الأربعاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
بقلم سناء أبو شرار

هل يمكن أن يكون للأدب سُلطة؟

هل يوجد فعلاً سلطة للأدب؟ وهل له نفوذ على المجتمع والفرد؟

قد تتناقض كلمة السلطة مع كلمة الأدب، لما يتسم به الأدب من الرقة والشفافية، ولكن هذه الرقة بالذات هي المؤثر الأكثر عمقاً في النفس البشرية؛ لأن النفس البشرية تأنف مما يُفرض عليها وتَتقبل من يدعوها من بعيد دون ضغط أو إكراه. ما يمنح الأدب البريق والتألق على مدار العصور هو أنه يستطيع أن يحتوي أي موضوع من مواضيع الحياة ، بل يمكنه أن يحول أي موضوع عادي ليكون موضوع غير عادي ومثير للجدل وأحياناً للعداء؛ وبمقدار عمق ثقافة الكاتب وسعة خياله وخروجه عن النمطية والتكرار بمقدار إتساع وعمق إبداعه ليشمل زوايا متعددة ومتنوعة من الوجود. بل يكاد هذا التنوع يصبح شرط أساسي لحدة وجدارة إبداع الكاتب بأن يكتب بكل المواضيع، وعن كل ما يثير إهتمامه وما يشكل محاور أساسية في المجتمع.
وللكاتب أيضاً سلطة غير مرئية ولكنها محسوسة وإن لم تعبر عنها الكلمات؛ فهو حين يترك أثر عميق بنفس من قرأ له يكون قد إمتلك سلطة غير مرئية، ليس بدافع إثبات النفس ولكن لأن ما كتبه كان من العمق والانسانية بحيث أنه لم يترك القاريء مساحة لامبالاة بما يقرأ أو حتى يشعر بالملل مما قرأ. هذا التأثير الذي يتركه الكاتب في نفس القاريء وأفكاره ووجدانه هو نفوذ الأدب. وهذا النفوذ قد يمتد ليشمل المجتمع بأكلمه وذلك حين يتمكن الكاتب من أدواته وأفكاره وطرق التعبير عما يجول بنفسه وفي الحياة من حوله، ويترجم للقاريء مشاعر يشعرها ولكن لا يستطيع التعبير عنها، وهذا هو بالذات الرابط الوثيق بين الكاتب والقاريء بأن يشعر القاريء بأن هذه كلماته وأنها تنتمي إليه رغم أن من كتبها شخص آخر ولهذا يسمح القاريء للكاتب بأن يدخل عالمه الخاص دون تحفظات.
وهذا النفوذ يصبح على درجة عالية من الأهمية حين يسلط الكاتب الضوء على معاناة أو قضية معينة. وحين تكون نظرته للأمور من حوله نظرة نقدية بناءه فلا يرى من المنظار التقليدي الذي ينظر من خلاله الأشخاص العاديون؛ بل ينقل القاريء إلى مستويات أعلى من التفكير، يدفعه ليسير معه إلى طرق جديدة غير مكتشفة عبر الفكر والشعور والكلمة. فالأدب بحد ذاته يُسهم بتطوير المجتمع، ويساعد الفرد على إدراك ذاته وإكتشاف عوالمه الداخلية الدفينة، لأنه حين يقرأ ما يتطابق مع ما يشعر به يكتشف جزء آخر من كيانه؛ وهو ما يدفعه للتفكير وإعادة التفكير بكل ما قرأ ثم مقارنته مع ما يحياه في العالم الواقعي.

لقد ترك العديد من الأدباء بصمات تاريخية على المجتمعات التي كانوا يعيشون بها منهم أرنست همنغواي، وليم شكسبير، تولوستوي، مارتن لوثر كينغ، فولتير، فيكتور هوغو، ديستوفسكي والعديد غيرهم، لقد كان تأثير هؤلاء الأدباء على مجتمعاتهم من العمق لدرجة أن فكر مرحلة ما في تلك الحقبة قد تأثر بكتاباتهم وأصبحوا منارات فكرية للعصور التي أتت بعدهم.
كما أن الأدب النسائي قد حفل بنساء أثرّن بشكل كبير على مسار حياة المرأة في الغرب بشكل خاص، منهن: هاريت بيشر ستوف صاحبة رواية " أنكل توفر كابين" والتي كانت من أكثر الرويات مبيعاً لتناولها العبودية ضد السود و قد تأثر بها إبراهام لينكولن. جان أوستن التي كانت من أوائل النساء الكاتبات والتي شقت طريق الأدب للنساء في الغرب ثم مارغريت فولر وفرجينيا وولف التي أسست لأدب فكري وغير نمطي للمرأة ونماذج أخرى غيرهن.
فالنصوص الأدبية تؤثر على العصر، تفرض فكر مختلف، تلفت النظر إلى عدم وجود العدالة والظلم؛ تُعيد تشكيل نفس وأفكار القاريء، ليس بمعنى إستلاب فكره ولكن بمعنى توسيع مساحة تفكيره، وأن يدرك بأنه يوجد أفكار أخرى، مشاعر أخرى، إتساع آخر للوجود. فيبدو أن الكاتب الأكثر نجاحاً هو الكاتب الأكثر مقدرةً على إصطحاب القاريء لعوالم أخرى بعيدة عن عالمه الواقعي، ليس عبر الخيال فقط بل عبر تنوع الفكر والمشاعر والرؤية. ويتم قياس مدى تفوق الكاتب حين ينتهي القاريء من كتابه وينظر حوله كأنه قد نسى واقعه فعلاً لشدة إستحواذ الكتاب على أفكاره ووجدانه، وإن لم يكن الأدب بهذه الجاذبية بل وبهذا الإستلاب فلن يؤثر عميقاً بوجدان القاريء ويبقى أدب ولكنه لن يرقى لأن يكون خالداً.
تقول إيميلي ديكنسون:
" لا أعرف شيء في العالم لديه سلطة مثل الكلمة، أحياناً أكتبها، ثم أنظر إليها ثم أرى إشراقها."
يقول ألبيرتو مانغول:
" ربما الكتب لا تغير المعاناة، لا تحمينا من الشر، لا تقول لنا ما هو جيد وما هو جميل ولن تكون قوقعه حماية من الحزن؛ ولكن الكتب تحمل عدد كبير من الإمكانيات: إمكانية التغيير، إمكانية التنوير".
تقول سيمون دو بوفوار:
" حين كنت طفلة وحين وصلت لسن البلوغ، الكتب أنقذتني من اليأس، وهذا ما أقنعني بأن الثقافة من أعلى القيم".
وربما تكون أعلى قيمة للأدب هي الحض على التفكير، أن يتوقف الانسان للحظات أمام السطور ويشعر بأنه لابد أن يفكر بما قرأ لأن أسوء ما في وجود الانسان هو لامبالاته الانسانية، والموضوع الأساسي والأزلي للأدب هو الانسانية بألمها وجمالها وتناقض وجودها. وحين يثير الأدب التفكير يصبح فعلاً صاحب نفوذ، ويمارس سلطة، وهذه السلطة لا تتمثل بقوة القانون، ولا بفرض الرأي ولا بعنف الكلمة ولكن بمجرد لفت النظر لناحية ما من الوجود، هناك حيث الأشياء تبدو مختفية أو مخفية، غامضة وصامتة، أو ربما صارخة نازفة ومتألمة، هناك حيث توجد معاناة، هناك حيث يوجد ألم، وهناك حيث يوجد أمل؛ ألم تحرك أبيات من الشعر إردة الشعوب، ألم تغير بعض الروايات مسار مجتمع بأكلمه، ألم يُسخر بعض الأدباء أقلامهم وأفكارهم لخدمة القضايا الانسانية السياسية والإجتماعية الكبرى.
إنه الأدب، العالم الكبير الذي يتواضع ليتحول لعالمٍ صغير ترسمه الكلمات وتلونه الحروف؛ إنه الأدب، برقيه وانسانيته وإصراره على إيقاظ الضمير والأخلاق والحب حين تتحول الحياة لشيء صعبٍ وقاسٍ. إنه الأدب، رفيق العقل وشقيق الروح، مؤنس الوحيد ومانح الحب للمنبوذ. إنه الأدب نورٌ خافت يمر كالسحاب في ليلٍ مظلم، حين تصمت الكلمات وتسكن القسوة الوجوه والقلوب، يأتي دائماً برفق وحنو ليهمس لنا بأن الجمال لا يزال بيننا، وأن الحب لا يزال يمكنه أن يحيا، وأن الظلم سجن الظالم.
يمكننا أن نرى الوجود عبر الصور، وتمنحنا الصور كل المعاني التي نريد، ولكن الأدب فقط هو من ينسج العلاقة بين الصور، يجعل الصورة الباكية إنعكاس للصورة السعيدة، ويجعل المعاناة تمكث صامتة في قلبٍ كسير، وينشر النور حين يحل الظلام؛ لذا كان على الكاتب أن يحمل كاميرته غير المرئية في كل محطات الوجود، أن يصور كل التفاصيل وأن يتجاوز حدود ذاته وواقعه وأفكاره، ليكون بأتساع الانسانية، بعمقها، بجمالها، بقسوتها، بإقبالها وإنسحابها، بكل نبض من الوجود؛ وهذا الإلتصاق الحميم بكل الوجود هو بذرة النفوذ التي لا يمكن رؤيتها في العين المجردة ولكنها تمد جذورها وفروعها وثمارها عبر سطور رقيقة ولكنها تتسلل عميقاً في روح وإرادة الشعوب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى