الأربعاء ٤ شباط (فبراير) ٢٠١٥
بقلم مصطفى أدمين

مكان الوصف

لقد آن الأوانُ أن أصفكِ مُجدّدا، فهل أنتِ مستعدّةٌ لمضاعفات الوصفِ الجديد؟
لقد سبق أن وصفتُك في غير ذا المكان؛ قصة عارية في ثنايا ليل مهجور، ليلا حالماً ما في سمائه نجمٌ ولا قمر، ثم روايةً سرمديةً غير ذات مكان ولا زمان.
ووصفتُك في الكتاب قصيدة حرّة لم يأسرْها قارئ ، ووصفتُك في الغياب بذخاً في الجمال، وفي الحضور آية في الخيال، وفي الحيرةِ مستقرّاً للإيمان، وفي اليقين ضرباً من التّيه الجميل... وفي كلّ وصف كنتِ تتلوّنين كشعلة حيرى ما بين ألوان قوس قزح؛ وكان يُشعُّ من طيفِك همسٌ وأنين، وتقولين:«أين أنتَ يا أدَمينْ؟» أتُراكِ كنتِ تتعذّبين في الوصف المتعدِّد وأنا جاهلٌ بعواقبِ الوصف.
الآن أدركتُ أن الوصفَ تعذيب. أنّه تحويلٌ لِصُور العِشقِ إلى كثير. أنّهُ ما هو شِعرٌ ولا نثر؛ هو في جوهره مُجرّدُ استعطاف لصورتْك الأولى لكيْ تعود إلى مُستقرِّها الأول: قلب الحنين.
كنتُ أسمعُك تقولين: «باسم الله... باسم الحب لا تصفني! لا تحوِّلني إلى صور جسدُها الفواتُ وقلبُها الرسوم البالية!»
ولا ردَّ منّي عليك. أسمعُ استعطافَك فأراني مُجبراً على اقتراف الوصف... فها أنتِ تستحيلين طالبة بالرباط؛ زنبقةً تتغنّى بالسمرة والشباب... وها أنتِ امرأة في البيضاء شفة... شفقة لرجلِ أكلته القُبلُ الماجنة... وامرأة أخرى في مكان آخر ترقصين على أوتار العشق وتنزلقين على خيوط قوس الكمان... كان زمان.
لقد لبِسْتِ أثواب جميع النساء وصفاتهن الجميلة، ومع ذلك أراك تبكين؛ ليس دموعاً من ماء، بل سيول مداد شكّلتْ على صفحة النوستالجيا تضادّاً من إقبال وإدبار... من نار وماء.
ولمّا خلِقَتْ ألبِستُكِ الصورية قفزتِ من تلك الأمكنة إلى ذا المكان. أراك تبدين امرأة من ورق يرتعش. أراك تخافين إن وصفتُك بالتجديد تؤولين إلى رماد.
الوصف إعدام؛ فما هي أمنيتُك الأخيرة؟
تقولين:«رجاءً لا تقل عنّي سمراء الكُميث المستوردة من شرايين التراث، المعتقة التي لا يشوبُها جديد المذاق! باسمك يا أيّها الشاعر ذو العينين العسليتين، لا تقل عنّي أحفورة حيّة في طبقات الذكرى تنقض الذكريات وتحييها من رميم ! باسم الله والحب لا تقل عنّي أيَّ كلام يحوّلني إلى كلام!»
ومع ذلك، لا بُدَّ من أن أعذبك بالوصف. ذلك لِما هجرتني إلى أشياء قُلتِ لي عنها «ما هي إلا أشياء» فما عادت أشعار عنترة أو طرفة تسعِدك، ولا أشعار المعرّي تغطّيك بلباس التواضع، ولا من الجدد: بدر شاكر السيابُ أو محمود درويش... أراك عدتِ إلى الأشياء: الفيلا، السيارة الرباعية الدفع، الكافيار، الشامبانيا... ألا سُحقاً للشراب الجديد!
من كان السبب في تحوّك إلى امرأة عادية؟
إنّها أمّك الجاهلة. أمك من صرت تقلّدين. أمّك التي نقيض الحب، نقيض الشعر، رديف الجاهلية... أمك يا غافلة، شعَرٌ قصيرٌ طولُه الشيخوخة العفنة... عديم ألوان من فرط الأصباغ... عيناها ـ معذرة ـ كعيون الضباع... أنفها المتعجرف الشامخ فوق شفتيها الصديتين، شمّامٌ للفلوس... ويداها العنكبوتيتان... إن هنا حربٌ... وإن هناك دمار...
لقد آن الأوانُ أن أصفكِ مُجدّدا، فهل أنتِ مستعدّةٌ لمضاعفات الوصفِ الجديد؟
أنتِ زلّة وقعتُ فيها في زمن الوهم.
أنتِ قلّة فارغة لا تروي حتى ذبابة.
أنتِ مِلّة ربُّها الدرهم.
أنتِ بالحب كافرة، لذا حقَّ عليك العذاب.
أنتِ جولة جُلْتُها في دروب الخيانة.
أنتِ قولة رديئة في الفلسفة.
أنتِ بعرة.
أنتِ جُلّة.
انقضى الوصفُ المعذّبُ.
أشعرُ بألم في ما بين ضلع وضلع.
والآن، سأنام...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى