الاثنين ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
بقلم عبد الجبار الحمدي

أبي وأنا ودميتي سلمى....

لم تزل مشاعري مبتلة كما هي الليلة الممطرة تلك، لم تفارقني مواجعي وأنا اتذكر عصرات يده الحانية بقسوة فزع وهي تمسك بي بشدة على كفيّ الصغيرتين، يحملني على كتفيه وساقاي تحيط برقبته تلك بعد أن انهكها الجري هولا من والى مصير مجهول... من مصير وزع الموت كأنفاس متقطعة، يا إلهي!!! لا زلت اسمع لهاثه ونظراته التي يختلسها عنوة ليرى قسمات وجهي الباردة التي افرغت كل طموح وهو يقول: تمسكي جيدا بي رابطي ولفي قدميك على أضلعي فلا زالت المسافة بعيدة جدا، اخاف ان افقد توازني وتسقطين رغما عني... لم افهم ما عَنيه!؟ حيث انه قد شدهما بقوة تحت اذرعه وابطيه... هززت رأسي لا إراديا على ما قاله لي...

جمع غفير من الناس الى جانبنا يجري ايضا وصراخ، آهات اطفال، نساء وحتى رجال من وجع وخوف... كأننا جميعا بُرمِجنا لأن نتجه نحو زاوية من العالم طمعا بأمل ان تكون ملاذا آمنا ... كانت الصور التي اخزنها في ذاكرتي جنونية الى حد الكارثة، عويل اسمع من كل من حولي وهم يرون من يسقط أمامهم موتا من تعب او جوع أو عطش وجشع مهرب... لعل الموت قد فغر فاهه لحظتها بعد أن اطال امواج البحر الذي اجتزنا بأن يصفع من يختاره ليسقطه في قعره المظلم الى الأبد ... وربما يطفو شماتة بأن لا حياة دون ثمن وليس كل من ساقته الأقدار هربا من الموت ان يجتاز عواقبه
كأنه يقول: من لم يمت بالسيف مات بمثله... يا لجهلي!! ارددها الآن بحسرة،

وكنت وقتها كما اتذكره والدي الذي كلما سألته أين أمي؟؟

يجيب قائلا: ستلحق بنا في القريب العاجل

أنغمسنا ليلتها مع الظلام تلحفناه حتى أغرورقنا بزخات المطر كأنها تبكينا هكذا تصورت بمخيلتي الصغيرة بعد أن اختلطت دموعي وأنا افكر بأمي، لكن دفىء صدر أبي رغم المطر وبرودة الجو جعلت من صراخي يشعر بالخجل فنمت وأنا احلم بمداعبة دميتي الصغيرة التي اسميتها ووالدي سلمى الصغيرة على اسمي حين كنا نشاهد افلام الرسوم المتحركة كما تعودت معه من لحظات فراغ...

استيقظت وقد كان أبي يجري مسرعا بعيدا عن كل من يجري الى أن أنزوى مختبئا بربية وكثة من شجيرات دستنا الى حضنها، أطبق بيده على فمي ووجه الى وجهي حتى لا أسأل او أحدث صوتا، بعفويتي الطفولية امسكت بها في محاولة ناجحة لإزالتها قائلة: إن يدك قذرة لا تضعها على فمي، لحظتها كأن العالم قد توقف وهو ينظر لي وقد بانت نواجذه من الضحك مهتزا كأن رعشة أصابته صمتا وخوف ... ضمني الى صدره بقوة وهمس بأذني حسنا صغيرتي لن أفعلها مرة ثانية... وانتظرنا بعيدا عن من كان بركبنا ربما هو القدر الذي اختار لنا هذه الربية المنزوية...

زال الخطر الذي لم اره بعيني او أسأل عنه، علمت بزواله حين خرج والدي وهو يحملني من جديد وأنا فرحة بذلك كأني في نزهة أو لعبة جري... وكثيرا ما قلت له: بعد أن كبرت أني لن انسى تلك الاكتاف التي هرمت الان ووهنت عن حمل ثياب تقيلة، حينها اقبلها في كل وقت أراه غافيا على كرسيه المتحرك أمام المدفأة...

دفعني جوعي وعطشي لأن اطلب منه وهو يجري لهثا بقولي إني جاعة وعطشى، كما أني بحاجة للذهاب الى قضاء حاجتي، حسنا يا ابنتي اصبري قليلا أمسكي عليك نفسك فقط حتى نتجاوز ذلك المعبر القريب هناك أنظري وهو يشير لي بلسانه ... كانت المسافة بعيدة بالنسبة لي، لم يكن بوسعي الانتظار فحركت رجلي بشدة وبنزعة طفولية .... لا أستطيع أريد ان اذهب الآن... لكنه لم يجبني بل أمسك بقدمي ويدي ّ وشد على نفسة بالجري مسرعا فما عدت اسمع سوى لهاثه وضربات قلبه التي تصرخ وهي تدعو على لسانه توكلت على الله.... كانت كومضة بالنسبة لي حين رمى بنفسه الى الارض متقطع الأنفاس وهو يشير لي لقد وصلنا ... لقد عبرنا... لا أدري ماذا يقول أو يعني؟؟؟ لكني سألته وقد نسيت قضاء حاجتي ونفسي هلى أمي هناك تنتظرنا؟؟؟ توقف لهاثه فجأة، صمت كل شيئ فيه سوى تلك الدموع التي اثارت بركان نَبعِها فجأة فلم يستطع ان يخبئها او يوقفها... هنيهة بعد ان استعاد وعيه اتجه لي ليحملني دون ان يجيب على سؤالي.. لكني ابتعدت خيفة وانا أقول.. لقد بللت نفسي يا أبي عذرا لم استطع التحمل أكثر... رأيته يبتسم لي بحنو مجيباً : لا عليك سلمى .. لا عليك هيا لأغيرها ان استطعت ان اجد في جعبتي هذه غيارا لك غيرها او أرميها بعيدا عنك...

كانت لحظات محرجة لي وطبيعية بالنسبة لله ولي فهو والدي لذا لم اشعر بالخجل .... لا كذبت على نفسي لقد شعرت بذلك، لكن ما باليد حيلة وقد حاولت ان اقوم بالامر الكبير بنفسي حتى لا أُحرج أمامه، فوجدته غير مكترثا لحرجي وخجلي قام بما تمليعليه الأبوة وما أن أنتهينا حتى قال لي: هيا لنذهب فقد أوشكنا على الوصول رفعت يدي ليحملني... لكنه قال: لا سنير جنبا الى جنب أنه هناك ذاك هو ملاذنا الأخير، ذاك هو بيت غربتنا، حياتنا، طموحنا وأملنا لقد وصلنا بعد ان دفعنا الثمن غاليا... لم أفهم قوله لحظتها

وها هو.. وها أنا نجلس أمام التلفاز وقد وضع صورة والدتي التي خطفها الموت في لحظة جموح بحر ملعون والى الابد، نشاهد الآلاف ممن يسيرون على نفس خطانا، غالبا ما أرى ابي يبكي واشاركه الوجع، فقد طاف شبح التشرد والضياع والموت في داخلنا سكن جلدنا، بجوعنا بعطشنا برعبنا بعذابنا ... طاردتنا أشباحه في ليلة موحشة بسياط سجان زان...
ومنذ حادثة النزوح الى الوطن الجديد، اجده في كل صباح يخرج يحمل نفسه الى من يستطيع الوصول اليهم من اللاجئين ليقدم المعونة ... بترجمة او طعام او لوازم يستطيع ان يقوم بها عنهم أو يقدمها لهم...أراه سعيدا جدا بما يفعله، وانا لا زلت معه احتضنه عالما بداخلي واناديه بأبو سلمى دميتي التي لا زال يحتفظ بها لي مع مقتنياتنا القلية كذكرى من وطن طحنته رحى حكام طلاب عروش بنيت على جماجم شعب ضائع.. فحين نشتاق للوطن الأم و طفولتي التي لم أكبر عنها في عينيه يخرجها لنلعب معا حين نشاهدة معا الرسوم المتحركة الجديدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى