الأربعاء ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤
أمير تاج السر في روايته (366)
بقلم إياد شماسنة

يبتكر الواقعية السحرية العاطفية

انتهيت للتو من قراءة رواية الصديق، الروائي السوداني، أمير تاج السر. فشعرت أني خسرت شيئا ثمينا بمجرد إنهاء الصفحة الأخيرة ؛ إذ لا يزال بي شغف لمتابعة مصائر بقية الشخصيات، وبي تعاطف مع السياق رغم النهج السردي الواضح، الذي قامت فيه الشخصيات بجر كاتبها فيه، كما قررت هي واختارت مصيرها.

تحتل الرواية اسم (366)، في صيغة مختلفة عن النسق المعهود في تسمية الروايات، لدلالة يكتشفها القارئ في الرواية الجميلة الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في العام 2014، والمختارة ضمن القائمة الطويلة للنسخة العربية من البوكر عام 2014.

في رواية (366)، التي تمثل "سنة كبيسة" لأيام حب من نوع جديد يخترعه أمير تاج السر توليدا من قصة حقيقية كانت "في الأصل" تختصرها مجموعة من الرسائل المكتوبة بالحبر الأخضر، بتوقيع"المرحوم". عثر عليها الروائي تاج السر وهو في المرحلة الثانوية من الدراسة، برفقة مجموعة من الطلبة، تحت سور المدرسة في بور سودان، وقد خطها عاشق مجهول إلى "أسماء"، لكن أمير تاج السر يصنع من الحدث رواية موازية تأخذ من الواقع شيئا ومن الخيال أشياء، بحيث تتكرر معادلته الروائية الثرية والمدهشة، بشكل يسمح لنا بالقول أنها هذه المعادلة، التي يكونها تاج السر، هي قريبة الشبه بالواقعية السحرية، لكني أؤكد أن هناك واقعية سحرية عرفناها من أمريكا اللاتينية، وهناك واقعية أمير تاج السر السحرية الخالصة .

هذا الروائي، من عائلة حكّاءة، وعند سؤاله عن دلالة أن يكون الكاتب من عائلة حكّاءة أجاب:
"أزعم أن الحكي وراثة، يرثه البعض من الأجيال. وطبعا؛ هو دائما مقترن بسعة الخيال، وهذا ما يستفيده الكاتب حين يرث الحكي، أي يرثه كاملا بكل ما فيه من تخيل ومتعة."

يعتبر تاج السر من الروائيين الذين استطاعوا تكوين أسلوب خاص؛ بمهارة وحرفية. وفي رواية (366)، يتجلى تاج السر في دور الساحر الأسمر الذي يبتكر ويكوِّن ويلعب بقوالب فنية محكمة البناء، تستلهم خيال الشاعر لدى الكاتب، فيستدعي المخيلة الرحبة الثرية، الباذخة التي تختزن أدق التفاصيل، مما يأخذ القارئ في مسارات مدهشة وجميلة، مع إصرار دائم على الاحتفاظ بالسلاسة والعذوبة الفنية، دون مغادرة منطقة السرد الروائي المدهش والعذب، وهو بهذه المعادلة الخاصة لا يتخلى، عما اعتاد، وعوَّد القارئ، من مهارة الطرح، إلى فن الدهشة، ثم الإيهام الممتع للقارئ، ثم إيقاظه العذب من الخداع الجميل أو التوهم اللذيذ.

الشخصيات في رواية (366) تتمرد على كاتبها؛ فيخضع لها، وتملي عليه ضمائرها وطباعها وأحلامها ومخاوفها، ويتضح ذلك في شخصية "المرحوم"، التي تنساق في اتجاه الفناء الكامل في المحبوب لدرجة الموت النفسي ثم البيولوجي. هذا "المرحوم" الذي جعله تاج السر كيميائيا، وعندما تحققنا عبر سؤاله "ما إذا كان المرحوم الأصلي كيميائيا فعلا"؟ فأجاب الروائي "أنه من كوّن الوظيفة والمهارة وصاغ التفاصيل، بشياطينها وملائكتها" بما تداعت عنه الشخصية لتكون مرحوما موازيا للمرحوم الحقيقي، لكن ضمن شروط الفن الروائي. وبذلك؛ تفوقت شخصيات تاج السر من خلال براعته في كيمياء التفاصيل والمشاعر والعواطف والخيال الخصب الذي كان موازيا في مناطق مُعينا أو متفوقا على خيال باتريك زوسكيند في "العطر- قصة قاتل"، وهو يتحدث عن "جان باتيست غرنوي" في الجبل"، مما مكن الشخصية، وبالتالي الرواية (366) من أن تكون عالمية بامتياز دون أن تكرر أحداً.

الشخصيات الثانوية في رواية (366) تتساوى بجدارة في أهميتها للعمل مع الشخصية الرئيسة؛ ولذلك غابت الشخصيات الكرتونية، نتيجة نضوج الشخصيات الثانوية واستمرار نموها، وقد بدا واضحا أنها تساهم في تحريك الحدث، وتخلق تشابك العلاقات داخل فضاء واسع ومترامٍ من الحيز المكاني الذي يحتوي الأحداث، مما ساعد في خلق ردود أفعال، وصياغة أحداث وتداعيات، والكشف عن توترات، تولت الرواية التنوير وهي تشد إليها القارئ المصاب بالدهشة.
لعلاقات بين الشخصيات متناغمة، رغم ظاهرها المتوتر أحيانا، وكذلك علاقتها مع كاتبها، رغم الصراع الاجتماعي مع البؤس والضيق والحرمان ، والأحلام المنهكة، ورغم انهماك كل شخصية في عالمها الذي لا تستطيع منه خلاصا ولا يحاول راويها التدخل في مصيرها أو توجيهها.

يستعين تاج السر بمفردات الحياة اليومية، وهمومها، واشكالياتها؛ من اجل إكمال الصورة الروائية؛ وجعل المشاهد مرنة، تصور التفاعل الحقيقي بين الشخصيات وقضاياها، من خلال الحياة العامة والخاصة والاجتماعية والصراع النفسية ، والبحث عن الخلاص في مكان ما في الرواية.

إجمالا؛ يلاحظ القارئ التكثيف العالي للشخصيات التي تنتمي إلى القاع، دون اعتزالها للطبقات العليا.، وكذلك يجد أن الشخصيات الآتية من القاع، رغم انسياق عدد منها إلى مصيره؛ فان بعضا قد صعد إلى طبقات أخرى، وآخر قد انزلق إلى قاعٍ بديلٍ موازٍ، كما ويبدو أن انتماء هذه الشخصيات إلى بيئة افريقية-سودانية، خاصة جداً، وتَحرُّر تاج السر من الكتابة الأيدلوجية، جعله يقدم مزيجا من السياسي والاجتماعي والعاطفي في الرواية "الواقعية السحرية الرومانسية"، ويرسم الشخصيات بوضوح آتٍ من خبرة واطلاع ومهارة، ثم يترك الكاتب شخصياته تنمو وتتفاعل إلى نهاية العمل عبر منحنى الصراع السردي –الدرامي، من غير أن تترك القارئ في أي حيرة أو إحساس بالضياع.

ثم إن الكاتب يميّز عمله الإجمالي، وأسماء شخصياته وأماكنه، بأسماء منتقاة "بعناية" من البيئة الحقيقية، وذلك سواء في رواية (366) أو غيرها، وربما يعود ذلك إلى أن الراوي خبير، وبارع في اصطياد التميز، وانه يريد أن يقدّم لهذه الشخصيات عبر أسمائها المتميزة منبرا تتحدث عبره؛ لأنها لا تجد إلا الرواية عند "أمير تاج السر" منبراً حراً، تتداعى أوجاعها من خلالها؛ فتبوح بواقعها الكابوسي.

البعد الزماني، والبعد المكاني متميزٌ في الرواية؛ لأن تاج السر ابن بيئته، التي نبش تحت سور مدرستها تلميذاً، وتجول في إحيائها شاباً، ثم خرج منها طبيباً بارعاً، ولا زال ينتمي إليها، ويعبّر عن ذلك الانتماء بأسلوبه الموضوعي، بالرغم من صدقه وإخلاصه في تناولها، ذلك لأنه محايد وواضح، بل ناصر لها في كونها مظلومة، وظالمة لنفسها في سكوتها على واقعها .

الزمان: (366) يوماً تشكل أيام سنة كبيسة كاملة، عبرت في الرواية بين دفتيها دورة عمر معلم المدرسة الكيميائي الطامح بصياغة مقرر كيمياء جديد، كما فعل من قبل رفيقه الكيميائي السيكوباثي"شمس العلا-عاصم". وهذه، وان كانت تبدو عادية، إلا أنها تحمل رمزاً دلالياً واضحاً لحياة الإنسان ودورة وجوده التي ترمز السنة إليها ، وربما كانت كبيسة لأنها لا تكتمل إلا كل أربع سنوات، وقلما ما اكتملت للمسحوقين.

البؤس، والقاع، والحب السامي، ثيمات يكتبها أمير تاج السر عبر لغة سلسة ممتعة، وسرد متتابع متدفق، في واقعيته السحرية الخاصة، مما يمنحه تميزاً خاصاً على مستوى السر د والقضية، وتفرداً بين الأدباء عبر إعادة صياغة، وخلق تفاصيل المعاناة، بخصوصية القلم السوداني الأميري، والتجربة الإبداعية التراكمية في السودان ضمن رحابة التنوع الثقافي، والألم الإنساني السوداني.

رواية (366)، وان لم تنتقل إلى القائمة القصيرة في البوكر عام2014؛ إلا أنها انتقلت إلى القلوب بسرعة، وأكدت أن كاتبها متميز ، وان العالمية لا تنقصه وإنما تفتقده لتقصير الترجمة إلى اللغات العالمية في حقه؛ بسبب البؤس الثقافي، وتغلب السياسي والخرافي على الإنساني والأدبي في أولويات السياسي ورجل المال والقرار العربي، وكما أن هناك ماركيز لأمريكا اللاتينية وهمنغواي لأمريكا الشمالية؛ فان للعرب ساحرهم الخاص الذي يقدم نفسه وأدبه، عبر تاريخه وآلامه بأدواته، ووفق رؤيته الثقافية؛ مجسدا الأصالة بأجمل صورها التي ندعو إليها، ونستدعيها مكونة من الخبرات المتراكمة، عبر التفاعل مع الإنسان والبيئة والثقافات، وتبادل الخبرات، ورؤية إنسانية حضارية للكون والحياة والعلاقات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى