الخميس ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
بقلم عصام شرتح

من أوراق الموريسكي

تمهيد:

من المعلوم إلى درجة كبيرة أن حميد سعيد يطالعنا بكل ما هو جديد ومبتكر في مرحلته الشعرية؛فهو- على الدوام- يؤسس لمرحلة شعرية جديدة تختلف عما قبلها ؛وتضيف إلى ما بعدها؛ولهذا تحظى كل مجموعة جديدة يصدرها الشاعر باحتفاء إعلامي ونقدي كبير؛ وهذا ما شهدته مجموعته الشعرية (من أوراق الموريسكي)، التي صدرت عن دار دجلة، عمان، الأردن.

ولعل أبرز ما يميز هذه المجموعة أنها تخلق فرادتها اللغوية، وثوبها الإبداعي الخاص،وهذا لأن الشاعر حميد سعيد يملك مخيلة إبداعية خصبة وإحساساً جمالياً بالأشياء من حوله؛فهو يدرك تماماً أن الإبداع تجدد دائم، وعطاء مستمر؛ ولهذا يتأنق في كل مجموعة جديدة يصدرها ،في إبراز كل مفاتن اللغة، بما يحقق لقصائده التجدد والتميز، والإضافة؛ وهذا- بتقديرنا-لأن حميد سعيد يدرك تماماً أن التكرار عدو الشاعر، وعدو الشعرية؛لهذا،يتأنى في أيِّ عمل يصدره ألاَّ يكرر نفسه،لأن الإبداع أفق متجدد،والشاعر الذي لا يتجدد فلا بد أن يكرر نفسه، شاء أم أبى، وبالتدريج سيتلاشى أفقه الإبداعي، وستنحدر قصائده إلى هاوية التصحر والعقم الإبداعي؛ ولا نبالغ إذا قلنا: إن الكثير من التجارب الشعرية المتميزة فقدت الكثير من ألقها الجمالي بسبب هذا المطب الخطير الذي ما نأت عنه،فما عادت تملك ذاك الحضور وذاك البريق الفني؛ والأمثلة على ذلك كثيرة يدركها كل من له صلة بالشعر والشعرية؛ ويدركها حتى الشاعر نفسه، وتأسيساً على هذا نقول :إن المبدع الحقيقي ينأى عن هذا المزلق الخطير، ويتأنى في إصداراته، لتكون إضافته مهمة،وبصمته الإبداعية لماحة؛ وهذا ما وعاه وأدركه حميد سعيد في قوله:"إن المجموعة التي أصدرها تقترن بكل ما هو جديد فيها، ويميِّزها،فإذا عرفت أني ما عدت أجد ما أضيف إليها، أتوقف عن كتابة قصائد أخرى، وإذ أقدم المجموعة للنشر تكون فترة انقطاع للبحث والتأمل وتجاوز ما انتهيت منه، وتطول هذه الفترة إلى حين صدور المجموعة الشعرية الجديدة، حيث يتم تداولها، وتناولها نقدياً وإعلامياً،بعد ذلك أعود إلى الكتابة الشعرية، فأكون قد وجدت ما أضيف إلى ما كان قبلها وما يميزها؛ فالمجموعة الشعرية عندي ليست مجموعة قصائد تنشر بين دفتي كتاب، بل هي مرحلة في مسار تجربتي الشعرية"(1).
والواقع أن إدراك الشاعر أن الشعر ليس صنعة كلامية تقاس بالجودة الفنية، وإنما عصارة من دفق الروح،وعمق الرؤيا،جعله يسعى دائما إلى التأمل والاستجمام الروحي، لينهل من روافد جديدة تثير القارئ بمذاقها الخاص، وطقسها الإبداعي المميز؛ زاده في ذلك خصوصية اللغة، ومطواعيتها بين يديه،لدرجة يقينه التام أنه" ليس من نص إبداعي متميز،إلا ويقترن بلغة متميزة وثرية ،بل ليس من مبدع متميز، إلا وكانت لغته متميزة وثرية، والثراء اللغوي ليس الالتقاط الشكلي من بطون المعاجم،وإنما بتمثل عميق ، فيما قرأ المبدع وما سمع يوحد بين المعنى واللغة، فلا تفيض فتغمر المعنى؛ ولا تقصر فيبدو المعنى باهتاً، ولهذا؛فإن البنية اللغوية تأخذ أهميتها من تشكلها داخل بنى النص الأخرى، وفيما تحقق من إغناء 76تنمالنص ، وليس من حضورها الكثيف على هامش النص"(2).

وبهذه الرؤية الواعية لأهمية اللغة والدور البارز المنوط بها،جاءت قصائد (من أوراق الموريسكي) لتمتلك لغة مثالية تشبه نفسه المفعمة بهذه المثالية، والمشبعة بالشخصيات المفكرة والشخصيات المثالية المتعالية، بوصفها دلائل على مايجري في هذا الزمن ،لتكون شواهدَ على تراث العراق ومراحله الملحمية التي مر بها،ولهذا جاءت اللغة فائضة بهذه المثالية؛ ومشبعة بالروح المثالية؛ باختصار، جاءت لغته شبيهة لذاته وملتصقة بعالمه الوجودي،وهذا ما أفصح عنه قائلاً:(لقد اتسمت تجربتي الشعرية بتعدد المراحل ؛ واقترنت بمتغيرات وإضافات؛ ولأنني لا أكتب قصيدتي كما تأتيني بل كما أريدها واجتهد باستمرار حد الإرهاق، من أجل أن تنفرد بخصائصها، لابد أن تكون لغتها تشبهها؛ وبالتالي قد نشترك معاً في هذا الشبه)(3). وهذا ما يؤكد أن الشاعر يؤسس لحداثوية الرؤية، أو حداثوية المنظور،أوحداثوية الفكر الجمالي،لهذا حفلت قصائده في هذه المجموعة بالمكان أو مايمكن تسميته ب( المتغير المكاني )،ونكهة الأمكنة تصب كلها في بغداد رمز العراقة والتاريخ والحضارة منذ القدم؛ فالشاعر يحن إلى بغداد؛ ويرى فيها جذره الوجودي، ووجهه الناصع الجميل، ومها اختلفت الأماكن وتعددت فإنها تعود في جوهرهاإلى هذه المدينة التي توزعت في قصائده،وهذا ما أشار إليه الشاعر حميد سعيد :"

لقد اتسمت قصيدتي في جميع مراحلها وما شهدت من تحولات،بكثير من سمات التشكُل الواقعي، لا أقصد طبعاً ، استنساخ الواقع، ولا قول ما ينتظره الآخرون من قول ، واستقبال ما يعرفونه بشيء من التطامن الذاتي.
بل هو تشكُل إبداعي لا يحاصر بالوصف ولا يضيع في التجريد، وهذا التشكُل لابد أن يكون المكان من مقوماته الأساسية بالإضافة إلى مقومات أخرى، يستكمل بها النص الإبداعي تشكُله الواقعي."(4).
وهذا القول يؤكد أن الشاعر يستحضر الأمكنة الواقعية لكنها ليست الأمكنة الجغرافية أوالأمكنة الفيزيائية المحددة،بفضاء محدد؛ ففضاء الأمكنة في قصائد (من أوراق الموريسكي) مطلق أو مفتوح؛ وهذا يعني أن الفضاء المكاني يشمل المكان في الماضي والحاضر والمستقبل؛ ومن ثم فإن نظرة الشاعر إلى الأمكنة نظرة متحولة، متغيرة؛ ولهذا نجد بغداد في قصائده متغيرة ؛ تبعاً لإحساس الشاعر ونظرته الوجودية؛ومستحدثات هذه النظرة؛يقول الشاعر حميد سعيد في ذلك "

إني عمدت إلى رمز الموريسكي ، تحديداً فيما يعني من بعد عن فضاء الروح، الوطن والبيت وكل ما يشكل الذاكرة ، مكاناً وأناساً وأحداثاً وشواخص، وبغداد هي فضاء الروح الذي يختصر كل هذه المفردات التي أشرت إليها. وإذا كان الموريسكي القديم قد أبعد عن الفضاء الأندلسي ، فإن الموريسكي في قصائد الديوان هو الذي اضطر إلى أن يكون بعيداً عن الفضاء البغدادي ، وهو ليس بغداد المدينة المعاصرة حسب، بل هو الماضي والحاضر، وهو المستقبل ، لقد كانت بغداد في جميع منعطفات التراجع في التاريخ العربي ، هي المستقبل وهي وعد التجاوز".(5)

ويرى أن بغداد تمثل له الوجود والتغير والاختلاف، ولهذا عدد الشخصيات التي ترصد تطورها؛ ونوَّع في هذه الشخصيات؛تأكيداً على وجهها المختلف،ومسارها التاريخي الحافل الطويل بالهزائم والانتصارات؛ يقول الشاعر في ذلك:
"وفي هذه المفردة الإشكالية – بغداد – تجتمع عصور وأمجاد وانتصارات وهزائم، ويلتقي أبطال وشعراء وفلاسفة وصعاليك ، مؤرخون وموسيقيون وصوفيون وفقهاء وملاحدة و .. و.. لذا لابد من أن تتوزع على أكثر من مكان وأن تكون الشاهد على كل زمان، وهي التي علَمت القصيدة كيف تكون المزاوجة بين الزمان والمكان "(6).

وهذه المزاوجة هي التي حركت البعد الرؤيوي للفضاء الزمني والمكاني في قصائده؛ولا نبالغ إذا قلنا: إن المزاوجة في هذه المجموعة بين المكان والزمان، والواقع والمثال، والمواطنة والاغتراب،والمعاصرة والتراث،هي التي جسدت الحراك الرؤيوي في قصائده؛ بل أسهمت في تنويع الرؤى والدلالات المنبجسة عنها،وقد يخفى على القارئ والشاعر نفسه النبض الملحمي والأسطوري الذي يغلف فضاء هذه القصائد؛وهذا يعني أن قصائده تسبح بالرؤى الأسطورية دون أن تشير إلى أسطورة بعينها أو إلى ملمح أسطوري، وهذه الحنكة والمهارة الشعرية التي تسم أسلوب حميد سعيد ؛ فاللفظة تتجرد عن دلالاتها السطحية، وتتجرد عن مدلولها المباشر،والقصائد لديه تضعك في مناخات بعيدة عن جسدها اللغوي؛وهذا منبع أسلوبها الرؤيوي المميز في البث الشعري، ولن نذهب بعيداً إذ نقول:إن لكل قصيدة من أوراق (الموريسكي) مناخها الإبداعي الخاص، وبصمتها الرؤيوية المميزة، وهذا يعني أن الدلالات وإن اتحدت بدلالة كبرى أو عظمى(الإنسان المعذب)،أو (الموريسكي المعذب أو المطارد على حد تعبير أحدهم )فإن لكل قصيدة نسجها الرؤيوي المنغلق على ذاته، وهذا منبع قراءتنا الاختلافية لنسف كل ماقيل في(تأويلات نقدية) من مطامنة لفضاءاتها المتحايثة حسب منظوراتهم المتسرعة وقراءتهم المبتسرة التي لم تدخل رحم المعنى، وجوهر الرؤية من الصميم؛ولا أعني بذلك عقم هذه الدراسات، ولكن أعني أنها اشتعلت على المعنى المقارب أو المباشر، ولم تشتغل على المعنى الماورائي البعيد، وهذه مشكلة عامة في الكثير من دراساتنا النقدية،أنها تطامن للجسد اللغوي ولا تطامن للجسد الروحي،أو للنبض البصري،أو للغليان الرؤيوي الذي تبثه القصائد، ومادمنا في فضاء القصائد الموريسكية فلا بد أن نعترف أن هذه القصائد منغلقة على عالمها الوجودي، وفضائها الرؤيوي ، وهذا ما جعلها متأبية عن التنميط أو التحديد،وهنا تكمن قيمتها وعظمتها الإبداعية.

وما ينبغي الإشارة إليه قبل الولوج إلى الطقس النفسي والشعوري لهذه القصائد،أن هذه القصائد مشغولة على الجسد الرؤيوي أكثر من الجسد اللفظي، وهذا يعني أن محمولها اللفظي ينوء بثقل محمولها الرؤيوي، لأنه أشد كثافة، واشتغالاً عليه، وهذا ما أوقع الكثيرين منهم في مقاربة اللغة، وجرفتهم عن منعرجات الإبداع الحقيقي في قصائد الديوان،ولا أعني بذلك التقليل من الشأن الإبداعي لهذه اللغة، وإنما أعني أن موجهات الإبداع الحقيقي تقع ما خلف اللغة،ماخلف منسوجها اللفظي؛ وهذا ما سنحاوله في هذه المقاربة النفسية لقصائد هذه المجموعة دون أن نغفل الجانب اللغوي الذي يأتي في المرتبة الثانية،بعد الجانبين النفسي والرؤيوي، مؤكدين رؤيتنا الاختلافية هذه وفق ما تحثثناه في بنياتها الدالة وقواها الرؤيوية الفاعلة.

أولاً- القوى الرؤيوية الفاعلة في (القصيدة المقدسية):

إن لكل قصيدة شعرية قوة رؤيوية تحكمها أو مجموعة قوى بؤرية توجهها شأنها في ذلك شأن الخلية الحية، أو الجسد الحي الذي تحكمه مجموعة قوى ومحركات باطنية لا تطفو على السطح، مباشرة ولا تظهر للعيان، وهذه القوى الخفية أشد تأثيراً على النبض الروحي للقصيدة، من مؤثرها اللغوي؛أو اللفظي العائم، صحيح أن القصيدة موجهة بعلاماتها اللغوية صوب القدس، وهي أشبه بقصيدة رثاء الأماكن، أو رثاء المدن، كلما لاحظناه عند الكثير من شعراء العصر المملوكي،لكن تحمل في طياتها رائحة الأمكنة المقدسة، وعبق التراث العراقي، ولا نبالغ إذ نقول: إنها تجاوزت موضوعها، لتدخل في نطاق كل الأمكنة المقدسة في الحضارة العربية والوجود العربي، خاصة التراث العراقي بكل مافيه من تقديس للمكان، وذكرى وحنين إلى العراق، وزمنها الماضوي المقدس،فأتى العنوان بإشارته الدالة بمثابة الشرارة القادحة التي تبين موضوعها المخصص صوب القدس، والقصيدة المقدسية هي احتفاء بالأمكنة المقدسة والتراث العربي الديني وجوداً وحضارة وتاريخاً، ولعل أبرز الجوانب المضيئة في القصيدة اختفاءها بالصورة المكانية المتحركة لا الصامتة، والصورة المكثفة للأزمنة الماضوية المشرقة أكثر من كونها رثاء للأمكنة الحاضرة، أوالزمن الحاضر، وهذا الدمج الفاعل في القصيدة بين الأمكنة الماضوية،والأمكنة الحاضرة، والأزمنة الماضوية والأزمنة الحاضرة هو ما يمنح القصيدة تعدد مؤشراتها الدلالية وتجاوز موضوعها لتدخلنا أتون فضاءات الأمكنة البغدادية بكل مافيها، وفضاءات الطقوس البابلية الأسطورية بكل موحياتها ومؤثراتها، لدرجة أن الأمكنة فيها أمكنة بغدادية وليست أمكنة أخرى لبنانية أو ما شابه، ولانبالغ إذ نقول إنه ذوّب الأمكنة كلها في حيز الأمكنة العراقية والتراث العراقي، ولذلك تجاوزت القصييدة موضوعها وزمنها، لتخلق طقسها الزمني المفتوح وفضاءها المكاني الشاسع أو الممتد، وبتدقيقنا في البنى و المؤشرات الفاعلة في القصيدة نلحظ أن أول هذه القوى الفاعلة الطقس الأسطوري الخفي الذي تضعنا فيه هذه القصائد من أول قصيدة في هذه المجموعة؛ وهي (القصيدة المقدسية)،وتعد هذه القصيدة علامة أيقونية في تحفيز المناخ الأسطوري ، ولو أمعن القارئ الحصيف في البؤر الرؤيوية العميقة المؤسسة لها لأدرك نكهة الأمكنة الأسطورية مشبعة بهالة تقديسية تذكرنا بالطقوس البابلية القديمة والعادات المتبعة في ممارسة هذه الطقوس؛ وكأن الشاعر يستحضر بغداد الأسطورة بنكهة ماضيها العريق وأمكنتها المقدسة؛وزمنها الحضاري القديم ؛ وليست الأمكنة الخاصة بفلسطين أو القدس؛ ولهذا،يقف على كل أثر من ماضيها، بنكهة إجلالية تقدسية تحمل الكثير من الروحانية والتهدج الروحي ،إذ يقول:"

لحجارتها لغةٌ
وُلدت في ظلال النبوّاتِ
واكتهلتْ في نصوص السماءْ
فإن فَتَرَ الوحيُ .. نادتْهُ
أقبِل .. ومدَّتهُ بالعنفوانْ
هي أوَّلُ معجزةٍ .. وحدَّت بينَ القراءاتِ"(من أوراق الموريسكي ص10)

لا بد من التأكيد بداية أن القوة الفاعلة في هذه القصيدة وقصائد المجموعة كاملة هذا التنوع في فضاءاتها الدلالية، وهذا الحراك الموروثي في تعزيز الرؤى المعاصرة،وأول مفاصل القوى الفاعلة أيضاً هذا التنوع في شكل القصيدة،وهذا التلاعب الفني باللغة الشعرية والإحساس الحيوي بها، ودليلنا أنه لم يطور اللغة الشعرية بوصفها جسداً فنياً مقنناً لهذه الغاية دون أن يتعداها؛ وإنما طور اللغة بوصفها محور الرؤية الوجودية ومحور إثارة التراث بمنظار حداثوي متجدد؛
والواقع أن الشاعر بلغ في تقديسه للمكان في هذه القصيدة حدَّ التصوف،وهذا يعني أنه يؤمن بالقيمة الروحية والنفسية التي يبثها التراث في خلدنا إيمانه بقوة المعاصرة التي نلهث وراءها؛ لهذا لم يقف من التراث موقف الإلصاق والتمثل الخارجي ،وإنما وقف من التراث موقف الفاعل والمنفعل به، فهو حرَّك التراث بمنظور( حداثوي- تراثي) ، وهذه هي المعادلة الصعبة التي نلحظها في كل قصائد المجموعة، ولانبالغ إذا قلنا: إنك ترى المعاصرة بعين التراث، وترى التراث بعين المعاصرة؛ وليس ذلك فحسب،بل ترى وتتحثث نكهة الأمكنة بالأزمنة، ونكهة الأزمنة بالأمكنة في سيرورة إبداعية، متطورة، وهذه هي المعادلة الصعبة التي استطاعتها قصائد هذه المجموعة، وقد لا أكون مبالغاً في قولي :إن اللغة الشعرية عند حميد سعيد- لغة مشبعة بالنكهة التراثية، مشبعة- كما أشرنا – بالمراسيم والطقوس البابلية القديمة،وليس ذلك فحسب ؛بل لغته مهوسة بنمطها اللفظي الخاص من مجانسات لفظية، ومزاوجات صوتية،ومتوازيات لغوية،تدخل في صميم الصورة، أو لنقل: تدخل من بوابة الحدث التاريخي أو الصورة التراثية المستحدثة،فهو لايعشق التراث بوصفه حدثاً ماضوياً منتهياً،أوصورة مسقطة على واقع قمعي متفسخ،وإنما يعشقه بوصفه كوناً وجودياً منفتحاً، ورؤية شاملة، وهذا يؤكد أن عشقه للتراث ليس حالة آنية سرعان ما تذبل وتنتهي، وإنما حالة وجودية مستمرة إلى مالا نهاية، فهو يعي أن خلف الإشارة التاريخية، إشارات كونية، تجسد الوجود الكوني برمته، ولهذا، يُحَمِّل الصورة التاريخية أو حتى الإشارات التراثية دلالات جديدة تنوء بها المفردات ذاتها، وكأنها تختصر مرحلة كاملة، ومن أجل هذا يصعب على متلقي قصائد حميد سعيد أن يركن لدلالة محددة أو رؤية ، وهذا مصدر من مصادر صعوبة تلقيها ، والكشف عن مضمراتها الخفية،ومن هذا المنطلق،يجاهد حميد سعيد أن يثبت تطور مساحة الرؤية لديه من مرحلة لأخرى، ومن قصيدة إلى قصيدة، ليؤكد أسلوبه الخاص ونظرته الوجودية العميقة.

ولو عدنا إلى سياق القصيدة المقدسية لتأكد لدينا حقيقة مهمة أشرنا إليها، وهي أن نكهة المكان في قصائده مرتبطة بنكهة الزمان، وحركة الوجود، لهذا تبدو الأمكنة لديه شخوصاً حية، وشواهد على ما يحدث ويجري،صحيح أن الشاعر وظف الكثير من الشخصيات المثالية في قصائده ليس ليخلق الواقع المثال كما يظن القارئ، وانما ليولد الروح المثالية المغتربة، لهذا غربته لم تكن غربة مكانية، وإنما غربة وجودية، يقول الشاعر في تأكيد ذلك:

" إن غربتي ليست غربة مكانية، وإن كانت تسكن الذاكرة في تجلياتها الواقعية والمتخيَلة، وهي تستحضر ما كان، وهي غربة بفعل حال، وحين تقول الروائية البريطانية " إيريسميردوخ" حين وصل بها الحال إلى عدم القدرة على الكتابة " " أنا في مكان أحاول الخروج منه، فهي تعني الحال الذي هو فيه، وليس المكان.

إن حال بغداد الذي تكرس في ظل الاحتلال الأمريكي وحلفائه من رموز جاهلية الجهلاء ، وهو حال يتجاوز المعقول كما يتجاوز المتوقَع والمتخيَل، هو الذي يشكل حال الغربة التي أحسستَ بها في قصائدي، إنها غربة وجودية ، تتشكَل في محيط سلبي ، أواجهه بوعي إيجابي ، حيث أحاول الخروج منها، إلى أفق إنساني كريم."(7).

وتأسيساً على هذا،جاء إحساسه بالمكان مغترباً رغم تقديسه،وإلباسه لبوساً روحانياً مقدساً، وكأن القصيدةموجهة لهذا الغرض، وهو التصوف؛إذ يقول:"

لأريج البيوتِ العتيقةِ فيها
أناشيدُ محفورةٌ في البيانْ
وملحمةٌ
بدأت منذ كان الزمانْ
وتبقى مباركة....
تتجلى على عرشها الأرجوانْ
(من أوراق الموريسكي ص12).

إن ثمة ولعاً في تحريك الأمكنة وإكسابها هالة من القدسية، وكأن المكان - لديه- سر إلهي مقدس،أو رمز صوفي يستدعي الكثير من الدفق الروحي،إذ يطالعنا الشاعر بنفثة شعورية اغترابية عميقة، كلما تحثث أي ركن مكاني، ولهذا أسند لفظة ( الأريج)إلى البيوت تدليلاً على الروحانية والتقديس لهذه الأماكن ، فهي مجلى الروح في صفائها وسكونها وسموها المطلق ، فالذي يكسب الأمكنة شعريتها إحساسنا الجمالي بالأمكنة؛ والتصاقنا الروحي بها،وشغفنا بما تحمله من مشاعر وأحاسيس ممتزجين بعبير الأمكنة،وذكرياتها التي لا تنسى، وهذا دليل أن المفصل الشعوري الذي ترتكز عليه هذه القصائد هو المكان بفضائه الروحي الممتد،وإن القارئ الحصيف يدرك منذ الوهلة الأولى أن هذه القصائد معجونة بعبير الرؤية الصوفية وممتزجة بدماء الأساطير،ونكهة التراث بروح معاصرة لا نعدم ثوبها الحداثي وشحوناتها الروحية المشبوبة.وهذا دليل أن ولع الشاعر بالتراث الديني ليس وليد إجلال وتقديس فحسب ، وإنما وليد التصاق روحي بالتراث العراق وتواريخَ غائبةٍ .. وكل مايحمله هذا التراث من حضارة وعراقة وهوية وجود، ولهذا، توزعت الأماكن في قصائده،للدلالة على الزخم الروحي الذي تحمله، وحجم الأسى والاحتراق،كلما استرجع مكاناً،أو مرت أطياف ذكرياته على مرآة عينيه، ليغدو المكان أسطورته التي يبحث عنها، إذ يقول:

" فَعنْ أيِّ أسطورةٍ يبحثونْ ؟
أيُّها المسجد ُ الذي كان قبل الزمانِ ..
ترآى لمن سيكونْ
 
وصلّى على أرضه الأنبياءُ . .من قبل ما يولدونْ
وكانت فلسطينُ... سجادةً في السماواتِ والأراضين
من عبيرٍ وطينْ"(من أوراق الموريسكي ص13).

إن رغبة الشاعر جامحة إلى خلق المزاوجة بين الماضي وما يمثله من أوجه القوة والحضارة والعراقة، والواقع الراهن و ما يمثله من تصدعات ورؤى وانهزامات وارتكاسات ظالمة،وهذا يدلل على أن حميد في (القصيدة المقدسية) يؤسس لما هو شعري ومثالي سواء في أماكنه أو شخوصه،يقول:"
لقد كنت باستمرار أحاول أن أذهب إلى أقصى ما تنفتح عليه الشخصية المثالية ، لكن هذه المحاولة، غير معنية بقيود ثنائية المادي والمثالي، إذ لطالما كنت ضد جميع القيود، وبخاصة حين تكون نظرية.

إن جميع الشخصيات التي أحببناها وتمثَلنا مواقفها،حيث يكون عطاؤها بلا حدود ومن دون مقابل وبلا حسابات، وعلى سبيل المثال ، ألم يكن أبو ذر الغفاري مثالياً ؟ ومن أمثلة عصرنا ألم يكن جيفارا مثالياً؟

بل أستطيع القول ، إن جميع المناضلين والشهداء والمقاتلين الشجعان، مثاليون، بهذا القدر أو ذاك ، لذا من الطبيعي أن تتمثل شخصية الموريسكي ، هذا الجمال المثالي"(8).

وهذه المثالية هي التي أضفت على قصائده نزعة صوفية، تميل إلى تكريس المسميات المقدسة كما في قوله:
لاأخالُكِ إلاّ كما أنتِ .. من صلواتٍ ونورْ
وما ترَكَ الغاصبونَ على صفحات كتابِكِ مايَسطرونْ"(من أوراق الموريسكي ص14)

ولم يكتفِ الشاعر بالمسميات تدليلاً على نظرته المثالية ؛ وإنما راح يتحثث اليقين، وهي الغاية العظمى التي يبحث عنها المتصوف في سعيه الدؤوب للوصول والالتصاق، وبهذا المنزع الرؤيوي يقول الشاعر:

لا أخالك إلا كما كنتِ
من جنتين اثنتين... تقبلين
السرى والقيا مة..
أما الذين .. يريدون أن توغلي في الكهانةِ
أو توغلي في المهانةِ..
فانتبذي دونهم .. وطناً ساحراً
واصعدي في معارجكِ ..اقترني باليقينْ"(من أوراق الموريسكي ص16).

إن الشاعر يريد يقيناً صادقاً يصله بالمطلق؛ وهذا اليقين يصله بكل ما هو قدسي ومثالي ومطلق؛وإذا كان الشاعر في بداية القصيدة قد أسس لما هو وجودي، وتاريخي، وأسطوري في فلسفته الوجودية، فإنه أسس فيما بعد، لما هو صوفي وكوني ووجودي وديني في سياق القصيدة؛ ولهذا نجد عمق المضاضة وشدة الألم، رغم إيقاع السرد الهادئ الذي يخفي هيجاناً رؤيوياً مشبعاً بالثورة والنفي والاحتجاج.

وما يميز حميد سعيد في (القصيدة المقدسية)أنه بناها على علامات رؤيوية فارقة، هي اعتصار روح الثورة، والتمسك بالتراث، وتقديس المكان، والعروبة، والتمسك بالماضي العربي المشرق لأمتنا في مجدها العظيم.
اعتصار روح الثورة:

إن القصيدة تحث الرؤى الثورية، وتبحث عن عصيانها وتمردها الوجودي؛ وهي ترسم زمنها الإبداعي الوجودي الخاص،وتؤكد أن عظمة الأمة بالحضارة والمثل العليا التي تمتلكها ولهذا جعل شخوصه في(من أوراق الموريسكي) مثاليين كذلك

وهذه المثالية لم تقلل من الدور الفاعل لهذه الشخصيات،وهنا تكمن جسارة الرؤيا المثالية في التعبيرعن ديقراطية العراق في الكثير من مراحله التاريخية، ويرى في أمته الوقار والعظمة والكبرياء،إذ يقول:(

أنت التي علمتنا... كيف يكون الحوارْ
بين جارٍ وجارْ
وليس مع المفترين على أرضنا والذمارْ"(من أوراق الموريسكي ص16)

والقصيدة لاتبحث فقط عن ثورة قوميةأو وطنية ، وإنما تبحث عن ثورة وجودية، وهذه الثورة تعري كل مظاهر الوجود السلبيةكافة،وليس فقط فساد المجتمع واتضاعه، وقد سبق أن أشرنا: أن ثورة الشاعر ثورة روحية وجودية تؤسس لكل ماهو حر،إنها تبحث عن ذات حرة وعالم حر، ووطن ديمقراطي واعٍ يعيش في كنفه، معافىً من كل أشكال التسلط والظلم والفساد، وهذه جوهر نظرته المثالية، التي قادته أن يصور الواقع المتخيل ، وليس الواقع السلبي الهش المتضعضع بالفساد والغش والنفاق، إنه يبحث عن وطن يمتشق بالكبرباء والعزة والشموخ يكون أشبه بالنجمة المضيئة في سماء العزة والكرامة والإباء، وهذا ما أظهره لنا في قوله:

" إنها النجمة المضيئة حيث يكون الأفول
الحصانُ الرزانُ البتولْ
أمنا..
بكرُ ملاحمنا.... وقصيدتنا والنشيد الجليل"( من أوراق الموريسكي ص11-12)

ولا يستحث الشاعر الرؤى الثورية الانفعالية الساذجة، وإنما يستحث روح الثورة الوجودية بكل مافيها من التمسك بالهوية والانتماء، بل جعل التراث بمعالمه وشخوصه شاهداً على هذا التشبث والانتماء،والدليل على ذلك قوله:"

وكانت فلسطينُ من عبيرٍ وطينْ
.. سجّادةً في السماوات والأرضينْ".(من أوراق الموريسكي ص13)

ويتابع الشاعر هذه الروح الثورية الانفعالية بجسارة، مؤكداً عظمة هذه الأمة التي تتمسك بالمقاومة حتى الرمق الأخير، ويرى أن ما يرفع شأن هذه الأمة قديماً حضارتها المشرقة وتاريخها العظيم:"
واصعدي في معارجكِ ..اقترني باليقينْ "(من أوراق الموريسكي ص14)

وهذا يعني أن روح الثورة المتمردة تضطرم في داخله، وروح الحماسة والتمسك بالأصالة تجري في دمائه،وتعد القصيدة المقدسية قصيدة الهوية الروحية للأصالة والتمسك في التراث،والعودة إلى الجذور ،إلى التمسك بنكهة التاريخ والأجداد،لهذا حفلت المواضع بهالة من القدسية والجلال، تقديساً لهذا الأرث الوجودي المعطاء.

التمسك بالتراث وتقديس المكان:

لاشك في أن للأمكنة أهميتها ودلالاتها في فضاء القصائد المعاصرة، ومن ضمنها هذه القصيدة،فالشاعر يدرك أبعاد المعاناة وخلفيتها، متمسكاً بالتراث كهوية انتماء ووجود، وهذا التمسك بالتراث له خصوصيته الروحية ودفقه الشعوري المتقد،وبعده النفسي الوجودي الشامل،إذيقول:

في كلِّ منعطفٍ موكبٌ .. يتغنى بما قيلَ فيها
وفي كلِّ معترَكٍ كوكبٌ .. يتعَثَّرُ بالشكِ ..
في مايقول الرواةْ"(من أوراق الموريسكي ص13)

وهذا التقديس للتراث استتبعه تقديس للمكان، والأمكنة تتضمن كل مظاهر الشوق والحنين والرغبة والتجاوز،خاصة أن الأمكنة هي التي تطبع الشاعر بطابعها؛ لأنها معجونة بدمائه ووجوده، والدليل المرجعي على ذلك قوله:

"لأريجِ البيوتِ العتيقةِ فيها..
أناشيدٌ محفورةٌ في البيان...
وملحمةٌ...بدأت منذ كان الزمان"(من أوراق الموريسكي ص13)

وهذا التقديس للمكان هو الذي أضفى على القصيدة طابعها الصوفي وإحساسها الروحي العميق،لدرجة أن كل جزئية من جزئياتها تمثل حركة وجودية لاغنى عنها في الإثارة والتحفيز؛وهذا دليل أن الأمكنة لديه هي كينونة وجود ، وبصمة انتماء، ولهذا،فإن حنين الشاعر للأمكنة هو حنينه للمدن العراقية التي كانت مركز حضارة الأمة، ومركز ازدهار الحضارة العربية على مر العصور وتوالي الأزمنة،ولهذا توزَّعت بغداد في قصائده لتشكل علامة أيقونية دالة على تمسكه بالمكان، وتمسكه بالحضارة العراقية والتراث العراقي،لأن بغداد كانت ومازالت مركز العلم والفقه والأدب والمعرفة والثقافة، تجرُّ إليها طلبة العلم من أصقاع العالم لما تمتاز به من حضارة وعراقة وقيمة ثقافية وجودية متطورة في التاريخ.
الحنين إلى الأزمنة الغابرة

إن العلامة الرؤيوية الفارقة في (القصيدة المقدسية) هي الحنين إلى الزمن العراقي العريق،بما فيه من أمجاد وبطولات وانتصارات عظيمة، فكما أن الموريسكي يحن إلى أماكن عريقة لا مستعادة فإن الشاعر يحن إلى أماكن مشرقة صعبة الاسترجاع أو العودة؛ فالموريسكي يحن إلى مدينته التي أُبعد عنها مرغماً، وكذاك حال الشاعر يحن إلى بغداد التي ارتحل عنها قسراً، وكلاهما يبحثان عن أزمنة لا مستعادة، وهذه قمة المفارقة والأسى والاغتراب الوجودي،أن تفقد الأمكنة وتفقد لحظات استرجاعها ؛ولهذا غلب على الأمكنة لديه هالة التقديس والعظمة إجلالاً للأمكنة وتعظيماً لذكرياتها القديمة اللامستعادة،فهاهو يجثو على ركبتيه يتحثث معالمها ، ويبارك حجارتها، مسترجعاً ذكرياتها العظيمة ومجدها الغابر، وهذا ما نستدل عليه من قوله:

" لحجارتها لغةٌ
ولدت في ظلال النبوّات
واكتهلتْ في نصوص السماءْ
فإن فتر الوحيُ.. نادتهُ
أقبِل...ومدّته بالعنفوانْ

هي أوَّلُ معجزةٍ.. وحدَّت بينَ طيفِ القراءاتِ"(من أوراق الموريسكي ص 10)
إن القارئ يلحظ هذا التشبث بالمكان،وهذا الإجلال والمباركة في تحثث جزئياته الصغيرة، فالمكان ليس حيزاً جغرافياً،أو مساحة فيزيائية كما أشرنا، إنه صيرورة وجودية،أو كينونة أصالة وانتماء،ولهذا، ربطه بالتراث الديني ، ولو بحثنا في المعجم اللغوي،لهذه القصيدة لوجدنا الكم الغفير من المفردات يصب في الحقل الديني، وللتمثيل على ذلك، نورد قائمة بالمفردات الدالة كبنى فاعلة دالة على هذا الاتجاه( صلوات، نور،يسطرون،اليقين،معراج، النشور، جنتين،السرى القيامة،انتبذي،كتاب، المسجد، السماوات،الأراضين،صلى، عبير ،طين،يرجم،الوحي ، معجزة،النبوات، موكب، رسول، معجزة، الجليل،يفقهون) .

وهذا دليل المنزع الصوفي في تقديس المكان تقديساً للوجود العراقي والحضارة العراقية ؛ ولا نبالغ إذا قلنا:إن عنونة القصيدة ب( القصيدة المقدسية) جاء عن وعي مقصود بالإشارة إلى هذا الجانب الذي أغفله الدارسون، وهي تصلح أن تكون في حقل الأرث الصوفي المعاصر بنكهة (تراثية- حداثوية) إن جاز التعبير، ووفق هذا التصور،اشتعلت القصيدة على كل مايملي الجانب الروحي ، وحضور الموريسكي فيها حضور الغائب / الحاضر، غابت شخصية الموريسكي المقنعة لتحضر شخصية الشاعر المثالية التي جذرت هذه المثالية بثوب صوفي،ولو دقق القارئ في هذا الجانب تحديداً لوجد العجيب العجاب من الصور الصوفية التي تحلق بالمرء إلى أمداء روحية لا تحد، وللتدليل على ذلك نأخذ المثال البسيط التالي:

واصعدي في معارجك.. اقترني باليقينْ
لا أخالكِ...إلا كما ستكونين..
هادئةً
بانتظار الرياح التي لم تعد في الجوارْ
إن هذا الوقارْ
من سجايا الكبارْ"(من أوراق الموريسكي ص16-17)

إن المتفحص هذه الأسطر يلحظ نفثها الصوفي، ودفقها الروحي المشبعة إجلالاً ووقاراً،وكأننا في محراب مقدس،أومَعْلَم ديني،يشعر إزاءه المرء بالهيبة والوقار، هذا المنظور هو الذي لازم الشاعر كلما استرجع أثراً أو معلماً من معالمها،أو موضعاً من مواضعها، فالقصيدة تشي بهذا الإجلال الرهيب،والتقديس لكل ركن أو زاوية أو حجرة من جحارتها،لأن العراق موطن الأمجاد والحضارة على مرالتاريخ مهما توالت الأزمنة.

التحدي والإصرار:

تنطوي القصيدة المقدسية على كل دلائل التحدي والإصرار على الصمود والمواجهة، وهي القوة الدافقة بالثورة، والتمرد، والعنفوان؛ ولا نبالغ إذا قلنا: هي المحرك الخفي لمعظم الرؤى الأخرى الموجهة لحراكها الدلالي،باختصار: إن الإشعاع الثوري المتوهج،هو القوة الموحية التي توجِّه سيرورة الدلالات؛ وتنشِّط رؤاها الباطنية العميقة، وهذه الثورة لا ترتد إلى الجسد اللفظي، إذْ إن إيقاع المفردات هادئ، لا ينم على الصخب الثوري ونيرانه الموقدة،وإنما ترتد إلى احتدام المشاعر الاغترابية، وإحساسها المتوتر، كما في قوله:

إنَّ الذين يرَونَ مفاتِنها .. في البياناتِ .. لايفقهونْ
ومَن يدَّعون إنَّ الأساطيرَ مهرُ بكارتِها ..
كاذبون
إنَّها لحظَةٌ ..أبدعتْها العروبةُ واستوطَنتْها . .
فَعنْ أيِّ أسطورةٍ يبحثونْ ؟"(من أوراق الموريسكي ص12-13)

إن روح التمرد و الإصرار على المواجهة، تعد بؤراً دالة على مستحدثات القصيدة، في حركتها الدلالية؛فالعراق لا مهر له إلا البطولات والأمجاد،ولا مهر له إلا ،
إن رغبة الشاعر في تبئير الرؤية صوب الحضارة العراقية جعله يجذر رؤيته المثالية على تقديس الأمكنة إجلالاً لدورها التاريخي ومجدها العظيم ،وهذا يعني أن روح التمرد والثورة في القصيدة ماثلة في هذا التحدي العظيم ،والإصرار على تكريس القيم الحضارية المثلى في هذا البلد العظيم الذي مايزال مهد الحضارة منذ الأزل.
إذاً، إن العلامة الرؤيوية الفارقة التي تنبني عليها ( القصيدة المقدسية) تتمثل في تأجيج الروح الإغترابية من جهة، وتكريس مظاهر الصمود والتصدي أمام حاجز الاغتراب الوجودي المؤلم من جهة ثانية؛فالموريسكي غاب كرمز في القصيدة، ليحلَّ بديلاً عنه الشاعر بكل احتراقا ته وعذاباته الوجودية، وماينبغي الخلوص إليه أخيراً:

إن القصيدة المقدسية هي في المحصلة بحث عما هو خفي وباطني في أعماق ذات الموريسكي المضمرة، وذات الشاعر الظاهرة، بحث جامح عن كينونة وجودية حرة ، مثالية متعالية في قيمها وأحلامها الوجودية، ومثلها العليا، ومقصودها الوجودي، ولهذا غلب عليها الجانب الروحي مقارنة ببقية الجوانب.

ولابد من الإشارة أن الرمز الموريسكي رغم إضماره، لكن تمثل شخصية الشاعر في بحثه عن هويته الجديدة في ظل تلا شي القيم وانهيارها وخسرانها المفقود المدعم بالغياب، وهذا ماحاولت القصيدة أن تناوشه في دلالاتها ورؤاها مجتمعة.
2- العلامات الرؤيوية الفارقة في قصيدة( تجليات علي الجندي):

سبق وأشرنا: إن قصائد( من أوراق الموريسكي) بانوراما أحداث ورؤى ودلالات،ومؤثرات وأيدلوجيات وصراعات ومذاهب ومعتقدات، ولا تجد دلالة واضحة ومدلول أحادي تقف عليه، وهذا ما يجعلها دائماً عرضة للإغواء والإغراء 5والتشويق ،والتفكيك، وقد أشار حميد سعيد إلى ناحية بغاية الأهمية؛إذ يقول: " إن الكثير من النصوص الشعرية التي تبدو جميلة ومقبولة لا تستهوي النقاد ولا يجد فيها الناقد ما يستدعي قراءة نقدية".(9 )(ملفات حوارية في الحداثة الشعرية ص313).

والنص المبدع يجب أن يتضمن كل ذلك،فالإبداع شبكة من الرؤى والتطلعات، والمواقف والأحاسيس المتضاربة،فهو في انفتاح دائم وتحفز إبداعي مستمر،ولو بحثنا في قصيدته الثانية:( تجليات علي الجندي) المهداة إلى صديقه الشاعر السوري علي الجندي لأدركنا أن مسارها الرؤيوي يختلف تمام الاختلاف، فحميد سعيد –في هذه القصيدة- لايتكئ على حرارة العاطفة وجيشانها المحتد،إنه يتكئ على وقع الكلمة في نسقها بما تفضيه نفسه التواقة إلى إثارة المتعة اللغوية في مسار( فني –رؤيوي)يشي بأبعاد دلالية ورؤيوية عميقة، وهذا ما سنظهره في سياق الكشف عن أهم العلامات الرؤيوية الفارقة في هذه القصيدة، ولكن قبل الكشف عن هذه البؤر الدالة في القصيدة نشير إلى ناحية مهمة ، وهي:إن حميد سعيد يؤسس لما يسمى شعرية( الرؤيا) أو شعرية( الغياب) أو شعرية ( الفقد)،فهو في جميع قصائده يبحث عن الغياب ، وكأن شيئاً ما مفقودٌ لديه لا يستطيع تحصيله أو التقاطه،وما أصعب عذابات المرء عندما يبحث عن وطن ضائع وحلم مفقود، لا مستعاد، وكم معاناة المرء شديدة عندما يرتحل المغترب إلى بياض الصمت ليشير إلى ما في داخله من دون أن ينطق، وبياض الصمت عند حميد يتخلل كل مفرداته وتراكيبه الشعرية ، وليس ذلك فحسب، بل يتخلل الفراغ نفسه، وكأن شيئاً ما في داخله يستحيل الامتلاء، وهذا يعني : أنه ثمة مساحات بيضاء تتخلل خلجات روحه لا أحد يستطيع إرواءها أو حتى ملء فراغها، ومن أجل هذا فإن شعرية البياض عند حميد تشكل مفصلاً مهماً في القصائد الموريسكية،وهي تكشف بشكل مباشر عن عذاباته الوجودية وحنينه المشوب بالحرقة والألم دون أن نلحظ حسرات الشكوى بارزة في هذه المفردات ولكنها ماثلة في بياض الصمت ، ولهذا ، فإن بلاغة البياض في قصائده تفوق بلاغة السواد، وهذا لأن الكثير من مساحات الخواء الروحي تجترح عالمه الوجودي، وتحتل الحيز الأكبر من مستويات إنتاج الدلالة في قصائده،ولا نبالغ إذا قلنا : إنه يبحث عن وجوده المفقود ، عن حلمه الضائع وزمنه القديم ، وما تقديسه للأماكن في القصيدة المقدسية إلا تقديساً لهذا الوجود الذي انطوت صفحاته ؛ وما عاد يؤذن بالعودة أو يبزغ للوجود،ولهذا سكن الخواء في قصائده كما سكن خلجات روحه من سابق.وعندما أشير إلى شعرية البياض في قصائده الموريسكية فإني أشير إلى جوها النفسي وبعدها الرؤيوي الوجودي الذي تعد شعرية البياض أو الصمت رأسه في الإشارة والتدليل، ذلك أن الصمت الذي يحيق بجمله الشعرية لكفيل بالدلالة على كثيرمن الرؤى الغارقة في فضاءات روحه المعتمة بالحرقة والمرارة والعذاب التي قادته إلى هاوية النفي والاغتراب.

ومن تدقيقنا في البؤر النصية الفاعلة في قصيدة(تجليات علي الجندي) لحميد سعيد توصلنا إلى أهم البؤر النصية التي تحكمها،بل تحكم القصائد الموريسكية جميعها، وهي:

شعرية البياض:

إن شعرية البياض قيمة ولا أهمية عن شعرية السواد في الكشف عن مسار الرؤية الشعرية، خاصة إذا أدركنا "أن توزيع البياض والسواد على الصفحة، يسير في اتجاه توزيعها على السطر نفسه، ذلك أن اكتساح السواد" تواصل، سمك الخط، ضيق الفواصل" يبرز الموقف الانفتاحي، والحاجة إلى ملء الزمان والمكان بأشياء خارج الذات، كما يبرز فراغاً داخلياً يتم التعبير عنه، والعكس من ذلك يعتبر اكتساح البياضات للصفحة (انقطاعات-دقة الأسطر الأفقية، اتساع الفواصل) تأكيداً للموقف الانطوائي والحاجة إلى الوحدة وإلى زمان وفضاء ثابتين تملؤهما أشياء نابعة من الذات" (10)[الماكري، محمد،1991- الشكل والخطاب ، مدخل لتحليل ظاهراتي المركز الثقافي العربي بيروت ص104]

والواقع أن حميد سعيد استثمر البياض في الكشف عن الكثير من مضمراته الداخلية، لأنه يعي أن اللغة بسوادها لاتحمل كل مايريد ولا تبث له كل مايريد، لهذا اعتمد هذه التقنية بوصفها آلية من آليات إنتاج الرؤية وتعزيز مردودها الإيحائي، فهاهو البياض ينطق في قصيدته (تجليات علي الجندي) بالكثيرمن الخبايا والرؤى والدلالات المضمرة ، كما في قوله:

يتذكَّرُ الغجريُّ...شيئاً لايراهْ
ولا يرى شيئاً..
ويغدو بعضَ مملكة البياضْ
مدنٌ..
نساءْ
أصدقاء..
أغلقَ الأبوابَ، ثمَ مضى، ليسهو..
حيثُ.. غابتْ عنهُ..مملكةُ البياص."( من أوراق ألموريسكي ص25).

إن الفراغات والنقط وعلامات الترقيم ،من المؤشرات البصرية البارزة،التي تسهم في تعزيز الرؤية،وهنا أتبع الشاعر الجمل بالفراغات ليدل على شعرية الغياب أو شعرية الفقد؛ولا نبالغ إذْ نقول:
إن من أبرز العلامات البؤرية الفارقة التي تحكم سيرورة قصائد حميد سعيد في هذه المجموعة هي دلالة :(الفقد، والغياب، والبياض)، فالشاعر يحاول أن يبني مدينته الفاضلة كأفلاطون، مدينة يكسوها البياض والصفاء والمثل العليا،إنها المملكة التي يحلم بها الغجري والموريسكي والشاعر،وهذه المدينة هي وجه بغداد الجديدة التي يسكنها السلام والصفاء والبياض والنور والإشراق ، إنها عراق الحضارة ، عراق العلم والتاريخ والانتصارات المشرفة ، إنها زمردة التاريخ وفجره المشرق.

وهذه المدينة أو المملكة التي يحلم بها الشاعر لا تضم مدينة بعينها، وإنما تضم مدناً ونساءً وأصدقاء، ومن هؤلاء جميعاً تتشكل مملكة البياض، المملكة الفاضلة التي يحلم بها الشاعر، ويحلم بها الموريسكي ، والغجري، وكأن الشاعر يبحث عن زمنه المفقود، أو مجده المفتقد،ومملكة البياض هي استرجاع لهذا الزمن الناصع الجميل ليكون بديلاً عن هذا الواقع الاغترابي الكالح، وشتان مابين البياض والمجد في زمنه الماضي الجميل، ومابين وجه الاغتراب الكالح في زمنه الحالي ، إذاً، إن دلالات الفقد ، والغياب من المفاتيح البؤرية الدالة على عالم حميد سعيد الشعري في(من أوراق الموريسكي)،وهذا ما نستدل عليه من قوله:

" زمنٌ مريبٌ
رَحَلَ الذين تحبُّهمْ..
مُتحفِّزاً.. بينَ القصيدةِ والقصيدةِ.."(من أوراق الموريسكي ص23).

إن رحيل الأحبة دليل الفقد ، والفقد حالة مريبة تنتاب المغترب في لحظة من لحظات الأسى والوحشة والاغتراب، ولهذا كثف الفراغات تدليلاً على الإحساس بالخواء والفراغ بعد رحيل الأحبة، وسبق أن أشرنا : إن المساحات الفراغية التي تتخلل الجمل الشعرية، هي للتدليل على الوحشة والخواء من جهة ، والصفاء ومملكة البياض التي يبحث عنها الشاعر في عالمه الوجودي من جهة أخرى، ولا عجب أن تطغى هذه الظاهرة الأسلوبية في مراحله الشعرية المتأخرة لتكون أيقونات بصرية دالة على نزوعه الوجودي وغربته الوجودية ، وقلقه المستمر؛ ومن يدقق في مجموعته الشعرية (من وردة الكتابة إلى غابة الرماد) يلحظ طغيان هذه الظاهرة على قصائده ، لتشكل ملمحاً أسلوبياً مهماً في تحفيز فضاءات قصائده وتركيز أبعادها،خاصة قصيدته(من نافذة في المشفى أرى وطني) التي تتأسس على شعرية البياض والغياب ، وهذا يعني أن هذه الظاهرة متأصلة في قصائده الاغترابية ، وهذا إن دلَّ على شيء ،فيدل على إحساسه الدائب بالوحشة والاغتراب.

وهذه الوحشة لابد وأن تقوده إلى التعب،والإحساس بالخواء، وهذا ما نستدل عليه من قوله:

"تعبتُ ..
لا أحدٌ يُشاركُني خُطاي
لادارُ ميَّة.. حيث تنفتحُ السهوبْ
وتعيرُ معطفها لميَّة.. في الغروب.."(من أوراق الموريسكي ص22).

إن وطأة الاغتراب وشدتها على ذات الشاعر لابد أن تترك ندباتها على أصداء روحه الموحشة التي جفاها الأنس والسكينة والأمان، فلا أحد يشاركه خطواته، جفاه المسير، ولا أحد يبدد عنه شبح الوحشة والاغتراب ، فحاله والموريسكي حال واحدة من الكآبة والوحشة والنفي والاحتراق، ولهذا يحتفي الشاعر بالبياض النقطي شكلاً بصريأً ودلالة رؤيوية على مضمراته النصية التي لا تستطيع الكلمات بمداد سوادها أن تدل عليه في قصائده، وهذا ما أظهرته المساحات النقطية والفراغية في الكثير من سياقاتها الشعرية.
دلالة التنقل والارتحال:

إن هذه الدلالة تسيطر على فضاءات القصائد الموريسكية، فالترحال والانتقال من مكان إلى آخر سمة من سمات الإنسان المعذب، أو المطارد، الذي يرتحل من مكان إلى آخر لايستقرله مكان،أو أرض؛ إنه في ارتحال دائم بحثاً عن ذاته ووجوده الممحو، فالغجري هوذاته الموريسكي المرتحل المعذب ، وهو ذاته الشاعر المستلب،وما يجمع هذه الشخصيات الارتحال القسري أو القهري، دون امتلاك الحرية بالانتقال والارتحال،كلهم يرزخون تحت وطأة القهر الوجودي والظرف الطارئ المؤلم، ولهذا يرى الشاعر أن الغجري فقد وجوده البهيج إلى وجود موحش لايملك له خياراً ولاحتى يملك لهم خلاصاً؛ إذ يقول:

"ما عادَ للغجري ِّ
من يحكي لهُ ما كان َ.. فاعتزلَ الغناءْ
وتفرَّق الركبُ الجميلْ" (من أوراق الموريسكي ص20).

وهذا الإحساس بالفرقة والغربة الذي لازم الشاعر ؛ إثر تفرق الركب الجميل، زاد من حرقة الاغتراب،وزاد من إيقاعه وأساه الجارح،وزاد كذلك من دلالة العقم والإحساس باللاجدوى، والدلالة المرجعية على ذلك قوله:
"لاواحةٌ بيضاءُ في هذا البياض.. ولاقَـبيلُ"(من أوراق الموريسكي ص21).
إن دلالة العقم من الدلالات البارزة في هذه القصيدة، وهي دلالة الإحساس بالعدمية والزوال،كما في قوله:

" ما عدتُ أقوى أن يكونَ الليلُ.. حيثُ أَكونُ..
يخطفُ قَبلَ أن أصحو. بَـساتينَ. النهارْ
ويعيدني
بعد العشيةِ
ليسَ مِنْ نَجد مُـنيفٍ.."(من أوراق الموريسكي ص22)

إن الشاعر ما عاد يملك من أمره أي شيء فقد القوة على الصمود والمواجهة ، وهذا دليل عجزه بعد أن ولَّت الحياة دبرها له، فما عاد يملك إرادة التغيير أو الصمود بعدما تلاشت أمام ناظريه خيوط الأمل،وانقطع حبل الرجاء والأمل الوحيد وتلاشت كل الثمار وخيوط الأمل المشعة،وهذا ما نستشفه من قوله:

"مَن عُزلتين تُطِلّ
ليس ثمة من
عَرارْ"(من أوراق الموريسكي ص24).

إن العزلة دليل اغتراب وقلق وجودي، وما اعتزال الشاعر إلا دلالة على قهر وجودي وإحساس بالارتداد الداخلي، صوب الذات وتوترها وقلقها الدائم ، وهذا يعني أن جميع الدلالات التي تضمرها القصيدة تقع ضمن دائرة (الإنسان المعذب)،أو الإنسان المطارد،الذي عانى كل أشكال الغربة الوجودية والإحساس بالعدمية والفقد.

القهر الوجودي أو الاستلاب الوجودي

إن مسألة القهر الوجودي من أكثر المسائل التي تظهرها القصائد الموريسكية،وتعد علامة بؤرية مهمة في تحفيز القصائد الموريسكية،خاصة الإحساس المصحوب بالأسى الجارح ،والانكسار الشعوري العميق،فما عاد الموريسكي قادراً على المواجهة في ظل واقع قهري مستلب، مؤسس على الكبت الداخلي، والانكماش الوجودي،والقلقلة الداخلية ، وكأن شيئاً من الإحساس بالوجاعة ترافق الموريسكي المعذب بين الكسل والطموح، إذ يقول:

"أيها الولدُ الكسولُ
الخيميائيُّ المبجَّلُ
يَمنحُ المدنَ الكئيبةَ سِحرَهـا الليليَّ"(من أوراق الموريسكي ص20).

إن بشائر الأمل رغم الإحساس بالوجاعة ترافق الشاعر في معاناته وقهره الوجودي، وكأن ثمة بشائر أمل تبشر بالخلاص، وتؤذن بانقشاع خيوط الظلمة، وانبلاج الفجر الجميل،فهو كالمهدي المنتظر الذي يخرجنا من ظلمة أنفسنا إلى واقع وجودي حر، وواقع مشرق جميل يحمل كل مظاهر الخصوبة والجمال والإشراق.
ورغم بعض الدلالات المشرقة التي تشع بين الفينة والأخرى،غير أن هذه الخيوط تتبدد أمام صخرة الواقع الأليم،وهذا ما نستشفه من قول:

" يتذكَّرُ الغَجريُّ من كانوا.. ويَنسى أن يكونْ
حَجَلٌ على أوتارِ قيثاري.. يقولُ لها..
وينسى أن يكونْ"(من أوراق الموريسكي ص23).

إن معاناة الغجري الشديدة تدفعه إلى تحمل كل العوائق، وهذا ما أوقعه في محنة
التشرد والضياع ، ومن ثم النسيان وأصعب ما يعانيه المغترب من وطأة الاغتراب الإحساس بالسهو والنسيان من جراء الضغوطات النفسية والارتكسات المؤلمة،وهذا ما يظهره قوله:

لاسَلَميَّةٌ تأتي,, إذا ناديتَها ضَجِراً..
ولا البحرُ القريبُ
زَمَنٌ مُريبٌ
رَحَلَ الذين تُحبُّهمْ..
مُـتحفِّزاً.. بينَ القصيدةِ والقصيدةِ"(من أوراق الموريسكي ص23)

إن دلالة العقم والتصحر الوجودي والإحساس باللاجدوى،من أبرز القوى الدالة في هذه القصيدة ، خاصة الإحساس بالخواء والفقد والضياع ؛فماعاد يمتلك الشاعرإلا خيوط الذكرى بعد رحيل طيف الأحبة،ولم يبقَ له ما يؤنس وحشة روحه سوى أطياف من سراب يكسوها الغياب.

دلالة اليباس والعقم والتحجر:

تعد العلامة الرؤيوية( اليباس، والعقم، والتحجر) من العلامات الرؤيوية الفارقة في القصائد الموريسكية،فالموريسكي لايعاني الخواء والفقد الروحي فحسب، وإنما يعاني التحجر والعقم واليباب،وهذه الدلالات جميعها تشي بها نصوصه، خاصة عندما تجري الأيام ، وتمضي به السنون إلى خريف العمر، ومتاهات الزمن الرهيبة؛ فلا يُحصِّل إلا المرارة والانتظار؛ مترقباً غسق الغروب ليأتي فجرجديد؛إذ يقول:

" ظلَّ ينتظرُ الغروبُ
بَرُدَتْ أصابعُهُ... وصارَ قميصُه الذهبيُّ
من حجرٍ.."(من أوراق الموريسكي ص24).

إن دلالة العقم والتحجر هي ما تزيد من بلاغة الصورة الاغترابية (صورة الإنسان المعذَّب) في قصائده(من أوراق الموريسكي)؛ويستطيع القارئ أن يختصر رؤية القصيدة،بل قصائد الديوان مجتمعة بمقولة:(من أوراق الموريسكي المقهور أو المعذَّب)؛لأن جميع قصائد المجموعة تنطوي على مداليل الاغتراب والعذابات الوجودية؛ ولعل تكرار لفظة "الرماد" في القصائد الموريسكية مجتمعة، ولفظة" الغياب"لدليل على هذا الحضور الملفت الذي رمى إليه الشاعر، فالشاعر أراد أن يكون كطائر الفينيق يخرج من رماد احتراقه معافىً قوياً أكثرمما كان ،ليعيد حضارة سالفة وأزمنة غابرة ولحظات خصبة جميلة قد فارقها وارتحل عنها مرغماً، إذ يقول:

" فتنطق ما يجود به المدادْ
ثمراً
تدلى ذات أغنيةٍ.............. على شجرِ الرمادْ"(من أوراق الموريسكي ص24).

اللافت أن نظرة الشاعر المثالية ونظرته الوجودية التفاؤلية قد أضفت على القصيدة إيقاعها الوجودي المبشر، وهذا ما يشفع لها أنها ذات كينونة وجودية ثورية تفصح عن الكثير من المواقف والرؤى الثورية المتمردة والمواقف المحتدمة التي تبشر بها دون أن تمسها بشكل مباشر.

وما ينبغي الخلوص إليه :أن عمق الرؤية، وقوة ا|لإيحاءالذي تمتازبه قصيدة ( تجليات علي الجندي) نابع من بؤرها العميقة وإحساسها المفعم بالتأمل والاستغراق، والاحاسيس الشعورية المغتربة، والدلالات المصاحبة لها كدلالة الفقد والغياب، ولو دقق القارئ في البؤر الباطنية العميقة لأدرك أن الشاعر يؤسس فيها إلى ما يسمى (شعرية الغياب)؛ وهذا يعني أنه يصنع شعريته المثالية تلك الشعرية التي يؤسس فيها لعالم وجودي- رؤيوي عميق ينأى به عن عالم الواقع وتصدعاته المتناقضة إلى عالم مثالي يعيد زهوَ ما كان، يعيد تاريخاً مشرقاً قد انطمس وامَّحت معالمه، ولهذا أكثر من بعض العلامات البؤرية الدالة مثل ( الغجري، الغناء، البياض، تعبت، حجر ؛مملكة البياض)؛وكلها في نسقها اشتغلت على تكريس البعد الاغترابي، والإحساس بالأمل المشوب بغشاوة اليأس والعقم حيناً، والحنين إلى الأزمنة الغابرة والمجد القديم حيناً آخر.

ونعود،لنؤكد إن هذه القصيدة تتشكل بوعي جمالي، ومن خلال هذا التشكل الجمالي ينتقل الشاعر إلى موضوعه، من خلال المزاوجة بين الذات والموضوع، والموضوع والذات ؛تسطر موضوعها بقوة وجسارة رؤيوية عميقة ؛ فالشاعر ينطلق من الذات إلى الآخر، ومن الآخر إلى الذات، لإبراز الوعي بما تثيره الشخصية في القصيدة،وهذا يعني أن الشاعر لا يعتمد الأوصاف البسيطة والمدائح السطحية الساذجة من شوق وحنين وحسرة وفراق ودموع ، وإنما يخلق الطقس الإيحائي الدال على كل ذلك من دون أن يشير بمفردات صريحة بوساطة شخصية الغجري التي تمثل في وجهها الآخر شخصية الموريسكي؛ في رحلة عذاباته واغترابه، وبهذا المزاوجة بين التلميح والتصريح يحقق الشاعر مبتغاه وبلاغة تأثيره.

والملاحظ على الصعيد الفني أن هاتين القصيدتين قد اختلفتا في الأسلوب وطريقة البناء والوعي الفني في تشكيلهما،دون أن نعدم أواصر التفاعل في الرؤى والدلالات، والحفر في الأعماق، والكشف عن مضمرات خفية تستعصي على القارئ.

3- العلامة الرؤيوية الفارقة في قصيدة(الثلاثية المغربية):

قبل الدخول في مضمار البنى الرؤيوية الدالة في (الثلاثية المغربية) نطرح هذه الأسئلة لتكون منطلقاً لنا في الكشف عن هذه البنى ومستحدثاتها الرؤيوية العميقة، ولعل أبرزها التساؤلات التالية:
ما هي المفاتيح الفنية والرؤيوية التي تثيرها هذه المجموعة؟!
وما هي النقاط الجمالية الجوهرية في الكشف عن شعريتها؟
وما هي الأساليب الفنية المبتكرة التي اعتمدتها في تأسيس شعريتها وخلق استثارتها الجمالية؟.

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات في السياق البحثي لابد أن نضع القارئ في جوها النفسي والدلالي العام،ومنسوجها الفني الخاص،وأول ما يلحظه القارئ أن قصائد (من أوراق الموريسكي) تسير بوعي إبداعي- فني رؤيوي متكامل؛ فالشاعر لا يعتمد الهذيان أو التشظي أو العبثية في تكثيف الدلالات واللعب على إيقاعها الاختلافي الموارب على الدوام ، على شاكلة الكثير من الشعراء المهمين الذين ينحون بقصائدهم صوب هذا الاتجاه ضاربين بعرض الحائط مدارك المتلقي وقدراته الرؤيوية أو المعرفية البسيطة،فالشاعر يخلق متعته النصية من بساطة القول، وعمق محتواه الفكري، ومخزونه الدلالي الثر،والرؤية المتكاملة التي يؤثث لها في بنية قصيدته الموريسكية،فالقصيدة- لديه – مهندسة بإحكام على صعيد الرؤى والدلالات، ومهندسة على الصعيد البناء البصري- اللغوي؛ ولعل وعيه المعرفي بالدور الشعري المنوط بالنسج اللغوي قد أدى إلى خلق هذا التكامل والتفاعل والوعي في تشكيل قصائده؛ لأن اللغة بمنظوره"تتشكل من خلال الوعي، وحين تتشكل بعيداً عنه تتحول إلى نوع من اللعب الساذج والاندياحات الفارغة، وهذا ما تعاني منه كتابات كثيرة،شعرية وسردية، مما لم تعد تشكل وعياً ولا تثير أسئلة، ولا تلقى قراءً أو نقاداً"(11).[ملفات حوارية في الحداثة الشعريةص298].

وبهذا الفهم الدقيق للغة ووظيفتها في التشكيل الفني أدرك الشاعر الدور الذي تلعبه اللغة الشعرية في تحفيز الرؤية الشعرية؛ ولهذا، نجد أن الشاعر حميد سعيد يستقصي الدلالات، ويحرِّك الأنساق الشعرية،معتمداً المعنى الفني الرؤيوي المتكامل في تشكيل قصيدته، فلا يلحظ القارئ نشوزاً في قصائده؛أو خلخلة في الأنساق الشعرية،لدرجة تمزق شعريتها، وتودي بآفاق دلالاتها الإيحائية الخصبة، وهذا يعني أن الهندسة الدلالية والفنية والبصرية من مرتكزات شعرية قصيدة (الثلاثية المغربية)، وأول ما نستدل عليه في القصيدة قسمها الأول الموسوم ب(لست مؤهلاً للقول... لكني أرى) المهداة(إلى شهود ليل الرباط الذي كان.. وإلى أحمد المجاطي والحاجة الحمداوية)،وهي كما قلنا: تحمل في ثناياها(عبق التاريخ ونكهة الأمكنة)؛ وهذا يعني أن للحضور المكاني والتاريخي فلسفته الخاصة في القصائد الموريسكية، إذ يعد الاحتفاء بالأمكنة محفزاً رؤيوياً في تكثيف الرؤى والدلالات في قصائده؛ومن ضمنها هذه القصائد؛ فالمكان لايستحضره بوصفه حيزاً جغرافياً، وإنما يستحضره بوصفه واقعاً متخيَّلاً،أي أن المكان مزوَّقٌ أومضمَّخٌ بعبق الماضي وذكرياته المشرقة كما أشرنا، وبتقديرنا: لاتخلو قصيدة من القصائد الموريسكية من شعرية المكان أو الأمكنة، ولا تخلو قصيدة من قصائده من شعرية التاريخ أو نكهة التراث، فهو يتمسك بالماضي تمسكه بالجذور والأصالة العربية ، ولهذا تجد التاريخ حاضراً بقوة في توجيه دلالتها؛و تكثيف متغيراتها الرؤيوية،ولابد من الإشارة إلى أن المكان متحوِّل في فضاءات القصائد الموريسكية، فالمكان لديه قد يكون لحظة استعادة، وقد يكون لحظة انكسارواحتراق؛ووجل وهروب، فالمتحوِّل المكاني في تلكم القصائد متحوِّل شعوري- رؤيوي،ومتحول مجازي، من الرباط إلى تونس، إلى بغداد، إلى الأندلس،إلى فلسطين،إلى بيروت، وهذا الولع بالمكان استشهد به بشذرة شعرية من بيت شعر قديم(لك يامنازل في القلوب منازل)،والمتحول المكاني يطال حيثيات المكان كلها بما في ذلك نهر(بورقراق في المغرب، والفرات في العراق)، وفي اتحاد النهرين، تتحد الرؤى والمنظورات، والمشاعر والأحاسيس،ويرتبط الماضي بالحاضر، والحاضر بالماضي بأقوال ومأثورات،مشتقة من التاريخ ، والأمثال والإرث الثقافي الشعبي القديم والشخصياتالمهمة التي تركت بصمتها في مجريات التاريخ؛كشخصية ( الحسين بن علي، والحريري،والمعري،والمهدي والشنفرا،والموريسكي) وغيرها من الرموز التاريخية، وهذا يعني أن الشاعر يستحضر الشخصيات التاريخية بوصفها شواخص دالة على معاناتنا وحرقتنا الوجودية،فالشاعر إذاً يستحضر التاريخ وشواخصه المثالية تمسكاً بالجذور ونكهة الأصالة والتجدد الوجودي كما أشرنا، وما يميز المكان بوصفه العلامة البؤرية الفارقة في هذه القصيدة أنه مكان حي، والشاعر ليس كعادته؛ إنه يرى في المكان الخصوبة والأمل والعطاء والتجدد، فالمكان لديه متحول ومتغير ومختلف،وهو يعني أنه مكان تأسيسي وجودي حي،المفاصل الرؤيوية المحرقية في(الثلاثية المغربية):

تتأسس كل قصيدة مبدعة على مرتكزات بؤرية أو محاور محرقية مهمة تنطلق من خلالها إلى فضاء الآخر، وبمقدار تفعيل الشاعر لهذه البؤر بمقدار مايفعِّل القوى الرؤيوية الموجِّهة لحركتها النصية والباعثة لحراكها الدلالي، وأبرز هذه المفاصل هي:

المعنى الفني الرؤيوي المتكامل:

تتأسس قصيدة( الثلاثية المغربية) على تكاملها الفني الرؤيوي من خلال الوقوف على البؤر المحركة لسيرورة دلالاتها المكثفة ، ومستبطناتها الشعورية العميقة ، وأبرز ما تثيره تفعيل الحدث أو الموقف أو الشخصية التاريخية بمنظار رؤيوي حداثوي، فالتاريخ في قصائده ليس أحداثاً ماضوية أو ذكرايات ومضية متسارعة،سرعان ماتتبدد وتتلاشى وتنتهي ،وإنما هو منبع للنبض الشعوري والتقديس الوجودي،أي إن التاريخ لديه حيٌّ كالحاضر،يتمثَّله ليس واقعاً معيشاً فحسب، وإنما واقعاً وجودياً معاصراً، وحركة وجودية كونية؛لهذا تجده يندمج بالمكان اندماجاً روحياً حياً،ليغدو والمكان جزء واحد لايتجزّأ ولا ينفصل، وهذا مانستدل عليه بقوله:

"لم يَنْسِني البحرُ الذي فارقتُهُ ..
في ليلةٍ بيضاء ..
ودَّعنا الصباحُ
كنّا سَهِرنا ..والرباطُ معي ونَجمتُها المضيئةُ
يومَ كنتُ ..
وها.. أعودُ إليهِ .. مُنطفِئاً"(من أوراق الموريسكي ص27-28).

إن اغتراب الأمكنة لا يقل أهمية عن الاغتراب الروحي ، خاصة إذا تغيرت الأمكنة، ولم يعد لها بريقها الذي كان ؛فإنها توقع المرء بالحسرات والذكريات المريرة، التي تزيده اغتراباً واحتراقاً، وكأن عودته إلى الرباط عودة استرجاع وانكسار وتشوف إلى ذكريات ماضية لا أمل له أن تعود ببريقها المشرق واصطهاجها العاطفي السابق،وحنينها الدافق،ولهذه رغم حنينه للأماكن يأتي هذا الحنين مغترباً أو مشوباً بالاغتراب.
ويتابع هذا المنظور، إذ يقول:

"لكِ يا منازلُ في القلوبِ منازلُ"
شاركتني بيتي وزهوَ قصائدي..والأغنياتْ
انزلتُ بورقراق..بابلَ في الضفافِ البيض
فاعتنق الفراتْ
وتَساءلَ النخلُ الذي رافقتُهُ طفلاً ..
ورافَقني ..
أأنتَ من الرباط ؟ "(من أوراق الموريسكي27 -28)

هنا، يدمج الشاعر الذكرى بالحنين، ويدمج حنينه للمكان بحنينه للوطن،ولهذا، تبدو الأمكنة شعرية في دلالتها،ومتحركة في فضاءاتها الدلالية،وحرارته الشعورية المفعمة بالاجلال والتقديس للأمكنة، ولو دقق القارئ في قوله:[ أنزلتُ بورقراقْ ... في الضفاف البيض.....................أأنت من الرباط]؛لأدرك أن إحساسه بالمكان ليس حسياً، بل روحياً أو شعورياً؛ فالكثير من الأماكن تخلِّف في قلوبنا الحنين والذكرى والاشتياق؛ فالمكان في هذه القصيدة يمثل( التاريخ- الوجود- التراث- الذكرى- الحنين –الزمن-الجذر الوجودي- الأصالة)؛لهذا يتماهى الشاعر معه، تماهياً مطلقاً، فالرباط تتحد مع نخل العراق، ونهر أبو رقراق يعانق نهر الفرات ونخل العراق؛ وهذا يدلنا أن للأمكنة طقوسها الإبداعية في قصائد حميد سعيد ليس بوصفها أماكن حسية، بل بوصفها خلجات روحية تنبعث من حيزها المادي إلى حيزها الروحي؛ وهذه كلها يجمعها المعنى الفني الرؤيوي المتكامل.

الرؤيا الشعرية المكثفة:

ونقصدب(الرؤيا الشعرية المكثفة): الرؤية المكثفة للحدث الشعري،أو المشهد الشعري، وهذه الرؤية تمثل الانبثاقة الخصبة للأفكار،والرؤى والقوى الدلائلية الموجهة للحدث أو الموقف الوجودي المجسد،وهذا يدل أن "الرؤيا ربما تكون صورة أو نظرة إلى العالم، أو تبصراً في مصير الإنسان، أو كل ما هو تعبير من الكاتب عن فلسفته للحياة في قصائد، وهو تجربة جمالية تعتمد على تنامي استبصار القارئ في هذه الرؤيا بغية التماهي النهائي مع وعي الشاعر"( ملفات حوارية في الحداثة الشعرية.ص 316 ).

وقد اعتمد حميد سعيد في شعريته للأمكنة على خصوبة الرؤية ومثيراتها في خلق التفاعل بين المكان بوصفه طقساً تاريخياً، وليس شكلاً فيزيائياً لبث مشاعرها الاغترابية إزاء الواقع العربي المتصدع الذي أفقد الأمكنة خصوبتها ونضارتها، وبقيت بعض الأمكنة محتفظة بالأرث التاريخي المقدس الذي اكتسبته من سابق، يقول الشاعر في إبراز شعرية بعض الأمكنة؛ما يلي:"

لي في سلالات الضياء .. قبيلةٌ
مدّت مضاربَها على وعدِ القيامِ ..
من المحيط الى الخليجِ
هي خيمةُ الشهداءِ والفرسانِ والشعراءِ ..
والأطفالِ ..
صارَ الموتُ يحملنا الى مدنٍ مراوغةٍ ..
لم يبقَ من أنسابنا الأولى .. سوى ما غابَ منها
وتعثّرَ الأحفادُ بالأجدادِ
والأجدادُ بالأحفاد ..
ضِعنا في الضجيجِ
. . . . . . . .
. . . . . . . . ."(من أوراق الموريسكي ص29-30).

إن الشاعر يربط الأحداث بالأمكنة، والأمكنة بالأحداث في بانوراما رؤيوية يعكس من خلالها واقعنا العربي المتصدع؛ من مأساة إلى أخرى، ومن ضجيج وفوضى وضياع إلى واقع أكثر هشاشة واتضاعاً وتقززاً وفساداً واهتراء؛ وهذا يعني أن رؤية الشاعر متحولة، متغيرة ، تبعاً لحركة الوجود؛ وتغيراته المستمرة؛ فالتاريخ ليس حالة سكونية أو انقضاء مرحلة وابتداء أخرى؛ إنه هذا المكوِّن الوجودي المتغير لتخاذلنا وانهزامنا وانكسارنا؛ فهو يربط الماضي بالحاضر ارتباط اغتراب وتأزم وانكسار دائم، فما أخذناه من الماضي لا يلبي الطموح لتغيير الواقع ، وما أخذناه من الحاضر لا يليق بعراقة الماضي وجذوته المتقدة؛ وهذا يعني أن الماضي والحاضر عملة واحدة دالة على الخراب والخواء والوحشة والانقسام والتصدع والاهتراء؛ فمنذ ترجل المهدي ونحن نعاني من الفوضى والضياع والانقسام، ومن لا يبني ماضيه لايؤسس لحاضره، ولا يعي بمستقبله، يقول الشاعر:

" يا أنتِ ..
يا من أَوقَفَتْني بينَ عاصفةٍ وأُخرى ..
حينَ كان الليلُ يهبط من معارجهِ ..
حيياً ..
كُنتِ تنتظرينَ .. أو كُنّا .. بلاداً
مَن سينتظر البلادَ الآن .. وهي تغيبُ ..
في كُتُبٍ ملفَّقَةٍ
وتغيبُ أحلامٌ ألِفناها .. وأنزلنا صباها ..في مُعلّقَةٍ
فمن سيعيد أشباحاً إلى أَبراجها الأولى
ليكتشف الطريقْ"(من أوراق الموريسكي ص30-31).

هنا،يبدو الموريسكي يعي الواقع ، ويؤسس للمستقبل، ولكن وعيه للواقع مشوب بالحزن واليأس، نظراً إلى هشاشة الواقع وتصدعاته المريرة،إنه اكتشف طريق الوجود، وأدرك الحقيقة المرة،أنه لا خلاص في ظل هذا الواقع القمعي الراهن،ولهذا نلحظ أن الشاعر يجسد كل المظاهر الدالة على الاغتراب، من مشاعر اللوعة والمرارة والأسى والأمل الخائب، ويرى في الأمكنة تعويضاً عما افتقده من حيوية الأمل ونظرته التفاؤلية للحياة، ولهذا يميل في إبراز الجوانب الاغترابية إلى لغة المنافرة والتضاد ، للمقارنة بين زمنين مختلفيين أو وجودين متناقضين : وجود عقيم مغترب ، ووجود ماضوي مشرق، يحمل زهوَ الماضي وإشراقه،على النقيض من وجوده الراهن المحمل بشتى أشكال النفي ،والتشرد، والغربة، والضياع، والاحتراق؛وشتان مابين نصاعة الماضي وزهوه وإشراقه ودناسة الواقع واحتراقاته وعذاباته الوجودية،وهذا ما أدركه الموريسكي في رحلة عذاباته الوجودية ،فهو أدرك الطريق،ووصل إلى ذروة الوعي ،لذلك أراد أن يبصر الأخرين بالحقائق،لكن دون جدوى، ماأقسى هذه الحقيقة المرة أن يفقد المرء الرؤيا، ويبقى متحثثاً خيوط االأمل والرجاء والخلاص دون أن يحصل ذلك،

وهذا ما نستشفه في قوله:
ياأيها الليلُ الذي أَودعتُهُ .. قمراً
وذاكرةً مضيئهْ
كُنتُ .. ابتكرتُ لهُ نساءً ..
وابتكرتُ لهنَّ أُغنيةً جريئهْ
ما عادَ لي قمرٌ ..
وها أنذا أعودُ إليهِ ..إذ فارقتُ ذاكرتي ..
ابتعدتُ ..
ما عادَ لي بيتٌ
أأبدأ مرة أخرى..
أرى مالا يراهُ الأخرون"(من أوراق الموريسكي ص31-32)

إن ما يعانيه الشاعر من خلال رمز الموريسكي أزمنته الضائعة ووجوده الغائب ، وماضيه القديم إلى داره وحديقته إلى قمره الوادع الجميل الذي يذكره بليالي الأنس والوداد والجمال،وقد استطاع الشاعر أن يعبر عن حنينه الدائم وشوقه إلى تلك الأزمنةالغابرة،بألق روحي وعاطفي مشبوب لاسترجاع ماكان، يقول سامي مهدي:"

وقد اتخذ الشاعر من الموريسكي قناعاً للتعبير عن تجربته في غربته القسرية، فهو مثله في هذه الغربة، يحمل تحت إهابه " أندلساً أخرى" هي بلاده ، ومدينته، وملاعب طفولته ومراتع صباه وشبابه، وبيته وحديقته ومكتبته، وما كان له هناك من أشياء حميمة وأوقات سعيدة ، وهو بعد أن استوعب الصدمة وتمثَل الفجيعة وتعايش مع الغربة وتوصل إلى قدر من التوازن والاستقرار، صار يرنو إلى الشاطئ الآخر ويتأمل ويتذكر، ويحن إلى كل ذلك ،ويتجلى حنينه في صور ومشاهد يبدو فيها الماضي عصراً ذهبياً آفلاً، وتبدو حياة الغربة من دونها ضيقة وموحشة، حتى لتفقد اللغة قدرتها على وصف" ما كان" وهو إذ يتذكر لا يرى ما يتذكره بوضوح كاف، لأن الأشياء بعدت عنه في الزمان وفي المكان:"(12).(تأويلات نقدية ص40)
والملاحظ أن الشاعر يزداد اغترابه كلما تذكر المواضع والشخصيات المثالية منها، والعبثية أو اللاهية ،وهذا يعني أن ولع الشاعر بالمدن والمواضع دليل اغتراب وقلق وتوتر،وماذكر المواضع إلا دلالة تشبث بالأيام المشرقة والمواضع الناصعة التي تركت آثارها منقوشة على صفحة الذاكرة، وفي هذا يقول:

". . . . . . . .
يا أنتِ ..
يا من أَوقَفَتْني بينَ عاصفةٍ وأُخرى ..
حينَ كان الليلُ يهبط من معارجهِ ..
حيياً ..
كُنتِ تنتظرينَ .. أو كُنّا .. بلاداً
مَن سينتظر البلادَ الآن .. وهي تغيبُ ..
في كُتُبٍ ملفَّقَةٍ "(من أوراق الموريسكي ص 32-33).

إن الموريسكي يبحث عن البلاد التي كانت ، عن بلاده المعهودة بالأصدقاء والخلان وليس عن هذه البلاد الغريبة، إنه يبحث عن بلاده الحقيقية ، وليست البلاد الملفقة أو المزورة التي لا عهد له بها،ولهذا جاءت نظرته مشوبة بالأمل اليائس، وانقطاع الرجاء، إذ يقول:

" أُغافلُ الصحراءَ .. ذات ضُحىً
وأوهمها بأن الغيث آتْ ؟ !
وأقيمُ فرضاً في الفلاة
أدعو إليه .. الوحشَ والشجرَ البعيدْ
والطيرَ والنملَ
الذينَ حَببتُهم من قبلُ ..
ما عادوا يقيمونَ الفروضَ البيضَ ..واعتكفوا ..
أَعودُ . .ولستُ مؤهلاً للقولِ .
لكنّي أرى البحرَ المقيم"(من أوراق الموريسكي ص34-35).

إن نظرة الشاعر التفاؤلية لم تغب عن فضاءاتها الدلالية ،فهو مازال ينتظر الفجر الجديد،و يبشر بأن حلم المطر آتٍ لا محالة، ولابد أن يطرد أشباح الظلمة، وينتشي من جديد،ولهذا ظل يتساءل عن حلمه بالبلاد المنتظرة،هل ستغافله وتأتي أم ستبقى رهينَ أحلام ليس إلا،إذ يقول:
"فهل يكونُ هو الدليل ؟

وهل سيمنحني بلاداً ..
أم سيغفلني ..
لأبحثَ عن مُقامْ ؟ ! " (من أوراق الموريسكي ص36)

إن حميد سعيد في قصيدته هذه شأنه شأن الموريسكي يبحث عن مدينته الضائعة ، عن أمجاده الغابرة وزمنه القديم ، إذ إن كل الأمكنة التي يرتادها تبدو غريبة عنه،ولا نبالغ إذا قلنا: إنه يبحث عن ذاته العظمى أو عن ذاته المثالية، يبحث عن وجوده ، عن الدليل الذي يصله بالمثل العليا( الفضيلة ، الخير ، الجمال)،إنه يبحث عن كل ما يشكل لديه رؤيا الجوهر أو (رؤيا الرؤيا)، ولا نذهب بعيداً في قولنا: إن حميد سعيد في قصائده( من أوراق الموريسكي) يبحث عن الأمل الضائع، وسط ركام من الأحلام والأماني اللامتحققة، ولهذا نجد روح المغامرة بارزة في هذه القصائد بحثاً عن هوية حياة ووجود، بحثاً عن عالم حر لامستلب ، عن كينونة حرة ومجد عظيم مستعاد ، إنها باختصار بحث دائب عن حلمه المفقفود الضائع ، والموريسكي هو الرمز الدال على كل ذلك إنه قناعه الذي يتخفى فيه بين الفينة والأخرى، يظهر ويختفي في مراوحة ومزاوجة دائبة بين الحضور والغياب ،ولهذا نجد القصيدة لديه تجاهد أن تشكل نمطها الأسلوبي المميز، وطقسها الإبداعي الخاص، برؤيا شمولية كونية تعي الحقائق وتؤسس لها، وتسعى إلى التغيير؛إنها باختصار تمثل وجهي الحياة المتناقض، فهي تكشف عن السلب ، وتظهر العقم والتفسخ واليباس والتعفن من خلال رموز تتكرر كثيراً كالطحالب والعفن والجليد والتحجرأو الحجر والغبار وغيرها من الرموز الدالة،إن قصائده إذاً تبحث عن السلب ، وتحاول مواجهته والانتصار عليه، وتكشف عن الجانب المعتم ، وتحاول إنارته،إنها رؤيا الرؤيا، أو بحث فيما وراء العمق؛فهي بحث في الأعماق في البؤر النفسية العميقة،ولهذا، فإن طقسها الإبداعي شامل المناحي والرؤى والاتجاهات،ولهذانجد روح الخشونة واللين ماثلة في ملمس قصائده وسطحها اللغوي، وبهذا المقتري يقول الناقد علي جعفر العلاق مايلي:

"قد يفتقد شعر حميد سعيد،أحياناً، إلى ملمس الوردة أو نعومتها، لكن له، في أحيان كثيرة متانة الجذع وترفعه. إن مرد ذلك هو نزوعه الشعري والروحي إلى الارتباط بالمتفوقين من أسلافه،فهو، كما يبدو لي، من نمط الشعراء الذين تجد أرواح الأسلاف حاضرة في قصائدهم الناضجة حضوراً يمنح العمل نكهة وفاعلية"(13).[الشعر والتلقي ص146).
إن ما يميز قصائده هذه النزعة إلى الحفر في العمق، فهو لا يهمه الوقوف على فاصلة تقفوية تزيد درجة تنغيم القصيدة،وأدجلتها صوتاً ودلالة، وإنما يهمه أن يصل برؤيته إلى العمق ، إلى ماخلف الجسد اللغوي الذي يبدو بسيطاً لاتعرجات وانكسارات تشوه هذا الجسد اللغوي المتكامل، إنه ينقل روح الفكرة التي تعتصر كيانه ليصل إلى جوهر الرؤية المبثوثة أوالرؤية المتوخاة الخلوص إليها،باختصار، إنه يتحثث روح الرؤية من الجوهر،فاهتمامه ليس منصباً على القشور،وإنما منصباً على البنى الفاعلة أو القوى الموجهة لجوهر الرؤية والكاشفة عن مخزونها النصي العميق،فهو لايهتم بالإشارات البصرية المجانية التي لاترتبط بالدلالة ارتباطها بالرؤية والمعنى الكلي الذي تطرحه القصيدة.
باختصار، إن مايميز قصائده عمق الرؤيا الخلاقة التي تنفتح على كل ماهو جديد في الفكر والتأمل والكشف والاستدلال، فهو لاينقل لك الفكرة بشكل مباشر وبطريقة معتادة عند الكثير من الشعراء، خاصة بنية السرد، إنه يراوغ في هذه البنية ،حتى أنه يراوغ في الدلالة ذاتها، فما يقصده ماورائي،وليس سطحياً ومباشراً، وهذا مايجب أن يعيه المتلقي لقصائده، خاصة قصائد هذه المجموعة التي تبحث عن أسلوبها الخاص ونمطها المميز، وثوبها الفني الإبداعي الجديد.

وبتقديرنا: إن حميد سعيد عندما يشكل رؤاه في قصيدته فإنه يجعل الرؤيا مركز خصوبة القصيدة ومنبع ثقلها الفني؛فهو لا يبحث عن الرؤيا/الجوهر من خلال الحيثيات والبديهيات اللغوية أو الرؤى السطحية، وإنما يبحث عن الجوهر من خلال الفكر المراوغ والنزوع إلى التجريد، والتجريد الذي نقصده ليس كالتجريد الذي يعتمده أدونيس،في أحاجيه الرؤيوية ،وصوره السريالية المغرقة بالغموض والتشظي الرؤيوي،إن التجريد عند حميد سعيد تجريد من نوع آخر(تجريد فني/إبداعي)؛ إنه تجريد واعٍ بأبعاد الكلمة ، ومراميها، والجملة في نمطها اللغوي، وشكلها الإبداعي،وتشكيلها البصري، ومن هنا نصل إلى نتيجة مهمة:

إن مفاتيح الشعرية – في من أوراق الموريسكي- متعددةالملامح والرؤى والاتجاهات،فهي وإن تجسدت برؤية مفردة أو دليل مرجعي محدد فإنها سرعان ما تتجاوزه ، وهذا يعد جزءاً من متغيرها الرؤيوي، ومتغيرها الأسلوبي الذي ينأى عن نمط أسلوبي محدد، أومغزى رؤيوي مقنن، وهذا يعني أن رؤيته متعددة إلى رؤى، وتخييلات رؤيوية منفتحة،على آفاق رؤيوية لاحصر لها، حتى تجده يفرغ الرؤى، ويوزع مناحيها ،لدرجة لا يكاد يلتقط منها القارئ سوى ما يطفو على السطح اللغوي،وعليه،فإن الرؤيا –عند حميد سعيد – شمولية، متغيرة، متجددة، وهذا ما أشرنا إليه:
إنه يخلق المتعة بالمظهر اللغوي، ويخلق المتعة في المعنى ، ويخلق المتعة في الإيقاع ، ويخلق المتعة في السرد الهادئ الذي يعي مراميه وأبعاده ضمن النسق.

وقد يوظف الشاعر البني الدرامية في قصائده الموريسكية لتكون القصيدة
لديه مزاوجة بين إيقاعين: إيقاع السرد، وإيقاع المناوشة بين الفضاء البصري لقصائده، والفضاء التشكيلي لها، أو الفضاء الدلالي،ولعلنا نؤكد حقيقة مهمة في قصائد هذه المجموعة، وهي :

قدرتها على التخفي بالعفوي؛ والسطحي الدلالي المباشر.
تكثيفها للرؤية الشعرية وتعميقها للدلالات الاغترابية أو المأزومة التي تبثها في ثناياها.
محاولتها التجاوز والابتكار في شكلها المراوغ ونسقها اللغوي المثير.
إيقاعها المتناوب بين الشكلين البصري والإيقاعي وأحياناً الدلالي.
تفعيلها للتراث بما يحقق لها الانفتاح والتعرية والمكاشفة الوجودية لواقعنا المأزوم.

وبالعودة إلى قصيدته (الثلاثية المغربية) نصل إلى شقها الثاني الموسوم ب (الباهي)، وفي هذه القصيدة يدمج الشاعر الحنين فيها للأمكنة والمواضع بالحنين للأزمنة الغابرة وذكرياتها المشرقة بالأمجاد والعزة والكرامة والأنس الروحي ،والصفاء الوادع ، وإذا كان الشاعر في قصائده السابقة قد عبر بحرقة ومرارة عن غصات الاغتراب الرؤيوي والزماني العقيم فإنه في هذه القصيدة فد عبر عن غربة الروح، بالانكفاء على الذات،واسترجاع ذكرياتها الماضية وليالي أنسها التي تعج بالحيوية والخصوبة والصبابة الروحية للأهل والأحبة والأصدقاء؛ ولعل أبرز ما يلحظه القارئ في هذه القصيدة أن حميد سعيد أعاد للقصيدة ينابيع السرد المتدفقة بخصوبة الرؤية وعمق المنظور.ودليلنا أن كل مقطع من مقاطعها يبث زفرته الاغترابية الممزوجة بالحنين، وكأنه يبحث عن ذاته المغتربة في زمنها الحاضر العقيم،فماله من وطن يؤويه، لقد أثقلت كاهله السنون،ومازال يبحث عن ذاته الغربية في وطن ضائع لا يملك منه إلا زفرات الحنين وقطرات المواجع،إذ يقول:

" لِمَنْ ستؤؤلُ الرياحُ التي شاركتْنا الأقاويلَ..
أو نازَعَتْنا الأَقاويلَ ؟!
لن نَدَّعيها..
ولَنْ نَدَّعي ..ما ادعاه من أوغلوا.. في ....
ولَمْ يبْقَ من حلقات الدراويش.. إلاّ الصدى
لامكان نلِّمُ به ماتَناثَرَ من صمتنا..
أيُّها الشاهِدُ..
انتظرتُكَ حتى الغياب..
رأيت ُالنياقَ العصافيرَ.. تحدو بها
والخيولَ العِرابَ..
تقفو خُطاك"(من أوراق الموريسكي ص37-38).

هنا، يرتقي الشاعر باللغة الشعرية إلى أوج عمقها ودلالاتها الاغترابية الممزوجة بالحنين والشوق والذكرى إلى السنوات الماضية،وكأن كلماته صدى زفرات حزينة تجمعه بجميع فئات مجتمعه من أصدقاء ودراويش وأهل وخلان وأحبة،وتبعاً لهذا تغص قصائده بالمسميات والرموز والأمكنة،والصورالبانورامية التي تعج بالحيوية والإشراق والمشهدية، ودليلنا أن الشاعر لا يقتصر على الصورة الحركة بوصفها مكمن الدهشة في تنشيط إيقاع السرد فحسب،وإنما يعتمد الصورة العاطفة أو الصورة الشعور التي تؤسس جمالها من وميضها الشعوري، وحسها المرهف، وهذا التحول في بنية الصورة لديه يؤكد تنوع أساليبه ورؤاه ومنظوراته الوجودية،ولعل الملمح الأسلوبي البارز احتفاء قصائده بهذا الكم من التواشج بين الشكل البصري لها ومنتوجها الدلالي.

ولا نبالغ إذاقلنا:

ارتبط شعر حميد سعيد ارتباطاً بالتراث والتاريخ والأمكنة والبانوراما الوجودية للشخصيات والأمكنة ، كما في قوله:

" قال الشَريفُ المَدينَّيُ..
كُنتُ أراهُ ..
برفقَةِ روسو وبودلير والشَنْفَرى.. وابنِ خلدونَ..
والمُتنَبّي.. وَ..
قالَ الحريري..
رافقتُهُ
في شوارع بغدادَ.. باريس.. وهرانَ..
كنّا معاً..
في دمشْق وبيروت.. ثُمَّ افترقنا
على موعدٍ.
ولكننا ما لتقينا.."( من أوراق الموريسكي ص37).

إن الشاعر يعدد شخصياته المثالية، وهذه الشخصيات لعبت دورها الوجودي ، وهي رغم اختلاف أدوارها من شعراء وفقهاء وأدباء ومؤرخين فهي شواهد على اغترابه الوجودي، وعلى حضارة بغداد العريقة وزمنها الحضاري العريق،وهو لم يكتفِ بالأسماء المثالية العربية، وإنما أدخل شخصيات أدبية وشعرية عالمية،لتكون مثاليته عالمية تجمع بين الواقع والمثال، بين التاريخ القديم والمعاصر، ولعل أبرز ما تحققه هذه القصيدة على مستوى رؤاها وأسلوبها التقني، سرعة الانتقال من رؤية إلى أخرى ، ومن دلالة إلى أخرى،باختصار: إنه يضعك في طقس إبداعي جديد، ودلالات جديدة ورؤى متجددة،إن فضاء القصيدة لديه فضاء تحولي أو متحول،

إنه يشكل الطقس الإبداعي الخاص به،فلا يعي القارئ أن خطابه الشعري خطاب الحاضر أم الغائب، خطاب الواحد أم المتعدد، خطاب الذات أم الموضوع، خطاب الواقع أم المثال، خطاب الإيجاب أم النفي،إنك تجد كل ذلك في قصائده الموريسكية، وإن بحثت عن ىشيء بمعزل عن قرينه فقدتهما معاً، وهذه لب شعريته الاختلافية، التي يؤسسها حميد سعيد في قصائده، ولعلنا لا نجافي الحقيقة بقولنا: إن لبّ حراك الدلالات في قصيدته العزف على التراث بكل مثيراته وفضاءاته ومغرياته من شخصيات وأحداث ورؤى وتطلعات وتضمين واقتباس،وأقوال، وأمثال، باختصار، نحن أمام بانوراما تاريخية للأحداث والمواقف والمأثورات ىالتاريخية، وكأن الموريسكي يسترجع كل ذلك في لحظة واحدة، ورؤية واحدة، وهذا ما تجسده بوضوح كل قصائد المجموعة قاطبة. وللتدليل على ذلك نأخذ قوله من هذه القصيدة:

أيُّها الشاهِدُ..
كُلُّ مُعَلَّقَةٍ من قفا نبكِ .. حتى مقالتك الأخيرة..
تغدو.. الى فِتْنَةٍ غامِضَهْ
أَدْخَلَتْكَ الكتابَةُ .. في ماتُحِب وما لاتُحب ..
وفي لَحْظَةٍ عارِضهْ
فارَقَتْكَ الخطايا البريئةُ..
أو فارَقَتْنا..
. . . . . .
. . . . . . .
رَحَلْتَ..
الشريفُ المَدينيُّ..
يَحملُ عنْكَ.. جموحَ القرنفلِ.. في الضفتينْ
والحريزيُّ مازالَ يبحَثُ عَمَّن ذوى وردُها"(من أوراق الموريسكي ص38-39).

إن الشاعر يريد من جميع الوقائع والأحداث والشخصيات أن تكون شهود عيان على واقعه الحالي وواقع مدينته الضائعة أو فردوسه المفقود، ولهذا ابتدأ بالأقدم فالأحدث لتكون شاهده على ما يجري ،شاهده على واقعه الحالي وزمنه الضائع، ابتداءً من معلقة امرئ القيس إلى الشريف المديني إلى الحريزي، وهذا دليل أن استحضار التاريخ أحداثاً وشخوصاًووقائعَ، دلالة هويةٍ وإثباتَ وجود كما أشرنا إلى ذلك مراراً وتكراراً، وهذا دليل أن استحضار الشخصيات التاريخية تحديداً سواء أكانت ماضوية أم واقعية مستحضرة من الواقع الحياتي المعيش كشخصية الشاعر علي الجندي وغيرها،فإن شاعرنا سرعان مايحولها إلى كيان فني،إذ تأتي كجزء لايتجزأ من كيان القصيدة، بل تشكل محرق ثقلها الفني، ومنبع نشاطها الرؤيوي ، وهذه نقطة القوة والمهارة في توظيف الشخصيات والأحداث والشذرات التاريخية في قصائده الموريسكية،ونؤكد أيضاً أن عدو الشاعر الركون إلى الرمز الثابت ، أو الدور المعتاد في الشخصية المستحضرة ، حتى رمز الموريسكي ذاته متحول متغيرفي بنى قصائده الموريسكية جميعها، فهو رمز متنقل، ومرتحل ، ومطارد ، ومعذَّب، ومنفي ومهان تارة وثوري متأجج قوة وعزيمة وإصراراً تارة أخرى،أي أن الشخصية ذاتها تنطوي على كتلة متناقضات ؛ ومفارقات،وهذه قمة الحيوية والحراك في رموزه وشخصياته ورؤاه وأحداثه المستحضرة،ولانذهب بعيداً في قولنا :إن لغته الشعرية بالكامل لعبة متناقضات ورؤى محتدمة،لاتقف حد المدلول السطحي والرؤية المباشرة، وبهذا المقترب الرؤيوي يقول الناقد علي حعفر العلاق:" إن لغة الشعر لغة المفارقة والتضاد، وهي لغة مواربة قاسية، بارعة، وطريفة. وكلما توفرت لغة الشعر على هذه الخصائص استطاعت أن تعبر بديناميكية عالية عن تناقضات الحالة الواحدة ،وتستوعب غناها الداخلي ،وتقدمها أخيراً، بنسق متماسك، لكنه ممتلئ ومتشعب الدلالات.. ولذلك، يبدو لنا أن حميد سعيد يميل كثيراً إلى استخدام لغة المفارقة أو التضاد، هذه لإبراز ما يكتنف الموقف الوجداني أوالفكري الواحد من تناقضات يتداخل فيها الأمل باليأس، والقوة بالهشاشة"(14).[ الشعر والتلقي ص 139].ولهذا تطرح قصائده الجدليات ليس لإثارة الاختلاف في الشكل اللغوي،وإنما لإبراز الاصطراع الداخلي والقلق الوجودي والنظرة المواربة تجاه الأشياء، فهو يعي أن المرء كتلة مشاعر ورؤى متغيرة، فهو دائماً في حالة توتر وتغاير واختلاف ونزوع دائم إلى الحركة، ومادام الشعررصداً لهذه الحالة وانعكاساً لها فمن الطبيعي حيال ذلك أن يحتفي الشعر بهذه المتناقضات،ويرصد تغايرات النفس البشرية واصطراعاتها الداخلية، ومن هذا المنطلق ليكون الشعرواقعياً ينبغي أن يجسد الشعر هذا الموقف الوجودي المتناقض، الذي يعيشه الشاعر بفرحه وحزنه، بأمله ويأسه، بواقعه وخياله، ليثير فينا اللذة والنشوة بالمتغايرات الوجودية لإثبات الحقائق تعزيز الرؤى وإثارتها فنياً.

3-خصوبة المعجم الشعري:

إن أهم ما يميز المبدع الحقيقي خصوبة قاموسه الشعري، وغنى لغته الشعرية بالمفردات المبتكرة، وهذا يعني أن درجة الإبداع تقاس غالباً بخصوبة هذا المعجم ومصدر غناه، ومدى تنوعه وثراء محتواه،ولعل إدراك شاعرنا لهذه الحقيقة قد كان له دوره الأهم في تنوع حقولها الدلالية ، واستحواذها على كم وافر من المفردات الدخيلة، من مسميات أجنبية دالة على المواضع والأماكن والمدن ،وقد أشار الشاعر نفسه إلى الدور المهم الذي تلعبه اللغة في تحقيق هذه الغاية،إذ يقول:"ليس من كتابة إبداعية من دون لغة مبدعة ، وليس من مبدع حقيقي إلا وكان ما يميزه في لغته، إن معجم أية لغة من اللغات الحية هو معجم واحد حتى في تطوره، وما ينضاف إليه، لكن معاجم المبدعين في اللغة الواحدة والمرحلة الزمنية الواحدة ليست واحدة، فمعجم عبد الصبور مثلاً هو غير معجم خليل حاوي، ومعجم يوسف إدريس هو غير معجم عبد السلام العجيلي، وما يصح على المعجم في اللغة يصح على البنى اللغوية والإيقاعية"(14)؟[ملفات حوارية في الحداثة الشعرية ص298].

ودليلنا أن الشاعر وظف في لغته الشعرية تقنيات عديدة، أبرزها المونتاج الفني، والاقتصاد اللغوي، والمرجعية الشعرية الحافلة بالموروثات المثيولوجية والدينية والقصص الشعبية والمفردات المعاصرة المشتقة من أسفاره ورحلاته الكثيرة خاصة إلى اسبانيا، ومن يطلع على قصائده في مختلف مراحلها الشعرية يدرك أن لأسفاره أثرها البارز في تحفيز قصائده وإغناء قاموسها الشعري،يقول الشاعر نفسه مؤكداً هذا الأثر" لا أريد أن أكرر الجديث عن تجربتي في إسبانيا فقد تحدثت عنها كثيراً، وكتب عنها الكثير، ليس من ناقد أو مؤرخ أدبي، كتب عني إلا وتناول ماتركت إقامتي في إسبانيا من تأثير في تجربتي الشعرية وصار من ثوابت هذه الكتابة وما آل إليه هذا التأثير، تأثير مرحلة سبقته وأخرى جاءت بعده، وقد قلت من قبل كما قال غير واحد من عرب وإسبان، إنني لم أحاصر هذه التجربة بحدودها الأندلسية، عاطفية كانت أم موضوعية،ولم أرهن قصيدتي في موقف الوقوف على الأطلال، على عمق علاقتي بها واعتزازي بما تمثل من إنجاز حضاري عربي مجيد.

أما إقامتي في المغرب، فقد كنت مغربياً جاء من المشرق، وبغدادياً وحد المشرق بالمغرب، فما عادت حدود بينهما على ورقة القصيدة. إن كل الذي رأيت في رحلاتي إلى جميع قارات العالم، مازال يرافقني إلى قصيدتي، ومازالت قصيدتي تعرف الطريق إلى خزائن آفاقه, نعم أقول إن أثر الرحلات التي أتيحت لي في أصقاع الدنيا مازال حاضراً قي ما أكتب"(15)[مسارات الإبداع الشعري ص251-251].

والحق إن مسألة غنى ثقافة الشاعر مسألة ضرورية في تحفيز قصائده شريطة امتصاص وتمثُّل هذه الثقافة بالشكل الفني الذي يدخل صميم التجربة الشعرية من جذورها، ولاشك في أن ازدهار المعجم الشعري وتناميه يتوقف على عمق تجربة الشاعر وزخمها ورفدها بالمشتقات اللغوية الجديدة على الدوام، وقد كان الشاعر حميد سعيد مدركاً لأهمية هذه المسألة في تجديد نسج قصائده ورفدها بمفردات جديدة تدخل في موضعها الشعري المؤثر على الدوام، وليست غريبة عن سياقها أو ملصقة لصقاً لا قيمة لها، وإنما تأتي مسبوكة سبكاً محكماً لدرجة أنه لا يمكن استبدالها أو الاستغناء عنها، وهذا ما أكده في قوله:" إن الشعراء الذين لا تتجاوز مصادرهم الشعرية حدود ما قرأوا، مهما كانت قراءاتهم ثرية وواسعة لم يتجاوز نصهم الشعري تقاليد النظم أو كتابة نصوص تتمحور حول الأفكار من دون أن تنفتح بها على أفق جمالي واسع، إن معظم الشعراء الذين استأثروا بالاهتمام وتركوا أثراً إبداعياً هم الذين عاشوا حيواتهم الإبداعية كما ينبغي أن تعاش، وكان الذي رأوا من مصادرهم الشعرية ، ومن هنا توحد المعنى في الرؤية"(16).(ملفات حوارية في الحداثة الشعريةص250-260).

ومما لاشك فيه أن حميد سعيد قد أدرك أن التجربة الشعرية الناضجة حصيلة خبرات وتجارب عديدة فلا تزدهي التجارب، وتغتني إلا بانفتاحها على خبرات وتجارب إبداعية لا حصر لها ، وتزداد غنىً وأفقاً إبداعياً كلما انفتحت على آفاق إبداعية جديدة،ونهلت من معينها ما يجدد ينابيعها الشعرية، ولهذا تجسدت رغبة الشاعر حميد سعيد في الانفتاح على التراث والمعاصرة، وهذه المعادلة هي التي جددت ينابيع شعريته باستمرار، وحققت لقصائده تميزها بالشكلين معاً، ولا نبالغ إذ نقول:إن رغبة الشاعر حميد سعيد تتجسد في تنمية الحس الجمالي بالأشياء أو المسميات التراثية،فهو يخلق التراث خلقاً إبداعياً جديداً لهذا تجد في التراث نكهة المعاصرة ،وهذا ما يجعل التراث في قصائده حياً أو طازجا ً يحمل روح المعاصرة، وليس حدثاً ماضوياً جرى وانتهى، وهذه مسألة مهمة في الدخول إلى متن (من أوراق الموريسكي)، ودليلنا أنه عصرن التراث العربي أو المخزون الثقافي المشتق من التراث الأندلسي حتى رمز (الموريسكي) ذاته مشتق من هذا الإرث المعطاء، وبتقديرنا: إن أسفار حميد سعيد إلى إسبانيا دفعته إلى تمثل المناخات والأجواء الأندلسية في قصائده ، رغبة في التشبث بالحضارة العربية التي أغنت فضاء قصائده بمناخات إبداعية وتقنيات فنية ممتصة من رحيق هذا الإرث الثقافي،سواء في شكل القصيدة أم في استخدام تقنيات إبداعية كالوصف، والسرد، وذكر الأماكن ، وما إلى ذلك، ونستدل على ذلك من قوله:

"كلُّ الوعود التي رافقتني إليها..
نَأَت بي.. الى..
سأُسمّيه ليلَ الرمادِ..
وما زوَّدتني به الأَميرةُ القُرطبيَّةُ.. من عناوينَ..
ضَيَّعْتُها..".(من أوراق الموريسكي ص43)

إن النكهة الأندلسية بادية في الطقس الإبداعي لهذه القصيدة، من خلال ذكر( الأميرة الأندلسية)،وما يعلق بها من دلالات مستمدة من هذه المناخات،إذ يحاول الشاعر أن يستقي من رحيق الحضارة الأندلسية، ما يطور رؤيته، ويسمو بها إبداعياً، وللوقوف على ذلك بدقة لابد من الكشف عن أهم العلامات أو القوى الرؤيوية الموجهة للثلاثية المغربية، وهنا نصل إلى شق القصيدة الثالث، وهو(بيت مولاي علي).

العلامات الرؤيوية الفارقة فى (بيت مولاي علي ):

إن العلامة الرؤيوية الفارقة في هذه القصيدة هي إحياء التراث الأندلسي، والتركيز على الفضاء المكاني لشخصية الموريسكي، والتركيز على الوحشة والوحدة التي يعانيها الموريسكي في واقعه الأندلسي الذي ارتحل عنه مرغماً، فيستعيد هذه الفضاءات تمسكاً بوجوده، وهويته الأندلسية المستلبة، وللكشف عن هذه البؤر سنقف على أبرزها بالتفصيل، وهي:

إحياء التراث الأندلسي:

إن رغبة الشاعر الجامحة في توظيف معظم ما ينمي شعرية قصائده، ويرتقي بفضاءاتها الدلالية،كان له الدافع الأكبر في هذا الحضور والتمثل الإبداعي للتراث الأندلسي،وهذا الحضور مرده رغبة جامحة في إحياء هذا الإرث ليبقى عالقاً بالذاكرة،لا ينفصل عنها، ولا ينقطع ، وأبرز مايدلل على ذلك قصائد الموريسكي التي تسترجع هذه الطقوس، وتجعلنا نحياها في مناخات إبداعية تعيدنا على جناح السرعة إلى هذه الفضاءات الفسيحة التي نعيشها، وكأنها واقع حقيقي ،نتحثثه بمداركنا ورؤانا ومنظوراتنا المباشرة، وللتدليل على ذلك، نأخذ قوله:

" نجمَةٌ..
تَقودُ خُطايَ الى بيتِ مولاي عَليٍّ..
يرسمُ السيِّدُ المشرقيُّ .. باباً..
على صفحةٍ من كتابٍ قديمٍ..
ويفتحُهُ..
يَتَقحَّمُ.. أندلُسَ المُدَوَّنَةِ المغربيَّةِ..
في خطِّها الشَجَريِّ..
الزمانُ الذي كان يبحث عنهُ..
لياليه من عَسَلٍ أسود والنهارات ُ من كهرمانٍ شَفيفْ
رياحٌ حُجازيَّةٌ .. في الجوارِ..
العابِدُ..
الزاهدُ..
المُتَصَوِّفُ..

يغفو اليمامُ بينَ يَديه.. وتُزهِرُ حينَ يُصَلّي القِفارْ"(من أوراق الموريسكي ص43-44).
إن المفردات اللغوية، والنسج اللغوي، والطفس الإبداعي، لاتغيب عنه الفضاءات الأندلسية إطلاقاً،وليس كذلك فحسب، بل إن الصور والمسميات مشتقة من هذه الأجواء، من خلال الجو العام الذي تضعنا فيه هذه القصيدة، والذي يساعد على إظهاره البنى اللغوية التالية:( أندلس، كتاب قديم ،عسل أسود،نجمة،مولاي عزلي،المدونة المغربية، خطها الشجري، كهرمان شفيف،رياح حجازية، يغفو اليمام ،المتصوف، يصلي القفار"، وكأن الشاعر يضعنا في طقس صوفي يتمثل فيه الطبيعة الأندلسية، بكل ما فيها من فيوضات عاطفية، وأحاسيس ، ورؤى، تنعكس على مخيلة المتلقي، وهذا لا يعني اقتصار الشاعر على هذه الأجواء، أو المناخات الأندلسية فحسب، وإنما يلجأ إلى تكريس الصورالنابعة من فيوضات هذا التمثل، والإحساس بهذا البلد الحضاري في مرحلة من المراحل .

ولا نبالغ إذا قلنا : لقد تأثر الشاعر بالطقس الأندلسي، وشكَّل قصائده ( من أوراق الموريسكي) معتمداً هذه الأجواء، إذْ نتنسم في كل قصيدة عبق الأشجار، والحدائق،والورود، والقصور،والينابيع، والشلالات، والبرك،والخمائل الغناء،ولهذا، نجده يستحضر الجو النفسي والشعوري لزمن الموريسكي المطارد أو المعذب ، وكأنه باستحضاره لهذه الأجواء يستحضر عوالم يحلم باسترجاعها أو استعادتها أو اللجوء إليها،والدليل المرجعي على ذلك قوله:
"يتقحم.....أندلس المدونة المغربية..

في خطها الشجري"

2-ثراء القاموس الشعري:

لقد نوَّع حميد سعيد في قاموسه الشعري،وعياً منه أن اللغة يجب أن تستوعب مناحي الحياة جميعها، والشعر هو الحقل الحافل لاجتذاب هذه المفردات، ولهذا يدخل الكثيرمن المفردات والأسماء والمسميات الأجنبية لإغناء هذا القاموس، حتى ولو كانت هذه المفردات مشتقة من خارج مضمار الحقل الشعري، وهذا ما أكده علي جعفر العلاق قائلاً:"إن حميد سعيد لايجد حرجاً على خلاف البعض من شعراء جيله، في استعمال مفردة دون أخرى،إّذْ يمكن لقصيدته أن تستثمر مفردات جافة أو خارج السحر الشعري ، مثل (هرطقة، شراشف، المقانق، نارنج ،سماق، كنزة ،بوسترات، رمان ، يقطين)...إنه يحاول أن يستدعيها إلى سياق الشعر بعد أن ظلت زمناً طويلاً تعمل على الهامش النثري من الحياة ومن اللغة أيضاً، وينطبق ذلك على ألفاظ السخرية والتهكم الجارح، مثل: الشعراء القوادين، الخليفة العينين ، الجبناء المخنثين،باحتصار شديد، كأني بالشاعر حميد يذكرنا بالشاعر عبد الوهاب البياتي، ولغته الهجائية القاسية من جهة، ويدفع بلغته من جهة أخرى لتغترف من كل ما تجيش به الحياة ، إنه يولي ظهره لمفهوم القاموس الشعري التقليدي، ليدخل عالم اللغة الشعرية بما فيها من تنوع وفاعلية"(17)[الشعروالتلقيص139].

والملاحظ أن رغبة الشاعر في كسر حدود الألفة المعتادة في التشكيل اضطره أن يشتق الكثير من المفردات الغريبة، ويدخلها حيز الشعر، ومضمار الشعرية، وهذا ما تمثله قصيدته( بيت مولاي علي)، إذيقول:"

سأشاكسُ ذاكرتي..
وأَقولُ.. في هذه المدينَةِ..
تبدو البلادُ .. غيرَ مَعْنِيَّةٍ بالبلادِ
0 0 0
وَصَلْتُ مَساءً الى شارع الزرقَطوني
ثُمَّ.. انعَطَفْتُ الى طُرُقٍ مُتَشابكَةٍ..
ما عُدْتُ أذكرُ كيفَ اهتَدَيتُ إليها"(من أوراق الموريسكي ص40).

لقد استخدم الشاعر مفردة( الزرقطوني) ،وهي مفردة غريبة غير معتادة في السياق الشعري،وهنا وظفها الشاعر بزوغان أسلوبي، ليعصرن مفرداته، ويكسبها دلالة جديدة، ويدلل على تعداد الأمكنة التي يرتادها الموريسكي المعذب والمطارد من مكان لآخر لا يستقر له مقام ، إذْ سرعان ماينتقل من مكان لآخر مرغماً ومطارداً من موطن إلى آخر، ومن مدينة لمدينة ، ومن شارع لشارع، وما شارع الزرقطوني إلا دلالة على تعدد الأمكنة واختلافها لديه.

وبتقديرنا: إن غنى المعجم الشعري –عند حميد سعيد- يعد القوة الخفية التي تثير قصائده (من أوراق الموريسكي) ، ومن ضمنها هذه القصيدة.وهذا الغنى مصدره تجارب الشاعر المتنوعة وخبرته الواسعة، ورحلاته المتنوعة.
3-الوحدة والوحشة والغربة الداخلية:
تعد دلالة الوحدة والوحشة والغربة الداخلية من أبرز العلامات الرؤيوية الفارقة في هذه القصيدة،وهي تدل على غربة داخلية وإحساس وجودي قلق في ظل تغير القيم واختلاف الأزمنة والأمكنة، وهذا يدل على حيرة وحسرة واغتراب، ووحشة روحية،
غاية في الانكسار والقلق والاضطراب، كما في قوله:

أُشاكِسُ ذاكرَتي
وأَقولُ.. لابحر في هذه المدينةِ
لا أصدقاء
ولا امرأة في انتظاري
وَلَمْ يَدْعني أَحَدٌ" (من أوراق الموريسكي ص 40-41).

إن إحساس الوحدة والوحشة الداخلية تناوش أصداءه الروحية،وكأنه مطارد روحياً،ومستلب شعورياً،لا امرأة تؤنس وحشته، وتهدهد على صدرها أحلامه،وهذا الهجران ، يشعره بالإهمال والضيق ، وأصعب مايعانيه المغترب الهجران والتجاهل، فلا أحد يقترب منه ، يدعوه ليكسر حاجز الغربة الرهيبة التي يعانيها، حتى أصدقائه الشعراء تخلوا عنه، إذ يقول:

"غادَرَ الشعراءُ المقاهي..
وفي غَفْلَةٍ من سكارى عنيدينَ.. يحتَرفونَ الضجيجَ
تَقْتَسِمُ السهرةَ امرأتان
وتختلفان في اقتسام كأسِ النبيذ الأخيرَةِ
كانت سطوحُ البيوتِ العَتيقَةِ..
ماعُدتُ أذكُرُ ..
مَنْ دَلَّني الى سهرَةٍ.. على سطوح البيوت العتيقةِ
أُشاكِسُ ذاكِرَتي..
وأَقولُ.. مادلَّني أَحَدٌ
. . . . . .
. . . . . .
تستأجرُ الغَيمَةُ الشحيحةُ.. المطرَ المُرَّ
تسقي بهِ شَجَرَ المِلحِ..
يُثْمِرُ غابين.. من حَجَرٍ ونُحاسٍ
في هذه المدينة.."( من أوراق الموريسكي ص41-42).

ومن الملاحظ أن دائرة الهجران تطال ذاته الداخلية وتطال جزئيات المكان ، وكأن المدينة هجرته ، والزمان ارتحل به إلى زاوية مهملة ، وهذا يعني أن الموريسكي يعيش حالة من الهجران والضياع الزماني والمكاني ، لقد فقد الأحبة والأصدقاء ، وعانى الفقد (فقد كل الأمكنة الخصبة )حتى الأمكنة سكنها الهجران ، وحتى الأزمنة تعطلت ولم يعد لها ذاك البريق وتلك النشوة، والمدينة التي يبحث عنها تنكرت له وهجرته ، وهذا يعني ارتحال كل ماهو خصب وجميل عن عالمه الشعري ، وضياع كل الأحلام بالعودة أو الاسترجاع الزماني لكل ماهوخصب وجميل في عهده السابق،لكن رغم ذلك يتمسك بالأمل ، ويحلم بعودة مدينته المستلبة ومجده الغابر، وعهده القديم ، لعله يسترجع بيته الذي كان وذكرياته القديمة، وبهذه الرؤية المقاربة يحط بنا الرحال مقبوسه الشعري:

"أُصالحُ ذاكرَتي..
وأَقولُ في هذه المدينةِ..
بيتٌ.. يُعيدُ لها البحرَ.. يمنحُها من سجاياهُ..
فيضاً
إذا أقبل الفجرُ..
تبدو البلادُ مُعَوَّذَةً بالمثاني..
فَنَدخُلها آمنينْ"(من أوراق الموريسكي ص45).

إذاً، إن رمز المدينة في هذه القصيدة لا يشبه الشعراء الآخرين ، فهو لا يسترجع الأمكنة،بالنوح والبكاء على أطلالها، وإنما يسترجعها كنوع من التشويق والإحساس بالأمان، والرغبة في الارتحال إلى تلك اللحظات المشرقة والأماني الخصبة،فلغة الأمان والاطمئنان الروحي هي ماتجمع الطيف الدلالي لهذه القصائد ،بالإضافة إلى مشاعر الشوق والحنين التي تجمعه بالأمكنة والاطمئنان الروحي بذكرها واسترجاعها.

ولا نبالغ إذا قلنا: إن حميد سعيد مولع بتجميل الأمكنة في مقابل مواجهة الزمن، فهو يشعر بقيمة الأماكن من خلال قوة الحياة التي يبثها في الأزمنة، فالمكان لا ينفصل عن الزمن عند حميد سعيد، ولهذا، يمكن اعتبار الزمان والمكان عملة واحدة لإحساس شعوري واحد، هو التشبث بالأمل والحياة.

وما ينبغي التأكيد عليه فيما يخص شعرية( من قصائد الموريسكي) إن مفاتيح الشعرية تختلف من قصيدة إلى أخرى، وهذه المفاتيح تدلل على أن آفاق شعريته متنوعة،ومسارتها مختلفة ومتغايرة، فقد يثيرنا أحياناً بالأسلوب السردي، وقد يثيرنا بالأسلوب الحواري، وقد يثيرنا بالأسلوب الوصفي،وقد يثيرنا باللغة وقاموسها المتنوع، وقد يثيرنابالصورة البانورامية الدرامية المكثفة ذات المونتاج الفني واللقطة القريبة ،مما يدل على أن آفاق شعريته متنوعة، ومداليلها مختلفة ومساراتها مراوغة، ولهذا، يجد الدارس في قصائده حقلاً خصباً من الرؤى والدلالات، والمؤثرات والتقنيات،أي أن القارئ لايرجع خالي الوفاض من مثيرات الشعرية، ومايولدها، ويثيرها على الدوام ، سواء بالكلمة أم الجملة أم الدراما أم الأسطورة أو الصورة المشهد ، أم الصورة المحور أو اللقطات المكثفة المكثفة أم السرد التصويري الرؤيوي أم الدراما المتوترة، إذاً تشتغل في قصائده تقنيات مختلفة، ومؤثرات شعرية مواربة في شكلها وتشكيلها وإيقاعها ومشهدها ومناخها وجوها الأسطوري الإبداعي الذي تخلقه.

ولابد من الإشارة إلى ناحية مهمة وهي أن حميد سعيد مولع بتجميل المكان، بمقابل مواجهة الزمن، فهو يشعر بقيمة الأماكن من خلال قوة الحياة التي يبثها في الأزمنة،فالمكان لا ينفصل عن الزمن عند حميد سعيد، ولهذا، فالمكان والزمان عملة واحدة لإحساس شعوري واحد،هو التشبث بالأمل والحياة،ولهذا لم يتصر حميد سعيد على الأمكنة المتخيلة، ومن أجل هذا، فإن شعرية الأمكنة المتخيلة لا تقل قيمة ولا أهمية ولاشاعرية،عن قيمة الأمكنة الواقعية، وهذا ماينطبق تماماً على نظرته للزمن،فالزمن- من منظار حميدسعيد-زمن إبداعي،صحيح أن حميد سعيد في ارتباطه بالزمن يدركه بماضويته،إذ يفرض الماضي على الشاعر دائماً أن يلجأ إلى الأمكنة، سواء المقدسة منها أم الأمكنة التراثية، بما في ذلك أسماء المدن، والمواضع، والمواقع الأثرية، إنه يستعيد الماضي بحيويته، ونشاطه وقوته الموحية الموجبة، وليست بسكونيته وسلبيته،ولهذا،فإن الماضي في قصائده مشحون بالحاضر، بحيث يتحول الزمن لديه إلى زمن كوني أو إلى زمن مطلق، ودليلنا أن الماضي والحاضر يعيشان معاً في اللحظة الإبداعية، ولاعجب أن "تتجاوز صلة الشاعر بتراثه دائرة الماضي ،لتحتضن الحاضر أيضاً، وتتخطى استدعاء النصوص وموروثات القول القديمة،لتشمل توظيف الأسماء البارزة كرموز وأقنعة وشخصيات، إنك تجد أسماء كثيرة قد أخذت طريقها إلى قصائد حميد سعيد: علي ، فاطمة ،عمار بن ياسر، سحيم ،حزام، طارق بن زياد، أبو يعلي الموصلي،ابن زريق البغدادي،فاطمة برناوي، إن جامعاً واحداً يضع هذه الأسماء تحت خيمة واحدة، أعني اتصافها بالتحدي والاستشهاد والمغامرة"(17) [الشعروالتلقي ص135].

وبمفهومنا النقدي الذي استنبطناه من مطالعتنا للقصائد الموريسكية نقول :إن رغبة الشاعر حميد سعيد الجارفة إلى إحياء التراث بعين حداثوية تنفتح على قنوات الواقع بأشكاله المختلفة دفعه إلى تنويع الشخصيات وإحيائها في قصائده، فهو لم يفشل بإسناد أدوارها، ولم يفشل في تنشيطها الفني في قصائده لتكون اللسان الناطق له عن مشاعره الباطنية وأحاسيسه المتقدة، وهذا ما نجده في قصائده(الموريسكي) و(من أوراق الموريسكي)، فالقصيدتان هما بانوراما تشكيلية تجمع السرد بالدراما، والدراما بالسرد بمزاوجة فنية هادفة لتفتح قنوات الإثارة على أشدها،يقول حميد سعيد في هذا المنزع الأسلوبي في قصائده:" في قصيدتي كان ما يشبه التكامل بين السرد والدراما، وهذا ما أبعدها عن الاندياح والتسطيح وقد كان من علل قصيدة التفعيلة، حيث نجد قصائد شعراء تطول في ما يشبه الهذيان ، حتى كأن الشاعر لايتحكم بحركة قلمه على الورقة البيضاء"(18)[ملفات حوارية في الحداثة الشعريةص315].

ووفق هذا التصور الرؤيوي، شكَّل حميد سعيد بنية قصيدته مزاوجاً بين بنية السرد والبنية الدرامية ، وهذا ما أكسب قصائده العمق والبعد عن السطحية والاندياح، ولإبراز ملامح الجوانب السردية وتضافرها مع البنى الدرامية والبنى التشكيلية البصرية سنقف على قصيدة(الموريسكي) لحميد سعيد ،التي شكلت مناخ المجموعة الفني والرؤيوي والنفسي برؤاها المكثفة وتطلعاتهاالثورية، وآفاقها الروحية المغتربة، ومنظوراتها المراوغة.
العلامات الرؤيوية الفارقة في قصيدة (الموريسكي):

تنبني هذه القصيدة على علامات بؤرية عميقة تشي بأفقها الرؤيوي العميق ومرتكزاتها الفنية،وأبرز المفاصل الرؤيوية في هذه القصيدة هي :

الموريسكي المطارد أو المعذب:

إن دلالة المطاردة تشكل ذروة الاغتراب، وتشكل أهم ملامح الإنسان المعذب ، خاصة إذا أدركنا أن فعل المطاردة مايزال مستمراً إلى مالا نهاية،وهذه المطاردة يزداد أثرها حين تطال الروح ، ومطاردة الروح هي التي تقود إلى الوجاعة والارتداد إلى الذات الداخلية وحشة وقلقاً وتأزماً واغتراباً،يقول الشاعر
"

مُطارداً في اللغة الأولى.. وفي القصيدة الأولى
وفي الحدائق البيضِ..
وفي الآلِ..
وفي فردوس عبد اللهِ
في مملكة الماء.. وفي اليبابْ
مُطارداً في ما رأى.. وما أحبَّ
مطْروداً الى ما لا يرى.. من حَجَرٍ أو شجَرٍ
أدخلَهُ العلقمُ في ما لايُحبُّ
فأقامَ في الخرابْ"(من أوراق الموريسكي ص47-48).

هنا، ابتدأ الشاعر النسق الشعري باسم المفعول( مطارداً)، وهذا يعني أن الموريسكي ملاحق في وجوده، يعيش حالة من التوترات والاغترابات الشعورية والوجودية والنفسية العميقة،وهذا يعني أن الشاعر تقمص هذه الشخصية ليبث من خلالها كل فيوضاته الشعورية والنفسية المعذبة ، فالموريسكي قناع اعتمده الشاعر، بجامع الاعتراب القسري عند كليهما،فكما عانى الموريسكي الاغتراب والنفي القسري والظلم عانى الشاعر ماعاناه من تهجير ونفي واغتراب، فرضها عليه الغزو الأمريكي على العراق، فالموريسكي هوالشاعرنفسه الذي عانى الاضطهاد ، فأقام في الغربة التي وسمها بالخراب، وتجرع كأس الألم والمرارة والأسى والاحتراق الداخلي، وقد يلحظ معنا القارئ محاولة الشاعر الهروب بهذه الشخصية من مكان إلى آخر، رغبة في انقاذها واستعادة مجدها القديم ، وقد تجلى شكل الهروب بالشكل اللغوي ومتغيرها الأسلوبي الذي اتبعته،بالانتقال مرة إلى السرد الوصفي ، ومرة إلى التوصيف المشهدي ، ومرة إلى الصورة البانورامية أو الدرامية المحتدمة ، ومرة إلى مزاوجة الشخصية بشخصية أخرى ، وهذا دليل الحركة الدائبة في الشكل اللغوي والدلالي والبصري لتشتغل القصيدة على جميع المحاور لترصد حركة المطاردة النفسية والشعورية والمتخيلة،إذ يقول:

تَرتَبِكُ الطلاسمُ التي افتراها.. علّها تنفتِحُ الليلةَ
هذا شجرٌ مُراوِغٌ وخائفٌ
شاحبةٌ ثمارُ هذا الشجر الخائفِ
لم يلتفتث الماءُ إليها
لن يُعيدَ الزمنُ الضائعُ ما كانَ على أغصانها..
ولنْ يكونْ
لاوردُها الغامضُ من قبائلِ الوردِ
ولا أريجُها من الأريجْ"(من أوراق الموريسكي ص48-49).

إن الشاعررصد الحراك الشعوري من خلال الشكل اللغوي، وهذا يعني أنه انزلق في مسار القصيدة قليلاً من رؤية إلى أخرى، ومن شكل لغوي وأسلوبي إلى آخر،وهنا يلحظ القارئ انتقاله من باب التوصيف السردي إلى باب الصورة الشعورية المشبوبة بنيران المواجع وسياط الاغتراب،ولذلك لجأ الشاعر إلى الطبيعة لتكون لسان حاله الداخلي ،ليبث من خلال الصورة وقع الذات القلقة المنكسرة أو المغتربة، على صخرة الأسى والمرارة والحزن واليأس المطبق، والدليل على ذلك اعتماد الصورة المشتقة من الطبيعة ليحكي معاناة الذات في خوفها واضطرابها، وهذا الخوف الاغترابي ينقله من ذاته المتوترة المتسائلة إلى الطبيعة، رداً على حالة شعورية يائسة أو منكسرة ،لأن ذاته المطاردة في حركة دائبة وارتحال مستمر، وكأن الموريسكي مطارد من ظله ، مطارد من الطبيعة من حوله، حتى من قبل الطلاسم ، والثمار، والشجر الخائف، وهذا يعني أن نظرته للأمكنة لم تعد كما كانت حتى الأمكنة ذاتها أصبحت مطاردة كذاته القلقة المطاردة كذلك،ولشدة الإحساس بشبح هذه المطاردة حتى المظاهر الجمالية الخلابة في الطبيعة كا(الأشجاروالورود والثمار) غدت فزاعات سوداء تناوش دواخله الشعورية اليائسة، وتزيد فداحة مطاردته وقلقه الوجودي.

وعلى هذا النهج الاغترابي يتابع الشاعر سيرورة القصيدة بكل حراكها التوصيفي وتشكيلها البصري المفتوح على آفاق رؤيوية خصبة ومداليل شعورية عميقة، كما في قوله:

"في ماتبقّى من قراءات.. على معارجٍ مُضيئةٍ
تعثَّرَ الكلامْ
ونضت الأحلامْ
قمصانَها البيضَ .. ونامت في سريرِ ساحرٍ مُخنَّثٍ
يقطفُ منها حين يشتهيها.. الشوكَ
كلُّ إرَمٍ .. تغضُّ طرفَها عمّا ترى..
وتفتحُ الأبوابَ للمدجّنينْ
. . . . . .
. . . . .
على حدود مدُنٍ مُباحَةٍ.. ل ...." من أوراق الموريسكي ص50-51).

إن القارئ يشعر أن الموريسكي ماعاد يملك القوة على المواجهة ، وماعاد يملك القوة على الاصلاح والتغيير فقد قواه في مطاردته الاغترابية، وفقد حلمه بالعودة

واسترجاع زمنه القديم ، خاصة في ظل تراكم مختلف مظاهر التفسخ والانحلال والهشاشة والاتضاع والمفاسد جميعها،كما في قوله:

" مُطا رَداً في صمتهِ..
وسَمْتهِ ..
في مُدُنٍ يلِجُها القاتلُ والخاتلُ.. والقوّادُ والقرّادُ..
والمراوِغُ الصخّابُ..
. . . . . .
وكانَ مطروداً من الغيابْ
شاركَهُ الماضي الذي صارَ بعيداً..
مَوْتَهُ..
فما فازَ من الغنيمةِ السوداء .. بالإيابْ"(من أوراق الموريسكي ص53-54).

إن القارئ يلحظ أن الموريسكي /الشاعر،يعاني حالة من الاصطراع والقلق الوجودي، من خلال تناقضات الواقع ومظاهر اتضاعه، فهذه المدن ليست شبيهة بمدينته الفاضلة التي تضم أهله وخلانه وأصدقاءه المقربين، وإنما تضم المنافقين والأشخاص المزورين من القتلة والقوادين والمراوغين،وكأن اغترابه ممزوج بإيقاعين روحي ووجودي واجتماعي،وهذا يعني أن اغتراب الموريسكي هو اغتراب الشاعر في معاناته الوجودية، وقلقه وصمته ووحشته والإحساس بالخواء في مدن مزورة سوداء لايعي مصيرها ولايدرك أبعادها الوجودية ووحشتها الاغترابية الخانقة.

2-رصد المفاسد ومظاهر التفسخ الوجودي:

إن من أبرز العلامات الفارقة في هذه القصيدة رصد المفاسد،ومظاهر التفسخ في المدن المُطَارَد فيها ، وهذا يعني أنه يعاني من مختلف أشكال الاغتراب والعذابات الوجودية كافة،من اغتراب وجودي واجتماعي ومكاني وزماني ونفسي في ظل واقع متفسخ موبوء، ومصادر،إذ يقول:"

كانَ موقوفاً.. مُحاصَراً.. مشْتَبَهاً به..
كأنّهُ الطاعونْ
يسألُ الموظَّفُ المجبولُ من طينِ محاكم التفتيشِ..
مَنْ هذا الذي يحملُ في إهابهِ.. أندلساً أخرى..
المُكًلِّبُ الأزرقُ.. مثلُ باذنجانةٍ عتيقةٍ
يشمُّ ما تبقى من قصائد العشقِ..
كما الأفيونْ
يغيبُ ما انتهى إليه العاشقون .. منْ مَواسمٍ
يغيبُ عنها.. الشَبَتُ البريُّ والسَذابُ والآسُ..
ويحضرُ الرمادْ".(من أوراق الموريسكي ص(50).

إنه واقع متفسخ موبوء بالطاعون والفساد هذا الواقع المصادر الذي تحكمه الحواجز ومحاكم التفتيش، إنه الوباء الذي حل بالأمة،والدمار النفسي،الذي عاناه الموريسكي في زمنه العقيم ،ومن يدقق في المقبوس الشعري يلحظ أن الشاعر يربط الماضي بالحاضر، يربط الواقع الذي يعيشه هو بالموريسكي بوصفه قناعاً يبث من خلاله مظاهر الانتهاك والأسى الجارح ، الذي يحمله في ليل اغترابه،وأساه ومنفاه الوجودي الطويل،إذاً، يربط الشاعر واقعه الموبوء بواقع الموريسكي ، ورحلته الوجودية المعذبة ،بإحساس وجودي، بانورامي درامي ، غاية في الأسى والاحتراق الوجودي، ولعل المفارقة التي عضدت حراك هذه الشخصية، الاندماج التام بين شخصية (الموريسكي)وشخصية (الشاعر)، فلا تكاد تتضح ملامح الشخصيتين إلا متصلتين ، فالموريسكي هو الشاعر، والشاعرهو الموريسكي في نظرته الوجودية، واغترابه الوجودي الحارق،إذ يقول:

"عاصفةً من كذبٍ أسود.. أو كالكذب الأسود..
في قيامةٍ عجفاء تغدو الأراجيفُ بلاداً..
ويكون المُرجِفونَ من أولي الأمرِ.. القضاةَ والشهودْ
بينَ رواقينِ من الشوكِ.. مضى
لاأحَدٌ في هذه المفازة الملحيَّةِ البلهاءْ
أوقفَهُ الرثاءْ
شارَكَهُ كتابَهُ المخبوءَ.. بين السينِ والسورَةِ..
بينَ السرِّ والسُرى..
شاركهُ القراءةَ البيضاءْ"(من أوراق الموريسكي ص52-53).

إن هذه المدن مزورة يكسوها اللصوص والمزورون والكذبة والمرجفون وشهود الزور المنافقين ، والمفسدون،ذوو المفازة الملحية البلهاء،والأراجيف ، إنها المدن الفاسدة التي تكتظ بالمفاسد وشتى أشكال الاتضاع والانحلال،وهكذا تطرح هذه القصيدة رؤيتها بالارتكاز على هذه العلامات الرؤيوية الفارقة مضافاً إليها علامة بؤرية مركزة محورية في القصيدة،وعليها ترتكز في محورها الرؤيوي وهو العلامكة الفارقة الثالثة في القصيدة،وهي:

3.التجريد /أو الإيقاع السريالي:

يعد الإيقاع السريالي من الإيقاعات الرؤيوية المهمة في الكشف عن الجو الكابوسي النفسي الذي يعيشه الموريسكي في رحلة عذاباته الوجودية ،وهذا الإيقاع من أبرز الإيقاعات النفسية في الكشف عن الحالة الكابوسية الخانقة التي يعيشها الموريسكي المعذب أو المطارد في عالمه بتكريس كل مظاهر البشاعة والقبح والتشويه لمعالم الأشياء من حوله دلالة على اغترابه وتشبثه بلحظات الإشراق الماضية،ومافيها من إشراقات في ظل واقع كابوسي مشوه بالهياكل المرعبة والصور السوداوية الخانقة. وهذا مانستدل عليه من قوله:

"أَوقَفَهُ الرثاءْ
على حدودٍ.. نَزَلتْها ذاتَ ليلةٍ..
عاصِفَةٌ رعناءْ
-بينَ الضَحِكِ المَمْحوِ والبكاءْ
تَقْتَرِضُ السَماءْ
غَيْمَةً..
وقمراً..
ونجمَتين..
وجُنْدُباً مُذَهّباً.. وحَدْأَةً..
تُؤثِّث الفضاءْ
وتُقيمُ مُدُناً رمليّةً.. ستبقى في انتظار الماءْ"من أوراق الموريسكي ص52).

إن هذه المدن المشوهة والمفاسد المترامية من كل حدب وصوب دفعته إلى الهروب من هذا الجو الكابوسي الخانق الذي يعيشه، إلى مدن الأحلام مدن الخصوبة ،مدن البياض والصفاء أو المدن المتخيلة في زمان فضائي عائم، يرتحل فيه من هذا الجو الكابوسي السريالي المشوه،و لحظاته الخانقة، إلى جو يقيم فيه متحثثاً عبق التاريخ وعراقة الزمن الذي كان،يقول الشاعر:

"من أرجوان اللغةِ المرتبِكه
من فضَّةِ القصيدةِ المُشْتَبكهْ
يُطِلُّ السيِّدُ الجَليدْ
يُخْبِرُهُ بموتِ صاحبِ البريدْ
واعتزالِ حارس القرنفلِ.. الأعمى
أعمى وفي....
فَلْتُعْطِهِ ما شاءْ
في كلِّ بيتٍ من بيوتِ مُدُنٍ كانتْ..
تُقيمُ كربلاءْ"( من أوراق الموريسكي ص53).

إن القارئ يلحظ التجريد الرؤيوي، وحالة القلق الوجودي التي يعيشها الموريسكي مسترجعاًالتاريخ ، ومتشبثاً به،وبهذا التشبث يقيم وجوده ومدينته المضمخة بعبيرالتاريخ وأحداثه الجسيمة، وهكذا
تأسست هذه القصيدة على البؤر الدلالية العميقة، ومثيراتها الرؤيوية التي تجمع بين الاغتراب والتعرية والمكاشفة الصريحة للواقع الراهن الذي يقوم على استثارة الزمن الماضي والتمسك به حتى النهاية،ونفي حميع المفاسد وأشكالها كافة،وهذا يجعلنا نصل إلى حقيقة جوهرية مؤداها:إن شعرية القصيدة ترتكز إلى التراث كمقوم من مقومات دلالاتها ومرتكزاتها البؤرية العميقة.

العلامات الرؤيوية الفارقة في قصيدة( من أوراق الموريسكي ) :
ترتكز قصيدة (من أوراق الموريسكي) على علامات بؤرية فارقة تثيرها في منحاها الرؤيوي والنفسي والشعوري، وهي البؤر التالية:
الإحساس بالهرم والعجز:
إن الإحساس بالهرم والعجز من القوى الدلالية الفاعلة في الكشف عن تعب الموريسكي في رحلة مطاردته الطويلة،فهو لا يستطيع أن يقاوم هذه الحركة الدائبة والصراع المحتدم في قرارة ذاته المغتربة ، إذ يقول:

"ليس لي لغةٌ..
أستطيعُ بها وصفَ ماكانَ
أو ما أشاهدُهُ .. حينَ أغدو وحيداً
مذْ تركتُ القُرُنفُلَ.. مُكْتَئِباً
صرتُ شيخاً..
وما عُدتُ أَفتَحُ نافِذَة يدْخُلُ النومُ منها..
إلى حيثُ كُنتُ أقيمُ.."(من أوراق الموريسكي ص56-57).

إن أشد مايعانيه الموريسكي المطارد أن يتقدم بالعمر وتلوكه سني الغربة والتشرد والضياع،وتقوده إلى الشيخوخة والعجز والضياع،وهذه اللحظات هي التي يتهرب منها الشاعر، متمسكاً بخيوط الآمال الواهية،التي سرعان ما تعيده إلى لحظات العجز وسياطها المريرة، ولعل أبرز العلامات الفارقة في الدلالة على هذه الحالة قوله:

ولا حُلُمٌ.. يتخطّى الفضاءَ النُحاسيَّ..
ينزِلُ بيتي..
وما أتَخَيَّلُ من زمنٍ نَثَرَتْهُ الثواني..
على صَفَحاتِ كتابي"(من أوراق الموريسكي ص57).

إن القارئ يلحظ تلاشي حلم الموريسكي في العودة إلى زمنه القديم ، إلى سني صباه وزمنه الضائع ، إلى بيته الذي نشأ وترعرع فيه ، إلى كل لحظة جميلة قد قضاها في كنفه ، ولعل ولع الشاعر بالأمكنة دليل تمسكه بالزمن الماضي، وهروبه من شبح الهرم والعجز والشيخوخة،وهنا يسترجع الشاعر شريط الذكريات عسى ولعله يقف على وميض ذكرى

تعيد به نبض الحياة من جديد، والأمل بالفجر الجميل:
"لَمْ أَعُدْ أَتَذَكَّرُ ما كانَ بينَ الحديقَةِ والبيتِ..
منْ أُلفَةٍ
لَمْ أَعُدْ أَتَذَكَّرُ أَلوانَ لوحةِ آلَ سعيد في الصالةِ المغربيَّةِ *
أو لوحةَ الغَجَرِ الداخلينَ في الأخضرِ.. في غرفة الضيوفِ"(من أوراق الموريسكي ص57).

هنا، فقد الشاعر ألفة المكان، ولم يعد يتذكر هذا الدفق الجمالي المشع ، وهذا النبض الدافئ والحنين الذي كان، خاصة بعد أن ارتحل مرغماً عن بيته ومكتبته ، ولم يعد يرتبط بالمكان سوى ماتقوده الذكرى المريرة من ومضات ومقتطفات جارحة، وهذا مانستدل عليه في قوله:

"كُنْتُ احتَفظتُ في دُرجِ مكتبتي..
بقصائدَ مَخْطوطَةٍ .. للحُصَيريِّ **
أَينَ هي الآن َ؟
هلْ غادرَتْ سُفُنُ الشعراءِ.. مَوانِئَها الضَيِّقهْ؟
لَمْ أَعُدْ أَتَذَكَّرُ..
أَيُّ القصائدِ تلحقُ بي وتُشارِكُني الليلَ..
وأَيُّ القصائدِ..تَهجُرُني مُذْ يَحِلُّ المساءْ ؟"(من أوراق الموريسكي ص 58).

إن الشاعر فقد الأرض والبيت ومكتبته وقصائده وذكرياته وأحلامه وأمانيه، لم يبق له من الذكريات إلا مايعلق بالذكرة من مشاعر وأحاسيس ورؤى جارحة ، وهذا يقودنا إلى القول : إن الإحساس بالعجز والهرم والفقد (فقد المكان، الأشخاص، الأصدقاء، البيت) من أكثر الدلالات الاعترابية، الباعثة على اليأس والضياع والانكسار.
2-الإحساس بالحرقة الزمنية
إن الإحساس بالحرقة الزمنية من أكثر القوى الموجهة للحركة الرؤيوية في القصيدة، خاصة عندما يشعر المرء برحيل أصدقائه المقربين، فيرتد إلى ذاته الداخلية وحشة واغتراباً، وأملاً ضائعاً، وخيبة مريرة ،وهذا مانستدل عليه من قوله:

"سَأُحاوِلُ أنْ لا أَرى أَحداً
وأُقيمُ بعيداً عن النومِ.. كيْ لاأَرى حُلُماً في منامي
وأُحاولُ..
أَنْ لا أرى صفحات الوفيّاتِ.. في صحفِ الصباحِ..
كَيْ لا أُضيف إلى مُعجمِ الراحلينَ .. أَسماءَ أُخرى
وأَنسى ضجيجَ المدينةِ.. كيْ لاتضيع القصيدَةُ..
كانتْ الريحُ..
تدعو المياهَ في آخرِ الليلِ..
إلى جَنَّةٍ وارِفهْ
فَتُفارِقُ شطآنها .. وتُفارِقُني..
وأَظَلُّ قريباً من العاصفهْ"(من أوراق الموريسكي ص58-59).

إن الإحساس المرير بفراق المقربين يترك صداه في نفس المغترب، ويشعر بلحظات الفقد المريرة، فالشاعر يخاف أن يقرأ في صفحات الوفيات عن خبر مفجع بموت صديق أو وليف، أومحب ، الأمر الذي يزيده اغتراباً واحتراقاً مريراً،يضاعف من حرقته وأساه العميق ، لكما استظهر أو تذكر أحد رفاقه الراحلين، فالموريسكي باختصار هو ذاته القلقة المغتربة التي تشعره بالارتحال والأسى والوجاعة الداخلية،وتزداد هذه الوجاعة كلما تذكر ركناً من أركان منزله أو أثاثاً من أثاتاته ، سرعان مايشتعل القلب حرقة ،وتزداد زفراته الاغترابية؛ وهذا ما نستدل عليه بقوله:

"في انتظار.. ما لَمْ أَكنْ أَتَذكَّرُهُ
كُنْتُ أُصغي إلى ما يُقالُ لَهُ....
لَمْ أَعُدْ أَتَذَكَّرُ.. ماذا يُقالُ له !
ورأيتُ.. ما يُشبِهْ البلادَ التي تخيَّلتُ..
لَمْ أَتخيَّلْ بلاداً
وأَسعى.. كما نملةٌ إلى بيتها.. أَتَخَيَّلُ بيتي
أُحاولُ أَن أَتَذَكَّرَ ما كانَ في البيتِ..
من كُتُبٍ ولُقىً وتماثيلَ..
من صُوَرٍ وخُطوطٍ.. ومن شَجَرٍ
يومَ كانت النخلةُ البابليةُ..
تستبدلُ الرُطَبَ الجَنِيَّ.. بضحكة جارتها الصاخِبهْ"(من أوراق الموريسكي ص 60).

إن القارئ، يلحظ شعور الشوق الذي يعتصر كيان الموريسكي إزاء كل ركن من أركان منزله ، وكل زاوية من زواياه، وصورة من صوره، وكتبه، وتماثيله، وشجره ،؛ إن لكل مسمى أثره الممض على أصداء روحه غربة واحتراقاً وانكساراً شعورياً عميقاً، وهذا يدل أن اغتراب الموريسكي هو اغتراب روحي مسكون باغتراب وجودي وغربة مكانية ، وحرقة شعورية عميقة، تظهر بين الحين والآخر دون أن تغيب عن القصائد الموريسكية،خاصة مايتعلق منها بالجانب الروحي، وبالأخص عندما يعود القبور مسترجعاً آثار أصدقائه وخلانه الراحلين،والدليل على ذلك قوله:

" كًلَّما مَررتُ بمقْبَرَةٍ..
عادَني.. ما يُعيدُ إليَّ الشجى
مَن سأسأَلُ عنها..
ومَن ذا الذي سوفَ يسألُ عنّي؟
أتوقَّف عندَ القبورِ القصيَّةِ..
أبحثُ عن بعض شاهدةٍ.. علَّني أُكْمِلُ ما تآكَلَ منها
وأقرَأُ ماغابَ عَنّي
أُجمِّعُ.. من صفحاتٍ مُغَيَّبَةٍ
ما يُعيدُ إلى الموت.. ماكانَ من عِفَّةٍ
ويُعيدُ إلى المقبرَهْ
سَمْتَها.. حيثُ تجتمعُ العائلهْ"(من أوراق الموريسكي ص 61).

إن هذا الإحساس الجنائزي الشعوري الذي يرافق الشاعر،لم يكن إلا نتيجة اغتراب وجودي زمني والارتحال إلى هذه الدارة الوجودية المقفلة بالتحجر والسكون ، وهو يريد الحياة والأمل الذي ينبعث من نفس مشبعة بالأمل رغم سوداوية الرؤية لديه، وهذا يعني أن رغبة الشاعرفي التشبث بالحياة كانت وراء هذا الشعور الدافق بالمكان والإحساس به وجودياً،وربما تجميله وتزويقه وتخلقيه إبداعياً،هذا يعني أن الشاعر مغرم بفضاءات الأمكنة سواء الأمكنة المتخيلة المزوقة فنياً أم الأمكنة الواقعية في فضاءات القصائد الموريسكية.
3-إيقاع الذكرى والحنين:
من البنى الدالة في القصائد الموريسكية هذا النبض الروحي والحنين إلى كل مامضى من ذكريات للأماكن ، للأهل ، للأحبة ، والأصدقاء، وهذا يعني أن حنينه ممزوج بشوق عارم لاسترجاع الأزمنة الموريسكية بكل ما فيها من خصوبة، ونبض وحياة، ولهذا كثيراً ما يذكر الأماكن والمسميات في قصائده رغبة لاسترجاع لك مامضى من شوق وحنين وذكريات للأزمنة وذكرياتها المضمخة بعبير الحنين، يقول الشاعر:

"في مُلحقِ الجريدةِ الأدبيِّ.. فاجأَهُ شارعُ القرنفُلِ..
فارتابَ مما رأى.. وتساءَلَ..
كيفَ استطاعَ المصوِّرُ أن يتحاشى الشذى..
ويُغَيِّبُ عنهُ الغناءْ؟
وتساءَلَ..
هل هذه الحجارةُ بعض بقايا المُسَنّاة..
ثُمَّ تساءَلَ..
أينَ البيوتُ التي تتدثَّرُ.. بالنخل والتينِ؟
هذا مَساءٌ حزينْ
ثُمَّ طَوى ما تذكَّرَ من شارع القُرُنفُلِ
حينَ طَوى ملحقَ الجريدةِ الأدبي"(من أوراق الموريسكي ص 62).

هنا،يسترجع الموريسكي ذكريات مدينته من خلال صورة ملتقطة لهذه المدينة ، في ملحق الجريدة الأدبي، فيلحظ التغيرات التي طرأت على هذه المدينة ، الأمكنة غير الأمكنة ، والنخل غير النخل، والبيوت غير البيوت، فيغص بحرقة الحنين والاغتراب، ويطوي جريدته ، ويطوي معها زمنه الجميل.
والملاحظ أن إيقاع الشوق والحنين إلى استرجاع زمن الموريسكي القديم يكاد يطغى على جميع القصائد الموريسكية، ويستثير ذكرياتها الطفولية وشوارع مدينته وقصصها الشائقة وأصوات الباعة في أسواقها ، وهذا الاسترجاع يمنحه الدفء والطمأنينة والسكينة والأمان،كما في قوله:

"عَبْرَ زجاجِ مقهاهُ..
كانَ يُراقِبُ.. مالا يُرى..
وتَذَكَّرَ..
مَنْ راقَبَ الناسَ ماتَ هَمَّاً
مُعَلَّقَةً في الدكاكين
لقد كانَ يَقرأها .. كُلَّما عَبَرَ السوقَ في الطريق إلى المدرسهْ
فَيَخشى مُراقَبَةَ الآخَرين..
ما عادت المدينةُ تشغلهُ بنداءات باعتها..
وصورة بنت المُعَيدي.. ***
أو ما يُقال عن خطفها.. في ليالي الدواوين"(من أوراق الموريسكي ص63).

وهذه الحرقة إلى استرجاع زمنه القديم ، و صورة مدينته المشرقة كالتي كانت فيما مضى عبَّر عنها بالشكل البصري ، إذ إن اللغة ما عادت تسعفه ، فانقطع الكلام ليدل الصمت والحرقة الداخيلة بديلاً عن لغة الكلام المخنوقة أو المتقطعة، وهذا ما أظهرته الهالة الفراغية من النقط المتتابعة دلالة على الحسرة والحرقة والألم ، والحزن الباطني العميق، إذ يقول:
" ما عادت المدينةُ..
. . . . . .
. . . . . ."(من أوراق الموريسكي ص63).

إن اللغة عندما تغيب أو تعجز ليحل الصمت بدليلاً عنها، فهذا يعني أن الشاعرأراد أن يبث ما يعتمر في أعماق أعماقه من رؤى وأحاسيس مخفية أو مسكوت عنها في قرارة روحه العميقة ، وما عادت اللغة بقادرة على نقل الاحتراق الباطني، فيشير إشارات بصرية ليس إلا ، وهذه الإشارات هي أعمق في التعبير من الإفصاح المباشر، وكأن الشاعر أراد أن يقول بحرقة لقد ضاعت المدينة ، وذهب زماني القديم رحيلاً أبدياً، وما عاد بالإمكان استرجاعه أو العودة إليه ، وهذه هي قمة الحسرة والحرقة والألم التي تعتمر في قرارة ذات الموريسكي/الشاعر، لكن رغم ذلك لايتخلى الشاعر عن بريق الأمل بالعودة واسترجاع هذه الأزمنة والأمكنة التي لاتنسى، إذ يقول:

" رُبَّما ستكونُ لي لغةٌ..
أَستطيعُ بها وصفَ ما سيكونْ
كُلُّ شيئٍ ذوى.. الحدائقُ والماءُ والضحِكُ الأبيضُ..
لمْ يبقَ إلاّ الظنونْ
رُبَّما .. أَجِدُ المُعْجَمَ المُغَيَّبَ..
حتى إذا ماكتبتُ إليها..
ستَفهَمني وتُشارِكُني في المتونْ
رُبّما.. ستُرافِقُني ، حيث أبدو كما ظنَّ بي شُرُطيُ الحدودِ..
مُلتبِساً
رُبَّما.. تفتحُ البابَ لي.. فأراها..
ويُرَحِّبُ بي.. ماؤها وبساتينها وقراها"(من أوراق الموريسكي ص64).

يصل الشاعر في هذا المقطع إلى قمة الاغتراب، والحرقة الداخلية،وكأن كل شي قد ذوى وتلاشى بريقه ، ولم يعد كما كان،(الحدائق ،الماء،البساتين، القرى) لم تعد كسابق عهدها، لقد كساها الصمت والغياب والعقم والتصحر والجفاف، لم تعد كما كانت مزهوة بالنضارة والفرحة والنشوة والابتسام، لقد غدت جافة خاوية ينوء بها المكان ذاته، وحتى المكان بمعالمه ينوء جدباً وعقماً وتصحراً وحزناً،لقد استطاع الشاعر أن يكسب القصيدة طقسها الشعوري الخاص،الذي يحكي معاناته،ولحظات الحسرة والأسى الجارح، وما شخصية الموريسكي وأوراقه المتناثرة هنا وهناك إلا أزمنته المرتحلة وأمانيه وأحلامه المغتربة،إذْ يبث في كل ورقة من أوراقه نفثة شعورية اغترابية حارقة ومشاعر تذكرية على ماضيه المشرق وصفحات زمنه الناصع الجميل قبل أن تؤذن ساعة الدمار والغربة القسرية الظالمة على كل ما بناه وأسسه في زمنه القديم،ولهذا بدت القصيدة ذات حرارة عاطفية، وإن غلب عليها الإيقاع الهادئ،فهي تهدر من الأعماق،كما ذاته الحقيقية في واقعها وإحساسها الصادق، فالجملة لاتغلي بإيقاعها الخارجي وصوتها القارع ، وإنما تغلي من باطنها الشعوري وحرقتها الداخلية؛ فالأصوات مهموسة لكنها جارحة، والكلمات مرصوفة بإيقاعها الهادئ لكنها متوترة مستفزة في مضمونها الدلالي وسخونتها العاطفية؛ ولا نبالغ إذْ نقول: إن الشاعر حميد سعيد يعطي الجملة الهادئة سخونتها الشعورية، ونبضها الروحي الدافق، وحساسيتها المرهفة ، حتى في ظل استطالاته السردية الممطوطة التي تزيد عن مقطع أومقطعين أحياناً،وربما تستطيل لتطال القصيدة كلها في بعض الأحيان، وهذه سمة قصائده الموريسكية التي تتشعب برؤاها واستطالاتها السردية ، نظراً لكثافة الرؤى والأحداث والحالات والمشاعر المتراكمة في ذاته المغتربة القلقة المتسائلة عن زمنها القديم وواقعها المأزوم المتخم بالمفاسد والهشاشة و أشكال الاتضاع الوجودي كافة.
العلامات الرؤيوية الفارقة في فصيدة ( زمن آخر للموريسكي ):

إن أبرز العلامات الفارقة في قصيدة( زمن آخر للموريسكي)، اعتمادها التراث بوصفه نقطة تمفصل قصائده الموريسكية كافة، وليست فقط هذه القصيدة، وقد سبقا إلى هذه الملحوظة الناقد العراقي الفذ علي جعفر العلاق،إذ يقول:"ربما يكون حميد سعيد أقرب الشعراء العراقيين إلى استيحاء التراث سواء في بناء العبارة أو حرارة الأداء الشعري، ولهذا يبدو لي أن مدخل التراث أقرب المداخل المفضية إلى عالمه الشعري: تكويناته التعبيرية من جهة، وجيشان الروح من جهة ثانية؛إن الشاعر يحاول تمثل التراث في العديد من قصائده، وعلى أكثر من مستوى فهو يستقي منه بعض رموزه وأقنعته، ويضمن شعره إشارات متفرقة إلى موروث القول من شعر ونثر"(19). [الشعر والتلقي ص132].
وهذا القول جد مصيب،لقد استطاع حميد سعيد أن يستثمر التراث إشارة ودلالة وتراكيباً بقصد رصد الحركة النفسية التي تعتصر كيانه، متخذاً من هذه الإشارات، بؤراً دلالية تعبر عن مخزونه الفكري، وروحه الشعورية المغتربة، فكما لمسنا في مجموعته الشعرية السابقة (من وردة الكتابة إلى غابة الرماد 2005)؛المزج الفني بين الطقوس الصوفية في رواقها واستجمامها الروحي ومناخها التأملي العميق، والاغتراب القومي والوجودي المحتدم فإننا نجد في مجموعته(من أوراق الموريسكي) المزج بين التراث بكل متضمناته ومصادره المختلفة( الأندلسي،العراقي، المغربي)والواقع الوجودي الرؤيوي المعاصر بكل متضمناته الاغترابية وآفاقه الرؤيوية الوجودية المعاصرة، ولعل الشيء البارز في هذا الاستحضار التأثر بالشخصيات المستحضرة رؤية وموقفاً وشعوراً وتاريخاً، لهذا تبدو شخصياته متحركة من الداخل، حاضرة بقوة في توجيه دلالاتها وأحداثها الشعرية ومساراتها الرؤيوية المختلفة،ومن أجل ذلك يضع الشخصية موضع التساؤل والمحاورة والمكاشفة الرؤيوية الموجهة بتركيز وعناية فائقة، صوب محرق الدلالات النصية التي تبثها حركة قصائده الموريسكية في منحاها ومغزاها الدلالي.

ولا نبالغ إذ اقلنا:إن شخصية (الموريسكي)تمثل نقطة الثورة والتحول والحراك الوجودي المتغير لهذا الواقع المأزوم الذي تعيشه الشخصية الشعرية،فالموريسكي ليست شخصية ملصقة أو شخصية مستعارة للتعبير عن مرحلة وجودية فحسب، إنها شخصية ذاتية ترتبط بالجو النفسي والشعوري والوجودي الذي يعيشه الشاعر،بل إنها تشكل المحمول الشعوري لكل ما يعتصر كيانه من رؤى وأحاسيس ومنظورات مغتربة، ولهذا دائماً يبحث حميد سعيد عن زمن جديد للموريسكي ،زمن يحقق فيه طموحاته، وآماله، وثورته الوجودية المأمولة، وقد جاءت قصيدته ( زمن آخر للموريسكي)،المهداة إلى صديقه الشاعر عبد الكريم الناعم، بمثابة طرح جديد وتساؤل جديد،عن هذا الزمن الذي يمثل الخلاص وزمن الخصوبة ، إنه يبحث من رماد احتراقه كطائر الفينيق عن واقع جديد متطور؛واقع يخرج فيه من دائرة الانحباس الشعوري والقلق الوجودي،إلى دائرة التحليق الحر والأمل المفتوح، والموريسكي هنا لا يشكل وجه الرفض والثورة ، وإنما يشكل وجه الحياة في إقبالها وانفتاحها وأملها وعالمها الحرالجديد،ولو دققنا قليلاً في مضمراتها النصية، لتبدى لنا دقة ما أشرنا:

يرتابُ مما خبَّأَ الولدُ الحيِّيُ..
في نفسهِ..
ويُعيدُها في غَفْلَةٍ مما تعوَّدَ أن يقولَ..
لكي يرى ماكانَ.. في أوراقِهٍ الأُولى
ويسمعُ ماتوارى من مقولات الحقولْ
يُريبُهُ..
ظمَأُ المياهِ وما ادعتْهُ الريحُ من دِعَةٍ
وما أخفى من الليلِ.. الأفولْ
يرتابُ من مدُنٍ تَشكُّ به.. وأُ خرى تَدَّعيهِ
تُريهْ..
فِتْنَتَها..
لتَحْمِلُهُ إلى مَحْوٍ يَطولْ"(من أوراق الموريسكي ص66-67).

هنا،يعمد الشاعر إلى خطاب الغائب،كقوة فاعلة في تحريض الرؤية، وتكثيف مدلولها الوجودي العميق، وهذا يعني أنه يتحدث بضمير الغائب،وهذا الضمير يتواشج مع إيقاع السرد وروح القص والوصف،ولذلك،ركَّز رؤيته الشعرية على وصف كل ما يعتري الذات من أحاسيس اغترابية، تحمل معها نبض الأمل، رغم سطوة المحو التي تُذهِب بكل ما بناه في عالمه الوجودي أدراج الرياح، و محو آثارها، ومخلفاتها الوجودية،وهذا يؤكد أن حميد سعيد يستثمر الفيوضات الوجدانية والعاطفية في كلماته الشعرية، فهو وإن تحدث بأسلوب الغائب،فإنه يترك حضوره في جسد الكلمات، وسخونتها العاطفية، وهذه من مصادر القوة والفاعلية الشعرية.

والشاعر لا يسترجع زمن الموريسكي فحسب، وإنما يستحضر الرؤية المعرية وعزلته الوجودية، وكأن الزمن الموريسكي زمن المعري المقيد بمحبسيه( العمى ،والبيت، والروح في الجسد)، وهذا ماعبر عنه في قوله:

"من مَحْبِسيهِ..
تَجَنُّبِ الزمنِ المُراوغِ.. وانتظارِ قصيدةٍ أخرى
رأى..
ما لا يرى الرائي
تَعَثَّرت المنازلُ بالمنازلِ.. والقوافِلُ بالقوافِلِ
ليسَ ثمَّة من طريقٍ..
باتجاهِ رُلى..
وما انفتحت على الأرضِ الفُصولْ
رأى..
ما لا يرى الرائي..
كأنَّ الثلجَ ذئبٌ غامضٌ.. يدنو
وتنغلقُ الشعابْ
لا نجمةٌ تُدْنيه من ضوءٍ تباعدَ
لا خليلُ..
ضاعِ الدَليلُ..
وتغيَّبَ الحُلُمُ الجميل"من أوراق الموريسكي ص67-68).

إن الشاعر سرعان ما يعود إلى دائرة الاغتراب الوجودي ، إلى الإحساس باليأس ، والأسى الجارح،وهذا،يعني أن اغترابه أشبه باغتراب المعري، فكما اعتزل المعري في محابسه الثلاث(العمى، الروح في الجسد، البيت) اعتزل الموريسكي في عالمه ،والجامع المشترك بين الشخصيتين عمق الرؤيا وشمولية المنظور، والواقع الموبوء الذي تعيشه هاتان الشخصيتين.، فكما عانى المعري من سابق الضيق ،والضياع ، والغربة الوجودية عانى الموريسكي هذه المشاعر مجتمعة، في ركام من الأسى والخيبة والأمل الخائب.

وما ينبغي الإشارة إليه في شعرية قصائده الموريسكية ،أنها تنبني على دهشة في تنويع الأحداث ، والانتقال من رؤية إلى أخرى ، ومن منظور إلى آخر،ودليلنا أنك تجد نشوة في الإفصاح ، ونشوة في الترميز، ونشوة في التأمل في لحظة انكسارالحلم والإحساس بالتيه والضياع،إنك تجد لديه نشوة في الإلهام الشعري،فالجملة –لديه- تقوم على بؤر وأحداث ومنظومات رؤيوية عميقة تفيض في نسقها؛ خاصة في مجموعته(من أوراق الموريسكي)التي تجد فيها نزوعاً تاماً إلى التأمل و التنوع و الاختلاف،في الرؤى؛إن قصائده غابة من الرؤى، والتأملات الوجودية،والدلالات اللامتناهية، والبنى المكثفة،باختصار،يملك حميد سعيد تحولاً فائرأ في الرؤى،والدلالات المغتربة،وهذا ما يجعل القارئ في غابة من الدلالات المواربة،والمنزلقة عن مدلولها السطحي المباشر،فلا يكاد يلتقط دلالة حتى تتخطفه أخرى في معمعة وجودية لاتكاد تنتهي ، وهو مايجعل قصائده لامتناهية في طيفها الدلالي وحراكها الشعوري.ومن أجل ذلك تحتاج قصائده إلى الحفر في البنى الداخلية ومداليلها المضمرة،حتى يحصل القارئ منها شيئاً مهماً أو مفصلاً رؤيوياً من مفاصلها المؤثرة.وهذا يعني على متلقي قصائد حميد سعيد أن يعد العدة، ويجيِّش أدواته،ورؤاه وحواسه الشعورية كلها، ليعيش طقسها الإبداعي الحقيقي وأفقها الرؤيوي بامتياز.

وبتدقيقنا في بنية قصيدة(زمن آخر...للموريسكي)وجدنا أنها تنطوي على علامات رؤيوية عميقة ، نذكر منها مايلي:
البحث عن مدينة جديدة وزمن جديد:
إن من أبرز الدلالات المحرقية التي ترتكز عليها القصيدة هي البحث عن زمن جديد، ومدينة جديدة،فالموريسكي المطارد يسعى إلى الارتحال إلى مدن جديدةأخرى عسى ولعله يجد مدينته المفقودة، ويستعيد شيئاً من بريقها الذي كان،وأنسها الروحي المستحب،إذ يقول:

"مُدُنٌ..
تكادُ تضيعُ بين متاهة ِ الفوضى..
وتيه التائهينْ
تتداخلُ الأصواتُ في لُغَةٍ تِفرُّ حروفُها منها..
فتغترِبُ المعاني.. ثُمَّ تغتربُ السنينْ
ماكانَ في زمنٍ .. تَغَيَّبَ
يَنْزَعُ الفلواتَ عن أوهامه البيض البريئةِ..
أو يُجَرِدُها من العبث الجميل
من أنفها .. مَسَكَ الثواني.. ثُمَّ أطلقَها..
فما عادتْ إليهِ
ومَضَتْ.. إلى نَهْرٍ تُخاصمُهُ المياهُ
تَوَّهمَتْ مُدُناً مموهة تساكن ضفتيه"(من أوراق الموريسكي ص70-71).

إن القارئ الحصيف يلحظ أن بحث الشاعر هنا ليس فقط عن مدن جديدة ،وزمن جديد، وإنما يبحث عن كينونة جديدة، ووجود حر نبيل ، يحقق فيه مجده الضائع،وفوزه العظيم ،فالشاعر ما توهم مدناً جديدة إلا ليتمسك بوجوده الحر القديم وتاريخه الوجودي الماضوي الناصع،ولعل القارئ يلحظ معنا غربة الشاعر،وإحساسه المريب،بالارتحال والضياع، والتيه، والفوضى، وجراح السنين،ويلحظ كثافة المعاني الدالة على الاغتراب،كما في قوله:"تغترب المعاني، تغترب السنين،ينزع الفلوات عن أوهامه البيض البريئة، توهمت مدناً مموهة"،وهذا يدل على القلق، والغياب،والتيه، والاغتراب، وإن هذه الدلالات مجتمعة لم تفارق أية قصيدة من قصائده الموريسكية، وهذا يؤكد- بالدليل القاطع- ما قلناه سابقاً إن حميد سعيد يكثف الأحداث والرؤى دون أن يصل إلى فوضى الرؤى، وتلاشي النظام اللغوي،وهذا يعني مقدرة الشاعر على تقديم طقس شعري خاص،مطعم بالتداعي الحر للأنساق، بما يخلق إيقاعها الشعوري الفائض، أو المكثف.
وبتقديرنا: إن هذا النمط الأسلوبي من التكثيف الإيحائي والتداعي الحر للأنساق يزيد من تشعب الرؤية الشعرية، ومن ثم بعثرة مداليلها إلى فيوضات شعورية حرة أوعميقة،وبناءً على هذا، يجد الدارس في قصائده ضالته المنشودة في اكتشاف تقنيات جديدة،نظراً إلى كثافة الرؤى المجسدة،والفاعلية التصويرية التي تمتلكها،وغنى البنى السردية بالمسميات، والدلالات والموروثات التراثية والرموز التي تخلق متعتها من نسقها الشعوري المكثف الذي تدخل في تركيبه،وهذا يؤكد تغايراتها الرؤيوية والأسلوبية على الدوام.
نفي حضارة الفولاذ والإيمان ببراءة الطبيعة
ولعل أبرز القوى الفاعلة في هذه القصيدة الدالة على مضمونهاهي نفي حضارة الفولاذ والإيمان بالطبيعة كمعدن للخير والمحبة والصفاء والسمو المطلق، وهذا ما نستدل عليه من قوله:

مَرَّتْ بهِ.. ما يُشْبِهُ امرأةً تَوَّهمَها
فيسألُها..
أما كُنّا مَعاً ؟
من أنتَ ؟
مَنْ ؟!
حتّى إذا ابتعَدَتْ.. تَساءَلَ
من سيعرِفُهُ.. ولَمّا تخرجُ المدُنُ التي عرفتهُ..
من هذيانها
وشجارها..
يتَمَدَّدُ الفولاذُ في أشجارها
ويمُدُّ وحشٌ لاتراهُ..
يدَيهِ في أحجارِها"(من أوراق الموريسكي ص71).

هنا، ينفي الشاعر الحضارة الموهومة حضارة الفولاذ، منتشياً بالطبيعة رمز الخصوبة والعطاء والتجدد الوجودي،فهو يرى أن حضارة الفولاذ لم تجر إلا ويلات القتل والإبادة والتدمير،إلى الشعوب المستضعفة،ولهذا يشبه هذه الحضارة بالوحش الهائج الخفي الذي ينتهك براءة الطبيعة وبراءة الإنسان، ويعبث بتاريخها وحضارتها.
وهنا، يدمج سخصيته الرئيسة التي رافقته في مراحله الشعرية جميعها شخصية(عبد الله)، وشخصية( الموريسكي)لتكون رمز المقاومة لهذه الحضارة الموهومة حضارة الفولاذ، ونقطة الانتصار والمواجهة؛حتى وإن كانت نهاية المواجهة الموت ،لكنه موت المنتصر المؤمن ببرأته وصفائه الوجودي المطلق وهدفه النبيل:

"كانَ الجليدُ يُعيرُهُ حُلُماً.. فهل رَحَلَ الجليدُ؟
ومات عبدُ اللهِ.. وانقطَعَ البريدُ
من أيِّ مُفْتَتَحٍ.. سيبدَأُ ؟
كُلُّها انغَلَقَتْ..
ومن صفحاتها انتُزِعَ النشيدُ"(من أوراق الموريسكي ص71-72).

ولابد من الإشارة إلى أن الشاعر يتحثث الزمن الموريسكي ،هذا الزمن الذي يجسد له الثورة الوجودية، ويفتح بوابة الحلم على كل ما هو جديد وانسلاخي ومتغير، فهو يرفض حضارة الفولاذ كما أشرنا، هذه الحضارة المدمرة لمعالم الطبيعة والوجود،إن الموريسكي لايريد زمناً فولاذياً مدمراً،لايريد سطوة الآلة على صفاء الطبيعة وسحرها وجمالها،إنه يريد النشيد البهيج المنتشي بالحياة لاالخراب والقتل والإبادة والتدميرالتي تجرها حضارة الفولاذ العمياء.وهذا يعني أن الزمن الذي يريده الشاعر للموريسكي هو زمن جمالي إبداعي حر كريم لازمن إبادي مدمر.
3-البحث عن الحلم والزمن الوجودي الحر
إن العلامة البؤرية الفارفة في هذه القصيدة (البحث عن زمن وجودي حر)،وهذا الزمن الذي يطلبه الموريسكي ظل يبحث عنه في المدن المطارد فيها كافة دون أن يحصلها أو يصل إليها، يقول الشاعر:

" في هذه الفلواتِ..
تَنْفَتِحُ المتاهاتُ..
القِراءاتُ المُضيئةُ.. أطفأتْ سُرُجَ الكلامْ
ومضتْ إلى الممحوِّ من صفحاتها..
لِتَلُمَّ..
ما أتمنتهُ يوماً في مُدَوَّنةِ المرايا..
قبل.. أن يدنو من المَمْحّو من صفحاتها البيض..
الظلامْ
ماذا سيقرأُ .. إن هذا المحْوَ ما أبقى..
على رُقُمِ البلادْ
من شمس حِكْمَتِها.
وأسلَمَها .. إلى المُدُنِ الرمادِ"(من أوراق الموريسكي ص73-74).

لا بدَّ من الإشارة إلى أن قصائد(من أوراق الموريسكي) يمكن أن تقع تحت مسمى رؤيوي عام( رثاء المدن الضائعة) أو (الممالك الضائعة)،فمن يحفر في ماوراء الكلمات من دلالات وإيحاءات، يلحظ أن مايرمي إليه الشاعر هو الوجود الحضاري الضائع، أوالوجود العربي الممحو بالضياع والرماد،فالكلام انطفأت شرارته وحرارته،والصفحات المشرقة التي طالما تغنينا بها امَّحت،وتلاشى بريقها، وشمس العراق المشرقة غابت في حلكة الاحتلال الأمريكي الغاشم،وأصبحت في عداد المدن المنسية أوالمدن الممحوة(مدن الرماد )، وهنا يكرر الشاعر فعل الرؤيا والمعرفة، وكأنه يعي بهذا الواقع الذي ستؤول إليه بلده العراق ،من خراب ووحشة ودمار وعقم وتصحروجراد،إذ يقول:

"رأى..
ما لايرى الرائي
القُمامَةُ تَدَّعي نَسَباً إلى ذات العمادِ
رأى..
ما لايرى الرائي
أما نسبوا الحريرَ الموصِليَّ.. وقد غدا أثَراً..
إلى شوك القَتادِ؟!
رأى..
ما لايرى الرائي
الجرادْ
أقام َ مأدُبةً.. ليأكلَ بعضُهُ بعضاً
أيغدو ما رأى .. وَطَناً ؟
ستَقْتَرِبُ الظنونُ من الظنونْ
ويًعيدُ ما أهداهُ من قبلُ الجنونُ إلى الجنونْ"(من أوراق الموريسكي ص74-75).

إن فعل" الرؤيا"- لدى الشاعر- متدفق، مستمر، وقد اعتمد الشاعر لفظ" الجراد"،ليدل على الخراب والبطش الذي حلَّ بالبلاد،والجراد رمز الفسادوالدماروالخراب،ورمز العقم والجفاف، وقد دل عليه بقوله:( رأى مالا يرى الرائي الجراد )؛ وهذا يعني أن فعل الرؤيا لديه دائب، ومستمر على جزئيات هذا الواقع العربي المنهار،الذي عشعش فيه الخراب،والبوار،والدمار، وما نستشفه أن الشاعر حميد سعيد في قصيدته(زمن آخر... للموريسكي) يبحث عن ذاته، عن تراثه،وتاريخه، ومجده،وزمنه الضائع،عن عالمه المثالي وإحساسه الممتلئ بالقوة والمواجهة رغم ضحالة الواقع وفساده،وهشاشته، وتضعضه،وانهياره،إنه يبحث عن وجود حر،وزمن حر، وإبداع حر، ونشوة روحية تعيد له زهو ماكان. باختصار:إن هذه القصائد شاملة في الرؤيا لمراحل شعرية،وليست مرحلة شعرية كما يبدو للقارئ، وكما يبدو للشاعر نفسه،إنها باختصار،مدونته الوجودية المشفَّرة أو المرمَّزة،إنه فكره، إحساسه،وجوده، اغترابه،تأملاته، نوازعه الوجودية،وهذا بالتأكيد ما جعل فضاءها الدلالي، مفتوحاً،ومدها الرؤيوي متدفقاً،وفعل الرؤيا الوجودية،في ثناياها مستمراً في حفره، في كل قصيدة من قصائده.

وما يحسب للشاعر حدة الذكاء التي يملكها في ترتيب القصائد، واختيار عناوينها، لتشمل مراحله الوجودية، بخيط دلالي، وإن تنوع،يعود إلى جوهر واحد:( رثاء الذات، الوطن،التاريخ، العراق)،وربط ذلك كله، بشخصية( الموريسكي) التي تعايش تجربته، وتماثل ذاته الثائرة المتمردة التي تبحث عن كينونة جديدة وعالم حر ثائر تتطلع إلى الجمال والخصوبة والميلاد الجديد.

وعلى هذا الأساس،تتجاوز صلة الشاعر بالقصائد زمن الشاعر ذاته، وزمن الموريسكي،لتحكي زمنه الضائع وأمله الخائب،إنها بحث عن عالم جديد يقوم على الفكر والرفض والتحريض،إنها بناء لشخصية وجودية مستقلة، ولا نبالغ إذا قلنا: إنها تكوين آخر،إنها انبناء لصيرورة وجودية واعية بعالمها تهيب بمستقبلها رغم ضحالة الواقع، وعقم الوجود، باختصار:إنها انبناء لصيرورة وجودية واعية بعالمها، تهيب بمستقبلها رغم ضحالة الواقع وعقم الوجود،باختصار: إنها زمن إبداعي،زمن وجودي، إنها تأسيس لزمن جميل ، أوتبشر بالزمن الحر بروح متفائلة رغم مداليل اليأس العائمة على سطح الدلالات المباشرة والمفردات الصريحة، يقول الشاعر:

"في كلِّ منعطفٍ ستسألُهً القصيدةُ.. أن يُشاركَها صِباها
يَرتابُ منها..
من ضراوتها وفِطنَتها.. وإيقاعِ الغوايةِ في خُطاها
في كلِّ منعطف سيسأله مريدُ
عَمّا جرى..
فيغيبُ في ما كانَ..
يَزْجُرُ ماتداعى أو سيزجُرُهُ.. ويصمتُ
ثُمَّ .. يَدخُلُ ما رأى من صحوةٍ بيضاءَ..
في مَحْوٍ جديدِ"(من أوراق الموريسكي ص74-754).

هنا؛يعود الشاعر إلى (الموريسكي) في اند ماج شعوري،بين ما يمثله زمن منظمة وكبرياء،وهذا يدل أن الموريسكي يبحث عن زمن حر بعين رائية ، متشوفة ترى ما خلف ظواهر الأشياء وسطحيتها،فالشاعر و الموريسكي شخصية واحدة رائية ،تبحث عن زمن آخر، زمنها الإبداعي الوجودي،الذي تمحو به كل مظاهر الهشاشة والخراب والدمار، وتؤسس لعالمها الحر الذي يقوم على أسس واعية لا أسس متداعية هشة سرعان ما تنهار وتتداعى.
إذاً، الشاعر كما قلنا يبحث عن مملكة البياض، مدينته المثالية القديمة ، لكن سرعان مايصطدم بصخرة الواقع الأليم ، فيعود إلى دائرة الصمت الكظيم ،
المكسوة بالمحو والغياب ودائرة التداعي والتلاشي والأسى المرير.
ونخلص من دراستنا لقصيدة( زمن آخر للموريسكي)إلى النتيجة التالية:
إن هذه القصيدة تحمل في بؤرها الدلالية العميقة التحول والتغير،والبحث عن عالم مشرق جديد،فهي –وإن طغى عليها الجانب القاتم المظلم(خراب، دمار، وحشة، ضياع،هشاشة، اتضاع)،فإنها تؤسس لوجود مشرق،وجود تنتشي فيه الذات من ركامها،ورمادها،واغترابها المرير،باختصار، تؤسس لزمنها الحر المطلق المفتوح (زمنها الوجودي الإبداعي)الذي به تتنامى الذات الموريسكية وتحقق وجودها الحقيقي لاوجودها المتلاشي الممحو.
العلامات الرؤيوية الفارقة في قصيدة( الخوف والقصيدة):
سبق وأشرنا إلى أن لكل قصيدة مفتاحها الرؤيوي الخاص، وقواها الرؤيوية الموجهة لحركتها النصية، وهذه القوى الموجهة تعد العلامات الفارقة التي ترتكز عليها القصيدة في توجيه استراتيجياتها الدلالية، ولعل أبرز ما ارتكزت عليه القصيدة استحضارها لشخصية المعري بكل ما تركته هذه الشخصية من رؤى نفسية وأبعاد وجودية ، فهي ليست قناعاً ولا ملصقاً اسمياً، وإنما هي كينونة وجودية كاشفة لتجربته الوجودية كلها،فالشاعر وإن حاور هذه الشخصية مضمناً أقوالها ورؤاها الشعرية ، فإنه قرن وجوده بوجودها، ورؤاه برؤاها، وهنا ، تفاعلت ثلاث شخصيات في القصيدة ؛هي شخصية(المعري) وشخصية الشاعر ، وهما شخصيتان حاضرتان بقوة في توجيه مجريات الرؤية المبثوثة في القصيدة، وشخصية ثالثة مضمرة هي( شخصية الموريسكي)، وهي الرمز أو القناع الفني لرؤى الشاعر المضمرة أو الخفية (المسكوت عنها في قرارة ذاته العميقة)،ومن أجل ذلك شهدت هذه القصيدة حراكاً واسعاً في الرؤى والتقنيات والمنظورات المواربة، خاصة ماشهدناه من لغة الحوار البوحية الكاشفة عن مداليل اغترابية عميقة تحفر في البنى النصية التحتية،لتمس جوانب الروح في عمق جنوحها وتحليقها اللامحدود.ولعل أبرز البنى الدالة الفاعلة هي:
الحوار الوجودي البوحي الرؤيوي الكاشف:
إن من أبرز شروط فاعلية الحوار الشعري الكشف الرؤيوي العميق عن رؤى عميقة ، ومدلولات جديدة تفتح قنواتها الرؤيوية على شتى الرؤي والمداليل ،والأحداث ، والتأملات الوجودية في طبيعة الخلق والكون، وهذا يزيد من فاعلية الشخصية المستحضرة ونشاطها التقني في توجيه الأحداث وتنشيط الرؤى والدلالات،كما في قوله:

"أوقفني الشيخُ وقد سَمِعني .. أُغنّي
على مَقامِ الصَبا..
وردْنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ
وزُرْنا أَشرفَ الشجرِ النَخيلا
سَأَلني .. أأنتَ من بغداد ؟
قلتُ.. بَلى
كَلفنا بالعراقِ ونحنُ شَرْخٌ
فَلَمْ نُلْمِمْ بهِ إلاّ كُهولا"(من أوراق الموريسكي ص78).

هنا، يستحضر الشاعر شخصية المعري، متحدثاً إليها، بإيقاع حواري كاشف عن شدة الشوق، والحنين، والاغتراب،إلى العراق،وكلا الشاعرين،بهما شوق إلى بغداد، منهل العلم والمعرفة ورمز الثقافة والحضارة على مر التاريخ، فكما أن المعري قد تتلمذ على أيدي أئمة العلماء والفقهاء في الفضاء البغدادي فإن الشاعر قد تربى وعاش في ظل كنف هذا الوطن المعطاء وحضارته السامقة، فالقاسم المشترك بينهما واحد، بجامع الحنين والشوق والشجن الاغترابي الجارح أو المؤثر،إلى كل مافي العراق من رؤى ومشاهد خصبة تموج بالنضارة والأنس والخصوبة، والجمال، وهذا يؤكد –بشكل أو بآخر-أن استحضاره لهذه الشخصية لم يكن لدواعٍ فنية فحسب، وإنما لدواعٍ رؤيوية عميقة وشعورية دافقة جسدها الشاعر معتمداً- بالإضافة إلى تقنية الحوار- التناص الفني من خلال دمج أقوال المعري الشعرية المأثورة بالمواقف الاغترابية التي يقاسيها الشاعر،وبهذا الاندماج والتفعيل التقني الفني نجح الشاعرفي تفعيل شخصية المعري أكثر بكثير من أولئك الشعراء الذين يمجدون هذه الشخصية ، دون أن يتمثلوا فكره، ونظرته الوجودية العميقة ، ويقفون على المنظورات الرؤيوية العميقة التي تنطوي عليها، وهنا يكمن التمثل الإبداعي الحقيقي ، وليس الوقوف على الصفات الخارجية التي لاتمس إلى جوهرها الإبداعي والوجودي بصلة، وهذا مانأى عنه حميد سعيد ، وأدركه في استحضاره الرؤيوي الفاعل لهذه الشخصية. ولا نبالغ في قولنا: لقد استطاع حميد سعيد بمهارة فنية وبمناورة إبداعية،أن يفعِّل شخصية المعري، ويقتنص منها ما يكشف رؤيته، ويعمق دائرته الاغترابية، ويكثف من رؤاه ومنظوراته الوجودية العميقة،وهذا مانستدل عليه من قوله:

"وبعدَ صمتٍ طالْ
سَأَلني عن ماء بغدادَ وعن نخيلها..
فَما أَجَبْتُ
أَدْرَكَ الشيخُ.. شجى الروحِ
وقالَ لي مواسياً..
وزلنا بالغليلِ وما اشتفينا
وغايةُ كلِّ شيئٍ أنْ يَزولا"(من أوراق الموريسكي ص 79).

إن هذه المحاورة تشي بالأسى الاغترابي الجارح،والحس الشعوري الممزوج حنيناً وصبابة وشجىً روحياً عميقاً دلَّ عليه بقوله:" سَأَلني عن ماء بغدادَ وعن نخيلها.. فَما أَجَبْتُ"، وعدم الإجابة ناجم عن حرقة في القلب وشجىً روحي مشبوب بالشوق والحنين الجارف إلى الفضاءات البغدادية وزمانها الماضوي الجميل.
ويتابع الشاعر سيرورة تفعيل هذه الشخصية،لتبث أحاسيسه ورؤاه وتطلعاته الوجودية، كما في قوله:

"كأنني وجدتُ في مَعَّر ة النعمان
ما ضيَّعتُ من أسئلةٍ .. وما فارقتُ من بلدانْ
كأنني اقتحمت مَحبسينْ
مُعتذراً للشيخِ عمّا كانْ
مُذّاك..
لم ينفتحُ المغلقُ.. كلُّ قائلٍ مُعتكِفٍ في ما يقولُ
لايرى..
سوى ما خطَّ في أوراقهِ
وما مَحا.. من صُحُفٍ أُخرى
وما انتهى إليه من مَعانْ
كلُّ ناقلٍ.. يُحيطُ كَونهُ الضيِّقَ بالأقنانْ
ويَدَّعي إمامة َ الزمانْ".(من أوراق الموريسكي ص80-81).

إن الشاعر يتحدث إلى شخصية المعري، ويفضي إليها بالكثير من الرؤى النفسية والوجودية، من قلق، وحزن، وشوق، وحنين، وحرقة، واغتراب،وهذا يؤكد ما قلناه سابقاً:إن قصائد الموريسكي تدخل ضمن موضوعة( رثاء المدن)أو(رثاء الأماكن)،أو(رثاء الذكرى الملتصقة بهذه الأماكن)، والمعرة تمثل للشاعر بعداً من أبعاد الفضاء المكاني البغدادي،فهي ليست بعداً مكانياً مخصوصاً بقدر ماهي متحول مكاني متشعب أو مفتوح، وما شخصية المعري إلا الشخصية الكاشفة أو المنشطة لهذا الجانب الاغترابي المشبع شجىً روحياً وصبابة، ووحشة وعزلة روحية لا تُطاق أو تُحتمل؛ فشخصية المعري إذاً، هي التي تربطه بهذا الجانب الاغترابي، المشبع قلقاً و عزلة ووحشةً( وحشة الاغتراب عن الوطن) ووحشة الاغتراب عن الذات(حبيس الذات) وعزلتها الوجودية التي تجعله يعتكف في معتقله الوجودي بعيداً عن الناس، مفكراً في مصائر الخلائق،وإلى ما تنتهي إليه الأمور من معانٍ ورؤىً ودلالات، وما ستصير إليه.
والملا حظ- على المستوى الفني- أن الشاعر اتخذ شخصية المعري وجوداً حياً أو واقعاً معيشاً، ويخطئ من يظن أنه اتخذها قناعاً فنياً، وهذا يعني أنه اتخذها وجوداً واقعياً معاشاً طازجاً في حدثه وواقعه الوجودي ، وهذا ما جعل شخصية المعري متحركة بشعور الشاعر،تجالسه ويجالسها،تسائله ويسائلها،و هو بهذا الأسلوب يقرب الشخصية من القارئ، وينقل الشخصية من حالة الركود والثبات إلى الحيوية والحركة، والفعالية الرؤيوية المثمرة، وهذا مكمن القوة والعظمة في استحضار هذه الشخصية لتحكي واقعه الاغترابي، بكل منتوجها الفكري والفلسفي والوجودي الفعال ، ومن أجل ذلك استخدم ضمير المخاطب(أنت) ليكون الحديث حديث الحضور لا الغياب ، وبهذا يؤكد قوة الحضور والتمثل لهذه الشخصية، وهذا مانستدل عليه بقوله:

"وأنتَ..
في فَضاء ما افترضتَ من أسئلةٍ
مازلتَ في اللحظةِ..في كلِّ سؤالٍ..
شاهِداً..
يَدخُلُ في ما قالَ.. كلُّ ما يُقالُ من أسئلةٍ
نأَت عن الزوالْ
كأنني وجدتُ شيخيَ الجليلَ بانتظاري
يَفتَحُ بابَ دارهِ لي.. بعد أن فَقدتُ داري
يُشرِكُني في ما يرى.."(من أوراق الموريسكي ص82).

إن الشاعر يحاور شخصية المعري عبر طرح الأسئلة الوجودية، وهذا يعني أن حضور شخصية المعري، كان شاهداً أو دليلاً على مرحلة، وهذه المرحلة هي مرحلة التشرد، والضياع ، والنفي ، والاغتراب، ولهذا كثف تساؤلاته الوجودية المفضية إلى القلق والتوتر والغربة الوجودية من خلال شخصية المعري، وهنا تكمن المفارقة بين واقع الشخصية المعرية وواقع الشاعر الاغترابي المرير من خلال جمعه بالعنوان بين(الخوف والقصيدة) ، وهنا تكمن قمة المفارقة، وفداحة ماتشي به من دلالات اغترابية جارحة؛فشتان مابين (الخوف)الذي يمثل الوجه السالب، والقصيدة التي تمثل وجه المقاومة والثورة والتمرد، وهذا مانستدل عليه من قوله:

"تقتربُ القصيدةُ البيضاءُ من أصابعي..
تَدخُلُ اوراقي..
كما الرياحُ في فضاءِ الشجَرِ الثقيلِ..
خِلسَةَ..
يقولُ لي.. اقتَنصْها
وقُلْ لها.. كُلَّ الذي تُريد أنْ تقولَ..
لاتَخفْ
فليس من وشيجةٍ تجمعُ بين الخوفِ والقصيدةْ"(من أوراق الموريسكي ص82- 83).

إن حضور شخصية المعري ومحاورتها هو لتكثيف الرؤية الشعرية، فالقصيدة تمثل له مدونته الوجوديةالصارخة، التي تدل على وجوده وتماسكه وانتمائه؛ فالقصيدة هي صرخة وجودية أوثورة هيجانية على كل ماهو مكبوت، أو ممنوع أو مصادَر، إنها الروح الوثابة الحرة التي لايمكن،أن تصادر، فليس من جامع بين القصيدة والخوف، لأن الخوف ينافي القصيدة ، مثلما ينافي الحق/ الباطل، والنور/ الظلمة، والحياة/ الموت، وبهذا الكشف الجدلي تحقق القصيدة معادلتها الوجودية كقيمة إبداعية وجودية في مقابل الواقع الاغترابي الراهن، وتناقضاته الكثيرة.
وبتقديرنا:

إن الجامع بين الشخصيات الظاهرة/والمضمرة في هذه القصيدة(المعري، الموريسكي، الشاعر)،هو التعبير عن الصراع الوجودي بين وجهي الحياة المتناقضة، وتأسيس وجودها الثوري المتمرد أو المقاوم،إن هذه الشخصيات حاولت أن تتمرد على الزمن ، أن تكسر حاجز الزمن الاغترابي، أن تتمسك بالأمكنة، رغبة في الاحتفاظ بها، واسترجاع نفثات الشوق والحنين إليها ، وهذه المعادلة الرؤيوية الفارقة في قصائده الموريسكية كلها،للكشف عن مغزاها ورؤاها كافة.
ومايميز قصيدة (الخوف والقصيدة) أن طقسها الإبداعي يخفي أكثر من دلالة ، وأكثر من رؤية ، وأكثر من مغزىً،دلالة على الاغتراب الوجودي، وحالة الضيق التي يعيشها الشاعر، ويسقطها على شخصية المعري،كما في قوله:
"لكنني أخافْ
من شوكِ أحلامي ومن ثمار لُغَتي..
ومن فضاء القولْ
وليسَ لي من قوَّةٍ أو حَولْ
فقال..
ليسَ من وشيجةٍ تجمع بين الخوف والقصيدةْ"(من أوراق الموريسكي ص82).

إن القارئ يلحظ بالإضافة إلى دلالة الاغتراب،تكثيف بعض التقنيات الفنية ،منها التجنيس المكثف لشعرية القول الشعري،كما في المجانسات التالية:(القول= الحول)، وقد جاءت هذه التقنية باعثة للحراك الشعوري لذاته المغتربة،ومن أجل ذلك تتكرر دلالات الضيق والاختناق، والاتضاع الوجودي، وهذا مانستدل عليه من قوله:
"

وضاقَ بي..
مَن ضاقَ بالشيخِ الجَليلِ في بغدادْ
مَن نَدَبَ السُوقَةَ والأوغادَ.
لانتقاصِهِ..
فَما انتفى عنهُ عفافُ ما رأى..
وما انتفى عنّي
ولا نأت شُموسُهُ عنْ عطفةٍ بالكرخِ.. حيثُ كانْ
ولا نأَتْ عنّي
مُذّاكَ..
والآلهةُ البلهاءُ.. تطبُخُ الحجارةْ
وَتُطْعِمُ الناسَ..الأكاذيبَ..
بدعوى.. يرثونَ الأرضَ والسماءْ
وماعليهما..
من بشرٍ وحَجَرٍ وشجرٍ وماءْ"(من أوراق الموريسكيص83-84).

إن القارئ يلحظ حالة الضيق والضنك الوجودي، فالشاعر يعاني من الاتضاع الوجودي في هذا لزمن الموبوء المتفسخ،في مجتمعه ومجتمع المعري، فكلا المجتمعين يغصان بمظاهر التناقض والتفسخ والانحلال، وهذا دليل فساد أرباب الأمر،تبعاً لمطامعهم ورؤاهم وأهوائهم الشخصية، ومن ثم فساد المجتمع واتضاعه وهشاشته،وهذا الفساد واقع في الزمنين الماضي والحاضر، وهذا ما عبر عنه بالمفردات الصريحة التالية:( الآلهة البلهاء، تطبخ الحجارة، تطعم الناس الأكاذيب)،وتأكيداً على هذا، يعري الشاعر الواقع الفاسد في عالمه وعالم المعري، الأمر الذي اضطر الاثنين معاً إلى العزلة والاغتراب.
ووفق هذا المنظور الرؤيوي، يتابع الشاعر الكشف عن رؤاه الوجودية المأزومة أو المتوترة،بإحساس مشوب بالقلق والتوتر، كما في قوله:

" لكّنني أخافْ
من أسئلةٍ تجيئني.. فلا أردّها
ولا أجدْ لها رَداً..
ولم أشارك في الضجيج اللاذقيِّ..
لاأنا بالرجل الفصيحْ
ولا مياهي تستعيرُ ثوبَ الريحْ"(من أوراق الموريسكي ص85).

إن خوف الشاعر ليس من زمنه ، وإنما من واقع متغير لايستقر على حال، واقع يضج بالخوف،واللامبالاة،واقع يوذن بالانهيار والتناقض والتفسخ والانحلال، ولهذا ثمة أسئلة كثيرة تراود ذاته الداخلية ولا يجد لها خلاصاً أو وصولاً لحلول، وهذا مايجعله محاطاً بكم هائل من الأسئلةالوجودية التي تصب كلها في بوتقة (الاغتراب) و(العذاب الوجودي).
2-الحلم الوجودي بالانعتاق والخلاص
إن من العلامات الرؤيوية البارزة في هذه القصيدة، الحلم الوجودي بالانعتاق والخلاص،وهذا الخلاص ليس خلاصاً انهزامياً أو اغترابياً متسائلاً يضج بالشكوى والأنين ، وإنما خلاص رؤيوي يؤسس لماهو وجودي كوني ولماهو تفاؤلي يؤذن بالانفتاح والتغيير، وهذا ما نستدل عليه بقوله:

"وجئتُ طامعاً.. في أن أكون من أصحابك المُبَجَّلينَ..
في رسالة الغُفرانْ
تُدْخِلُني مُدْخَلَ مَن أدخلتهُ الجنانْ
فقال لي..
تغيَّر الزمان..تَغيَّر الزمان.. تغيَّر الزمانْ
. . . . . .
. . . . . .
بتُّ ليلتي..
تُحيطُ بي أسئلتي..
في الفجر.. كنتُ في قيامَةٍ أُخرى
بعيداً عن معرّة النعمانْ"(من أوراق الموريسكي ص85-86).

هنا،يستحضر الشاعر شخصية المعري بوصفها علامة بارزة في عالمه الوجودي، من خلال رسالة(الغفران)، ويرى الشاعر في هذه الشخصية قمة التأمل والتفكر الوجودي،وما تكثيف الأسئلة الوجودية إلا لتحريك هذه الشخصية ومحاورتها من الداخل، لتكون محرق الدلالة الوجودية في الثورة والتغيير، ومن أجل هذا تمنى الشاعر أن يكون من إحدى شخصياته في رسالة الغفران، تأثراً بهذه الشخصية الاختلافية في الأفق الإبداعي.
ونخلص أخيرأً من قصيدة( الخوف والقصيدة) لحميد سعيد أن حميد سعيد لا يستحضر الشخصية المعرية،بوصفها قناعاًأو إشارةتاريخية، إنه يستحضر من خلالها مرحلة وجودية، كاملة وتاريخاً كونياً حافلاً بالثورة والتمرد،إن شخصية المعري لم تكن شخصية محورية في القصيدة فحسب، وإنما شخصية وجودية تسطر مرحلة كاملة أو تاريخاً وجودياً مأزوماً عاناه الشاعر، وجسده في شكل اغترابي جدلي مفتوح ومنزع رؤيوي عميق الصدى والدلالات.

نتائج واستدلالات أخيرة:

إن الروح الاغترابية تجترح كل مفردة أوجملة، في قصائده،لدرجة أن طقوس الموريسكي الاغترابية تتجاوز نطاق الشخصية الموريسكية، لتدخل ضمن تركيبة كل مضطهد أو مستلب، أو مغترب في وجوده وعالمه وإحساسه وأحلامه وأمانيه،إن صرختها الوجودية الحارقة تعلن عنها بقوة، وصلابة ،متجاوزة حرارة اللحظة وإحساسها المباشر إلى عمق الوجود، وجوهر الرؤية من الصميم .

من أبرز البؤر الدالة والمهمة في الكشف عن مضمرات قصائده الموريسكية، احتفاظ هذه القصائد بنكهة التراث،وحداثوية الرؤية، لدرجة تجد أن التراث مسكون بها، ومسكونة به في علاقة تضافرية تفاعلية لا تنقطع أو تنفصل،ولهذا، يشعر القارئ بالمتعة بمقروئية قصائده،لأنها تجعله يعيش مناخها الإبداعي،وطقوسها الفنية ،مدفوعاً بشهوة العودة إلى الأصالة العربية في ثوبها الجديد؛فقصائده ليست مبنية على رؤية محددة، أو مداليل صريحة، واضحة،إنها تخفي خلف سطحها اللغوي البسيط بؤراً دلالية لا تكاد تنتهي، باختصار، إنها تؤسس البنى التحتية كما أشرنا في سياق البحث التي لاتكشف عنها إلا الفراغات والعلامات البصرية المتخللة بين الجمل، وهذا لايعي بأبعادها الحقيقية إلا الشاعر نفسه والمؤول الناجح الذي يقرأ ماخلف القشور والزوائد اللفظية.

ومن الملامح البارزة للعيان، في قصائد (من أوراق الموريسكي) اكتنازها بالمفردات البيئية المشتقة من الطبيعة والتراث العراقي، خاصة باعتماد اللغة الشائعة المشتقة من مفردات الحياة اليومية ومرحعيتها التراثية المعاصرة، ناهيك عن تطعيمها بالمفردات الدخيلة من مرجعيته الثقافية الخصبة التي اكتسبها من أسفاره ورحلاته التي غطت أكثر بلدان العالم، خاصة إسبانيا كما ذكرنا.
إن خصوبة الرؤى التي تثيرها قصائده(من أوراق الموريسكي) تثير الفضول للتساؤل عن مصدر هذا التنوع، في الرؤى والمؤثرات الوجودية، لدرجة تجعلنا نقول:إنها ذات بعد فلسفي وجودي كوني، تشتغل على أكثر من رؤية أو أفق،أو مغزى،إنها تؤسس الوعي الشمولي، وتحقق المعادلة الوجودية البارزة بين(الاغتراب الوجودي)و(الاغتراب الذاتي ) عبرصورة [ الإنسان المعذب].أو الإنسان المطارد.

إن توظيف المفردات البيئية- في القصائد الموريسكية- أثرى معجمه الشعري،الذي يدل على خصوبة حقوله الدلالية، وتنوع مفرداته التراثية والمعاصرة، وهذه المعادلة في تشكيل قصائده الموريسكية حققت الكثير من مظاهر شعريتها،بسبب هذا المقوم اللغوي المهم في تشكيل رقعتها النصية.

تعمد الكثير من قصائد الموريسكي إلى شعرية الحدث أو الصورة الدرامية أو البانورامية المكثفة للحدث أو المشهد الشعري، خاصة المشهد الكابوسي السريالي المحتدم،فقصائده لاتقف حيال الاغتراب،بوصفه مرتكزاً بؤرياً للرؤية الشعرية،وإنما تعتمد على الطاقة التجريدية التي تبثها في شكلها اللغوي/ البصري، مما يضفي على قصائده مشروعية قرائية تحفر في العمق حتى تصل إلى الغاية المرجوة والدلالات المقصودة.
من الإشكاليات التي تطرحها( من أوراق الموريسكي)إشكالية الاستلاب، والإحساس، بالاستفزاز الشعوري العميق،إنها اعتصار رؤى مواربة مرتكسة تسعى إلى تعرية الواقع الاغترابي المأساوي المنهار، إلى عالم حر طليق،عبر تساؤلات مفتوحة تحتمل إجابات عدة ومدلولات غير منتهية.

من الظواهر اللافتة في قصائد( من أوراق الموريسكي) تنوع الضمائر، بالالتفات من ضمير إلى آخر، وهذا التنوع في حركة الضمائر دليل ثورة روحية، وحركية دائبة في الرؤية،والإحساس ، والشعور،مما يدل دلالة أكيدة على أن القارئ لايستطيع إلا الوقوف على رؤى وبنى متحولة ينبجس عنها إحساس شعوري اغترابي مشبوب بالحنين والرؤى المتحولة،ورغبة عارمة في ترسيم الصور المكانية الواقعية والمتخيلة التي تركت في مخيلته بريقاً روحياً لا يمحي أو يزول.

إن من أهم ما تطرحه قصائد الموريسكي مايمكن تسميته ب(شعرية الغياب)،هذه الشعرية هي التي تجعله في إحساس شعوري محتدم، أو مستمر، بين ثنائية (؟الشعور/الغياب)،فالغياب عنده ليس لفظة أو مفردة،وإنما هو فضاء بصري نقطي مفتوح ،وإحساس شعوري عميق،وهذا يعني أن إحساس الفقد أو الغياب، يعد مرتكز قصائد الموريسكي، في بحثه عن عالمه الغائب أو زمنه القديم الذي انتزع منه انتزاعاً مريراً مشبعاً بالغربة واللوعة والاشتياق، وهذايدلنا أن الزمن الغائب عند الموريسكي هو الزمن الغائب أو المعذب عند حميد سعيد،وكلاهما يبحثان عما يسد هذا الغياب والفقد، ويكسرحاجز هذاالغياب الموحش الرهيب.

إن في قصائد(من أوراق الموريسكي)شهوة عارمة إلى تكثيف المعاني ،وتبئير الدلالات، بالتجريد الرؤيوي، والعلامات الرؤيوية الفارقة التي تنبني عليها،والملاحظ أن حدة هذه الشهوة تتمظهر في التشكيلات المبتكرة والمعاني العميقة،لتحقيق الموازنة بين الإحساس الانفعالي، والشكل الإيقاعي البصري للقصيدة،وهذا يؤكد في المحصلة تضافر معظم المستويات الإثارية في تحقيق هذه الغاية، والحركة النشطة في قصائده على المستوى الرؤيوي/التقني المعاصر .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى