الاثنين ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٤
بقلم فيصل سليم التلاوي

انحناء...

كنا ننحشر داخل الصالة الضيقة التي اعتدنا وُلوجها، لتكرار مرورنا بهذا الطريق كل بضعة أشهر. تكاد القاعة تغص بنا، نحن ركاب الحافلة، عدا بضع نسوة اقتدن إلى صالة مخصصة لتفتيش النساء مجاورة لصالتنا.
كانت عيوننا معلقة عبر النوافذ الزجاجية، تتابع حقائبنا التي تكومت تسند بعضها بعضا على رصيف محطة التفتيش الجمركي، حيث أخذ يعبث بمحتوياتها مفتش الجمرك منفردا، بينما اقتيدت حافلتنا هي الأخرى، بعد أن أفرغت منا – نحن ركابها – ومن سائر محتوياتها، إلى مركز آخر تنتظر دورها في التفتيش البدني كما ننتظر نحن، حيث ستتولى الكلاب البوليسية المدربة تشمم أطرافها وحناياها، بينما يتولى الخبراء من الميكانيكيين تمرير لمساتهم، يتحسسون سائر بدنها، ويفككون ما استعصى عليهم النفاذ إلى باطنه من أجزائها.

كانت ساعتان بالتمام والكمال قد انقضتا قبل ذلك، ونحن محشورون داخل الحافلة، بعد أن اجتزنا مرحلة الجوازات، وظفرنا بختم تأشيرة الدخول.

لم يُسمح لأحدنا بالنزول من الحافلة، في انتظار أن يرق لحالنا قلب أحد مفتشي الجمارك، ويتكرم بالحضور من تلقاء نفسه لتفتيش أمتعتنا، مع ما يرافق ذلك من طقوس التصبر وإظهار الخضوع، والإنصات لمواعظ السائق المعادة التي حفظناها عن ظهر قلب، لتكرار تردادها على مسامعنا في الذهاب والإياب في كل رحلة :
 إياكم أن يخرج أحدكم رأسه أو يده من النافذة، أو يكلم شخصا في الخارج، أو يناول أحدا شيئا، أو يستعجل مفتشا للحضور، أو يأتي بأية إشارة تنم عن الضجر أو الملل. إن أية إشارة من أحدكم ستجعلهم يتجاهلوننا، ويتركوننا ننتظر هنا عدة ساعات.
لاحقت أنظار بعضنا مفتشي الحقائب عبر زجاج النوافذ، وتأفف آخرون، وزفرت أنفاسهم ضيقا وتبرما، يبنما أطلق غيرهم العنان لتعليقات مقتضبة متنافرة.

 من أجل ماذا كل هذا التدقيق والتأخير؟ أتحسبا من المهربين؟ ومن هو المغفل الذي يريد التهريب فيترك ألف كيلومتر مفتوحة من الحدود، ثم يأتي ليمر من هذا المعبر، وهو يعلم دقة إجراءات التفتيش؟ وعلق آخر:
 لقد عبرت الحدود إلى ألمانيا الشرقية زمن الحرب الباردة، و أيام الستارالحديدي ولم يتوقف القطار عن سيره أبدا. صعد إلى غرفتنا شرطي ختم جوازاتنا والقطار يسير.

وتندر أستاذ جامعي كان يجلس بجانبي، يبدو أنه قد درس في ألمانيا الغربية أيام كانت هناك ألمانيتان، و قبل أن تتوحد أمم الأرض بينما تتكاثر أمتنا بالانشطار:

 لماذا تحزمون كل هذه الحقائب؟ وتحملون كل هذه الأكداس؟ لو كان على متن هذه الحافلة خمسون ألمانيا لشاهدتم خمسين حقيبة يد مصطفة ولا شيء غيرها .
وصرخ واحد من بين الجمع:

 أنا يادكتور ليس معي سوى حقيبة يد واحدة، فهل نجّتني من مثل مصيركم؟ أو خففت من إجراءات تفتيشي؟
وأقسم آخر أنه قد عبر بسيارته الحدود من فرنسا إلى إسبانيا، لم ينزل من سيارته، حيّاه شرطي الحدود، وطبع على جواز سفره ختم مغادرة فرنسا، وسار بعدها كيلومترات عديدة يتفحص جانبي الطريق مدققا باحثا عن مركز الدخول إلى إسبانيا، ولما خاب أمله مع استمرار سيره، واجتيازه لعدد من القرى والبلدات، وملاحظته أن كل ما حوله من ملامح وأحاديث تشي بأنه في إسبانيا منذ حين . عندها لم يجد بدا من السؤال خشية أن يُعدّ متسللا عبر الحدود، فعزم على أن يُعرّج على أول مركز للشرطة يصادفه في أول مدينة يمر بها مستفسرا عن مركز الدخول، الذي ربما يكون قد تخطاه دون أن يلحظه، وهل عليه العودة للحدود مجددا؟

لقد هاله جواب الشرطي بعد أن دقق في جواز سفره، وطالع ختم المغادرة الفرنسي ثم ابتسم قائلا:

 من يغادر فرنسا برًا من هذا المعبرإلى أين ستفضي به الطريق؟ أإلى غير إسبانيا؟ فلماذا المركز المقابل، وإضاعة وقت العابرين؟ إن غادرت من هنا في طريق عودتك، فستجد في طريقك مركز مغادرة إسباني، ولن يقابلك مركز دخول فرنسي، فلا تتعب نفسك في البحث عنه، وأردف محدثنا:

- شكرته على إيضاحه، ونظرت إليه مندهشا، بينما التفت قلبي للوراء داميا، وقد تذكر عشرات مراكز الحدود المتقابلة، التي مررت بها برا و بحرا و جوا في بلاد شرق المتوسط وجنوبه، فما وجدت لأحدها فضيلة تُذكر، و لافطن أحد من واضعيها أن واحدها يغني عن مثيله الذي يقابله.

لم تسعف جاري قريحته في التعليق على الرواية التي سمعها، وتصف مدى تأثره العميق بها، فما وجد شيئا يقوله سوى:
 تفوووووه علينا.

كان المفتش لا يزال يعبث بأمتعتنا على مهل عندما أشار إليه أحدنا قائلا:

 اتركوه يفتش على راحته، فما الذي سيجده غير الجبن والزيتون والزعتر والميرمية؟ دع روائحها تزكم أنفه .
 ألا يمل من ذلك؟ كيف يمضي عمره يتشمم الزعتر والميرمية؟ لعله أصبح مدمن ميرمية!
 وماذا في ذلك؟ إنها رائحة طبية. علق آخر، واستطرد شارحا لنا فوائد الميرمية والزعتر، بينما الموقف لا يتسع لمثل شرحه، فمضى يحدث نفسه، وما استمع إليه أحد.

وتطوع أحدنا ممن يجيدون تمثيل الأدوار في مثل هذه المواقف، محذرا الذين يتابعون المفتش عن بعد بنظراتهم من وراء الزجاج :

 كُفوا عن ملاحقته بنظراتكم، وإلا تعمد تأخيرنا، وأطال النبش في أمتعتنا.
 لماذا لا ننظر إليه؟ وماذا لو انتزع شيئا ثمينا من إحدى حقائبنا؟ من يقيم عليه الدليل؟
 ومن يجرؤ على اتهامه لو فعل ذلك؟
 لماذا لا يقف كل شخص بجانب حقائبه عند تفتيشها؟
 أديروا وجوهكم، وكفوا عن متابعته، فهو يتصيد أي مأخذ ليُعقّد الأمور ويعطل العمل، ليرتاح حينا من الوقت .
وانفجر أحد القلائل الذين ظلوا صامتين طيلة الرحلة:

 لن أدير وجهي، ولن أحنيَ ظهري، وليؤخرني هنا مدة شهر إن راق له ذلك، أو ليعيدني من حيث أتيت. إلى متى نظل ننحني؟

 لقد تقوست ظهورنا: انحنينا أمام شباك الجوازات قبل قليل، وأمام شباك التذاكر – حتى ونحن ندفع ثمنها – انحنينا وانتظرنا ساعات طوال، وعندما دفعنا ضريبة المغادرة تزاحمنا، وتأمّر علينا شرطي غِرّ، وعندما سلمنا جوازاتنا لشباك المغادرين، انتظرنا طويلا بخوف ورعدة خشية أن يُنادى على أسمائنا، وأن نكون ممنوعين من السفر، مع أننا مدمنون عليه رغما عنا، ونمر بهم كل بضعة أشهر.

من الذي لم ننحن له بعدُ؟ رؤساء إداراتنا وهم يتسلمون منا جوازاتنا بعد غد لتظل رهينة لديهم، ونحن نترقق لهم، ونلتمس رضاهم ؟ أم رؤساؤنا في العمل؟ ألا ننحني لهم صباح مساء، ونتمسح بهم كما تتمسح القطط بأولياء نعمتها؟ شرطي المرور الذي يستوقفك لسبب ولغير سبب، لتكتشف أنه كان ذات يوم واحدا من أبلد طلابك، ولا يريد سوى التشفي والانتقام، يحرر لك المخالفة ولا تجدي كل انحناءاتك ولمساتك الملاطفة لذقنه. المحاسب المالي؟ إن تكرم عليك بصرف راتبك بعد أن تطارده وتترصده أسبوعا على الأقل؟ موظف البنك إن اصطففت أمامه متذللا في طابور عدة ساعات، لتحول مبلغا من المال لأولادك، وهو يتفنن في إغاظتك، وينتقي من يريد أن ينجز له معاملته. يتناول متجهما واحدة من الطابور كلما أنجز عشر معاملات تأتيه عن يمينه وشماله، يتلذذ بتضييع الوقت، لينتهي الدوام فيتأمر قائلا:

 عودوا يوم غد .
وكأن يوم غد وبعد غد في متناول أيدينا! كأن أحدنا لم يأت من مكان بعيد، ولم يرق ماء وجهه وهو يستأذن من عمله لساعتين فقط .
 هل بقي أحد لم ننحن له؟ ولماذا علمونا صغارا وأرغمونا على حفظ خطبة عبد الرحمن الكواكبي إذ يقول:
 " يا قوم ، ارفعوا رؤوسكم - رفع الله عنكم المكروه - كان أجدادكم لا ينحنون إلا ركوعا لله، وأنتم تسجدون لتقبيل أرجل المُنعَمين "

هل بقي أحد غير زوجاتنا وأولادنا؟ أننحني لهم أيضا؟
 زوجاتنا؟ كأنك لم تنحن بعد لزوجتك يا رجل؟ ولِمَ وجودك الآن بيننا دون زوجتك؟ ألم تكن بجانبك في السنوات السابقة ؟ تصحبك في ذهابك وإيابك، و أنت تقود بها سيارتك الخاصة، ولا تستقلان الحافلة ؟
- ومن أدراك بخبري ؟
 من أدراني؟ كلنا ذلك الرجل، تأمل هيئاتنا، هل تجد بيننا شابا واحدا؟ كلنا مثلك عندما نضبت الينابيع تخلت عنا زوجاتنا، واخترن الإقامة في الوطن، وأطلقن لنا أعنتنا نغدو و نروح كل بضعة أشهر، نتقن حرفة النمل، نذهب خفافا ونؤوب ثقالا. وتقول إنك لم تنحن بعد لزوجتك يا رجل! أبعد الانحناء الذي نحن فيه انحناء؟!
 وأولادنا، ألم ننحن لهم بعد ؟
أين أولادك يا صاحبي؟ ألم تتركهم وراءك منعمين مرفهين؟ يتباهون على زملائهم بملابسهم وأزيائهم المستوردة التي أحضرتها لهم؟ بينما ترتدي هذه الدشداشة البالية؟
 ألم تترك لهم سيارة يتبخترون بها أمام الفتيات على أبواب الجامعة، وأنت تتكوم بيننا في هذه الحافلة، وهذه الصالة للانتظار؟
 هل دلك والدك إلى هذا الحد؟ أما كنت تكسب قوت يومك، وتنفق على دراستك وأنت بعد طالب في المرحلة الثانوية؟
 وتقول إنك لم تنحن بعد لأولادك؟!
وتدخل راكب ليفصل في أمر خلافنا على أنواع الانحناء، فقال :
 النوع الأخير من انحنائكم له ما يبرره، وما دام أحدنا ينحني للجميعفالأقربون أولى بالانحناء لهم
عندما بدأ أوائلنا عبور الممر الدائري للتفتيش البدني، الذي يفضي بنا إلى خارج الصالة، كان غيرهم من المتكدسين على أرض الصالة قد بدؤوا بالنهوض، ولمحت معظمهم يتحسس ظهره لحظة نهوضه، كأن طول حديث الانحناء قد ذكر كلا منهم بأوجاع ظهره و مقدار انحنائه، فهو يريد أن يطمئن إلى أنه ليس متقوسا أكثر من غيره .
تفرس صفحات وجوهنا – ونحن نمرأمامه – شرطي بلا ملامح، كان يحاول أن يظهر بمظهر خفيف الظل، فيصطنع ابتسامة صفراء لهذا، أو حديثا مجاملا لذاك.
وكان بيننا الذي تمرس على هذه المواقف، فاغتصب من بين شفتيه ابتسامة مماثلة بادله إياها، بينما مضى أكثرنا صامتا منكس الرأس، ينشد نسمة من هواء عند الباب الآخر للصالة.
حاولت جاهدا أن أطرد من مخيلتي الفكرة التي قفزت إلى ذهني وأنا أمر أمام الشرطي، لكنها التصقت بذهني، وظلت عالقة به لا تبرح مكانها. تذكرت ما قرأته سابقا عن أسواق النخاسة،وكيف أن الفحص الأولي للعبد عند شرائه كان يتم بمعاينة وجهه، ومثل ذلك يتم في تجارة الخيل وسائر الدواب في سوق الجمعة، فإن تفحصها يبدأ من صفحات وجوهها، وقلت في نفسي :
 ما جدوى تفحصه لصفحات وجوهنا؟ فليس لنا قوة احتمال العبيد ولا أصالة الخيول .
انطلقنا سراعا حيث انحنى كل منا على حقائبه وأكداسه، يزاحم بها غيره ليودعها مستقرها في بطن الحافلة، التي كان موعد عودتها من تفتيشها البدني متوافقا – بالصدفة – مع انتهائنا من التفتيش.
انحشرنا بعد ذلك مجددا داخل الحافلة، وارتمى كل منا على مقعده يلتقط أنفاسه، ويهيئ نفسه ليغط في نوم عميق .
عندما انحنى السائق على مقوده ليواصل المسير، كانت ثلاثة أرباع الطريق أو ما يزيد على ذلك لا زالت أمامنا، إلا أن صوت أحد الركاب قد انطلق عاليا مهنئا الجميع :
 هانت يا شباب، خلاص وصلنا. وانطلقت الحافلة من عقالها تنهب الطريق الصحراوي الطويل نهبًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى