

تذوق الموسيقى الكلاسيكية، يحتاج إلى تدريب وسنوات طويلة من الاستماع المركز. لا يشترط أن تكون عازفا أو دارسا للموسيقى، يكفي أن تكون مستمعا. لكن النتيجة مضمونة، آفاق جديد من المتعة والبهجة، بدون خروج على القانون أو أعراض جانبية.

السيمفونية السادسة (الريفية) ل"بيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=6w-oEQ_QqGA

الطريقة الوحيدة للتخلص من عبودية "النفس"، عند الفيلسوف "شوبنهاور"، هي الموسيقى. لكن الموسيقى أنواع. بالطبع لم يقصد "شوبنهاور" الموسيقى الشبابية. من نوع "بوس الواوا" و "خليها تاكلك".

فقط الموسيقى بدون كلمات وبدون تصور، أي الموسيقى التأملية. الموسيقى التي تزهد في كل ما له علاقة بالواقع ورموزه. هذه هي الموسيقى التي تجعلك تهرب من آلام هذا العالم إلى النقاء والصفاء والنيرفانا. هدف كان يجاهد في تحقيقة أفلاطون وبوذا والصوفيون، منذ أمد بعيد.

السيمفونية التاسعة (الكورالية)، من ناحية الصياغة، بلغت قمة التأليف الأوركسترالي. يبدو أنها سوف تظل كذلك بين كل روائع المؤلفات الموسيقية الكلاسيكية.

سيمفونية "بيتهوفن" التاسعة بقيادة "بيرنشتين". لاحظ حجم الأوركسترا الضخم.
http://www.youtube.com/watch?v=8xPuSzvCSQA

السيمفونية التاسة، هي صورة لحياة "بيتهوفن". آلامه وصراعة مع الحياة، أيام سعادته، آماله. يختتم هذا العمل الجبار بترنيمة شكر وتمجيد للرب الخالق، ليس لها مثيل في عالم الموسيقى الذي نعرفه.

عزفت أول مرة في فيينا عام 1821م. قام "بيتهوفن" بدعوة البلاط للحضور. كل فيينا كانت هناك. قام بقيادة الأوركسترا بنفسه. كان يلبس معطفا أخضر اللون لا يناسب جسمه، ولا يرقى للمناسبة.

المستمعون ينصتون لموسيقى لم ترد على أسماعهم من قبل. تأتي من السماء. بعد عزف آخر نوته في السيمفونية، كانت هناك عاصفة مجنونة من التصفيق.

لم يسمع "بيتهوفن" شيئا، وظل جالسا في مقعده، ظهره للجمهور. قام أحد العازفين بلمسه لكي يستدير ويرى بنفسه الوقوف والأيادي التي تلوح بالمناديل، والقبعات والمعاطف التي تطير في الهواء. فوقف وقام بتحيتهم بهدوء بإنحناءة منه.

يجب أن نذكر هنا أيضا سيمفونية المعركة. هي ليست ضمن السيمفونات التسع الموزيات ل"بيتهون". كتبت بمناسبة انتصار الدوق "ويلينجتون" على الفرنسيين في "فيتوريا".

سيمفونية المعركة ل"بيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=yz_Q6uzFkl4

من أعماله الرائعة الأخرى:

كونشرتو الكمان ل"بيتهوفن"، عازف الكمان "أيزك برلمان"، عزف رائع ومقدرة فذة.
http://www.youtube.com/watch?v=ESpi9J-pt_w

كونشرتو البيانو رقم 5 (الإمبراطور)، ل"بيتهوفن"، عازف البيانو "أرثر روبنشتين"، عزف رائع ليس له مثيل.
http://www.youtube.com/watch?v=enmJ5PwxD7o

جاء مرة لكي يعزي أحد الصديقات، مات نجلها. قال لها: "اليوم سوف نتحدث بالموسيقى". ذهب إلى آلة البيانو، ظل يعزف لمدة طويلة. ثم نهض واقفا. ترك المنزل دون أن ينطق بكلمة واحدة. لقد واسى المرأة الحزينة بما هو أجل من كلمات العزاء.

كان "بيتهوفن"، عاشقا للطبيعة. يقول، لا أحد يحبها مثلي. كان يقضي نصف العام، يتجول بدون هدف في الغابات وبين التلال والأودية. يمر بالقرى والنجوع المحيطة بمدينة فيينا. هو مثل الشاعر "وردزورث"، معظم إلهاماته، أتت من خلال تنزهه وتجواله بين أحضان الطبيعة.

كان يحمل كراسته. يدون بها خواطره التي غالبا ما تتحول إلى أعمال رائعة. بعد الأحيان يدون بها نوادر وأحداث يمر بها. انتقل إلى سكن جديد، كان قد استأجره صديق له.

سأل صاحب المسكن: "أين الأشجار؟". أجاب: "لا توجد أشجار هنا". قال "بيتهوفن": "إذن، لن أستأجر هذا المسكن. إنني أحب الأشجار أكثر من الناس".

لم يتزوج في حياته. لكن، كان له حنين لحب المرأة وحنانها. بالرغم من تركيزه على الموسيقى، كانت له صداقات نسائية رقيقة حانية. بعد إصابته بالصمم، أصبح يعتمد على خدمات أصدقائه أكثر. كانوا يقابلون هذا بود بالغ. يقدمون له أطباق الطعام الشهية، يرفون جواربه، ويحيكون ثيابه.

الكونتيسة "جولييت جويكاردي" و"تيريز دي برونزويك"، اسمان يرافقان اسمه. السيدة الأولى، أهداها سوناتا "ضوء القمر"، وأغنيته المشهورة "أديلادي". تزوجت من الكونت، لكن يقال أنها كانت دائما تحب "بيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=zIbN6S1HYI4

كونتيسة "برونزويك"، كانت هي بطلة أوبرا "فيديليو". أهداها السيمفونية الخامسة، وأعمال أخرى. أرسل لها عدة رسائل غرامية. كانت تحفظها دائما في سلة. بعد موته، كانت تذهب إلى قبره كل عام، وتضع علية بعض من رسائها.

بالنسبة لعالم الموسيقى، يقارن "بيتهوفن" ب:"هومير"، "دانتي"، "شيكسبير"، "ميلتون"، و"مايكل أنجلو". كريم ذو قلب رحيم. كاثوليكي متدين، متحفظ دائما بالنسبة للمواضيع الدينية.

مثل باقي مؤلفي الموسيقى العظام، لا يعرف إدارة شئونه الإقتصادية. في بعض الأحيان، كان يقاوم بقسوة طغيان الفقر. بسبب إصابته بالصمم، كان يلقى معاملة سيئة من الخدم. في أحد الأيام، فقد أوراق نوته موسيقية لقداس جنائزي. بعد بحث شاق، تبين أن الطباخ، كان قد استخدمها ليفة لدعك الأواني في المطبخ.

في سنته الأخيرة، كانت صحته تتراجع باستمرار. لكنه كان يجد العزاء، في موسيقى "هايدن" وأغاني "شوبرت"، الذي كان يميل إلي موسيقاه أكثر.

أثناء مرضه الأخير، اشتدت أزمته المالية. فقبل عرضا من جمعية لندن الموسيقية، لشراء بعض أعماله بمبلغ 100 جنيه إسترليني. في أثناء عودته من زيارة أخيه "جوهان"، أصيب بالبرد. الذي تسبب في مرضه الذي لم يبرأ منه.

كان الشاب "فرانك شوبرت" وأصدقائه القدامى، بجواره حتى النهاية. في عام 1827م، عندما كان محمد على باشا الكبير يحكم مصر، فارقتنا روح العظيم "بيتهوفن"، وصعدت إلى بارئها في يوم ممطر عاصف. بكت الأمطار، وعبرت الغيوم وأصوات الرعد ووميض البرق وهبوب الريح عن غضبها وحزنها لفراق هذا العظيم الرائع.

حمل نعشه، ثمانية من مؤلفي الموسيقى إلى الكنيسة. يتبعهم 32 من حاملي الشعل. كان حاضرا، الملوك والأمراء والشعراء والموسيقيون وكل فيينا. 25 ألف شخص صاحبوا النعش لمثواه الأخير، حتى المقبرة في "وارنج". كتب على شاهد قبره كلمة واحدة: "بيتهوفن".

لقصة الموسيقى الغربية بقية، فإلى اللقاء إن شاء الله.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى