الأربعاء ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
بقلم فيصل سليم التلاوي

الدكتور ذياب ...

كان مقهى اللوتس الواقع في شارع (ديدوش مراد) بكراسيه وطاولاته التي زحفت على جانب كبير من الرصيف العريض، متنفسنا الوحيد في أوقات ما بعد العصر والأمسيات، عندما نفرغ من أعمالنا، و لا نجد في مساكننا الضيقة التي حصلنا عليها بشق الأنفس و بعد طول انتظار، ما يؤنس وحدتنا، أو يملأ فراغ أيامنا، فنلتقي يوميا على رصيف هذا الشارع النابض بالحياة والحركة، والذي يمثل مع شارع " العربي بن مهيدي " الذي هو امتداد له بانعطاف نحو اليسار، يمثلان معا قلب مدينة الجزائر و روحها .

كنا نتسلى بالثرثرة في شتى المواضيع، ونسرّح أنظارنا بمتابعة عابري السبيل، و نطلق العنان لألسنتنا بتعليقات الإعجاب والاستحسان وربما الدعوة للجلوس، إن كانت العابرة ذات حسن و جمال يستحق الحفاوة والترحيب، و نادرا ما كانت تعليقاتنا تصادف آذانا صاغية.

لقد كانت تلك تسليتنا الوحيدة، فليس في المقاهي هنا نرد ولا دومينو ولا ألعاب ورقية متنوعة مثلما هو الحال في مقاهينا الشرقية. إلى جانب تصفح الصفحة السابعة من جريدة " الشـعب "، الجريدة اليتيمة الناطقة باللغة العربية .
كم مرة هممت أن أقطع الصفحة السابعة، لأنها النافذة الضيقة الوحيدة التي تحمل بعض الأخبار العربية والعالمية، وأترك باقي الجريدة للبائع بعد أن أنقده ثمنها، لكنني كنت أخشى أن يستفزه عدم اهتمامي بالأخبار المحلية، ويحسب ذلك عليّ موقفا غير وطني .

كنا عصبة من العاملين الشرقيين في هذا البلد، بيننا المدرس والمهندس والطبيب، و كنا جميعا نعيش فرادى، بعيدا عن زوجاتنا وأولادنا الذين آثرنا لهم السلامة ببقائهم يعيشون في أوطانهم، مقدرين صعوبة اندماجهم في مجتمع غلبت عليه اللغة والثقافة الفرنسية، و إن كان يحاول جاهدا التخلص من تأثيرهما، لكن هذا الانفكاك سيأخذ مداه الزمني، ولن يستطيع أبناؤنا التكيف مع مدارس جُلّ موادها تدرّس باللغة الفرنسية.

مضت سنوات على صحبتنا تلك، حتى صارت جلستنا المسائية واحدة من المعالم الرئيسية لمقهى اللوتس، لا ننقطع عنها إلا بضعة أسابيع خلال عطلة الصيف، عندما نعود إلى أوطاننا لنفرغ ما ادخرته جيوبنا و أبداننا خلال عام كامل، ثم نعاود رحلة النمل، و جلسات بعد العصر على رصيف الشارع الطويل .

في بداية عامنا الأخير انضم إلى زمرتنا وافد جديد، إنه الدكتور ذياب. كان في مثل سننا، التماع الشيب في فوديه، و بدايات تغضن وجهه تشي بأنه يخطو نحو الأربعين من عمره، بعد رحلة كفاح شاقة ارتسمت بعض ملامحها على محياه، فكسته مسحة حزن لا تخفى، و إن عمل جاهدا على أن يغلفها بغلاف رقيق من الجد والصرامة المصطنعة، مع ميل فطري إلى الصمت العميق .

غادر ذياب بلده صفراليدين متوجها إلى بريطانيا، ليواصل دراسته العليا بعد أن حصل على الشهادة الجامعية الأولى بتفوق .

وقد استغرقت رحلة كفاحه للحصول على الماجستير في بريطانيا، ومن بعدها الدكتوراة في امريكا بما تخللها من سنوات العمل للإنفاق على دراسته وأبحاثه خمسة عشر عاما، و ها هو قد حقق حلمه القديم وعاد ليصبح أستاذا في إحدى الجامعات العربية .

يوما بعد يوم صار الدكتور ذياب صديقي، يختار مقعده في جلستنا على الرصيف بجوار مقعدي، ومع أنه كان قليل الكلام إلا أنني كنت أتعمد أن أستفزه ليتكلم :

 يا عم نحن لسنا بمسـتوى الشهادات العليا، لك الحق في أن تكلمنا بالقطارة .
 أستغفر الله، أنتم الخير والبركة و نعم الصحاب يا أبا سعيد .
 إذن فضفض. حدثنا شيئا عن حياتك غير العلمية، حياتك الخاصة، مشاعرك، غرامياتك، زواجك إن حصل. أنت تعرف كل شيء عنا جميعا، أعمار أولادنا وبناتنا ، ثقافة زوجاتنا المتواضعة، ومواهبهن في فنون الطبخ، التي حرمنا منها طويلا، فلماذا تكون الصامت الوحيد بيننا ؟ فرد الدكتور ذياب:

 قم لنجلس في الداخل في ركن هادئ وأحدثك. تبعت الدكتور ذياب إلى ركنٍ قصي داخل المقهى وجلسنا متقابلين، وشجعته على الحديث قائلا :

 تحدث يا رجل، إن الصمت يقتل صاحبه، حدثنا عن مشاهداتك وتجاربك وخبراتك في بلاد الغرب .

أخذ نفسا عميقا كأنما يعد نفسه لحديث طويل يجد حرجا في البوح به، والكشف عن مكنونات نفسه، وتعرية ما تستره هذه القشرة من المهابة المصطنعة، والمظهرالخارجي الأنيق لأستاذ جامعي، ربما لأول مرة، وقال :
 يا عزيزي إنني في مثل سنكم، وعندما أسمعكم تطيلون الثناء على كفاحي وشهادتي العليا ومركزي الاجتماعي، و تبالغون في توقيري والتأدب في مخاطبتي، أطيل أنا أيضا التفكير في أحاديثكم عن أولادكم وبناتكم، الذين يدرجون في المرحلة المتوسطة والابتدائية وما دونهما. عن نسائكم الصابرات على بعدكم، والقائمات مقام الآباء والأمهات في رعـاية أبنائكم، والحدب عليهم خلال غيابكم الطويل، وبيوتكم التي عمرتموها بالأهل والنسل، والتي تنتظرعودتكم كل صيف، أو عودتكم النهائية، أقارن بين حالكم وحالي، أنا الذي ضيعت هذه السنين من شبابي منكبا على الدرس والشهادات معرضا عما سواهما، ولما حصلت عليهما اكتشفت أنني قد فرطت فيما هو أهم منها وأبقى أثرا .

- ألم تجرب يا دكتور أن تجمع بين الحسنيين؟ الزواج والدراسة .

 أبدا، لقد كانت تتنازع نفسي رغبتان متعارضتان يمزقانها تمزيقا، الأولى رغبة جامحة و سهلة التحقيق في الاندماج في المجتمع الذي أعيش فيه، والزواج من إحدى بناته، و كان ذلك الخيار السهل يمنحني الجنسية الأمريكية، و يفتح أمامي أبواب الدراسة والعمل على مصاريعها، و قد اختار معظم زملائي من الدارسين الأجانب هذا الخيار و حققــوا نجاحات واسعة .

 وهل اخترت العوم ضد التيار يا دكتور ذياب ؟

 نعم. لقد غلبتني رغبتي الثانية، رغبتي الكابحة لكل اندفاع، فأسأل نفسي :

 هل أرضى أن ينشأ أولادي متحدثين بلسان أجنبي؟ ألا أفكر يوما في العودة إلى وطني؟ هل سيكون لأولادي ولأمهم الأجنبية أي انتماء حقيقي لوطني؟ هل سيتحدثون بالإشارة مع جدهم وجدتهم و أعمامهم و أبناء عمومتهم إن عدنا للزيارة ذات يوم . أم أنني سأختار العيش مرغما هنا بقية حياتي؟ لقد كانت فكرة العيش إلى حد الشيخوخة في مجتمع غيرعربي تؤرقني كثيرا، وتقطع الطريق على رغباتي الجامحة، وتضيع الفرص الكثيرة من بين يديّ .

إن الذي لم يجرب العيش في مجتمع لا ينتمي إليه إطلاقا لا يستطيع أن يتخيل صعوبة الاختيار. إنه الخيار بين أن تعيش السمكة وسط مياه المحيط العميقة، أو أن تعوم في شبر ماء داخل طست تحيط بها اليابسة من كل جانب .

هكذا سرقتني السكين، و فرحت بنيل شهادة الدكتوراة، ونسيت نفسي. فلما تعرفت عليكم هذا العام و شاركتكم جلساتكم وأحاديثكم، تذكرت ما كنت ناسيا، و انكشف لعيني الجانب الذي أغفلته طويلا من حياتي. البيت والزوجة والأولاد، متى سيأتون و يكبرون، والأربعون على الأبواب؟

وصمت الدكتور ذياب و غصة في حلقه. حاولت أن أخفف عنه وقلت مواسيا :

 لم تطر الدنيا يا دكتور، ما زلت شابا وسيما أنيقا، تستطيع أن تعوض ما فات إلى جانب مركزك الاجتماعي المرموق، ولا تنس أن لكل شيء ثمنه، هذا الكرسي الجامعي ولقب الأستاذية لهما ضريبتهما أيضا .

ثم إنني أود أن أسألك، هل هنالك أجمل من أن تتجول بنفسك في أرجاء حقل من الورود، ثم تقطف بيدك وردة تختارها؟ أليس في مقدورك أن تفعلها اليوم فتختار شريكة من بين طالباتك تعوض ما فات، وتسرع في اللحاق بالركب؟
تنهد الدكتور ذياب تنهيدة ألم وحرقة و قال :

 من قال لك أنني لم أحاول، وأنها لم تكن حلما جميلا يداعب خيالي طيلة سنوات كفاحي و دراستي .
 و ماذا كانت النتيجة ؟

 لا داعي لنشر الغسيل كله، لنترك للقلب شيئا ولو يسيرا من الحسرة .

 أستحلفك بالله أن تكمل حديثك بنفس الصدق والصراحة، وأن تواصل مشاعر الثقة التي منحتني إياها لأعيش حكايتك كاملة .

واصل حديثه بسخرية مرة :

 كانت في سنتها الجامعية الأخيرة، لم تكن ذات جمال صارخ، لكنها بدت لي عاقلة رزينة مثقفة و واعية . استلطفتها و ما ملكت نفسي من إرسال نظرة إعجاب تارة، وعبارة إطراء تارة أخرى . وكانت تلتقط الإشارة فورا و ترد بمثلها على استحياء . لم يخف ذلك طويلا على زميلاتها وزملائها، لمحت ذلك في نظراتهم المتبادلة، و وشوشاتهم، وراق لها ذلك وتباهت به بينهم . و تطور الأمر فأصبحت شفيعتهم عندي ، يرسلونها إن رغبوا في تأجيل اختبار، أو تليين موقفي المتشدد في ضرورة الالتزام الدقيق بالحضور للمحاضرة قبل دخولي. وكنت أستقبلها قائلا :

 أهلا بالمندوبة السامية .

كانت بسمتها تسبق حديثها، فلا أملك إلا أن ألبي لها طلبها ولو بعـد أخذ و رد .

أوشك العام الدراسي أن ينقضي، و طالبتي الأثيرة يزداد مكانها في القلب رسوخا و ثباتا، وكلماتنا القليلة التي نختطفها قبيل المحاضرة أو بعد نهايتها، أو خلال لقاءات عابرة متعمدة أحيانا توحي بالتقدم المستمر في مشاعرنا المتبادلة، و كنت أؤجل الحديث الجدّي الذي أريده حتى نهاية العام، كي لا أصرفها عن دراستها واستعدادها لامتحانات السنة الأخيرة.
 وماذا بعد يا دكتور ؟

 انقضت الامتحانات و أرسلت في طلبها إلى مكتبي بواسطة صديقتها الأثيرة، التي كنت أظنها كاتمة أسرارها .
 وهل حضرت ؟
 نعم. حضرت . بحت لها بكل مشاعري نحوها، و رغبتي في التقدم لخطبتها .
 و ماذا كان رد فعلها ؟
 لم ترد إطلاقا. لمحتها تنظر إلى فوديّ الأشيبين، ثم تستأذن في الانصراف لأنها تأخرت عن موعدها مع صديقها في النادي .

وصمت الدكتور ذياب عن الكلام وقد أسند خده بيمناه، وغمرت محياه سحابة حزن عميق . و كأني به يتمتم محدثا نفسه :

 لقد ضاع الحلم الجميل، ولم يعد في العمر متسع لأحلام جديدة، لقد نسيت نفسي طويلا فلما أفقت كان القطار قد مضى .
أأبحث عن واحدة في مثل سني؟ متى ستنجب لي أبناء مثل أبنائكم و متى سيكبرون؟ حقا. إن لكل غراس أوانها، و لن تثمر غراس الصيف لو أخرتها للشتاء .

 هون عليك يا دكتور، إنك تتصرف و كأنه ليس في الدنيا غيرها .

 لم يعد لديّ رغبة في تكرار التجربة، و ليس أمامي إلا واحد من خيارين، إما أن أعود من حيث أتيت إلى مهجري، فأستغرق في حياة عملية منهكة تنسيني تجربتي المُرّة، و إما أن أعود إلى التي انتظرنتني عمرها كله.
 و من هي يا دكتور؟ أنت لم تأت على ذكرها في حديثك .

 إنها ابنة عمي " خضرة "، فتاة ريفية ذات عينين خضراوين، ووجه كان يتورد خجلا كلما وقعت عيني على عينيها، أو كلما سمعت أهلي أو أهلها يرددون " خضرة لذياب و ذياب لخضرة " .

 وأين هي الآن؟ و ما أخبارها؟

 يوم غادرت قريتنا لآخر مرة متوجها إلى الجامعة، كانت " خضرة " ابنة خمسة عشر ربيعا. ودعتني بصمت، لكنني لمحت الدموع تترقرق في مقلتيها، و كان ذلك آخر عهدي بها .

 وهل لا زالت إلى اليوم دون زواج؟

 علمت أنها انتظرتني طويلا حتى فاتها قطار الزواج، و أنها عزفت عنه بعد ذلك .
وأضاف كأنما يحدث نفسه :

 هل تقبل بي يا ترى بعد هذا العمر الطويل؟

عجزت عن التخفيف عن صديقي المحبط، فخرجت معه من المقهى علنا نستطيع أن نغير مجرى هذا الحديث المأساوي، وقلت :
 لننضم إلى شلتنا في الخارج .
وتبعني الدكتور ذياب، وانضممنا إلى رفاقنا، وواصلنا جلستنا المعتادة على الرصيف، و استأنفنا مهمتنا في متابعة السابلة .
مضت أيامنا بعد ذلك رتيبة على عادتها، وكانت عطلة الصيف – التي من عادتها أن تفرق شملنا إلى حين – على الأبواب .

عندما استأنفنا جلساتنا على رصيف مقهى " اللوتس " في بداية العام الجديد، كانت شلتنا تفتقد أحد أبرز وجوهها، وأعزها إلى قلبي، إنه الدكتور ذياب، الذي لم نعثر له على أثر في الجامعة أو المدينة .

وما علمنا يقينا هل عاد إلى مهجره من جديد، أم عاد إلى عيون خضرة ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى