الأربعاء ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم محمد متبولي

مولاي التمثال

أدرك من فى البلاط أن غضب الملك الفرعونى قد وصل إلى ذروته و أوشك على الانفجار و أنهم سيكونون أول المضارين منه عندما تزين المشانق أسوار القصر و رقابهم تتدلى منها ، فالملك النصف اله ضاق ذرعا بجسده فهو من يتحكم فى مصائر البلاد و العباد و يخضع له القادة و الجنود و يسجد له الجميع حتى الكهنة و سدنة الالهه ، لا يصدق أنه يوما ما قد يضطر إلى عدم القيام بواجباته الملكية لوهن أو مرض أو شيخوخة تصيب ذلك الجسد رغم فتوته الحالية و قبضة يده الكافية لصرع أولي القوة من الرجال متى تلقوا منها الضربات ، أو أن يترك هذا الملك لغيره لمجرد أن جسده بلى و قرر الموت أن ينتزع الروح منه ، أخذ الكهان و السحار فى البحث عن حل يرضى الملك ، بحثوا فى الكتب و التعويذات القديمة ، فتشوا فيما خبأ أسلافهم ، قرءوا الطالع و استشاروا أبناء العالم السفلى من جن و شياطين حتى وجدوا ما يثلج صدره ، طلبوا منه أن يصنع تمثالا ضخما يليق به ، آلاف العبيد و الجنود كسروا الصخر فى الجبال ، جروه بالحبال ، ثم نحتوه ليتموا التمثال و أصوات السياط على ظهورهم تعلو أصوات أنينهم و ألمهم ، و العرق و الدماء يسريان على الأرض من تحتهم كسريان النهر ، لبقف الملك مزهوا بما يراه انه هو نفسه و لكن مع الفارق ، فقامة التمثال تعلو قامة الملك عشر أضعاف ، و جسده من صخر و ليس من لحم و دم ، و عينيه الواسعتين يمكنهما رؤية البلاد بطولها و عرضها ، و قبضتيه الكبيرتين يمكنهما أن ينالا مما يشاء ، و ساقيه الطويلتين يمكنهما أن يصلا به إلى حيث يريد ، استلقى الملك أمام التمثال ليلقى الكهنة التعاويذ عليه ، شعر بالبرودة تسرى فى جسده و الألم يتمكن منه ، و كأن أعضاءه تقتلع واحدا تلو الآخر ، كان يصرخ و يئن فيسأله الكهنة ( هل نوقف المراسم ) كان يقول لا و هو يدمع من الألم ، ظلت صيحاته تسمع القصر و ما حوله و تلقى الرعب فى قلوب الضعفاء فهم يعلمون أنه عندما سيتعافى ستصبح تلك الصرخات شقاءا و بؤس يحيط بهم ، يصمت فجأة و يبدأ الكهنة فى إلقاء التعاويذ على التمثال حتى سمعوا صيحة عالية مرعبة ، لقد حلت روح الملك فى جسد التمثال ، أخذ يحاول السيطرة على جسده الجديد كما لقنه الكهنة بلا فائدة ، و هم يطلبون منه أن يحرك أطرافه و فمه و هو لا يستطيع ، مع نهاية النهار وقف كبيرهم تحت التمثال يبلغ الملك بأن روحه البشرية الضعيفة لا تقوى على تحريك الجسد الضخم و أنهم سيلقون عليه التعويذات حتى يقوونها لتتحمل تلك المسئولية و إلا سيعيدونه إلى جسده مرة أخرى .

باءت محاولات الكهنة فى تمكين الملك من الجسد الصخرى أو إعادته إلى جسده البشرى بالفشل ، فى نهاية المطاف أعلن و فاته و أقيمت الأفراح و علقت الزينات احتفاءا بتنصيب ملك جديد للبلاد ، أما هو فقد نقلوه إلى حيث يوضع الآلهة التى اعتادوا على عبادتها و السجود لغيرها ، كان يعتريه شعورا بالغبطة و الدهشة معا عندما يطالع من عيني التمثال تلك الألوف ممن يتعبدون له كل يوم ، و يعتقدون فيه ما لا يمكن أن يحققه حتى لنفسه ، يدعونه بأن يرزقهم و يحفظ أبناءهم و يزيد حصاد أرضهم ، و يرفع عنهم المرض ، و هو حتى لا يستطيع التخلص من محبسه ، و مع الأيام نضبت عبادته ، و أصبح اله بلا عباد ، لينتقل التمثال إلى حيث يوجد تماثيل أبناء سلالته من الملوك الغابرين ، فلما انتهى حكمهم أخفى أبناء السلالة الجديدة أثارهم و ألقوا التراب على على تماثيلهم و طمسوا معالمها .

تمر العصور و الملك حبيس التمثال ينتقل من موقع إلى آخر ليستقر فى الميدان الفسيح ، و قد ظهرت عليه علامات القدم كسته التشققات و لطخنه مواد الترميم ، و سودت جسده الصخرى عوادم السيارات و غطته الأتربة التى حملتها الرياح ، و تجمعت حول قاعدته أكوام من القمامة ، تلك القاعدة التى يجلس حوله العشاق يتناجون و ربما يكتبون أسماءهم عليها أو حتى يحفرونها، حينها كان يتألم الملك و يصيح ( كيف تجرءون أنا ملككم و كنت يوما ما اله أجدادكم ابتعدوا عنى ) لكن لا يسمعه أحد ، تلك القاعدة التى كانت مرتعا للساقطات و السكارى بعد منتصف الليل ، ينتظرن أمامها زبائنهن ، و يشربوا تحتها المنكرات و ربما ألقوا على الملك ما تبقى منها معهم ، و ربما تفعل الخمر بعقل صاحبها الأفاعيل فيقف و يحدث الملك كأنه حى أمامه و يصب عليه من السخرية و السباب ما لا يطاق ، كل ذلك يحدث أمام ناظريه و هو يغلى من الغضب ( لو كنت فى بلاطى الآن لجطمت رؤوسكم و قطعت لحومكم و كسرت عظامكم ثم ألقيت بكم للجوارح من الطير لتأخذ هى الأخرى نصيبها منكم ) ، و مع ذلك كان ينسى غضبه و يشعر بالسعادة تغمره عندما يرى طفلا صغيرا يلوح له أو رساما يرسمه ( انهم أتباعى الذين ينتظرون عودتى لهم بفارغ الصبر ) ، حتى كانت تلك اللحظة التى رأى فيها رب أسرة و عائلته يبدو انهم رأوا الميدان و التمثال لأول مرة ، عبروا الشارع مهرولين و الابتسامات تملئ وجوههم ، يقف الاب حاملا أصغر أبناءه على يديه يشير له على تمثال الملك و يحكى له ما وصل إليه عن تاريخه و الأساطير و القصص التى حيكت حوله مطالبا نجله بأن يلوح له ، شعر الملك أكثر من أى مرة أخرى بأنه يريد أن يرد التحية للطفل الصغير و يلوح له ، و يمد يده ليصافح بها الاب و يرفع بها الطفل على كتفه و يعطيه كل ما يمكنه من الجظوة و الكرم الملكى عله يصبح يوما ما أحد قواده أو وزرائه ، حينها أحس الملك بأنه قد سيطر على الجسد و أصبحت روحه أقوى منه ، قرر أن يحرك يديه ملوحا للطفل ، لتدب التصدعات فى التمثال الصخرى و تسقط اليد مفتتة على الأرض ، و تتبعها الرأس و نصف الجسد العلوى ثم نصفه السفلى ، ليدمر التمثال و لا يتبقى منه سوى القاعدة ، ليبدأ الملك رحلة البحث من جديد ، و لكن هذه المرة ليس عن جسد يتحمل قواه الخارقة بل عن جسده الأصلي المحنط لتقر عينيه و تسكن نفسه حتى يبعث من جديد .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى