الخميس ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
بقلم حفيظة مسلك

عناقيد الوجع

إستيقظتُ فجرا لأجد أفكاري مستلقاة بجانبي تتنفس بعد ليلة صحراوية مليئة بالأرق ،موسيقى غريبة تجمع أطيافا من التعب والارهاق ولا يبقى غير النشاز، أحتسي فنجان قهوتي وأرمي بنفسي على النعش الدافئ ،أتمايل بين الغرف باحثة عن خطط جديدة لكسر الروتين اليومي، إخترت باب المنزل لأطل على العالم الخارجي، فحييته برفعي رأسي الى السماء فأومأ إليّ بالتحية ،إيماءة ممزوجة بتفاصيل مختزلة من فيض الواقع المعيشي،التمطّق بفيض القيام والقعود والترحال في زوايا خندقي ،فما تزال الشمس تزحف نحو إشراقتها، أتأمل الأشياء في أبعادها وهيأتها، أرى من بعيد طيف شخص قادم ومع كل خطوة تتضح الصورة،إنها إمرأة تحمل شيئا ما خلف ظهرها،مع اقترابها تظهر السيدة رفقة طفلتها التي أخال عمرها ما بين سن الثالثة أو الرابعة

ها هي تتجه نحوي والشقاء الطويل طُبِعَ على ملامحها ،الشحوب علا تقاسيم وجهها، وجدتها فرصة لإشباع فضولي
تعزيز المشهد وهو يستمسك إستمساكه.

 إبتسمتْ لي وعيناها الوادعتان اللتان تبثان الارتياح قائلة:
 إبنتي أريد كأسا من الماء
 أطلقتُ العنان للساقين متوجهة كالصاروخ الى المطبخ معتزة بمشهد يروق لضائقتي وإحساسي المرهف!
 تفضلي سيدتي لكِ ما أردتي..
تناولتْ الكأس وشربته بنهم، احسستُ بأنها قضت مسافة طويلة،حاولت صياغة الحوار وعرض خدماتي مرة أخرى بالإشارة الى تلك الطفلة التي تحملها، ما خطبها تعتلي صهوة اليوم الباكر!؟ فسألتها على أمل أن يحضر الجواب بسرعة
 سيدتي هل من خدمة أخرى أقدمها لإبنتك ؟
قالت والألم يعلو وجهها كأنها أبواب حكاية لا حصر لها، تستقر حواشيها وتتكاثر لتتشعب كغابة كثيفة الأسرار،
 شكرا إبنتي فطفلتي تحتاج يوميا لدورات في الترويض الطبي ...
ثم طأطأت رأسها كليالي الشتاء محاولة إنجاب بقية الكلام،الاسترسال يسكب عصير القذائف المتتالية التي جعلتها في قفص المعاناة

لم أتمالك نفسي بل توجهت نحو إبنتها في شطحات فيزيائية، محكومة بقبضة أسرتني رفقة إحساس داخلي فظيع،
تبدو شبه نائمة..غيرواعية بما يحدث حولها..بشرتها الزعفرانية الناطفة بوجع دفين، قمت بدغدغة خديها المتورمتين ، رق قلبي إليها ، قَبلتُها فتململت في حركة خاطفة ، تراقصت رموشها لترجع الى هدوئها بعدما إخترقتُ هدنتها لدقائق معدودة، إنطفأتْ بداخلي صورة من غير نظام،مشهد في لجج النفس العميقة وبالسرعة ذاتها ما تزال الحيرة تأخد مني،

فبادرت بالسؤال للمرة الثالثة مما يشحن الموقف بخجل غير مسبوق :

 خيراً إن شاء الله ما بها إبنتك؟
أسدلتْ رأسها هنيهة ثم رفعته الى السماء، فأطلقتْ تنهيدة تحمل معها مرارة الجواب
إبنتي ضحية خطأ طبي أثناء قيامي بعملية قيصرية عصيبة نتج عنها صعوبة في تحريك يدها اليمنى
بلغ الصمت مداه ونحن الثلاثة معا في معقل الهدوء الذي يعم المكان
تأملتها طويلا وتأملتني في وحش سؤالي الذي جر معه عناكيب الجواب الدامي

فاضت نفسي بما لا تطيقه، فتلك المآساة التي جعلت الأم وإبنتها في حضرة البحث عن العلاج ،ما هي إلا صورة مصغرة عن ذكرى ملتهبة لطائر تم قصفه بينما هو يرفرف كعادته نحو عوالم سديمية وهلامية، حيث ينتشر الدم والزبد على الجسد،في وهلة ما وجدت نفسي بين نارٍ وأمطارٍ تلعب بفرائسي، محاولة الإستنطاق والبحث عن بقية التفاصيل ستجعل مني تيارا معاكسا للحدث، فَهَمَمْتُ بالقول ومزج الكلام بابتسامة رمادية منهكة، تُمزّقُ جسد الفضاء الشفاف وتمنيت للصغيرة الشفاء العاجل، حشائش سوداء سارت في عروقي وأنا أودع تلك المرأة ،تعابيري أصبحت مسلوبة، أنأى بنفسي في هول الصدمة عن سعير الحاجة المجلجلة فكم من جسد عبثت به الأيادي الغادرة ،أوراق مخملية جافة ،أيادي فوضوية سادية تعبث بأرواح البشرية.

يا حسرتاه على وصفه بملائكة الرحمة يداوي الناس بجرم وهو عليل الضمير ،قساة القلوب ..عراة المشاعر بشهادة امتياز ..جهل في الأوصال يسبق الرحمة .. إستغلال البشر من أجل المال الوفير..تلعثمت حروفي واهتزت فقرات فؤادي ..لم ينفع الترجي ..
همها وعذابها يشبه مأساتي في مخيمات اللاجئين وبتر البسمة من الشمال متألمة و الى اليمين راضية مرضية
ضاق صدري..رشقات يوم باكر بطعم الأنين..
تركتُ دمعتي تنشطر الى أنصاف الدمع المدرار ..غابت عن ناظري مكسورة الجناحين..

لن أنساها وهي تخترق تفاصيل الفضاء..تعايشت معها من الصلابة الى الرخاوة..اشتبكت حروفي بسطوري فكانت النهاية في بداية الكلام.. حلم عسير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى