الثلاثاء ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم غزالة الزهراء

النصيب

النهار الماسي يلفظ أنفاسه رويدا رويدا فاسحا المجال مجانا لذلك الليل البهيم ليصبغ رقعة الكون باسوداده الأشد قتامة. في ترقب ولادة غد وردي مدجج بنفحات الأمل انزلقت رجاء في فراشها الناعم الملمس مثلما تنزلق السمكة اللزجة بين ثنايا أمواج، تقلبت يمينا ويسارا طامعة في نوم هنيء طعمه عسلي المذاق، ولكن هيهات أصابع الكرى النرجسية أبت مغازلة مقلتيها المتعبتين، محاولتها اليائسة تلك اضمحلت كخيط دخان رفيع، ولم تتوج بالفلاح المبين.

صورة ريان اقتحمت قلعة خيالها الشاهق خير اقتحام، تمايلت كزنبقة غضة، ودغدغت أعطافها بحنو واشتهاء.
متى سيظل على هذا النمط اللاعقلاني وهو مقمط في رداء صمته ذاك؟ وهل هو يتوجس خيفة من ردة فعلها القاسية حين يباغتها بالإفصاح عما يعتمل بقفص صدره من مشاعر؟ وحدث مالا ترغب به، ولم يكن مسجلا في حسبانها قط.

توارى عن ناظريها كما حلم شارد، باهت، متذبذب، وطفق غيابه يتمدد ببطء شديد، ويجلد أحاسيسها الجياشة بسياطه الموجعة مثيرا في عالمها القزحي البكر براكين انفعال ضارية، وعواصف متأججة من النار والهذيان والانتظار.
أهناك ثمة مكروه عات طالته مخالبه وهو حاليا يتقلى في جحيم مستطير من الأنات والآهات؟
اختفاؤه الوجيع زلزل كيانها، وأرعب مشاعرها النبيلة، إنه يشكل في نظرها خسارة فادحة لا يمكن تعويضها بثمن، باختصار شديد لم يعرب لها يوما عما تدخره جوانحه من أحاسيس حيث يكتفي فقط برسم ابتسامة عابرة على سطح شفتيه كلما تغازل مقلتاه المتلهفتان عن كثب مرآها الدري الحبيب.
هل ينبثق مجددا من شرنقة الصمت باسطا لها يديه لتعيناها على النهوض من ركام نكستها؟ وهل ينتعش فؤادها الكسير بعبير إطلالته بعد انتظار طال وشاخ؟
الزواج قسمة ونصيب: هكذا كان لسان أمها يردد من حين لحين، وصرحت لها بالحرف الواحد إذ لم تضمر لزوجها آنذاك أيما شعور، دخل بها وهي لم تبلغ الخامسة عشر من عمرها، وأنجبت وهي لم تتجاوز التاسعة عشر بعد، جسامة المسؤولية الثقيلة ألقيت على عاتقها وهي في سن مبكرة للغاية، وكانت تضيف من غير التباس مؤكدة: شتان بين زماننا وزمانكن يا ابنتي.

مفاجأة غير متوقعة حدثت، لم تخطر في بال رجاء، جارها نذير يعرض عليها مشروع زواج، ودونما أن تجهد تفكيرها في الأمر لوحت له برفضها النهائي الذي لا يحبذه البتة، لا يليق بها كشريك محترم يمكن الاعتماد عليه مستقبلا، الاستهتار والتعجرف واللامبالاة من سيماته البارزة، عموما لم يرق إلى المستوى المطلوب الذي تطمح إليه في زخم أحلامها الراقصات.
استفسر بلهجة مغتمة: أمن سبب وجيه يمنحك الحرية المطلقة لتجهضيني من مشاريع أحلامك؟
ردت عليه دون التعمد في تجريح مشاعره، والحط من قيمته: رفضتك هكذا وانتهى الأمر.
لحظتها استبد به شعور مليء بالانكسار كونها هشمت قلبه اليافع، ولوثت ترنيمات البهجة التي طرزت فضاءه المديد.

في غمرة فوران غيظه الساحق انطلق منقبا عن أقحوانة غيرها لتسد فراغه المقيت.
وكان لمريم في ذلك نصيب.
إنه لا يستشعر البهجة قط ، خذلته رجاء، كسرت أشرعته باذرة في جنبات روحه شرارات انتقام لن تنطفئ، استحال إلغاؤه من مدار حياتها إلى ضربة قاضية قصمت قفاه.
ماكادت تنصرم بضعة أشهر حتى أنشأت سحابة المشاكل تتكاثف، وتحوم كالصقر اللئيم فوق رأسيهما، وتكدر صفو حياتهما، أوسعها ضربا يخلو تماما من الإنسانية العفيفة، ضيق عليها الخناق إلى حد الضجر، فرت بجلدها من جحيمه المستفز إلى مأمن مجاور تنبض أجواؤه الحميمية بسحر المحبة، والحنان السرمدي.

كانت مريم في حالة مستعصية رهيبة تبعث على الرثاء، سحنتها منقبضة، شاحبة كالموت الأزلي، أثوابها ممزقة شر تمزيق، ودم قان ينز من أنفها، سألتها رجاء مترفقة بحالتها المتدهورة: ألم تطلعي الشرطة على فعلته الدنيئة التي ارتكبها في حقك من غير حق؟
ـــ لا رغبة لي في أن أزيد الطين بلة.
أيعقل أن يكون هذا الذي يمارس نفاقه الكاذب هو نذير الذي انبهرت به من أول لقاء جمعهما، أيعقل هذا؟
حين طلب يدها تفوه بفخر لا يضاهيه فخر: حياة الترف الباذخة التي تتسامق إليها بنات جنسك بانتظارك، ستكونين أوفر النساء حظا على وجه الأرض.
لم يحلق خيالها المحدود يوما نحو عالم الأثرياء الذين يغوصون في نعيمهم حتى التخمة، واحدة متواضعة مثلها لا تطمح بأنانية زائدة إلى ما يرفضه العقل.
صوت مغمور بالحبور ينبع من أعماقها هامسا بدفء جارف: ستترشفين قطرات سعادتك وهنائك بجواره، ستعيشين طوال حياتك كالأميرة المبجلة التي تنحني لها الرؤوس طاعة وإجلالا، فوداعا لسنوات الحرمان والغبن، وداعا إلى الأبد.

أفصحت لها ذات يوم مجترة ماعانته في ذلك البيت الوسيع الذي درجت فيه بخطواتها: زوج خالتي شرس، حاد المزاج، لا تخالج ثنايا روحه ولو ذرة من الشفقة، يلج صحن البيت مترنحا من السكر الذي أتخم بطنه المترهل، ولسانه المتسلط ذاك ينفث جمرات مشتعلة من الشتم، بردائها تلتصق يداي بقوة كالتصاق المغناطيس بالحديد، وأصيح بملء فمي، تهدئني خالتي قائلة: إنه مخمور، أم الخبائث عبثت بتلافيف عقله، وهو الآن لا ينعم بتاتا بكامل وعيه.

موجة العبرات العاصفة خنقت صوتها الجريح، صدمة الماضي المفجعة جردتها من كل أردية الدفء التي تتلحف بها في عز شبابها النضر.
ـــ أتممي سرد قصتك، أنا كلي آذان صاغية.
تابعت ساردة تفاصيل مأساتها الدرامية نقطة بنقطة: ألوذ بجدار الصمت الأشم تهربا من التماعة عينيه الجهنميتين، ومن عربدة صوته الذي يعربد كعربدة بحر همجي غضوب.
حاصرتها بسؤالي البريء عساها تبوح لي بما دسته في صندوق صدرها منذ سنوات خلت: متى يعلن والدي عن عودتهما المباركة لينط قلبي الصغير بين أضلاعه ظبيا جامحا، متخما بمواويل الشوق، وتغاريد الوفاء؟
ـــ تدرعي بالصبر يا بنيتي، ولا تدعي أشباح اليأس المتعنتة تتسلل إلى صحراوات روحك، وتختلس منك ما هو أجمل، وأبهى، وألذ، سيجهران بعودتهما الميمونة عما قريب، غدا أو بعد غد، أو بعد أسبوع، أو بعد شهر.

تضج النشوة العارمة في فضاء طفولتي الرحب، وتسحبني أيادي الحنين المخملية إلى ذلك الغد الذي ليس عني ببعيد، أتصورهما قادمين على متن موجة عالية، ومخضبين بأهازيج الأمل، وترانيم اللقاء، أحضنهما إلى صدري الطري، النابض بأحلام الطفولة المطرزة بالنقاء، وألثمهما بعمق جارف كما يلثم الدفء العاتي أعطاف الزهور.

تفاجأت بخالتي ذات يوم تنتحب بعسر شديد في غرفتها وقد استقرت بين راحتيها صورة كبيرة، تملكني فضول كبير، دنوت منها بكل حذر، سألتها بصوت خفيض شبيه بالمناجاة الصادقة: لم تذرفين هذه الدموع اللؤلؤية بهذا الشكل المريع؟ نحيبك المفاجئ هذا يطرق أضلاعي بقوة فيفتتها.
همست بصوت مرجف ممزق: الآن صرت يافعة حيث تنضحين بالأناقة والإثارة والجمال، فما علي إلا إماطة اللثام عن ذلك السر الدفين الذي أكتوي بناره الحارقة لحد الساعة، أنظري، تفحصي هذه الصورة جيدا، هذه المرأة هي أمك التي أنجبتك من رحمها، وهذا الذي يتأبط ذراعها بلطف هو والدك الغالي.
شقيقتي وأنا كنا متلازمتين كفيء ظليل، لا تقوى إحدانا على مفارقة الثانية، كنا كزهرتين مخضلتين دفئا، وعذوبة، نعبق أجواء بيتنا الفسيح بصدى قهقهاتنا غير آبهتين بمشاكل الدنيا، والتواءاتها المتعرجة، شعورنا بالأخوة الصادقة وطد علاقتنا الطيبة بشكل أقوى وأمتن.
وحدث ذات يوم.
أصيبت أختي بحمى شديدة جعلتها تلازم سريرها لأيام مما دفع والدتي إلى الاتصال بطبيب مقرب للعائلة، جاء للتو، فحصها بدقة وعناية، ثم أسدى لها نصيحته بأن تولي لها اهتمامها البالغ، وتعتني بها، إنها مصابة بداء اللوزتين.
ـــ ستتعافين يا حبيبة قلبي، ويا توأم روحي، وتعودين إلى ملازمتي كسابق أيامك الخوالي، فيم ترغبين؟ حلوى، موز، شوكولاطة، تفاح، قولي ولا تترددي لحظة واحدة، أنا رهن إشارتك.
خرج الصوت من حنجرتها عليلا، منقبضا: لا، لا أبغي شيئا.
ـــ تذكرت، أنت تشتهين كعكة الفراولة، هذه هي الحلوى المفضلة لديك.
أسرعت الخطى صوب العم ياسين، كلما دلفت متجره المتواضع يهتف بي في سعادة عارمة لا مثيل لها: كعكة الفراولة، أليس كذلك؟
وضعتها أمامها مترجية إياها أن تتناول منها ولو قطعة صغيرة، أدارت محياها اللافح بالحمى، وأسبلت جفنيها كأنما غاصت في غيبوبة مميتة.

مر أسبوع كامل وتماثلت للشفاء.
قفزنا فوق سلم الحياة، وصرنا ناضجتين مدركتين لمعظم الأمور وصعابها، تزوجت أختي أي أمك، وكانت وقتذاك تتميز بالقدرة الكافية على تحمل أعباء المسؤولية التي ستجابهها مستقبلا، أهاتفها تقريبا كل يوم لتلتقط أذناي أخبارها، وأستأنس بصوتها الرخيم، زفت لي خبرا لم تقو على كتمانه، حامل في شهرها الثالث، بادلتها فرحتي آنذاك، وسارعت بنقل النبإ السار إلى والدتي على الفور.

تدحرجت الشهور سراعا، وأنجبت أختي مولودة آية في البهاء، سبحان الله، إنها أنت.
غبطة والديك الغاليين كانت أكبر مما يتصورها خيالك، ولكن وأسفاه، لم يمكثا بجانبك مدة أطول لينعما بحبك بل اختطفهما الموت الجارح، وغيبهما بين طيات الثرى.
حادث مؤلم للغاية تعرضا له في أطراف المدينة، اصطدمت سيارتهما بأضخم شاحنة جعلتهما يتلقيان حتفهما للتو، الفراق عدو لدود للقلوب يا ابنتي.
أخلدت خالتي لكهوف الصمت المريرة للحظات، مسحت دمعات حارة كانت تنهمر من مقلتيها بغزارة كالأنواء، ثم استأنفت حديثها وفحيح الألم الغاشم يمخر صوتها بشكل أكثروضوحا: وفوق كل هذا فزوجي ينعتني بالخردة البالية التي لا تصلح لشيء.
ـــ إذن لن يعودا لا غدا، ولا بعد غد يا خالتي.
ـــ عودتهما من سابع المستحيلات يا ابنتي.
ـــ لم كنت تدارين الحقيقة عني؟
ـــ خفت من اليأس أن يداهم صحراوات خيالك، وتتناوشك العلة على فراقهما الأبدي.
هل الزمن كفيل بمداواة جراحاتها الغائرة التي تنزف وديانا جارية من الدم، والغم، والهم؟

أخيرا تلقفت مريم ورقة طلاقها من نذير، تنفست الصعداء بارتياح، وأحست بالبهجة الحقيقية تطوق فؤادها المعذب، من اليوم فصاعدا ستحيا طليقة حرة لا تكدر صفو شبابها ضغائن.

لقد فقدت رجاء الأمل نهائيا في رؤية ريان، لم يعد منبثا في ممرات خيالها، تزوج مؤخرا بغيرها، مؤامرة خسيسة حيكت ضدهما من قبل نذير، لقد انتقم منها بطريقته، وهكذا نال كل واحد نصيبه من الحياة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى