الاثنين ١٠ آب (أغسطس) ٢٠١٥

الحوار في القرآن الكريم

موسى أبو دويح

جاء في لسان العرب في مادّة (الحور) الحَوْرُ: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ وإِلى الشَّيْءِ، حارَ إِلى الشَّيْءِ وَعَنْهُ حَوْرًا ومَحارًا ومَحارَةً وحُؤُورًا: رَجَعَ عَنْهُ وإِليه: وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حارَ عَلَيْهِ؛ أَي رَجَعَ إِليه مَا نُسِبَ إِليه. وَكُلُّ شَيْءٍ تَغَيَّرَ مِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ، فَقَدْ حارَ يَحُور حَوْرًا؛ قَالَ لَبِيدٌ:
وَمَا المَرْءُ إِلَّا كالشِّهابِ وضَوْئِهِ

يَحُورُ رَمادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ ساطِعُ

ولقد جعل القرآن الكريم الحوار هو الطّريقَ السّويّ، والأسلوبَ الصّحيح لحلّ القضايا وفضّ المشاكل. ومن أبرز شروط الحوار، أن يمكّن الآخر من التّعبير عن رأيه، ولا بدّ أن يُسمع رأيه، ولو كان تافهًا في نظر ندّه.

ومعلوم أنّ القرآن الكريم أُنزِل على محمّد عليه السّلام؛ ليبلّغه والمسلمون من بعده، إلى النّاس كافّة، فهو -أيِ القرآن- كتاب هداية للنّاس جميعًا؛ [ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر]. جعلنا الله وإيّاكم من الذّاكرين المتذكرين، الذين همّهم أن يصلوا، ويوصلوا الآخرين معهم إلى الحقّ المبين. [فالحقّ أحقّ أن يتّبع]؛ حتّى يصل الجميع إلى قناعة عقليّة، وطمأنينة قلبيّة؛ ليعيش النّاس جميعًا في أمن وسلام، وإخاء ووئام، وهذا هو ما يدعو إليه دين الإسلام.

وأذكّر هنا أنّ المغالبة وحبّ الظهور، وهزيمة الآخرين، يجب أن تكون بعيدة عن ذهن كلّ محاور. فهذا رسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم يخاطب عقول النّاس بالإسلام، فيردّ عليه قومه بأسوأ الرّدود وأقبحها وأقذعها. فيقول: اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون. والله سبحانه أمر موسى وهارون عليهما السّلام أن يخاطبا فرعون –وهو أعتى العتاة وأعند المعاندين- بقوله: [اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)].

والحوارات في القرآن الكريم كثيرة جدًّا، منها: ما كان من حوار بين الله وملائكته، وبينه -سبحانه- وبين إبليس -لعنه الله- وحوارات الله مع أنبيائه عليهم السّلام، وحوارات الرّسل والأنبياء مع أقوامهم، وحوارات الآباء مع أبنائهم، والحوار بين المؤمن والكافر، كما جاء في سورة الكهف:

[وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)].
وكلّ من قرأ القرآن الكريم يرى هذه الحوارات، وأساليبها، ومخاطبتها العقول عند أولي الألباب، وأولي النّهى.
وخير مثال على المحاورة والمجادلة ما كان من مجادلة خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها- لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا ظاهر منها زوجها. فهو حوار قد تجلّى فيه قمة التّأدب مع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، والمراقبة والخوف من الله عزّ وجلّ؛ وهو ما كان يهدف الوصولَ إليه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وهو حوار الظّهار، الذي جاء في الآيات الأربعة الأولى من سورة المجادَِلة بكسر الدّال (اسم فاعل من جادل) وبفتحها (مصدر للفعل جادل). حيث كان من عادة العرب في الجاهلية إذا كره الرّجل امرأته وأراد فراقها قال لها: أنت عليّ كظهر أمّي؛ ومن هنا سمّي هذا القول ظهارًا. وكان يُفرَّق بين الرّجل والمرأة التي ظاهر منها إلى الأبد. وكانت الحال على ذلك في أوّل الإسلام، إلى أن نزل حكم الظهار في سورة المجادلة. فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما أراكِ إلا قد حرّمت عليه).

عن خولة بنت ثعلبة قالت: فيَّ -والله- وفي أوس بن الصّامت (أخي عبادة بن الصّامت) أنزل الله صدر سورة المجادلة. قالت: كنت عنده، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه. قالت: فدخل عليَّ يومًا، فراجعته بشيء، فغضب، فقال: أنت عليَّ كظهر أمّي. قالت: ثمّ خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثمّ دخل عليَّ فإذا هو يريدني ويراودني عن نفسي. قالت: قلت: كلا والّذي نفس خولةَ بيده، لا تخلصُ إليَّ، وقد قُلْتَ ما قُلْتَ؛ حتّى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت: فواثبني فامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشّيخ الضّعيف، فألقيته عنّي. قالت: ثمّ خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابًا، ثمّ خرجت حتّى جئت إلى رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه.
قالت: فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه. قالت: فوالله ما برحتُ حتّى نزل فيَّ قرآن، فتغشّى رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان يتغشّاه ثمّ سُرّي عنه، فقال لي: يا خويلة، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنًا. ثمّ قرأ عليَّ . [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]. المجادلة: (1-4).

ونرى ذلك في حوارها مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد خرج عمر من المسجد ومعه الجارود العبديّ، فإذا بامرأة برزت على ظهر الطّريق، فسلّم عليها عمر فردّت عليه السّلام، وقالت: هيهات يا عمر، عهدتك وأنت تسمّى عميرًا في سوق عكاظ، ترعى الضّأن بعصاك، فلم تذهب الأيّام حتّى سُمّيت عمر، ثمّ لم تذهب الأيّام حتّى سُمّيت أمير المؤمنين، فاتّق الله في الرّعيّة، واعلم أنّه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خُشي عليه الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف من العذاب.

فقال الجارود: قد أكثرتِ أيّتها المرأة على أمير المؤمنين. فقال عمر: دعها، أما تعرفها، فهذه خولة بنت حكيم امرأة أوس بن الصّامت، التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فعمر والله أحقّ أن يسمع لها.

موسى أبو دويح

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى