الأربعاء ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
بقلم عصام شرتح

متى يعلنون وفاة العرب؟!

رؤى تنظيريَّة في طرائق الكشف البنيوي- الجمالي:

إنَّ الكشف البنيويّ عن حركة النصوص الداخليَّة؛ لهو تغلغلٌ في مُرَكّبَّاتها، وعلائقها، ولبناتها الداخليَّة التي ينطوي عليها التشكيل النصيّ؛ بوصفها كوَّة نلج من خلالها جوهر البنية؛ في تجاوراتها النسقيّة، وعلائقها اللغويَّة، وحيِّزاتها التشكيليَّة التي تهب النصّ كتلة نصيَّة متماسكة؛ ولا تكون للبنية أيَّة قيمة دلائليَّة علائقيَّة فاعلة إلاَّ إذا عبَّرت عن مقصودها بدقة؛ وأدّت دورها العلائقي بإثارة، وإتقان؛ أي "أنْ تكون البنية ذات رؤية شموليَّة نابعة من شمولية النصّ؛ إذْ لا يُفْهَم الجزء إلاّ في إطار الكل؛ وهذه الرؤية النصَّية في جدليَّة الجزء والكلّ؛ تجانس الرؤية الاجتماعية في جدلية الفرد بالجماعة"()؛ ومن هنا، فإنَّ الكشف البنيوي عمَّا يتضمَّنه النصّ من علائق لغويَّة هو من صلب ما دعت إليه البنيوية الحديثة؛ لتصل إلى الجانب الخفي من النصّ؛ أو الجانب العميق بتغلغلها إلى أعماقه؛ "وهكذا يُنْظَرُ إلى النصّ من منظور البنيويَّة على أنَّ وجود عائم يطلقه مُؤَلِّفه في فضاء اللغة سابحاً فيها؛ متغلغلاً في أبنيتها وتراكيبها؛ غائباً عن الظهور في متاهاتها، إلى أن يَتَلَقَّفُهُ القارئ؛ ويأخذ في تقرير حقيقته، وكأنَّ الأمر – بذلك- يعني أنَّ لا وجود له إلاَّ حينما يتناوله القارئ؛ والنصّ بذلك "شاردة ينام عنها مبدعها"().

والقارئ البنيويّ للنصّ الشعريّ لا ينبغي أن يقتصر على الجزئيات للوصول إلى الكليات (المنظورات، والرؤى الكليَّة) على الرغم من أنَّ هذا الاشتغال هو من صلب عمله؛ عليه أن ينطلق – في عملية ارتداديَّة- من الجزء إلى الكل؛ ومن الكل إلى الجزء؛ ليتم تفعيل القراءة البنيويَّة، لتحقيق جماليتها ومصداقيتها الفنيَّة؛ ولكسر ما يمكن أن نسميه النمذجة القرائية السكونية للنصّ؛ إذاً عليه أنْ يمارس النقد البنيوي لا بوصفه آلة إحصاء واستقصاء؛ وإنما بوصفه خالقاً جيداً للنصّ؛ ليبدو مؤثراً فيه، باعثاً لحركته السكونيَّة التي همدت بعد ما تم الإفراغ الشعوري، ووصول لحظة التوتر الشعوريَّة القصوى لدى المبدع [لحظة الخلق الشعريّ إثر المثير الضاغط]، إلى درجة الصفر؛ عليه أن يشعلها بلمساته التحليليَّة؛ ليعيد النصّ إلى نبض الحياة من جديد؛ وهذا ما أدركه الناقد علي جعفر العلاَّق بقوله: "أنا لا أرى النقد الحق إلاّ بوصفه نشاطاً لغويَّة من طراز خاصّ؛ فالعمليَّة النقديَّة لا تفصح عن ذاتها إلاَّ خلال اللغة؛ وفي اللغة أيضاً؛ وبدون لغة جذابة وثاقبة لا يستطيع الناقد، مهما كان وعيه النقدي عالياً، أنْ يُجَسِّد موقفه من النصّ، وانفعاله به تجسيداً بارعاً ومؤثِّراً. وبكلمات أخرى؛ فإنَّ الناقد يظلُّ، بدون هذه اللغة الخاصَّة، ناقداً بالقوة أكثر منه ناقداً بالفعل؛ ويظلّ مسعاه النقدي مشاريع، أو محاولات؛ أو نوايا نقدية أكثر منها إنجازات مكتملة... لابُدَّ للناقد الحقيقي من نبرة خاصة، أعني صوتاً شخصيًّا يدلُّ عليه، ويميِّزه عن سواه، ويفصح عن اهتماماته؛ صياغات وأبنية ورؤى. وهكذا؛ فإنَّ أدبيَّة النقد، تتجلىَّ بشكل ناصع، في امتلاك الناقد صوته الفرديّ المميَّز، وكما تدلُّ القصيدة على صاحبها، فإنَّ لغة الناقد المتفرد تكشف عن شمائله التعبيريَّة، وميوله، ولوازمه التي يجد أنها أقدره من سواها على بلورة نزوعه النقديّ؛ أو منحاه في التأمل، والكشف، والتحليل"().

ومن هنا؛ يصعب تحديد النصّ الشعريّ؛ وكشف بواطنه؛ وبناه الداخليَّة؛ انطلاقاً من تأطير مسبق؛ وهذا ما على الناقد البنيوي إدراكه في ممارسته النقدية؛ فالعملية الإبداعية هي اختراق، وتجاوز، واستدراج رؤيوي جذاب للقارئ؛ ومن ثمَّ، فإنَّ تفعيل القارئ جماليًّا في التحليل البنيويّ لا يتمثَّل بالإغراق في التقصي الداخلي بقدر ما يتمثل في ربط هذا التقصي بالبعد الجمالي الخارجي؛ وإلاَّ سيفقد المحتوى النقدي بعده الجماليّ؛ ويبقى منغلقاً على ذاته، بالبحث العلائقي الداخلي بالتركيز على الدلالات المتوارية في النصّ؛ بمعزل عن حيويته، التي ترتبط بالخارج كما ارتباطها بالداخل؛ وهذا ما أشار إلى بعض منه الناقد خليل موسى بقوله: "إنَّ تحديد أيّ نصٍّ تحديداً نهائيًّا – ولاسيَّما النصّ الشعريّ- ليس بالأمر اليسير؛ فذلك يعني أنَّنا نُحَدِّد اللاَّمحدود بلغة المحدود؛ واللاَّمنتهي بلغة المنتهي؛ واللاَّزمني بلغة الزمني والشعري بلغة اللاَّشعريّ؛ وليس معنى ذلك أنَّنا نقدس الشعري من دون غيره، ولكننا نعني أنَّ طبيعة النصّ الشعريّ الثري تختلف عن طبيعة الأجناس النثريَّة، ومفاتيحه أقل فاعليَّة، وأكثر دقَّة من مفاتيح النصّ النثريّ؛ وهذا ما حَدَا بالرمزيين، وعلى رأسهم "مالارميه"، إلى أن يروا أنَّ الشعر في إشعاعاته لا فيما قيل فيه، وهو فيما لا يَقُلْ، وليس فيما قيل؛ والشعر كلمات لا أفكار؛ ولذلك؛ فإنَّ الشكلانيين والبنويويين ومن بعدهم انطلقوا من هذه الأقوال ليصنعوا مناهجم، ومقاييسهم، ومعارفهم إذا أرادوا الحديث عن النصّ الشعريّ أو الشعريَّة في النصوص النثريَّة، ولذلك؛ فإنَّ الألسنيين والبنيويين والتفكيكيين والسيميولوجيين تحدَّثوا عن السكوني، أو التزامني، مقابلاً للتطوري، أو الزمني؛ ووقفوا على المنهج الأول منهما للقبض على اللغة في لحظة سكونيَّة؛ للقدرة على امتلاك جزء منها، ووصفه"().

وإنَّ ما أشار إليه الموسى يدفعنا إلى التأكيد على أنَّ دراسة النصّ ببناه اللغويَّة العميقة، دراسة بنيويَّة؛ يعني – بالدرجة الأولى- دراسة علاقاته اللغويَّة ؛ ومستوى تطورها؛ ومؤثراتها؛ وما تفرزه من معانٍ، ودلالات، وإشارات، ورموز، ومستتبعات نصيَّة، مركزها بنية العلائق اللغويَّة؛ ومحور ارتكازها، ومكمن ثقلها الدلالات، والمعاني الجديدة المفرزة؛ "وبما أنَّ النصّ بنية لغويَّة مكوَّنة من بنًىً دالة على لحظة التشكيل الداخلي للمدلول، وتجسده المباشر في الدال يمنحها بعدها الإنساني، والجمالي كحد فاصل بين الشعر والنثر، ويوحِّدها في علاقات جدليَّة؛ تتجلى في قدرة على خلق التآلف بين المألوف/ واللامألوف. هذا التجلي هو الذي يستدعي آليَّات متعدِّدة على الباحث أن يستخدمها في منهجه التحليلي، لاكتشاف شعريَّة النصّ، تنفذ إلى ما وراء الكلمات في سياقاتها المتعددة من معانٍ توارت في هالتها الإشاريَّة"()؛ لتتحول في دلالالتها إلى عدة دلالات، متولِّدة من السياق الذي يمنحها تعدداً قرائيًّا مستتبعاً إفرازيًّا لحالة التشكيل النصيّ الجديد؛ "وهذا التحول لنصّ قراءات عدَّة، تنطلق من داخله، معلنةً عن خصوصيته الدلاليَّة، وعن تداخله في نفس الوقت مع نصوص أخرى في المتن نفسه، أو بنية الخطاب الإنسانيّ الآخر التي تشكل موروثاً لا شعوريًّا في الوعي، يستضيءُ به النصّ، كحالة تماثلٍ ترفد الشعور الإنساني بوحدة العالم، ووحدة الأدب، وبالتالي وحدة الوجود"().

والمبدع مهما تَحَصَّن في أسيجة، وقلاع، وأغلفة من الصور، والدلالات، والتشكيلات المراوغة المستعصية؛ ليبقي نصه شخصانيًّا (مغلقاً)؛ فإنَّه لابُدَّ من أن يأتي القارئ المجازف الذي يحطم هذه الأسيجة، وينتهك حُرْمَةَ النصّ لاكتشافه؛ واكتشاف ما فيه من مكنونات، أو مدلولات مسكوت عنها داخله؛ وهذا ما أشار إليه الموسى في قوله: "وإذا كان المؤلِّف يُحَصِّن نصَّه ضد القراءات التي تحاول معرفة كنهه، واقتحامه للتحول في ثناياه، وتفكيكه، لإعادة بنائه، وإنتاجه؛ فإنَّ على القارئ أنْ يكون هو الآخر مُحَصَّناً بوسائله الهجوميَّة، ومعارفه الخاصّة، ومنهجه، قبل أن يقوم بعمليَّة اقتحام النصّ؛ وبخاصَّة إذا كان النصّ شعريًّا، وشعريَّته في بنيته لا سواها"().

وحريٌّ بنا أن نتذكر أنَّ من آليات الباحث البنيويّ عمق الرؤيا، وقوة الحدس؛ ليستطيع أن يمتلك خصوصيَّة الكشف، بالإضافة إلى خصوصية التشكيل، والتأويل؛ فكما أنَّ المبدع يُشَكَّل نصّه بطريقته الخاصَّة به، فإنَّ ما يتوجب على الناقد البنيويّ –كذلك- أن يشكِّل النصّ الذي بين يديه بطريقته الخاصَّة دون أن يشوِّه محتواه؛ يتوجب عليه -إذاً -أن يفكِّكه، ليعيد تنظيمه بنسق مغاير، وكأنَّه خطاب جديد؛ [قول على قول]؛ وهنا؛ ننوه إلى مزلق خطر قد يتعرَّض له الناقد وهو: ألاَّ يغرق في تتبع البؤر البنائيَّة؛ والإحصائيات الرقمية على حساب الشكل الأدبيّ الممتع؛ فكثير من الدراسات البنيويَّة فقدت قيمتها بفقدها لجمهور القرَّاء الذي لا يعنيهم الإشارات، والأرقام والرموز الحسابيّة بقدر اهتمامهم بفن القول النقدي ومضمونه الجمالي الذي يزيدهم تمسكاً بالنصّ، وتمسكاً بروحانيَّة الفقد؛ وهذا ما أشار إلى بعضٍ منه العلاَّق بقوله: "إنَّ أدبيَّة النقد لا تعني إنشائيته؛ أو غرقه في لغة الانطباع أو الخاطرة، أو الرأي المُنْفَعِل ولا تعني الاحتفاء بما تقوله النصوص، أو التغني بمحمولاتها الفكريَّة. ومن ناحية أخرى؛ فإنَّ عملية النقد لا يقصد بها جفافه، أو خلوِّه من بلل الذات؛ وهي لا تعني تجنب الاحتكاك بالنصوص؛ أو التماس مع شحنتها الخطرة؛ بل تعني ارتفاع الناقد على أهوائه و انحيازاته، وتعني أيضاً إقباله على تلك النصوص مدفوعاً بقوة الوعي وتوهُّج الروح معاً"().

وإشادة العلاَّق تدعونا إلى التأكيد على صفات الناقد الحقيقي، ومن أهمها التجرُّد عن الأهواء، والنوازع، والانطباعات المسبقة؛ فالناقد البنيويّ على الرغم من انطلاقه من بؤرة البنى النصيَّة في النصّ الأدبي فإنَّه - من الضرورة بمكان- أن يأخذ بعين الاعتبار البناء النصّيّ ككل؛ بمعنى أثر البنية في تشكيل البناء النصّيّ؛ ودورها وظيفيُّا وجماليًّا؛ لأنَّ الدور الوظيفي قد ينتج إدراكاً معرفيًّا بطبيعة الإبداع، لكنه لا ينتج إدراكاً جماليًّا، بحساسيَّة البناء الشعريّ، ومصدر جماليًّاته؛ وهنا نؤكِّد على مسألة أخرى: أنَّ انطلاقة الناقد من البنية لا يعني التوقف حيالها معرفيًّا؛ فمن حقل اشتغاله أيضاً: [البناء النصّيّ ككل]؛ أي علاقة الكلمة بما يسبقها، ويتلوها في التركيب من علائق، وروابط تربطها بالنسق الكليّ؛ عليه أن يعي أنَّ "الكلمة نسق في الجملة؛ والجملة نسق في البيت، والبيت نسق في المقطع، والمقطع نسق في القصيدة؛ ويُكَوِّن مفهوم البنية العلاقات التي تنتظم مجموع الأجزاء بعضها ببعض في كلّ أدبي"().

وإننا سنعمد في اشتغالنا النقديّ على معطيات المنهج البنيويّ؛ بوصفه منهجاً نقديًّا دقيقاً في عمليَّة الكشف النصّيّ؛ إنْ تَعَدَّى إلى وظيفته المعرفيَّة العلائقيَّة [الوظيفة الاستهلاكية المباشرة] أي العلاقات والروابط في طابعها النحويّ الوظيفي [طابعها التجريدي المحض]؛ إلى الوظيفة الجماليَّة؛ لأنَّ الإفراز العلائقيّ الباطني إن استتبعه كشف جماليّ تتعزّز قيمة الكشف البنيويّ؛ وهذا ما سنؤكِّد عليه: إنَّ للكشف البنيوي دوره الدقيق الفاعل في الكشف جماليًّا عن النصّ، وليس وظيفيًّا أو علائقيًّا (متأخراً) لغايات نحوية علائقية ارتباطية (وظيفيَّة)، لتحقيق ما دعوناه بـ [علم الجمال البنيويّ النصّيّ]؛ الذي يُحقِّق وظيفتين متضافرتين معاً؛ هما: التركيز على بنية العمل الأدبيّ، ومظهر بنائيته، والتركيز على جماليَّة هذا البناء؛ وإفرازته العلائقيَّة التي تفجر مظاهر تماهي هذه الجماليَّات في شكلها الكلي المتنامي؛ من دون أن ننسى أنَّ هذين الجانبين هما جوهر العمل الأدبيّ، ومكمن نضجه على المستوى الفني.

وينبغي أن نعي "أنَّ القصيدة عملٌ خاصٌّ جداً، لا تذهب بنفسها إلى الآخرين دائماً، ولا تفتح مغاليقها لهم جميعاً، وفي كل وقت؛ فهي ليست أغنية أو حكاية، أو إعلاناً. بل هي عمل غائمٌ ومشِعٌّ في آن واحد. ولذلك؛ فإنَّ ما فيها من ضوء يظلُّ كامناً أو مُؤَجَّلاً في انتظار قارئ مُرْهَف، لا قارئ عام؛ قارئٌ قادِرٌ على إحداث ذلك التماس المقلق بينه وبين النصّ. وليس كلّ القرَّاء قادرين؛ بطبيعة الحال، على الوصول إلى نقطة التماس تلك؛ حيث مكمن الضوء؛ أو الرعد، أو الإثارة. وهكذا، كُلَّما ازدادت القصيدة إحكاماً وتعقيداً قلَّ عدد قرَّائها المتميِّزين. أعني القادرين على الوصول إلى نقطة الاندماج بالنصّ، وتفجير مكنوناته الفكرية والوجدانيَّة والبنائيَّة. وتأسيساً على ذلك؛ يظلُّ عدد المرهفين، من قرَّاء الشعر؛ قليلاً في العصور كلها، فالشعر كما يقول الشاعر الأمريكي اللاتيني خوان رامون جيمينز، هو فن الأقليَّة الهائلة"().

وهذا القول على الرغم من حقيقته فإنَّه ينطوي على مغالاة شديدة؛ فالقصيدة رغم أنها عمل خاص جداً؛ فهي كتلة مقولات لغويَّة مصاغة فنيًّا، لا تستظهر خصائصها الجماليَّة بمعزلٍ عن قرَّائها؛ أو بشكل أعمق بمعزلٍ عن حيِّز الجماعة الذي قيل في إطارها هذا القول الشعري؛ فالقول الشعريّ – في أساسه- بنية لغويَّة مُفَعَّلة، تستدعي الكثير من الرؤى؛ وتتطلب –كذلك- الكثير من الاستجابات؛ فالنصّ أفق مضمرٌ بمعزل عن قارئه؛ ومن ثمَّ، فإن تمسكنا في عملية الكشف البنيوي هو تمسك بالجذر الذي شكل بنيته هذا القول؛ وعلى القارئ- جماليًّا – كما القارئ البنيوي- أن يأخذ بعين الاعتبار هذا الكشف بوصفه رافده الرئيس لما سيصل إليه من قيم جماليَّة فيما بعد؛ وهذا القول يضعنا –كذلك- على ما يسمى في النظريات النقدية الحدثية بـ [جماليَّة التلقي]، التي تعني كيفيَّة قراءة النصّ قراءة جماليَّة، وتلقيه تلقياً جماليًّا؛ "ففي جماليَّة التلقي، انتقل السؤال عن القارئ وماهيته، إلى كيفيَّة القراءة (كيف يقرأ القارئ)؛ وإذا كان النصّ بنية مضمرة، يقوم القارئ بإخراجها والتعريف بها؛ فإنَّ القارئ - أيضاً- لا يتحقق وجوده إلاَّ إذا تَلَبَّس القراءة بشعوره، وبمعنى آخر من المعاني جماليَّة التلقي؛ فإنَّ القارئ يحتكر سلطة إضفاء الحياة على موات النصوص المتراصَّة فوق الرفوف، وبهذه القراءات المتعاقبة في فترات متعدِّدة يَتَجَّسد الطابع التاريخيّ للقارئ؛ ومن ثمَّ، فإننا أمام أجيال تاريخيَّة من القرَّاء يقتربون من النصّ، أو يبتعدون فهماً وتفسيراً وتأويلاً وأيضاً إنتاجاً... انطلاقاً من هذا التصوُّر، تتجاوز جماليَّة التلقي تعريف الجنس الأدبيّ؛ كما عرَّفته نظريّات الأدب المختلفة؛ وتتجاوز المناهج التاريخيَّة، والاجتماعيَّة، والنفسيَّة التي اعتمدت على مقاييس أخرى في قراءة العمل الأدبيّ، واستعانت جماليَّة التلقي في قراءتها بقدرات القارئ، وخبرته في إدراك جماليَّة النصّ"().

وبما أنَّ اللغة الشعريَّة – بالأساس- لعبة لغويَّة محضة، فإنَّ لعبة البنية التشكيليَّة في النصّ هي نقطة ارتكاز أي عمل أدبيّ إبداعي؛ ولذا؛ سنحرص في مكاشفتنا النقدية [البنيويَّة- الجماليَّة] أن نُرَكِّز على المستوى البنائي التحتي للنصّ؛ بوعي معرفي نستنتج - من خلاله- ماهيَّة الجمال المستبطنة في البنى الدالة التحتيّة للنصّ القبّاني؛ ومدى ارتباطه بالبناء النصّيّ العام في تشكيله المعماري، ومهيمناته النصّيّة الفاعلة التي تشكِّل مظهر إثارته وإفرازاته الجماليَّة؛ وهنا قد يتساءل قائل: ما هو السِّر النقدي في اختيار قصيدة [متى يعلنون وفاةَ العرب] لتكون حقل الكشف [البنيوي- الجمالي] فيما يُسَمَّى [بعلم الجمال البنيوي النصّيّ] دون غيرها من القصائد؟!. ماهو معياركم الفني في هذا الاختيار؟

إننا نؤكِّد للقارئ: أنَّ مرتكزنا - في هذا- مبنيٌّ على أساس معرفيّ؛ أولاً بتضافر بناها التحتيَّة في تشكيل رؤية جماليَّة إبداعيَّة من جهة؛ وحيازتها على بنية ذات فاعليَّة قصوى من الإثارة، والتحفيز الشعوري من جهة ثانية؛ من خلال بؤرة التلاحم والتضافر النصّيّ بين بناها التشكيليَّة [الدلاليَّة، المعجمية، والإيقاعيَّة، والصرفية] كافة؛ فهي ذات بنية متكاملة، متحركة في نسقها، من أول كلمة فيها، إلى آخر توقيعة نصيَّة في فضاء تشكيلها النصّيّ العام؛ ومن هنا؛ فإنَّ اختيارنا لها جاء مرتكزاً على مكوِّنات بحثيَّة تحقق فاعليَّة الكشف التي نروم إليه؛ لتعزيز بحثنا النقدي عن مفهوم: [علم الجمال النصّيّ البنيوي]؛ الذي يرتكز على البنية التحتية، لتكون منطلقاً له في الكشف الجمالي عن بؤرة الفاعليَّة النصيَّة التي تنبني عليها هذه القصيدة؛ لتحقق متعتها الجماليَّة؛ ابتداءً من أدق تفاصيلها من بنائيَّة الصوت، وصولاً إلى أعلى لبنة فيها؛ وهي بنائيَّة النصّ بوصفه بنية نصّيَّة كبرى.

وقد أشار إلى فاعليَّة الكشف البنيوي هذه الناقد خليل موسى بقوله: "يستهدف التحليل البنيويّ اكتشاف الصلات التي تقوم عليها بنية النصّ، وجمالياتها من القراءات الانطباعية، والاجتماعيَّة، والأيدلوجيَّة، والنفسيَّة التي تشدُّ وثاق النصّ إلى كاتبه أو بيئته؛ ولذلك، ذهب هؤلاء إلى أنَّ شرح العمل الأدبيّ لا يؤدّي إلى القبض على معناه؛ بخاصَّة إلى كان النصّ مُرَكَّباً، أو متعدِّد الطبقات؛ فالشرح لا يتجاوز الطبقة السطحية من النصّ، في حين أنَّ طبقات الأعماق غنية بتحولات المعنى التي تقوم على ثنائيَّة ضديَّة متفاعلة، ثم إنَّ طبيعة النصوص الأدبيَّة رمزيَّة، وهذا يعني أنها توحي بمعانٍ متعددة في أوقات مختلفة للإنسان نفسه؛ ولا تعني البنية المركبة العميقة في البنيويَّة أنَّ النصّ غير مستقر؛ أو هو بلا شروط أو قوانين تحكمه، ولكنَّه يعني أنَّ طبقات النصّ وعلاقاته تفترض الكشف عنها، وعن أنظمتها الرمزيَّة لبيان؛ جماليَّات هذه المعنى"(). وهذا دليل على فاعليَّة الدور الذي يلعبه الكشف البنيوي في استجلاء جماليَّات القصيدة؛ واستنتاج مرتكزات إبداعها، من خلال طبقاتها الداخليَّة وعلائقها النصّيّة في أنظمتها الداخلية التي تحقِّق لحمتها البنائيَّة و(تكاملها النصّيّ).

* التحليل البنيويّ النصّيّ:

سبق وأنْ أشرنا في عدة مواضع: أنَّ شعريَّة المنطوق السياسيّ – لدى القبَّاني- تختلف عنها في منطوقاته الشعريَّة الأخرى؛ وهذا دليل على أنَّ لهذه المنطوقات سويَّة جماليَّة تختلف عنها في منطوقاته الشعريَّة الأخرى؛ من حيث الأدوات، والتقنيات؛ والمحفِّزات الإبداعيَّة على مستوى الصورة، وحيويَّة التشكيل؛ ودهشة البناء؛ ومثيرات الحدث، وحرارة الانفعال العاطفي الغزليّ. بالإضافة إلى الكثير من التقنيات الجماليَّة لا سبيل إلى حصرها الآن؛ ولابُدَّ من الإشارة هنا، إلى أنَّ الكثير من الدارسين قد وعوا هذه الحقيقة لكنهم لم يملكوا الجرأة الكافية للإدلاء بها؛ نظراً إلى القامة الشعريَّة العالية التي يشغلها القبَّاني على الساحة الشعريَّة العربيَّة؛ فتخوَّفوا من التصريح بأي حكم نقدي قد يوقعهم في مطَّب نقدي خطير قد لا يخرجون منه؛ ومنهم على سبيل المثال لا الحصر هايل الطالب؛ الذي يقول: "يُشَكِّل المجلدان (الثالث والسادس) ما أسماه الشاعر نزار قبَّاني بـ (الأعمال السياسيَّة الكامل)، أي إنها تُشَكِّل نصًّا واحداً هو النصّ الشعريّ السياسيّ الذي يُعبِّر عن موقف الشاعر من القضايا السياسيَّة المرتبطة بالوطن؛ وعبارة السياسيّ في توصيف هذا النصّ يجب ألاَّ تصرف الأنظار عن أنَّ هذا النصّ هو عمل فنيّ؛ وبذلك فهو لا يُشَكِّل بياناً سياسيًّا؛ وإنما يُعبِّر عن مواقف الشاعر الوطنية في إطار لغة فنيَّة"().

إنَّ إيجاز الباحث هايل الطالب في حكمه النقديّ على سوية هذه القصائد بمقوله: [لغة فنيَّة أو عمل فنيّ]؛ لهو دليل على تخوفه من أن يصدر حكماً نقديًّا جرئياً قد يوقعه في مزلق نقدي خطير؛ فانصرف إلى الجانب الدلاليّ؛ في تحليله النصّيّ؛ منطلقاً من ست مقولات دلاليَّة؛ جعلها محورَ ارتكازه في عملية الكشف الدلاليّ لمهيمنات هذه القصائد؛ وهي [الوطن، والقمع؛ والموت، والحياة؛ والحزن؛ والفرح]()؛ ما يلفتنا في هذه الدراسة الوعي النقديّ الكشفي المهم للكلمات الدلائليَّة البؤرية التي توجه سيرورة هذه القصائد على المستوى الدلالي؛ وكشفها عن الكثير من المنعرجات المفصلية في قصائد القبَّاني السياسية؛ إن لم نقل في حياته الشعريَّة برمتها؛ لكن ما يؤخذ على هذه الدراسة تخوفه من إصدار أيّ حكم نقدي أو إشارة ما، ولو عن قيمة جماليَّة واحدة، أو ملكة إبداعيّة تمتاز بها هذه القصائد من قريب أو بعيد؛ وكأنَّه يعي في قرارة نفسه أنَّ مثل هذه القصائد لا تملك مخزونها الإبداعي المثير كما هي عليه في بقية قصائده الغزليَّة التي تتوهج شعوراً، وإبداعاً، وامتاعاً يصل حدّ الإدهاش.

وقد آثرنا أن ننطلق في فلك هذه الدراسة البنيويَّة من منظورات بنائيَّة تحتية دقيقة، ومقوِّمات بنيويَّة محضة؛ ترتكز على جوهر البنية؛ وصلتها بالبينات الدلائلية الأخرى؛ في مساراتها المتحوِّلة، ابتداءً من العتبة النصيَّة الاستهلالية الأولى، وصولاً إلى بنائيَّة القفلة النصيَّة؛ ومرتكزاتها الفنيَّة؛ وفق معطيات بنائيَّة محضة؛ وربطها وظيفيًّا وجماليًّا في مسارات القصيدة على المستوى النصّي؛ مروراً ببنائيَّة الصوت، والكلمة، والجملة، والمقطع، وصولاً إلى بنائيَّة النصّ في لبنته الأخيرة؛ ممثلة بالقفلة النصيَّة؛ وتوخياً للمنهجيَّة العلميَّة سنبدأ من اللبنة النصيَّة الأولى، ممثلة بالعنوان إلى آخر لبنة في القصيدة ممثلة بالقفلة النصيَّة؛ وفق المنطلقات البحثيَّة التالية:

1- بنائيَّة العنوان:

قبل أن نخوض في الدور الوظيفي والجماليّ لهذه اللبنة التشكيليَّة النصيَّة الأولى؛ لابُدَّ من أن نشير: إلى أنَّ هذه القصيدة – في واقع الأمر- ليست ضمن مدوَّناته الشعريَّة السياسيَّة؛ التي ضمَّنها أعماله الشعريَّة الموسومة بـ [الأعمال السياسيَّة الكاملة] على الرغم من أنَّها تُشكِّل موجة نقديَّة تكاد توجّه المنطوق الشعري السياسي لديه برمته؛ والسبب في ذلك يعود – من منظورنا- إلى تطعيم هذه القصائد بمقاطع غزليَّة؛ مما جعل خطابها موجهاً وفق مسارين متناقضين: مسار غزلي حسّي غريزي (بحت)، ومسار سياسيّ خطابي، مباشر؛ مما جعله يُنَحِّيها من مُدَوِّناته قصائده السياسيَّة،ويضمِّنها في الجزء التاسع من أعماله الشعريَّة الكاملة.

ولابُدَّ من الإشارة إلى أنَّ بنائيَّة العنوان تعني- بدون مبالغة- بنائية القصيدة كلها؛ وهو التوقيعة العلاماتيَّة الأولى التي توجِّه مسار المتلقي وتوّجهه؛ وتجذبه إلى دائرة المتن شغوفاً بما فيه من تمثلات للمتنفسات الدلاليَّة التي أفرزها العنوان بوخزته البرقية الأولى؛ والعنوان "هو المفتاح الأول في القصيدة؛ لأنَّه ذو أهمية كبرى؛ فهو لافتة توضِّح الكثير من مطالب الشاعر، أو هو رأس النص، والرأس يحتوي على الوجه؛ وفي الوجه أهم الملامح، ولذلك؛ فإنَّ البحث في العنوان هو بحث في صميم النصّ؛ وبخاصَّة إذا كان العنوان دالاًّ على محتوى ما تحته؛ وكما أنَّ الرأس مرتبط بالجسد بصلات دقيقة جداً، فعنوان أيّ نصّ مرتبط به ارتباطاً عضويًّا، ونصٌّ بلا عنوان جسد بلا رأس؛ والعنوان اسم والنصّ مسمَّاه"().

ومن هنا؛ فإنَّ للعنوان خصوصيَّة علائقيَّة بارزة، تشكِّل الركيزة الأساسية الأولى في عملة البث الشعري؛ ولذلك، يمكن أنْ نَعُدُّه أول بنية علائقية دالَّة في القصيدة؛ وأول بنية مفتاحية تدخلنا عالم النصّ الإبداعي؛ وهنا، نلحظ أنَّ القبَّاني عَنوَنَ قصيدته بتساؤل مفتوح؛ والتساؤل لم يكن بـ [كيف] الدالَّة على الحالية، والمستقبلية؛ وإنما جاء التساؤل باسم الاستفهام [متى] الذي يدلُّ على المدّ الزمني، رغبة في التحقيق؛ أو رغبة في وقوع شيء ما؛ ينتظر الشاعر في البرهة الزمنية المستقبلة القادمة؛ وإنَّ الاستفهام بـ [متى] يعني التصاق الشاعر برغبة مستقبلية، للتخلص من حالة راهنة؛ أو حالة ماضويَّة مؤلمة تقضُّ مضجعه؛ والسؤال- هنا- جاء مفتوحاً زمنيًّا، بسبب المدّ الزمني الذي فجَّرته اللبنة البنائيَّة الأولى في العنوان، وهي البنية الدلائليَّة الأولى [متى]؛ إنها ركيزة التساؤل؛ ومحور مجراه الدلائليّ؛ وهنا؛ لم يأتِ التساؤل منطوياً على رغبة صريحة، محبَّبة لدى الشاعر؛ يتمنى أن تحصل في الزمن المستقبلي (القريب/ أو البعيد)؛ وإنما جاء ارتداداً مأزوماً عن حالة شعورية يائسة؛ أو حالة شعوريَّة، احتجاجية؛ تنديديَّة بواقع مرير يعيشه العرب؛ ومازال هذا الواقع الارتكاسي المؤلم يمدّ صداه إلى اللحظة الراهنة؛ ويلقي بثقله الضاغط على صدر الشاعر؛ ليدفعه برغبة عارمة إلى التصريح والإعلان؛ وهنا، جاءت الأداة الاستفهامية (متى)، لتقرع الأذن؛ وتعلن الصيحة الاحتجاجية الرافضة بقوة ارتداد شعوريَّة، عكست هذا التأزُّم الداخلي بلفظة (يعلنون) التي جاءت بحدتها عبر المدّ المتصل، لتكشف عن هذا التوتر الحاد، والارتفاع في وتيرة النسق، باللبنة الدالة الأخرى [وفاة العرب]؛ لتعزِّز هذا الارتداد الشعوريّ؛ بإعلان وفاة العرب؛ والإعلان بالوفاة هو إعلان بالخلاص؛ فهو يريد لهذا الواقع المرير، أن ينجلي بكل مسبباته ودناسته حتى ولو كان هذا الخلاص يمثل النهاية الحتمية المتوخاة؛ فإنَّ هذه النهاية تعني –أخيراً- الراحة بالنسبة للشاعر؛ لأنَّها تمثِّل الخلاص من هذه الحالة الارتكاسيَّة المؤلمة التي عاشها العرب، من ذلٍّ، وضياع، وضعف، وانكسار.. وهنا، لم يكن العنوان مجرَّد توقيعة كلاميَّة لا قيم لها، وإنَّما جاء مشكِّلاً لبنة جوهريَّة في عملية الكشف الشعريّ، بما يتضمنه المتن من رؤى ودلالات، ستتبدّى لنا لاحقاً في التحليل النصّيّ؛ فالعنوان رغم اقتصاده اللغويّ، فإنَّ أدَّى دوره الوظيفي، والجماليّ في استشراف دلالات المتن؛ وما يتضمنه من بنى دالَّة سنلحظها عبر العلائق النصّيَّة القادمة تباعاً.

ولو دققنا في مسار العنوان وسيرورته بنائيًّا، أو شكلاً علائقيًّا على مستوى تموضع وحداته المعجمية الدالّة، لتبدّى لنا أنَّ العنوان يرتكز على الوحدة المعجمية الدلائليَّة، المؤسسة لحركة العنوان؛ وهي (متى) الظرفية الاستفهامية التي تُعَدُّ مركز إشعاع العنوان، وحركته، وتموجاته الشعوريَّة، كما في المخطط التالي:
متى
(بؤرة الدلالة)

يعلنون وفاة العرب؟!

إنَّ الشكل الهندسي لتعالقات العنوان على مستوى وحداته المعجميَّة، يؤكِّد أنَّ العنوان يتحرك على مساحات مفتوحة من الرؤى، والدلالات، والوعي التركيبي، واللفظي عبر منظومة علائقية إشارية، تؤكِّد أنَّ العنوان ينمُّ عن لبنة بنائية مركزيَّة (محورية) ممثلة بأداة الاستفهام المتحركة زمنيًّا، بمدِّها الدلائليّ المفتوح: [متى] ولبنات بنائية فرعية ممثلة بالمفردات التالية [يعلنون] و[وفاة]؛ و[العرب]؛ ولبنة بصريَّة لا يعتدُّ بها لغويًّا؛ وإنما يعتدُّ بها بصريًّا [؟!] متبوعة بنقط [..]، وهذه اللبنات تتواشج فيما بينها؛ لتشكل الانبثاقة العنوانيَّة في منظومة دلاليَّة معبِّرة؛ فكل لبنة أدَّت دوراً علائقيًّا مع اللبنات الأخرى في تبيان إحساس الشاعر المرير بأنَّ الزمن الامتدادي لإعلان وفاة العرب زمن مفتوح؛ وهذا الزمن لن ينتهي؛ واستمراريته تتبدَّى في المدّ الدلاليّ عبر إشارة الاستفهام؛ ثم أتبعه بصريًّا بنقطتين بعد إشارة الاستفهام دلالة على أنَّ المدى الزمني مدًى مفتوحاً غير منتهٍ، والرغبة- كذلك- بالإعلان، مازالت مفتوحة وممتدة؛ كامتداد النقط المتتابعة؛ عبر منظومة لغوية متحفزة، ومتوترة في بث مدلولها؛ مما ينمّ على أنَّ الشاعر من خلال العنوان تجاوز البنية السطحية؛ ليدخل إلى جوهر البنية؛ في صيرورة الانفساح الزماني ممثلة في الإشعاعات الدلاليَّة لصدى إحساسه المأزوم؛ بأنَّ العرب مازالوا يحتضرون، واحتضارهم اللاَّمعلن جعلهم غير قادرين على أن يواجهوا أنفسهم بالحقيقة المرة، نظراً إلى ضعفهم، وهشاشتهم، واحتضارهم البطيء؛ مما جعلهم صامتين مترددين على أن يواجهوا مرآة ذواتهم المتصدعة؛ التي لا تملك خياراً لها سوى الإعلان؛ وهذا الإعلان لا يمثل خلاصاً دائماً يمثل مواجهة؛ لكن حتى المواجهة غير قادرين على إدراكها؛ أو امتلاكها؛ وهنا، تتسع المفارقة، ليشير الشاعر إلى أنَّ الإعلان ليس طريق الخلاص؛ وإنما طريق الوفاة، والنهاية الحتمية بمنظومة تقريعية، تنديديَّة تؤكِّد عمق التأزُّم، وعمق الجرح من هذا الواقع المتردي الذي وصل إليها حال العرب، وعلى هذا، يبدو العنوان فاعلاً في الحراك الدلاليّ للمتن الشعريّ؛ فهو ليس مكوناً علاماتيًّا أو "لمحة استعارية تتوارى بشعريتها السطحية؛ ولكنها في الآن ذاته موجِّه قرائي للنص؛ لتفعيل الصلة بين القارئ والنصّ"().

2- بنائيَّة الفاتحة الاستهلاليَّة:

إنَّ بنائيَّة الفاتحة الاستهلاليَّة تعني – بالدرجة الأولى- استقطاب مركز حركتها، وتتبع وحداتها الجزئيَّة، والمثيرات التي فجَّرتها والنظام المكاني، وترتيب الأصوات، وحركة النسق الذي انتظمته في حركة نسقيَّة اندماجيَّة؛ تثير النصّ، وترفع سويته الفنيَّة؛ وما يهمنا نحن: في بنائيَّة الفاتحة الاستهلاليَّة مستوى جاذبيتها في انتظام ذهنية النصّ الإبداعيَّة، لتكون الومضة الإشاريَّة الأولى التي توقظ المتلقي لحظة تلقيه النصّ؛ لدرجة أنَّها "تستفزه وتُفَجِّر طاقته الذهنيّة والخياليَّة؛ فيجعل منها موضوعاً للمناظرة والمحاورة، والتراسل، والمعارضة"()؛ وهنا، تكمن درجة بداعة الفاتحة الاستهلاليَّة، في درجة جاذبيتها الفنيَّة، ونسقها المحفِّز لما يتلوها من عناصر التركيب، لتكون مركز الإبداع ومنطلقه؛ لا مجرَّد دخول تقنيني مؤدلج لحركة النصّ؛ لا تثير في المتلقي عنصر الاستجابة الجماليَّة، لتلقيه بجماليَّة آسرة، تدفعه لردة فعل تستجيب لدافع التحفيز الذي أحدثته بهزتها الشعوريَّة لحظة تلقيها؛ "ولا تتحقق إثارة الانفعالات في نفس المتلقي حتى ينسجم العمل الأدبيّ ذاته في بنياته وشكله؛ ويحدث المفاجأة في الأحداث وفي البدايات والنهايات؛ مما يجعل المتلقي في حالة ترقّب وانتظار لما هو غير متوقع"().

وإنَّ الفاتحة الاستهلاليَّة -في هذه القصيدة- جاءت منظومة بنيويَّة تشكيليَّة علائقيَّة محكمة تشي بالمشاعر، والأحاسيس المتدفقة خلاف ما اعتدنا عليه في استهلالاته التقليديَّة، في منطوقاته الشعريَّة السياسيَّة التي غالباً ما تأتي سرديَّة، أو ذات نسيج علائقي مألوف أو متداول؛ أما في هذه الفاتحة الاستهلاليَّة فالأمر مغاير تماماً لما سبق من حيث فاعليَّة النسيج التركيبي والصوتي، التي تمتاز بها هذه الفاعليَّة من حيث طبيعتها الشعوريَّة المكثفة، وإجابتها المقصود الدلاليّ؛ بأبعاد، وعلاقات تداخليَّة، وأنظمة بنائيَّة تعكس درجة الوعي والإدهاش في التحفيز الجماليّ؛ كما في قوله:

"أُحاوِلُ مُنْذُ الطفولةِ رَسْمَ بلادٍ
تُسَمَّى – مَجازاً- بلادَ العَرَبْ
تُسَامِحُني إنْ كَسَرْتُ زُجَاجَ القَمَرْ...
وتَشْكُوني إنْ كتبتُ قَصِيْدةَ حُبٍّ
وتَسْمَحُ لي أنْ أُمارِسَ فِعْلَ الهَوَى
ككلِّ العصافيرِ فَوْقَ الشَجَرْ...
أحاولُ رَسْمَ بلادٍ
تُعَلِّمني أنْ أكونَ على مسْتَوى العشقِ دَوْمًا
فأفرشَ تحتكِ صَيْفًا، عباءةَ حُبِّي
وأَعصرُ ثَوْبكِ عندَ هطولِ المَطَرْ"().

ولامتلاك القدرة على الولوج إلى عمق هذه الفاتحة الاستهلاليَّة، لابُدَّ من الإشارة إلى أنَّ القبَّاني في استهلالاته النصّيَّة يرتكز على بنية التكرار؛ بوصفها بنية علائقيَّة مهمة تملك تأثيرها في المتلقي؛ من خلال بنية معجميَّة مكررة، تستدعي التوقف عندها مرات، للتعرف على إمكانياتها، ودورها العلائقي في كشف الدلالة؛ واستتباع محمولها الدلاليّ النصّيّ العلائقيّ الجديد؛ إذْ "إنَّ التكرار – في حدِّ ذاته- وسيلة مهمة من الوسائل السحريَّة التي تعتمد على تأثير الكلمة المُكَرَّرة في إحداث نتيجةٍ إيجابيَّة في العمل الفني المتميِّز"()؛ وهذا الدور الذي أشار إليه المقبوس السابق، يدعونا إلى التأكيد على أنَّ التكرار ليس عنصراً تزيينيًّا أو فضلة ينال النصّ حظوته بحيازتها؛ وإنما هو عنصر تأسيسيٌّ بنيويٌّ في حركتها النصّيَّة؛ وهنا؛ يبدو لنا أنَّ التكرار لم يؤدِّ دور الرابط الجذري البنيويّ للحركات الدلاليَّة؛ وتنظيمها النسقي المعجمي على الصعيد النسقي؛ فحسب؛ وإنما أسهم –كذلك- في رسم صورة علائقية بنيويَّة مرتكزة على الجذر اللغويّ المكرر الذي ولّدته الفاتحة الاستهلاليَّة: [أُحاولُ رسمَ بلادٍ]؛ وهذا الارتكاز ولَّد انسجاماً وتنظيماً فنيًّا فائقاً في تعزيز تلاحم الدلالات؛ وتبدّى لنا ذلك من خلال النسق الدلائلي المحكم؛ الذي أراد الشاعر بثّه على صعيد الدلالة؛ فالبلاد التي يحاول الشاعر رسمها ليست عربية؛ وإنما بلاد تسمى مجازاً بلاد العرب؛ وهذا الإشارة [مجازاً] بقدر ما تنطوي عليه من بساطة تعبيريَّة؛ فإنها تحمل دلائليات إضافيَّة مستبطنة مشعة بدلالات النفي والاستهجان لهذه البلاد التي تمارس شتَّى أنواع القمع، والكبت على شعوبها المستضعفة؛ وهنا، لم يحاول الشاعر رسم البلاد، رغبة في امتلاكها؛ أو رغبة في تشكيلها الغرائزيّ كما يحلو له؛ وإنما رغبة في أنْ ينال جزءاً بسيطاً من حقوقه في الحياة؛ وهي ممارساته الطبيعيَّة اليوميَّة التي باستطاعته أن يقوم بها دون قيد أو شرط؛ وهي حقٌّ من حقوق الكائنات الوجوديَّة على هذه الخليقة؛ كحق البلابل، والطيور، في حركة طيرانها، وممارستها الاعتياديَّة المشروعة؛ وهذه الرسالة الموجزة تدلنا على حجم إصابة الشاعر للمقصود الدلائليّ بحركة بنيويَّة دلائليَّة إيحائيَّة، يبثها عبر النسق الدلائلي التركيبي المحكم؛ وهذا يدلنا على أنَّ ما يُحَفِّز النسق بنيويًّا؛ ارتكازه على الركيزة الاستهلاليَّة التكراريَّة التي تشكل الجذر اللغويّ العلائقيّ، للانطلاق في صيرورة النصّ الدلاليَّة، وفق مرتكزين رئيسين؛ نمثلهما بالشكل التخطيطي التالي:

إنَّ اعتماد الشاعر – في المخطط البنيويّ الهندسيّ- تراكم الصيغ الفعليَّة؛ إثر الجذر التكراري الركائزي التالي: [أحاولُ رسمَ بلادٍ]؛ لدرجة يُشكِّل ركيزة الفاتحة الاستهلاليَّة؛ ويشكل نقطة انبثاق الدلالة، ومحور مرجعيتها الدلاليَّة؛ إذ اضطلعت الصيغة الفعليَّة، برغبة الشاعر العارمة في تحقيق رغباته الإنسانيَّة في أن يمارس أبسط حقّ من حريته، وهو حق الحياة؛ أن يعيش رومانسيَّة؛ أن يعشق، ويرفرف في سماء عشقه طليقاً، كالبلابل فوق ذرى الأشجار؛ وهنا، راكم الشاعر الصيغ الفعليَّة المضارعة، رغبة منه في تواصل الحركة؛ ورغبة فيه - كذلك- في حياة مطلقة فسيحة، يمارس فيها نشاطه الإنساني بكل حيويَّة، وتدفق، وإقبال على الحياة؛ وقد جاءت الأفعال المضارعة المكثفة في النسق الاستهلاليّ؛ مؤذنة بهذا الحراك الحيويّ الضاجّ على السكونيَّة، أو القيديَّة التي تتمثل عادة في تراكم الصيغ الاسميَّة، بشكل متتابع؛ فما تراكم الصيغ الفعليَّة – في الفاتحة الاستهلاليَّة- إلاَّ دلالة على رغبة الشاعر العارمة في تجاوز قيد السكون؛ والانطلاق في رحاب الحياة، والانفتاح على عوالمها اللاّمحدودة؛ فاعتماد القبَّاني الصيغ المضارعة [أُحاولُ، تُسَائلني- تشكرني- تسمحُ لي- تُعَلِّمني- أفرسُ- أعصرُ] دليل رغبة الشاعر في تحقق كامل أمنياته، وممارساته الفعليَّة في الحياة؛ بكل جرأة؛ وتجاوز؛ وحيويَّة، وحركة مفتوحة؛ وما هذه الكثافة في الحركة الفعليَّة المضارعة تحديداً إلاَّ ابنثاقة شعوريَّة تكسر حاجز القيديَّة الروحيَّة التي يعيشها؛ ومرد ذلك هو "اعتماد الشاعر على الفعل لما يَتَضَمَّنه الفعل من أجواء الحركة، والحدث، والصراع؛ وهذا ما مَثَّلَتْهُ تجربة الشاعر في علاقتها بالواقع؛ وخصوصاً في بحثها عن الموقف التغييري المتحرك؛ بالتمرد على السكونيَّة"().

فالشاعر لم يوظِّف الفاتحة الاستهلاليَّ بوصفها رابطاً دلائليًّا يشدُّ بها أواصر المقطع فحسب؛ وإنما وظفها بوصفها نقطة انبثاق الحركة الدلائليَّة للنصّ بكل لحظتها الشعوريَّة الانتقاليَّة من اللحظة العلائقيَّة المباشرة في الزمن الآني [الزمن الحاضر]؛ إلى اللحظة المستقبليَّة [الزمن المستقبل]؛ رغبة منه في تجاوز الحالة الراهنة إلى المستقبلية؛ وألاَّ يقتصر في ممارسته لحريته على ما كان؛ وإنما على ما يكون؛ وهكذا؛ تلتحم الدلالات في الفاتحة الاستهلاليَّة، بالارتكاز على مرتكزين، أو جذرين رئيسين: جذرها الأول التكرار؛ وجذرها الثاني: نقطة انبثاق الحركة الفعليَّة في مَدِّها الزمني المطلق المفتوح؛ وهذا دليلٌ على رغباته المفتوحة، وممارساته الحيويَّة الدائبة التي تحمل في طيَّاتها حركة الحياة؛ بكل خصوبتها، وإشراقها؛ وصخبها الوجوديّ الحيويّ الدائم؛ وعلى هذا النحو؛ فإنَّ الفاتحة الاستهلاليَّة ولَّدت خصوبتها الجماليَّة بتلاحمها الفني؛ وتضافرها وفق حركة بنيويَّة منظمة الدوال والعلائق اللغويَّة؛ مؤكدة تلاحم الدوال مع المدلولات في تصعيد الحركة الفعليَّة؛ لتؤدي دورها التحفيزي في إشعال الحركة الفعلية الدائبة؛ رداً على حالة الذات المقيدة، للمضي قدماً في ركب الحياة المتصاعد بكل جرأة، وحيوية، وحريَّة، واقتدار.

3- بنائيَّة المقوِّم الصوتيّ:

إنَّ بنائيَّة الصوت لا تقلُّ قيمة في النسق الشعريّ – على صعيد الكشف البنيويّ- عن القيمة البنائية للكلمة؛ أو الجملة، أو التركيب؛ لأنَّها تشكل الواقعة الأولى في التشكيل؛ بل النوسة الصوتيَّة التي تُغيِّر سيرورة النسق اللغويّ، على صعيديّ الإيقاع والدلالة؛ "فالتشكيلات الإيقاعيَّة التي تنبني من الأصوات الصحيحة هي التي تساعد القصيدة على أن تُغيِّر من سرعة ودرجة دقاتها بشكل مستمر"()؛ وعلى هذا؛ تحقق الحروف وظائفها في النسق الشعريّ؛ ليكون وقعها الصوتيّ لا يقلّ قيمة عن وقع الكلمة ذاتها في نسقها الفني؛ وهذا ما أشارت إلى بعض منه الناقدة خلود ترمانيني، بقولها: "تؤدِّي الحروف دوراً مهماً بوصفها التشكيل الأول للإيقاع؛ فكل حرف يحمل صفات خاصَّة ومستقلة؛ وحين تتجاوز الحروف؛ فإنَّه يؤثِّر بعضها في بعضها الآخر؛ نتيجة الاحتكاك والامتزاج والتماس بينها؛ ومن هنا؛ تحمل الحروف صفاتٍ جديدة لم تَكُنْ موجودة في كل حرفٍ على حدة؛ فيتكون بذلك نسيج صوتي هو ناتج تلك الحروف المتواصلة؛ وتتجلَّى في صفات الأصوات ظواهر متضادة؛ تتقابل فيها أصوات قوية وأخرى ضعيفة؛ وهذا الازدواج في صفات الأصوات يظهر جليًّا في المقابلات بين (الهمس/ والجهر)، و(الشدة/ والرخو)؛ و(الاستعلاء/ والانخفاض)، و(الانفتاح/ والإطباق)، و(الانزلاق/ الإصمات). وهذه الصفات تتوزَّع في النسيج التعبيري، فَتَنَوُّعه من خلال التنغيمات الصوتيَّة المختلفة"()؛ ولذلك؛ يبدو للحرف خصائصه الصوتيَّة، وميزته في تشكيل الكلمة؛ بوصفها محرقها الدلاليّ؛ ومحور طيفها الإشعاعي؛ "فالحرف الذي يكون شعاع الفكرة، وشفيرها، ومحرقها، كوقع حركيّ دلاليّ معنويّ، يتراص ويَنْسَجِم مع حروف أخرى؛ ليكوِّن اللفظة أوالمفردة – بحدِّ ذاتها-، بدءاً من اللغة الشفويَّة، وحتَّى اللغة الكتابية المعاصرة هي محرق المعنى، وإطاره؛ تلامسه، ولا تطابقه، تبقى الفكرة المرسومة، المزروعة في العلاقات الذهنية – المعرفيَّة للناطق الكاتب، أو للمتلقي؛ أوسع من الترميز اللغوي- المفرداتي"().

وهنا؛ نقف على حقيقة مهمة في الدرس البنيويّ وهي أنَّ الصوت بؤرة الانبثاق الدلاليّ في التشكيل؛ ولا تتمثَّل قيمته؛ بوصفه صوتاً معزولاً؛ فالصوت لا يكتسب قيمته، وبؤرته الدلائليَّة الخصبة إلا في النسق الصوتي الذي يمثله التركيب؛ وهنا، يختلف وقع الصوت مفرداً (معزولاً) عن وقعه في حيِّز التشكيل الفني خصوصاً، فيما يستتبعه من دلالات، ومحفِّزات جماليَّة، مكتسبة من طبيعة السياق الفني المتمركز فيه؛ وهذا ما أشار إلى بعض منه الناقد حبيب مؤنسي بقوله: "إنَّ المقابلة بين الصوت واللون ترتفع بالدرس الصوتيّ إلى المعاينة التي لا تجعل الصوت واحداً؛ وإنما تفتحه على التدرج، وفق هيئة التدرج اللونيّ؛ إذْ ليس للأحمر والأصفر مثلاً هيئة واحدة؛ وإنما لكلّ تدرُّجات تجعله يتعدَّد حتى تغيب الحدود بين لون وآخر،لا يختلف عنه قيد أنملة. فإذا قرأنا أنَّ القماش أصفر اللون؛ لم يَكُنْ لنا إلاَّ الهيئة الواحدة لذلك اللون؛ غير أنَّنا لو عايَنَّاه لاكتشفنا الهيئة التي هي له في سلّم تدرجات اللون الأصفر، كذلك الصوت الواحد ينطق به الرجل أو المرأة؛ الصبيّ؛ أو الشيخ، الجهوريّ الصوت أو رقيقه... إنها الصورة الخارجيَّة التي يقدِّمها لنا الصوت مفرداً؛ كما يقدِّمها لنا اللون مفرداً، إن الأمر مختلفٌ جداً حينما يكون الصوت في إطار من التركيب الفني؛ إذ لا يعني فيه شيء من معرفة جهره، وهمسه.. شدَّته ورخاوته.. لأنها صفات تقع وراء الإبداع في عالم اللغة المجرَّد. فتتحول هذه الصفات إلى ألوان من طبيعة خاصة تلوِّن المعنى؛ وتلحق به من دلالتها ما يجدّد قيمته في سلم التدرُّج الصوتي أولاً، وفي سلم التدرّج المعنوي ثانياً"().

وعلى هذا؛ فإنَّ قيمة الصوت دلائليًّا وجماليًّا لا تتبدَّى إلاَّ في بنية التشكيل؛ ومن هنا، فإنَّ الكشف عن بنية الصوت؛ وارتداداته في السياق الفني؛ لهو من بؤرة اشتغال الباحث البنيويّ في حقل علم الجمال النصّي البنيويّ؛ إذْ "إنَّ كل صوت في النظام رمزٌ لمعان خاصَّة؛ تأخذ استجابتها شكلاً جماليًّا من خلال علاقة التشابك والتراكب"()؛ ومن هنا، يُعَدُّ الكشف عن علائق الأصوات، وارتباطاتها، وارتداداتها، وتكراراتها من خضم البحث البنيويّ- الصوتي؛ إذْ "إنَّ تكرار التراكم للحرف ينبثق من الفعل الشعريّ ذاته كحالة لا شعوريَّة، تستنطق قابليَّة الحرف على تفعيل إيقاعه الخاص في نسيج الإيقاع العام، من خلال تعالقه في البنية الصوتيَّة للكلمة، حاملة معناها الدلاليّ؛ وفي تركيب الجمل الشعريَّة حاملةً معناها السياقي؛ لأنَّ الألفاظ في حقيقتها فضاء صوتيّ تشكِّله مخارج الحروف، لذا، يولِّد تكرارها نسقاً إيقاعيًّا يهب السياق الشعريّ انتماءه إلى مرجعية المعنى"(). وعلى هذا، يتبدَّى لنا الدور المرجعي لقيمة الصوت في تحقيق الدلالة؛ وفي التعبير عن قيمة البناء الفني؛ لذلك، يُعدُّ المقوِّم الصوتيّ مؤشِّراً بنيويّاً مهماً في الكشف عن خصوصيَّة التشكيل الفني في قصائد القبَّاني؛ ومن ضمنها هذه القصيدة؛ فالصوت هو الانفجار النفسي الصارخ في التعبير عمَّا يختزن القلب من مشاعر؛ فبالصوت -وحده- يُفَعِّل القبَّاني الرؤية؛ ويزيد حركتها الشعوريَّة تكثيفاً وإيحاءً؛ كما في قوله:

"أُحَاوِلُ رَسْمَ بلادٍ لها بَرْلَمَانٌ من الياسمينْ.
وَشَعْبٌ رَقِيْقٌ من الياسمينْ.
تَنَامُ حمائمُهَا فوقَ رأسي
وتبكي مآذنُها في عُيُوني.
أُحاولُ رسمَ بلادٍ تظنُ صديقةَ شِعْرِي
ولا تتدخَلُ بَيْني وبَيْنَ ظنوني
ولا يتجوَّلُ فيها العساكرُ فَوْقَ جبيني.
أُحاوِلُ رَسْمَ بلادٍ
تُكَافِئُنِي إِنْ كتبتُ قصيدةَ شِعْرٍ
وتصفحُ عَنِّي، إذا فَاضَ نَهْرُ جُنُوني"().

قبل أن نخوض في التحليل البنيويّ للمقوِّمات الصوتيَّة نؤكِّد: إنَّ القبَّاني يستغرق في تشكيل بنية خطاباته الشعريَّة، المُوجَّهة توجُّهاً سياسيًّا، بالاعتماد على الأصوات الصائتة؛ من حروف المدِّ واللين مقارنة بالأصوات الصَامتة؛ ليمنح قصائده طابعها الانفعالي، ومدّها الشعوريّ العاطفي المُكَثَّف المشحون بالتوتر، والتنديد، والتقريع، والانفعال الحادّ؛ ولعلَّ استغراق القبَّاني بهذا الأسلوب دليل على الطاقة الشعوريَّة، وزخمها الانفعاليّ المُكَثَّف لديه؛ وما يستتبعها من توترات مصاحبة، ترفع وتيرة النسق الشعري حدة، وصخباً صوتيًّا؛ يتضافر شعوريًّا مع بؤرة مكنوناته الداخليَّة؛ وما تثيره من أصداء نفسية متتابعة، ترفع وتيرة الحدث، واستطالة المدّ المرافق للحالة الشعوريَّة، شدة، واستعلاءً؛ وهذا دليل على فاعليَّة الطاقة الصوتيَّة الإيحائيَّة المختزنة -لدى القبَّاني- بوصفها موجِّهاً بنيويًّا تؤكِّد دورها الفاعل في توجيه مسارات نصوصه على المستوى الدلاليّ.

وما من شكّ في أنَّ فاعليَّة المدّ الصوتيّ الاستبطانيّ لحروف المد، تعبِّر عن الانفعالات الشعوريَّة أكثر من غيرها من الحروف الصائتة؛ وهذا ما أشار إليه الدكتور ثائر العذاري بقوله: "ربَّما كانت سهولة إنتاج أصوات المدّ قد سوَّغت استخدامها في التعبيرات السريعة المباشرة عن الانفعالات العاطفيَّة؛ فسماع خبر مفاجئ يحمل قدراً من البهجة، أو الحزن؛ أو العجب، غالباً ما يُسْتَقْبَل بإنتاج صوت يُعبِّر عن انفعال المتلقي؛ وربما كان استخدام الأطفال هذا الأسلوب أكثر تميزاً من استخدام البالغين"(). ومن هنا؛ "فإنَّ التحليل الجمالي لأصوات المدّ، واللين يجب أن يرتقي إلى ما فوق المعاني الجزئيَّة من خلال إدراك فاعليَّة أصوات المدّ واللين ضمن السياق النفسي واللغويّ ومقدرتها، أي أصوات المدّ واللين على إبداع المعنى، وصولاً إلى الفكرة الشعريَّة المراد إيصالها"().

إنَّ اعتماد المقطع السابق على بنائيَّة أصوات المدِّ واللين: [الألف، والواو، والياء] جعل الاستطالة الصوتيَّة الممتدة عبر التناوب الصوتيّ لهذه الاستطالة بين الارتفاع حيناً؛ والانخفاض حيناً آخر، مؤشِّراً بنيويًّا على فاعليَّة هذه الأصوات؛ لتؤدي دورها الصوتيّ، ومسارها الإيقاعيّ في التحكم بسيرورة المعنى، ومحمولاته الشعوريَّة؛ لدرجة استنطاق الدوال الشعريَّة، في بث مكنونها الدلاليّ المستتبع لحركة الذات، وتطلعاتها، وأحلامها، وأمنياتها؛ للتعبير - بدقة- عن الموجات العاطفية المستبطنة في قرارة ذاته التوَّاقة، لأنْ تعيش أحلامها، وتبث أشجانها في فضاء رومانسيّ روحاني شفيف؛ وهذا ما تبدَّى لنا في استتباع المسار البنائي الصوتيّ المستبطن لحركة النصّ في بنيته النصّيّة الأولى؛ وتأكّد بداية عبر المدّ الاستطاليّ للفعل [أُحاولُ]، الذي ابتدأ به نسق المقطع؛ ثمّ أتبعه بمدّ استطالي أكثر اتساعاً، وعمقاً متمثلاً في المدّ الاستطاليّ المفتوح الذي يفجره عبر لفظة [بلاد]؛ ثمَّ اتبعه بمد انسيابي ترسيمي، عبر لفظة [الياسمين]؛ متبوعاً بمدّ استبطاني كاشف عن قرارة الذات في تحفزها، وتأملها، وسكونها، وهديرها في آن؛ عبر المدّ الانسيابي في لفظة [عيوني]؛ وهذه الكثافة في بنائيَّة أصوات المدِّ، واللين، وشمولها للحيِّز النسقي لدليل أكيد على غلبة أصوات المدّ، باستطالاتها الصوتيّة المفتوحة، مقارنة بغيرها من الأصوات المهموسة اللينة؛ لتنفث بأصدائها الصوتيَّة الممتدة صدى رغباته المكبوتة؛ في أن يبني بلاداً رومانسيَّة؛ تتصاعد فيها أحلامه؛ وتستجلي فيها رغباته المهمة في قرارة نفسه، لتشي بتصاعد حدتها كتصاعد المدّ الاستطالي في حركة الأصوات؛ ودليلنا على فاعليَّة الإيقاع الائتلافي الانسجامي، والنفسي، والجماليّ في المدّ الصوتي لبنية الأصوات؛ أنَّ استجلاء حركة الأصوات تشي بدلالات مستبطنة قد لا تشي بها الكلمات ذاتها؛ إذْ إنَّ المدّ الاستطاليّ المفتوح الذي تمثَّل –جليًّا- في لفظة [بلادٍ] ضاعف في طيفها الدلاليّ، ومدِّها الشعوريّ؛ لتعبِّر عن انفتاح المستتبعات الملازمة لها؛ وجميع المتخيلات الملصقة بها؛ والاحتمالات المفتوحة التي يتركها تنوين التنكير؛ ليشيع في قرارة نفسه رغباته اللامحدودة التي لا يستطيع كبتها، ولا يملك لها خلاصاً، حيال توقه العارم، لتحقيقها؛ فهذه البلاد مستطيلة في مستتبعاتها الوصفيَّة المثاليَّة الرومانسيَّة التي يحلم بها؛ فهي بلاد الياسمين؛ والشعر، والأمان، والمحبة؛ والصفح؛ والغفران؛ إنها بلاد تحايث في متخيله الوجودي [المدن الفاضلة] التي أسسها أفلاطون في نظراته المثاليَّة؛ ولذا؛ فإنَّ استشفاف الشاعر للدلالات الممتدة؛ ولّدها عبر بنائيَّة أصوات المدّ، وحركتها الاستطاليَّة المفتوحة التي تلائم بثه العاطفي، ومصاحباته الشعوريَّة المستبطنة لأحلامه الرومانسيَّة الممتدة، كامتداد حركة الأصوات المستطيلة إلى نهاية المقطع؛ وهذا دليل على حركية التشكيل الفني لأصوات المدّ: "فصوت المدّ الذي يبدأ به النصّ يسقط لوناً معيناً على الحروف الصحيحة التي تأتي بعده- بالنظر- إلى قوة إسماعه العالية، وحقيقة تأثير أصوات المدّ في طريقة نطق ما يصاحبها من أصوات صحيحة؛ وعندما يتغيَّر هذا اللون بعد مجيء صوت مدّ جديد فإنَّ المستمع يحنُّ إلى اللون الأوّل، ويتشوَّق لعودته؛ وهذا، يكاد يكوِّن علاقة تنافر، وعندما يعودُ اللون الأوَّل فعلاً فإنَّ تشوّق المستمع يبدأ ويستقِّر بما يشبه أثر علاقة التوافق بين درجات السلم الموسيقي"().

وهكذا؛ تؤدّي أصوات اللين والمدّ دورها التحفيزي؛ كمؤشِّر بنيويّ فاعل؛ يستثير موحيات دلاليَّة مستبطنة تشي بها في مدِّها الاستطالي التام؛ للتعبير عمَّا يجول في خلد الشاعر من رغبات، وأمنيات، يتوق إلى تحقيقها؛ برغبة عارمة، متأججة في كيانه، عبر فاعليّة الصوت، ومدِّه، وانحساره، لاستجلاء خفايا الذات؛ وما يستتبعه من مؤشرات دلاليَّة، تتفاعل مع الموقف الوجداني الشعوريّ العام، للموجات الصوتيَّة المجسدة في نسقها الجزئي، وتشكليها النسقيّ الموقّع بتناغم، وتفاعل، وانسجام.

والجدير بالذكر أنَّ بنائيَّة الصوت -في النصّ الشعريّ- لا تتحدّد بعلاقاته المخرجية، أو تتابعه الصوتيّ فحسب، وإنما يتعلق من ناحية الجرس الصوتي للحروف (جهراً أو همساً) عبر ارتباطها بتشكيل الكلمات؛ على نحو ما أشارت إليه الناقدة خلود ترمانيني بقولها: "لقد كان النقد العربيّ في درس الصوت لا يفرق بين بناء الكلمة الصوتي في الشعر، عن بنائها في النثر، ولا ينظر إلى علاقات الأصوات بنشاط المعنى أثناء عملية التشكيل الشعريّ؛ ومن هنا، فإنَّ جرس الصوت الشعريّ، وعلاقته بعمليَّة الإبداع يتمّ من خلال فاعلية المكوِّن الصوتي، وارتباطاته ببناء الكلمة؛ وأثر ذلك في جماليَّات القصيدة. وهذا يعني أنَّ تأثير الصوت يتحدّد بالظروف التي يندرج فيها أكثر بكثير مما يتحدَّد بالصوت نفسه"().
والملاحظ أنَّ القبَّاني لا يكتفي بتشغيل الطاقة الصوتيَّة البنائيَّة لحروف المدّ واللين؛ وإنّما يعتمد على هدير الحروف، وصخبها؛ بالاعتماد على صفات الحروف، ومخارجها، والحركات الإعرابيَّة، ومدّها وانحسارها؛ إذْ يخلق بتنغيماته الشعريَّة بالاعتماد على صفتي الجهر والهمس؛ لتؤدِّي هاتين الصفتين دوراً مُضَاعَفاً في إكساب الصوت دلالات إضافية جديدة؛ والتعبير عن مكنون الذات الداخليَّة، بتوترها واشتعالها من جهة؛ وهدوئها وانكسارها وسكونها من جهة ثانية؛ كما في قوله:

"أُحاوِلُ رسمَ مدينةِ حُبٍّ
تكونُ مُحَرَّرةً من جميعِ العُقَدْ..
فلا يَذْبَحُون الأنوثةَ فيها..
ولا يَقْمَعُونَ الجَسَدْ!!" ().

إنَّ بنائيَّة الصوت اللغويّ – في النصّ الشعريّ- تكمن في مقدار استجابة النصّ، لفاعليته في ترسيم الدلالة؛ وبث مكنونها الداخلي؛ إنْ على صعيد بناء الكلمة؛ وإن على صعيد النسق الكليّ المتضمن للحزم الصوتيَّة المتناغمة فيما بينها في التركيب؛ ومن ثمَّ، فإنَّ الإيقاع الصوتيّ الذي تولِّده الأصوات بجهرها أو همسها هو الذي يثير الكلمات؛ ويبعث إيحاءاتها؛ بارتفاع حدة الصوت؛ أو انخفاضه، فتتمثل الكلمات أكثر من دلالاتها، ومنعرجاتها الشعوريَّة؛ وهذا ما تَمَثلناه في المقبوس السابق؛ إذْ اعتمد الشاعر في تركيز رؤيته الثوريَّة المتمردة على الواقع السلطوي القمعي الذي تعيشه بلادنا العربية؛ وفق سلطتي [الدين- السياسة]، بالاعتماد على الأصوات الانفجاريَّة ذات القرقعة الصوتيَّة الحادَّة؛ [الباء- الدال- الميم] للتعبير عن حدة ما في داخله، ورغبته العارمة بالإفصاح الحاد عمَّا يعتصر في داخله من تأزم، وتمرد، وثورة على الواقع القمعي المكبوت (المسكوت عنه) خاصَّة فيما يتعلق بموضوعة [الحب] وموضوعة [الجنس]؛ فاعتمد الشاعر صوت الباء الانفجاريّ في حركة القوافي بدايةً في بث هذه الحدة الصوتية الارتداديَّة؛ للدلالة على ثورته الداخليَّة بالتفشي، والتصريح، والصلابة، والاستعلاء؛ بموقفه الرافض المتمرد؛ وهنا، جاء التركيب الإضافي [مدينة حُبٍّ] ليشي بارتفاع حدته الصوتيّة، بالجهر الصوتي عبر حرف الباء الانفجاري؛ ومن ثم، أتبعه بكسرٍ مفتوح، ليزيد حدته الانفجارية ضعفين؛ لتمثيل ثورته الرافضة؛ بمدينةٍ حرَّة تمارس حريَّتها المعلنة بأحلامها، وأنوثتها، وصبواتها، وغريزتها، لا تحدها الحدود، ولا تقيدها القيود؛ فهو يريد للجسد الأنثوي أن يعيش عريه الجذَّاب بامتداده الجماليّ، وانبساطه على مساحة الكون؛ ومن هنا، جاء تراكم الأصوات الجهرية المساعدة [النون- الواو- العين- الحاء] بالإضافة إلى الأصوات الجهرية الانفجاريَّة الرئيسة [الباء- الدال- الميم]، مؤشراً بنيويًّا فاعلاً يكشف عن رغبة الشاعر في الإفصاح والإفشاء عمَّا في داخله من مشاعر وأحاسيس ثورية حادة إزاء الواقع العمقي الذي تعانيه المجتمعات الشرقية إزاء موضوعتي [الحب] و[الجنس]؛ فجاء صوت الشاعر ارتداداً انفجاريًّا يشي بما في داخله بحريَّة، وتمرد، وثورة بإفصاح جهري حاد، ردًّا على ما هو مقموع في واقعنا العربي الإجمالي؛ وهنا؛ أسهمت الأصوات المجهورة بدورها التحفيزي في كشف مكنونات الدوال القابعة في النسق الشعريّ؛ لتؤكد فاعليَّة الأصوات بنيويًّا في إصابة الدلالة، وترسيمها شعوريًّا؛ مدًّا تأمليًّا مفتوحاً يستخرج عمق الدلالات وأبعادها الشعوريَّة؛ وهذا، ليس بغريب، لأنَّ الشعريَّة -في جوهرها- ظاهرة صوتية متناغمة؛ وعلى هذا أشار الدكتور عبد القادر عبو بقوله: "نشأت الممارسة الإبداعيَّة في فضاء الشعريَّة العربيَّة كظاهرة صوتيَّة كان للإنشاد فيها الدور الأوَّل في التواصل الجماليّ؛ ممَّا جعل الشفويَّة تتوزَّع على اتجاهين؛ يُمَثِّل الخطاب التواصلي بلغته التقريريَّة المباشرة السائدة بين عموم المتخاطبين الاتجاه الأول؛ في حين يأخذ الشعر إيقاعه الكونيّ، والنفسيّ، والجماليّ، ممثلاً الاتجاه الثاني؛ وهو اتجاه الغرابة، والسحر، والولوج إلى أعماق النفس البشريَّة، محرِّكة أشجانها، وأحلامها الطفوليَّة في علاقتها مع بديات اللغة يوم كانت مبلبلة، وكأنَّ الشعر يروم إلى إعادة الدورة إلى البداية الأولى مع اللغة"(). وهذا دليل على الفاعليَّة الصوتيَّة التي هي أساس الشعر؛ وأساس انبثاقته في عمليَّة تداوله شفويًّا في مراحله الإنشاديَّة الأولى؛ وقد أدرك القبَّاني – بحساسيته الشعريَّة- أهميَّة الهندسة الصوتية في بث قيم النصّ الجماليَّة عبر التلاعب بالأصوات خاصَّة في القوافي؛ التي تلعب دوراً تحفيزاً مهماً في استشراف الدلالات، وتأكيد مسارها الفني؛ وهذا ما لاحظناه سابقاً؛ ولم يقتصر القبَّاني على مثيرات الأصوات فحسب؛ وإنما لجأ إلى المثيرات الصوتيَّة الصغرى ممثلة بالحركات الإعرابيَّة؛ ليكشف من خلالها على مداليل، ورؤى شعوريَّة عميقة؛ إذْ "تُعَدُّ الحركات الإعرابيَّة في صميمها حركات صوتيَّة؛ لأنَّها تمثّل موسيقا الكلام الذي ينساب من خلال التلاعب بأصوات الحركات القادرة على رسم نغمات طبيعيَّة متنوعة كالإمالة والتفخيم؛ وههنا، يشي صوت الإمالة بمقدرة اللغة على التغني من خلال إعطاء الحروف حقها في المدّ، وإتمام الحركات، وإيفاء الغنَّات مع مراعاة أحكام التجويد من إظهار، وإدغام، وقصر، ومدّ... كما تتساوق وجوه الوقف مع الحركات الإعرابيَّة في تشكيل مسارات الإيقاع، فالحروف من حيث نطقها تحمل طبيعة نغميَّة خاصَّة بكل حرف منها، وحين يتم الوقف عليها يُرَاعَى في ذلك الوقف حركة النفس عن الدلالة التي تتضمَّن الكلمة"().
وقد وظَّف القبَّاني الحركات الإعرابيَّة، ليس لتمييز الكلمات إعرابيًّا أو لإبراز وظائف ودلالاتٍ مخصوصة بذاتها؛ وإنما وظفها لتدلّ دلالات صوتيَّة؛ لا تقل قيمة عن الأصوات الانفجاريَّة الأخرى في مدّها، وانسيابها، وانفتاحها النصّي؛ وتنغيمها للإيقاع ارتفاعاً/ وانخفاضاً؛ مما يشي بطابعها الصوتيّ التعالقي مع حركة الأصوات الانفجارية الظاهرة التي تتضمنها بنية الكلمات؛ كما في قوله:

"رحلتُ جنوباً..
رحلتُ شمالاً...
ولا فائدهْ...
فقهوةُ كلِّ المقاهي لها نكهةٌ واحدهْ..
وكلُّ النساءِ لهُنَّ – إذا ما تَعَرَّينَ-
رائحةٌ واحدهْ..
وكلُّ رجالِ القبيلةِ لا يمضغون الطعامْ
ويلتهمونَ النساءَ بثانيةٍ واحدَهْ!!" ().

هنا؛ لابُدَّ من الإشارة إلى ناحية مهمة قبل لدخول في تحليل القيم الصوتيَّة للعلامات الإعرابيَّة؛ ودورها الصوتي بنيويًّا في تعزيز المسار النغمي الإيقاعي للقصيدة؛ وهي: أنَّ القبَّاني لم يُشَكِّل علامات الترقيم بوعي إدراكي مخصوص بقيمتها ضمن النسق الشعريّ؛ ولكنَّه أدرك أنَّ بعض الحركات الإعرابيَّة مثل تنوين الرفع والنصب والجر أشدَّ ارتفاعاً وحدَّةً وبثًّا عاطفيًّا من غيرها من الحركات؛ خاصَّة في المساقات التعروية الكاشفة التي تتطلب ارتفاعاً صوتيًّا حادًّا في بث الحسرات، والآهات، خاصّة تنوين الكسر الذي يشي بانكسار شعوري ذي توتر عال يقرع الأذن بارتفاع النغمة، وهبوطها المفاجئ إلى القاع، بعد الارتدادات الصوتيَّة المشبعة بصوت النون المُرَجْرَج أو المرتعد؛ وكأنَّ الشاعر يبث أنينه الجارح عبر هذه الحركات الإعرابيَّة الارتدادية المشبعة بأصوات بعض الأحرف؛ كالنون، والياء، والواو؛ وبالعودة إلى المسار البنيويّ للحركات الإعرابيَّة في المقطع السابق نلحظ أنَّ بعض الحركات الإعرابيَّة أدَّت دوراً نغميًّا تحفيزيًّا مهماً؛ يتضمَّن دلالات شتَّى قد ينوء بحملها السياق النصّيّ بكامله؛ في حين أنَّ بعض الحركات الإعرابيَّة لم تأتِ سوى ذبذبات صوتيَّة ارتداديَّة لا تشي بأية فاعليَّة دلاليّة، أو قدرة إيحائية مُعَبِّرة؛ ودليلنا على ذلك تنوين النصب في المفردتين التاليتين: [جنوباً- شمالاً]؛ إنَّ هذا التنوين لم يحمل معه أيَّة وظيفة بنيويَّة؛ أو علامة دلائليَّة مميزة، فاعلة، محركة للنسق الشعريّ؛ وإنما جاء التنوين صدًى ارتداديًّا لا ينمُّ إلاَّ على رنينٍ خفوتٍ؛ لا يشي بأيّ رجرجة، أو حدة صوتيَّة في السياق، يبث من خلاله مستتبعات دلاليَّة ، أو نفسية ترفع وتيرة الترسيمة الدلاليَّة؛ أو الدفقة الشعوريَّة المستتبعة للصوت الارتدادي المشبع حيال مدّ حركات التنوين؛ على عكس التنوين الصوتيّ المثير في المفردات التالية: [نكهةٌ- رائحةٌ- ثانيةٌ]؛ إذْ استطاع الشاعر بوعي صوتي دلائلي أن يُحَمِّله أبعاداً دلاليَّة وشعوريَّة مكثفة تشي بأبعاد نفسيَّة مستبطنة غائرة في أعماقه؛ حيث جاء التنوين في كلمتي [نكهةٌ- رائحةٌ] مؤشِّراً صوتيًّا بنيويًّا كاشفاً عن حدة انفعاليَّة؛ ورجرجة صوتيَّة ارتداديَّة مشبعة، تستحضر الصوت الارتدادي المشبع، ممثلاً بصوت [النون]؛ وتشكيله بإشباع صوتي يتخذ الخارطة النغميَّة التالية:

[رائِحتُونْ]: [/º///º] [مَدْ- حَ ق- حَ قْ- مَدْ]
[مَدْ- حركة قصيرة- حركة قصيرة- مَدْ]
ئـِ وُ

را حـَ ن المشبعة
.....درجة التفريغ

والملاحظ – من هذا المخطط- أنَّ الرجرجة الصوتيَّة المستتبعة لتنوين الرفع [وو] المشبعة واواً قد رفعت وتيرة النسق الصوتيّ؛ وشكَّلت اهتزازاً صوتيًّا؛ أو اضطراباً متتابعاً؛ يصل ذروته بإشباع الضمة؛ ليهبط في اكتمال التفريغ الصوتيّ (النون الساكنة)؛ وهنا أدَّت حركة التنوين دوراً بنائيًّا مضاعفاً بالتحفيز الصوتيّ عبر ضمِّ الشفتين؛ وحبس الذبذبات الصوتيَّة، ولجلجتها المستمرة في النغم؛ وتحفيزها لتضخم وتستجمع قواها كاملة؛ ومن ثمَّ يتم نفثها دفعة واحدة؛ بانفجار صوتي حاد يتبدَّى في إشباع التنوين بصوت اهتزازي ارتدادي مرتفع [ـةٌ]، لدرجة يشي بالبث الشعوري العاطفي المكثف من جهة؛ ويفصح بقوة الارتداد الصوتي الشعوري الداخلي عن حقيقة مُرَّة تعتصر كيانه من جهة، وتدمي إحساسه المتمرد اليائس من جهة ثانية؛ وكأنَّ الشاعر أراد أنْ يوشي لنا بحقيقة ما يعتصر كيانه، وما يتغور في باطنه من إحساسات متوترة حادة، بأنَّ ما كانَ يبحث عنه دائماً في عالم النساء لم يجده؛ فهو على الرغم من مغامراته الواسعة، وخبراته الطويلة الواسعة في مدارك هذا العالم الغرائبي العجيب؛ فإنَّه خرج منه خالي الوفاض صفر اليدين؛ إذْ إنَّ النساء على اختلافهنَّ لهنَّ طعماً واحداً، ورائحة واحدة؛ كرائحة القهوة؛ لا اختلاف فيما بينهُنَّ قيد أنملة؛ وهذا الارتداد الشعوري الارتكاسي اليائس عبَّر عنه بالتنوين الصوتيّ الانفجاري الحاد [ـةٌ] الذي يحمل نغماً حزيناً يائساً؛ دالاًّ على جمود هذه الحياة، وروتينها الخانق من جهة؛ وصدمته بهذا العالم الزائف الذي تمثله الأنثى بكل مغرياتها الحسيَّة من جهة ثانية؛ وهنا، على الرغم من أنَّ صوت التنوين المشبع نوناً هو من الأصوات المهموسة الرخوة؛ فإنَّه -بهذا الإشباع- قد فرَّع خاصيته الصوتيَّة من محتواها الملاصق بها؛ وانزاح عن طبيعتها الصوتية إلى طبيعة مناقضة لها تماماً من الرخاوة، واللين، إلى الشدَّة والانفجار، رغبة منه في بث كل ما في داخله من شحنات انفعاليَّة تعروية حادة، محملة بزخم صوتي، وبثها دفعة واحدة، بقرقعة صوتية صارخة إزاء روتينية الحياة، وجمودها الخانق، محاولاً كسر رتابتها، وجمودها، بالامتداد الصوتي المشبع؛ وهنا أدَّى، كذلك؛ تنوين الكسر في كلمة (ثانيةٍ) دوراً بنيويًّا تحفيزيًّا مهماً بحدته الانكساريَّة الصوتيَّة العالية التي دلت على حدَّة تقريعه للواقع الذكوري العربيّ الذي يمارس شبقه الجنسيّ كما يمارسها الحيوان؛ بفظاظة، وشراهة؛ كشراهة الحيوان الكاسر في انقضاضه على فريسته، تلبية لغريزته الشهوانيَّة، وإشباعاً لها؛ وعلى هذا، جاء تنوين الكسر في لفظة [ثانيةٍ]؛ رديفاً دلائليًّا مخصوصاً بمدلول الكلمة ذاتها؛ لتكتسب دلالة أخرى مضاعفة؛ وهي سرعة انقضاء البرهة الزمنية؛ ودلالة الحدث البرقي المستتبع لحالة الانقضاض عبر السرعة المكتسبة في تنوين الكسر؛ الذي يشبع هذا الارتداد؛ ويعبِّر عن ذروة التفريغ الشعوري، إثر المدّ التقريعي الصارخ، وهذا يدلنا أنَّ الشاعر عبَّرَ بنسق صوتيّ بنيويّ فاعل عن مقصوده عَبْرَ بنائيَّة الكلمة ذاتها، وترسيمها الدلاليّ الملتصق بها من جهة؛ وبوساطة الحركات الإعرابيَّة السريعة؛ التي تُعَبِّر عن تمثلها البرقي السريع؛ وسرعة انقضائها كلمح البصر من جهة ثانية؛ وهذا مؤشر بنيويّ أكيد على أنَّ القبَّاني لم يُعَبِّر ببنائيَّة الكلمة صوتيًّا عن مقصودها الدلاليّ فحسب؛ وإنما عَبَّرَ بالحركات الإعرابيَّة ومستتبعاتها الصوتيَّة؛ لتكوين رديفاً صوتيًّا ملائماً للحالة الشعوريَّة؛ لتشي بما لا تستطيعه قوة الكلمة في بنيتها الصوتية ذاتها من أن تؤديه؛ فأَدَّته الحركات الإعرابية المصاحبة لبنية الكلمات لتكون رافداً لا يقل شأنًّا عن بنية الكلمة ذاتها في أداء مهمتها داخل النسق الشعريّ التشكيلي المجسد؛ وعلى هذا الأساس "فإنَّ اختيار الشاعر لكلماته المعربة يبدو لا شعوريًّا وعفويًّا، بيد أنَّ هذا لا يُلْغي دور التأويل؛ فالشاعر ينطق عن تجربة داخلية تتناغم مع قواه التعبيريَّة الكامنة التي تحاول تجسيد نفسها في أصوات وكلمات دالَّة؛ وهاهنا تؤدي الحركات الإعرابيَّة دوراً مهمهاً في التنغيمات الصوتيَّة من خلال التساوق بن الحركات الإعرابيَّة والدلالات النفسيَّة، والشاعر الحقّ هو الذي يستطيع تسخير تلك الطاقات اللغويَّة الهائلة لأصوات الكلمات وحركاتها للتعبير عن ذاته وعمَّا يريد"(). وهذا دليل على فاعليَّة الحركات الإعرابيَّة، ودورها في التعبير عن مداليل عميقة مستبطنة ضمن النصّ، فهي ليست مجرَّد علامات إعرابيَّة تَتَوَشَّى بها الكلمات كمظهر تجريدي بحت؛ وإنما هي شكل شعريّ له أهميته في الكشف البنيويّ عمَّا تبثه الكلمات من أصداء دلاليَّة تتجاوز تشكليها الإعرابيّ المحض.
وقد يرتكز الشاعر في تحقيق محفِّزات الأصوات على منطق الترابط ضمن السياق، من منظور بنية التشكيل الصوتيّ القائم على إيقاع [التنافر/ والتناغم]()؛ فالأصوات - في بنية التشكيل الصوتيّ للكلمات- لا تعتمد الأصوات المتحايثة، أو المتناغمة في مخرجها الصوتيّ؛ وإنما تعتمد الأصوات المختلفة [المتوافقة/ والمتنافرة] لتتحقق في المحصلة بينة الكلمة في شكلها اللفظي (جسدها اللفظي) التي هي نسيج صوتي مؤلّف من حروف مخرجية متباعدة حيناً؛ ومتقاربة حيناً آخر؛ تُشَكِّل - في لفظها النهائي- صدًى صوتيًّا متناغماً ما هو إلاّ انعكاس لما في بنية الكلمة ذاتها من [تناغم/ وتنافر] يُوَلِّد هذه الانسيابيَّة النغميَّة في بنية الكلمات؛ ولذا؛ فإنَّ الإيقاع الصوتيّ للكلمات قد يتلاءم مع مدلولها؛ أو يتنافر معه، تبعاً لطبيعة الكلمات ذاتها؛ وما تشعّ به من أصداء دلاليَّة، قد تنأى عنها أو تقترب؛ وما أدلت به الناقدة خلود ترمانيني قد ينطوي على حساسيَّة مفرطة تصل حدّ المبالغة؛ إذْ تقول: "فترتيب أصوات الحروف في الكلمة له تأثير كبير في محصلة معانيها سواء بما يضفي الانسجام على جملتها الصوتيَّة؛ أو بما يشيع الاضطراب والنشوز فيها. فالكلمة التي في جملتها الصوتيَّة تناسق، وانسجام، يخصُّها الشاعر بما تتوافق معه من المعاني التي فيها انسياب ورقَّة، والكلمة التي في جملتها الصوتيَّة تنافر، ونشوز، تتوافق مع المعاني التي فيها غلظة وخشونة. وعلى هذا؛ فإنَّ الانسجام الصوتيّ للكلمة، يتحقق من خلال مراعاة مخارج الأصوات، ومعانيها، وكيفيَّة ترتيبها؛ وتاثيرها الصوتي. وهذا كله؛ يتجلَّى في اللغة الشعريَّة، بطريقة أوضح بسبب مرونة اللغة العربية أولاً، وموهبة الشاعر المبدع بجماليتها ثانيًّا"().

وهذا القول على ما فيه من رهافة، وانسيابيَّة، لا يخلو من مبالغة واضحة للعيان؛ إذْ إنَّ الكلمات ذات الجرس الصوتيّ الحاد قد لا يتلاءم مرتسمها الدلاليّ وشكلها اللفظيّ؛ ولو كان ما أدلت به الناقدة صحيحاً لما وجدنا انزياحاً لمعاني الكلمات عن ملفوظاتها؛ فالكلمة الرقيقة العذبة في جسدها الصوتي (اللفظي) قد تكتسب حدة وخشونة في مرتسمها الدلاليّ، ينأى بها بعيداً عن مرتسمها الدلالي إلى مدلول مغاير، يناقض مسارها الدلاليّ تماماً؛ وهذا أكثر ما نلحظه مائلاً في السياقات الفنيَّة؛ حيث نجد أنَّ العديد من الكلمات تكتسب معانٍ جديدة في سياقها الفني الذي توضع فيه؛ فتتعدى إلى دلالات جيدة؛ بانزلاقات دلالية لا حصر لها؛ لكن قولنا هذا لا ينفي – بأي حالٍ من الأحوال- أن – توجد- كلمات تنسجم ملفوظاتها، ومدلولاتها معاً في جسدها اللغويّ في نعومة اللفظ ورقته مثلاً، أو نشوزه وخشونته؛ لكن هذا لا يعني أن نُعَمِّم النتيجة على بينة الكلمات ككل؛ فقول ترمانيني لا ينطبق إلاّ على جزء يسير جداً من الملفوظات، ربما لا تتعدَّى المائة أو المائتين... في حين أنَّ معاجمنا العربية تفيض بملايين الكلمات التي لا حدّ لها من الانزلاق والتغيير.

وما يجدر بنا ذكره أنَّ مهارة الشاعر في تخيُّر اللفظ المناسب للمعنى المناسب هو قمَّة الحساسية المبدعة لدى الشاعر في تشكيل لغته الشعريَّة، بمثيراتها الصوتيَّة الدلاليَّة؛ لخلق تناغمها الإيقاعي، ومحفِّزاتها الصوتيَّة الموقظة لبنية الكلمة ذاتها في سياقها النصّي الجديد؛ وعلى هذا الأساس، تتحدّد درجة الشاعر الإبداعيَّة؛ وتفاضله على سلّم الشعريّة مقارنة بغيره من الشعراء؛ "فالشاعر المبدع يَتَلَمَّس الخيط الخفي الذي يربط بين المتباينات، مُفَجِّراً بذلك إيقاعات الحروف، أو التباعد بين مخارجها، يفرضها الاستخدام والقصد الدلاليّ؛ تتعدَّى الإطار المحدَّد لها في اللغة، لتصبح ذات أثرٍ مهم في إضفاء جماليَّات صوتيَّة تضفي على التعبير أنغاماً متداخلة؛ فيتجلَّى بذلك التأثير الصوتي من خلال التناغم الحاصل بين منطق اللغة، والإبداع اللغويّ الخاص"().

وما يُحَفِّزنا -في نصَّ القبَّاني السابق- وعيه الفائق بالقيم الصوتيَّة للكلمات؛ وحساسيته الفنيَّة العالية في توليف الأصوات المناسبة في نسقها الشعريّ المناسب لها تماماً في حيِّزها التوتريّ المتصاعد من ارتدادات الأصوات المتنافرة حيناً؛ والمتناغمة حيناً آخر؛ لتهيمن بمصدرها التعرويّ على حركة المقطع؛ ولتشي بمنطوقها الصوتي العاطفي المتفشي بذبذبات صوتيَّة انبعاثية حادة؛ تظهر -بجلاء- وسموق فني دلالي بارع في تجسيدها النسقي الهادر بالهيجان العاطفي، والبث الشعوري الحار، كما في المقطع التالي:

"أُحاوِلُ منذُ البداياتِ
أَنْ لا أكونَ شبيهاً بأيِّ أَحَدْ
رفضتُ الكلامَ المُلَعَّبَ دوماً
رفضتُ عبادةَ أيِّ وَثَنْ..
أحاولُ إحراقَ كُلِّ النصوصِ التي أَرْتَدِيها.
فبعضُ القصائدِ قَبْرٌ..
وبعضُ اللغاتِ كَفَنْ..
ووعدتُ آخرَ أُنْثَى..
ولكنني جئتُ بَعْدَ مُرورِ الزَمَنْ.." ().

قبل الدخول في غمار التحليل النصّيّ للكشف عن فاعليَّة القيم الصوتيَّة بنائيًّا في النصّ؛ نقف على حقيقة مهمة مؤدَّاها: أنَّ القبَّاني سعى في قصائده إلى شعرنة اللغة بقالبها اللفظيّ المتداول؛ لهذا؛ فإنَّ الارتدادات الصوتيَّة المنبعثة من ركام هذه الكلمات؛ تملك شرعيتها من التأثير، والإقناع؛ نظراً إلى استعمالها التداولي المباشر في حياته اليوميَّة؛ حيث وجد المتلقي كلمات بأصوات ألفها، واستظهرها عن ظهر قلبٍ؛ فأدَّت منطوقها التّحفيزي لمحايثة عالمه الداخلي من جهة؛ وواقعه اليومي المعتاد من جهة ثانية؛ وهذا ما أشار إليه عبد القادر عبو بقوله: "ولعلَّ المُتَتَبِّع لقصائد نزار قبَّاني بعمليَّة إحصائيَّة لمعجمه الشعريّ، يسجل ورود كلمات من الحياة اليوميَّة التي يتحرَّك في فضائها القارئ العربيّ الذي لا يجد غرابة أو مسافة بينه وبينها خصوصاً من الناحية النفسيَّة والجغرافيَّة؛ ذلك أنَّ للكلمة جغرافيًّا خاصّة بها تلقي بظلالها من خلال هذا الحيِّز الفضائي الذي تتحرك فيه... وعملية التلقي لهذا التعبير الشعريّ الذي ضَمَّن القصيدة العربية الحداثية مثل هذه اللغة انتقلت من لحظة المفاجأة والدهشة إلى الانسجام والتذوق؛ ومن ثمَّ اتسعت دائرة المتلقي الشائع لهذا الشعر، والذي وجد في هذا التوظيف الجديد جماليَّة شعريَّة"().

وهذا القول الصائب دليل على أنَّ الصدمة التي يحدثها الشاعر بتوظيفه لهذا الكلمات؛ يجعل القارئ يلامس صداها الصوتي ومخزونها الدلالي الراسخ في ذهنه بكل تحفز، وانجذاب لا شعوريّ إلى تمثله في نسيجها الفني الجديد من دلالات، وما تستقطره من إيحاءات نابعة من جرسها الصوتيّ الممزوج بحركة روحه وممارساته اليوميَّة المعتادة؛ ومن هنا؛ "تجاوز الشاعر الحداثي البلاغة القديمة وانحرف عن المسار التقليديّ لها باستخدامه لغة الحياة اليوميَّة، بقصد، وبغايات فنيَّة ونفسيَّة، منها نقل انفعالات لا تنقلها اللغة الأدبيَّة الرصينة، وإعادة الحياة لهذه اللغة اليوميَّة التي تَجَنّبها الاستعمال الرسمي. من هنا، أدرك الشاعر المعاصر خطورة الكلمة في نقل التجارب والأحاسيس بعدما دخل دائرة التجريب الشعريّ، لما هو ممكن ومتاح أمامه من أدوات تعبيريَّة، يلتقطها مادامت تؤدّي غرضاً جماليًّا في رسم الصورة الشعريَّة؛ وأيضاً، يُدْخِل المتلقي في عملية التواصل والتآلف مع هذا المعجم الشعريّ المتنوِّع في أدواته اللغويَّة، بحيث لم تبق تلك اللغة المصفاة الراقية الفخمة المستهلكة شعريًّا هي أساس الإبداع الشعريّ"().

وإنَّ استخدام المعطيات الصوتيَّة لهذه الكلمات في نسق القصيدة يكسبها مشروعيتها القرائيَّة (مشروعيتها التداوليَّة) لدى القارئ؛ وهذا يدلنا: "أنَّ استغلال المعطيات الصوتيَّة ليس مجرَّد لعب مجَّاني، بل يزيد من تمتين الصلة بين الصوت والمعنى كخصيصة ملازمة للوظيفة الشعريَّة.. وهذا ما يستدعي السياق لتقييم الشحنة الدلاليَّة للأصوات"(). وتُعَدُّ القيم الصوتيَّة قيماً بنائيَّة مهمة تؤكد الهندسة الصوتيَّة لقصائد القبَّاني الشعريَّة؛ التي تعتمد التنافر والتناغم خصيصة علائقيَّة تقوم "على إحلال حرفٍ صامت محلَّ حرف آخر؛ أو تكرار آخرين صامتين في البيت عدَّة مرَّات متتالية في القصيدة؛ أو يتعمَّد الشاعر تبديل مواقع الحروف في قافية البيت، ليفيد من استثمار إمكانات الجذر الصوتيّ"().

وبالعودة إلى فضاء المقطع الشعريّ السابق- نلحظ أنَّ القبَّاني استطاع أنْ يُعَبِّر بإيقاع الأصوات المتنافرة عن الحدة الصوتيَّة الارتداديَّة المُتَصادمة التي تعتمد بنية الأصوات الانفجاريَّة مقوِّماً بنيويًّا دلائلياً في الكشف الدقيق عنها؛ خاصَّة تلكم الأصوات الانفجاريَّة الحادَّة المكتومة في بنية الملفوظات المُسَكَّنة التي تستبطن حركة القوافي: [أَحَدْ- وَثَنْ- كفنْ- الزمنْ]؛ وهنا؛ قد يتبادر إلى ذهن القارئ أنَّ لفظة [أَحَدْ] ليست قافية؛ لكنها جاءت بمنزلة القافية؛ لأنها تُشَكِّل مرتكزاً دلائليًّا، ومقوِّماً صوتيًّا مصوتاً [أي شديد حدة الصوت ورجرجته وصخبه] بدورها الارتدادي الإشاري الفاعل في توجيه الأنظار إلى وقعها الارتكازي الأول في بنية المقطع؛ عبر حدّة صوت الدال؛ المُسَكَّن الذي جاء مشحوناً بقوة دفع خلفية من خلال صوت الحاء، مدفوعاً بقوة الحركة الإعرابية، الممثلة بالفتح التي تتفرع طاقتها الصوتية كاملة، لدفع الحركة إلى الارتجاج بقوة، ثم التوقف فجأة، لتحدث وقعها في أذن السامع من خلال حركة التسكين التي لازمت صوت الدال؛ فأكسبته القوة، والثبات، والتميُّز؛ فعبَّر بالصوت كمؤشر بنيوي على صلابته، وتميُّزه؛ لتؤدي هذه اللفظة [أَحَدْ] دورها الانفجاريّ المصاحب في بث محمولها الدلاليّ للقارئ، بملفوظها الصائت وحركتها المموسقة؛ ودلالتها على تميُّزه؛ ولم تقتصر على دلالة الصوت اللغويّ وحده في بث المحمول الدلالي؛ وإنَّما عبَّر بالشكل البصريّ [البياض/ السواد] على هذا التميُّز؛ حيث أفرد هذه الجملة في الاستهلال بصريًّا، لتكون الانبثاقة الموحية البصريَّة الأولى؛ التي تلفت الأنظار إليها؛ بوصفها العتبة الدلائليَّة الأولى التي تحايث عتبة العنوان؛ في إشارتها، وومضتها الإيحائيَّة؛ هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية حاول أن يثبت تميُّزه؛ وأن يؤكِّده تأكيداً قطعيًّا لا يدع مجالاً للشكّ، عبر إيقاعيّ [النفي/ والإثبات]؛ مستتبعة بالاستدراك [لكنني]؛ إذْ يتبدَّى إيقاع النفي في دلائليَّة حرف النفي [لا]؛ والإثبات في دلائليَّة الحرف [أنْ]، والاستدراك في دلائليَّة الحرف [لكن]؛ والاستدراك – كما هو معروف- نفي لشيء ما من جهة، واستدراك له، وإثباته لشيء آخر من جهة ثانية؛ وهنا؛ أدَّت الممازجة الصوتيَّة بين الأصوات [المتنافرة (المتضادة)/ والمتناغمة (المتضافرة)] دوراً دلائليًّا مهماً في الإشارة إلى ما تختزنه البنى الصوتيَّة من دلالات؛ وهذا أكثر ما تبدَّى لنا في لفظتي [وَثَنْ] و[أَحَدْ]؛ وهنا، ينبغي الإشارة إلى أنَّ الأصوات في شكلها اللفظي المجرَّد تختلف عمَّا هي عليه في شكلها النسقي الفني؛ وهذا ما نلحظه في البنى الصوتية التحتية لجذور بعض الكلمات؛ فالبنى الصوتيَّة، المؤسِّسة للفظة [وَثَنْ] في جذرها الصوتيّ تتألف من ثلاثة أصوات هي: [الواو]: وهو صوت من أصوات اللين، يمتاز هذا الصوت بالقوة، والشمولية، والاتساع، والرجرجة، والحدة، والصلابة؛ ثمّ صوت [الثاء] الذي هو صوتٌ بارز من الأصوات المهموسة الرخوة؛ إذْ إنَّ كثيراً ما ينزلق هذه الصوت عن طبيعته المهموسة، ورخاوته إلى الشدَّة، والرجرجة، تبعاً لبنية الكلمة ذاتها؛ وتموضعها في نسقها الشعريّ؛ وفق ما يسبق الحرف من حركات إعرابيَّة تنقله إلى صائت شديد الانفجار؛ وهذا الصوت يتناقض أو (يتنافر) من حيث البنية الصوتية مع الصوت الذي سبقه، وهو صوت [الواو]؛ والصوت الذي يليه [النون]؛ فهو صوت ليّن يشي بالعذوبة، والشفافية، والليونة، والأنوثة، والرِّقة على عكس صوت [الواو] الذي يدل على القوة، والحدة، والصلابة، والاستطالة، والارتفاع من خلال خاصته الصوتيَّة الانفجاريَّة الملازمة له؛ باندفاع الهواء من الفم، إثر استجماع كامل للرجرجة، أو اللجلجة التابعة للذبذبات الصوتية، وحركة اهتزازها بالفم، ثم بثها دفعة واحدة بالهواء؛ لتشي برجرجة، وقلقلة، وانفجار صوتي حاد يعبِّر عن مخزونه الثوري الحاد، ثم يأتي صوت [النون] الذي يدل على القوة، والحدَّة في النسق الشعريّ السابق؛ وهو من الأصوات المهموسة الرخوة؛ لكن قلقلته تغدو حادة في النسق الشعريّ عندما يُنَوَّن، وتغدو رجرجته آنية مكتومةً عندما يُسَكَّن؛ وهذا ما جعل بنية القوافي ذاتها مبنية على إيقاعي [التناغم/ والتنافر] في إيقاعها وجذرها الصوتيّ، فكيف بنسقها الشعريّ الذي فيه تتغيَّر طبيعة الأصوات ووظائفها المصوَّتة [حدَّة/ أو همساً] و[رجرجةً/ أو سكوناً]؟!.

وهذا دليل على أنَّ الكلمة في جذرها اللغويّ تتألَّف من حروف متنافرة (متضادة) في بنيتها المعجميَّة، وحروف متضافرة (متناغمة) في خصائصها الصوتيَّة، لتحقيق بنيتها الدلاليَّة، ومدَّها الانتشاريّ، وتنغيمها الصوتيّ الآسر، وهذا التنافر في حركة الحروف بقدر ما فيه من تباعد في المخارج الصوتيَّة، بقدر ما فيه من تناغم مموسق؛ يخلق إيقاعه الحيويّ المتناغم، لأنَّ النغمات - في الأساس- تتألف من [حركات- سكنات]؛ وهذه الحركات، والسكنات هي التي تحقق التناغم الإيقاعي المموسق الذي يمثّل في بنية الكلمات الشعريَّة ذاتها.

وبتدقيقنا – في المسار البنيويّ للمقوِّمات الصوتية في المقطع السابق- وجدنا أنّ الموجات الصوتيَّة المتدفقة عبر إيقاعي [التناغم/ والتنافر] أدَّت دورها الدلائلي النفسي بتجاوزها حيِّز الإيقاع الصوتيّ إلى بنية الدلالة؛ على نحو ما لاحظناه من خلال ما سبق؛ إذْ أسهمت هذه التقنية في توليد النغم الانسيابي في حركة المقطع؛ ومن ثمَّ أسهمت - كذلك- عبر فاعليَّة الأصوات: [المتناغمة/ والمتنافرة] في تنويع النغم الموسيقي في النسق الشعريّ، تبعاً للمدلول الذي تبثه، والشحنات العاطفية التي تفجرها في بنية النسق؛ لتعزيز المدّ الشعوريّ المستتبع لحالة الأنفة والتميُّز في العتبة المقطعية الاستهلاليَّة؛ وحالة اليأس، والانكسار في الفاصلة الختامية؛ فالأصوات - على اختلاف تموضعاتها بنيويًّا داخل النسق- فإنَّها تؤدّي دورها البنيويّ كمؤشِّر دلاليّ مهم يسهم في بث هذا الجو الاصطراعيّ المتوتر الحاد الذي تعيشه الذات، بالمزاوجة بين الأصوات المجهورة الصائتة التي تشي بجو من الصلابة، والقوة، وتأكيد الأنفة، والتميز؛ وهذا ما لاحظناه في الاستهلال الموحي بالأصوات المجهورة الصائتة، التي تعبِّر عن القوة، والعظمة، والثبات؛ والأصوات المهموسة اللِّينة المكتومة، بالتسكين، للدلالة على حالة اليأس، والمرارة والأسى على مرور سني العمر سريعة كالبرق؛ من دون أن يحقق إلاّ الجزء اليسير مما تمناه؛ لكن المفارقة حتى هذه الجزء اليسير سرعان ما يتبدّد بلحظة مجيئه بعد فوات الأوان؛ وهنا؛ أدَّت الأصوات الانفجاريَّة دورها التحفيزي الأساس في تبيان الغليان الشعوريّ، والأنفة من جهة؛ والاصطراع الداخلي الارتدادي المأزوم الذي تبدَّى في الارتداد الصارخ الذي يشي بالحدة، والصمود، والثبات رغم حالة التوتر القصوى ومرارة الأسى الحزين الجارح التي وصل إليها؛ ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل لعبت حركات المدّ - بدورها الاستطالي المفتوح- في لفظة [لكنني] دور المُتَنَفَّس الجريح عمَّا يعانيه من أحاسيس متوترة مصطرعة إزاء حالة اليأس التي خيمت على عالمه إثر أُفول سنوات العمر المشرقة؛ ومجيء ما يتمناه بعد مرور الزمن؛ وهذه اللحظة الشعوريَّة، هي قمَّة الارتداد التوتري الصارخ إزاء ما يحدث إثر مجيء الشيء ساعة الأُفول، ولحظة الانقضاء المؤلمة التي تؤذن – دون شكْ- بحالة العقم، والإحساس باللاجدوى، والمرارة، والحنق الجارح. وللتدليل على ذلك أكثر:

نؤكِّد أنَّ الحروف المهموسة التالية: [النون، والصاد، والطاء، والسين، والشين، والكاف، والثاء] لعبت دوراً إيقاعيًّا خفوتاً في النصّ؛ وهذا الدور الإيقاعي الخفوت/ أو المهموس لم يأتِ رغبة في الخلخلة والتلاعب الصوتيّ بالكلمات؛ وإنما جاء مهندساً صوتيًّا، لتبيان حالة اليأس واللاَّجدوى التي وصل إليها الشاعر؛ لكن سرعان ما قابلها بأصوات انفجاريَّة صارخة قوية، رداً على حالته اليائسة المنكسرة، ورغبة أثيرة – لديه- في تجاوز هذه المحن، من خلال الأصوات المجهورة التالية: [اللاَّم، والدال، والميم، والراء، والذال، والباء، والفاء، والنون السياقية] التي أدَّت دوراً دلائليًّا مهماً في إثبات الذات،" وتميُّزها بقوة؛ لكن هذا الثبات والرجحان للأصوات المجهورة سرعان ما حاول الشاعر أن يكسر شدته وحدته بتسكين القوافي الذي لازم حركة القوافي إلى مسارها النهائي؛ حانقاً امتداداتها، واستطالاتها الشعوريَّة العميقة؛ ليعلن في الفاصلة المقطعية الختامية هيمنة حالة اليأس، واللاَّجدوى، والعقم، وسيطرتها المطبقة على عالمه الوجودي، لدرجة اليأس الخانق المطبق على صدره بالإشارة الدلاليَّة المُتَوَفِّزة [مرور الزمن] التي شَكَّلت علامة دلائليَّة تُبَصِّر القارئ بإيقاعها الخفوت الارتكاسي المؤلم، وحالة التوتر القصوى التي وصل إليها وشدة الانكسار الجارح الذي شكَّل قرار المقطع النهائي وصوته الأخير. وهكذا؛ استثمر القبَّاني الخصائص الصوتية ومخارجها كلها في إغناء نصوصه الشعريَّة بدلالات إيحائيَّة، يولدها صدى الأصوات، وما تبثه من دلالات، وظلال إيحائيَّة عبر سياقها النصّيّ، وهذا يؤكِّد لنا حقيقة بنيويَّة مهمة في تشكيل الأصوات في نسقها الشعريّ؛ أثارتها الناقدة خلود ترمانيني بقولها: "إنَّ الصوت الملفوظ أيًّا كانت خصائصه وصفاته فإنَّه قادر على التعبير عن الفكر؛ فالأصوات المهموسة تعبِّر عن الأفكار المشوبة بالغضب والتوتر؛ والأصوات المجهورة تعبِّر عن الأفكار الهادئة واللحظات الهامسة؛ وعلى هذا؛ فإنَّ الصوت يستمد ماء حياته من السياق الذي يرد فيه"().

وهذا مُؤَكَّد، من خلال ما خلصنا إليه، في تحليلنا البنيويّ للقيم الصوتيَّة في المقبوس السابق؛ لنؤكد: أنَّ الأصوات تؤدي دوراً علائقيًّا مهماً في تحفيز ملفوظات القبَّاني الشعرية، وتشعيرها صوتاً ودلالة، لتقوم بأدوار فنّيَّة لا تقلُّ قيمة ولا أهميَّة عمَّا تقوم به الأنساق التركيبيَّة الأخرى (الكلمة- الجملة- التركيب- المقطع)؛ وهي تكتسب في سياقها مدًّا شعوريًّا تتجاوز من خلاله بنية الصوت وصفاته الملتصقة به؛ لتكتسب في بنية التركيب صفات أخرى تنزلق عمَّا هي عليه في بنية الصوت ذاته؛ صفات متجدِّدة قد تكون مناقضة لبنية الصوت ذاته وطبيعته أحياناً؛ وعلى هذا الأساس، تؤدّي أدواراً مهمة في تحديد مجرى النصّ ومساره الدلالي، وصدى إيقاعاته المموسقة إلى قرارها الأخير.

4- بنائيَّة الكلمة:

إنَّ النظر إلى بنائيَّة الكلمة، معنى ذلك، النظر إلى بنائيَّة الشعر؛ لأن الكلمة تعد المادة الأوليَّة في التشكيل، وهي اللبنة الارتكازيَّة الأساس التي تنبني عليها الجملة؛ ومن ثمّ التركيب؛ وهي مبعث الإشعاعات الدلاليَّة في السياق الفني الذي تتموضع فيه؛ "فبلاغة تصميم الكلمة تنتظم التَكَيُّف، والتهيؤ، والتوافق مع التصميم الأوّلي لتكون، في الوجود والنشأة؛ وفي التعبير عن الحقّ والحقائق، ومن ثم تغدو كلمة أدبيَّة جماليَّة رفيعة تملك من اللطائف البلاغيَّة مالا يمكن بلوغه كله.. ولا يحيط به محيط"()؛ والوعي بجماليَّة الكلمة يعني الوعي بجماليَّة الأسلوب؛ فجماليَّة الكلمة في نسقها الشعري تعكس – دون أدنى شكّ- جماليَّة في الأسلوب الشعريّ؛ ولا تتحقق جماليَّة الكلمة بمعزل عن جماليَّة نسقها الذي توضع فيه؛ فهي تزهو بزهوه، وتخفت بخفوته؛ وعلى هذا يبدو لنا أنَّ الأسلوب لا يحقق فعله وكثافته إذا قصد الشاعر إلى اعتماد الأساليب المنطقيَّة، التي تحوِّل ما يؤلِّف إلى تصنيفات علمية جافة قد تستعصي على الفهم الدقيق للنصّ الشعريّ. إنَّه لا يأتي إلاَّ بعد استغلال بارع للطبع؛ وبذل جُهْدٍ ومعاناة، وذوق يُنَمِّيه؛ لأنَّه ركيزة البلاغة وحقلها الأساسيّ. وقد ارتبطت غايته بالتأثير في المتلقي. إنَّه يحقّق البلاغة (والوضوح، والتأثير)؛ والشاعر المتفوِّق هو الذي يملك حساسيَّة خاصّة في استغلال الأدوات التعبيريَّة المتعدِّدة التي تُكَوِّن نصًّا من نصوص الشعر"().
والشاعر الماهر هو الذي يبني الكلمات بناءً جديداً يستقطر من خلالها معانٍ جماليَّة ما كانت لتتأتى لولا السياق الفني الآسر الذي شكلها فيه؛ ومن هنا؛ "تُعَدُّ الكلمة أساس الشعر، ولكنها ليست كل شيءٍ فيه. فهي تتفاعل مع المعنى والموسيقا، لتنتج في النهاية عملاً شعريًّا متكاملاً. والشاعر حين يجلس في ظلال الكلمات، يستمدُّ من فيءِ قوتها ما يغني تجربته، ويعطيها تدفقاً وثراءً. فهو يريد أن يعكس ما يدور في خلده من أفكار، وفي داخله من عواطف وانفعالات، لذا، فهو ينتقي من الكلمات ما يناسب حاله، ويؤثر في غيره واعياً في ذلك حسن إيراد الكلمات، وفق ترتيب مُنَسَّق يقوم على الاستفادة من خصائص أصوات الكلمات، وتنوُّع حروفها، وتباين دلالاتها... فالكلمات ليست رموزاً كتابيَّة، أو أحرفاً متلاصقة صمَّاء، بل هي شحنات عاطفيَّة فاعلة، تنتقل من الشاعر إلى المتلقي لا لتصف حالة فحسب؛ بل لتعتصر من روحه ما تصبُّه في أرواح المستمعين"(). وعلى هذا الأساس؛ يتفاضل الشعراء في أسلوب توظيفهم للكلمة؛ ومقدرتها البارعة على تفعيلها، بدلالات وأطياف جماليَّة ما كانت لتستحوذها لولا دخولها في السياق الفني الشاعري الذي يهب الكلمات حياة جديدة، ونبضاً شاعريًّا يسكن القلب؛ فالكلمات تُحَمَّلُ بمعنًى لا تكون مُحَمَّلةً له خارج الشعر، أو لنقل: أنَّها في الشعر تُحَمَّل بنوعٍ معيَّن من المعنى، ذلك الذي يَتَّجِه مباشرة نحو ما نسميه القلب(). وعلى هذا أشار أُدونيس بقوله: "الكلمة، كما ورثناها، لا تُعَبِّر عن كثافة انفعاليَّة، أو رؤيوية، بل عن علاقة خارجيَّة؛ إنَّها شبه حياديَّة، لأنَّها مملوءة بدلالة مسبقة تجيئها من خارج. حين حاول أبو تمام، مثلاً، أن يثور على هذه الكلمة، قيل عنه: "أنَّه أفسد الشعر"؛ وهذا يعني أنَّه غيَّر نظام الكلام الموروث. لذلك لم يفهمه القرَّاء والنقَّاد الذين يرثون هذا النظام ويحافظون عليه... الثورة اللغويَّة ،هنا، تكمن في تهديم وظيفة اللغة القديمة، أي في إفراغها من القصد العام الموروث. هكذا، تصبح الكلمة فعلاً لا "ماضي" له، تصبح كتلة تشعَ بعلاقات غير مألوفة"().

وهنا؛ يأتي دور الشعر؛ ليخلِّصنا من جمود الكلمة وتحجرها؛ ليمنحها قدرة على الحياة؛ ويمنحنا اللّذة في تلقيها جماليًّا من خلال مجدها العظيم الذي تثيره في نسقها الشعري المحكم؛ وهذا ما أشار إليه الناقد علي جعفر العلاَّق بقوله: "يظلُّ للشعرِ إذنْ مجده العظيم الذي يتجدَّد دائماً؛ إنَّه صانعُ تلك الفسحةِ الضروريَّة للبشر جميعاً، أعني فسحة الوهم أو الحلم. إنَّ أشنع ما تُهَدِّدنا به مدينة التخمة والاسمنت أنَّها تزحف، شيئاً فشيئاً، على أوهامنا الكبرى، وأحلامنا الصافية فإذا بنا نقف أمام هذه المدينة الشرسة بأرواحٍ عزلاء، وعيون يقتلها الفزع دون مصدَّات من غيم، أو وهم، أو طفولة.. لم يتبقَ أمامنا إلاَّ ما يصنعه الشعراء، وهم يشتتون شمل الأفاعي بعصيِّهم المصنوعة من كذبهم الجميل وعظامهم النائحة. إنَّهم حُرَّاس أوهامنا البيضاء ونُعَاسنا المجُرِّح؛ يرشون صحونا القاسي بفصولٍ مُلَبَّدة بالحنين؛ ويعيدون إلى قلوبنا قدرتها الوحشية على الانفعال؛ على العويلِ أو الضحك، الأسى أو البشاشة، الندم أو الرضا، قبل أن تتحوَّل تلك القلوب إلى أحجار صلدة"().
والقبَّاني لم يكن شاعراً اعتيادياً في توظيف الكلمات؛ وإنما كان شاعراً استثنائيًّا في توظيف الكلمة السهلة المتداولة، والتماهي معها، وتشغيلها في شبكة دلائليَّة علائقيَّة محكمة؛ لتبث ما يريد، بيسر، وسهولة، وطلاوة، ونداوة في سياقها الشعريّ المناسب؛ وحساسيتها المرهفة المفعمة بالحياة؛ ومن هنا "لا ينكر دارس أنَّ التجربة الشعريَّة لنزار قبَّاني قد استطالت مع الزمان مستفيدة من التجارب المختلفة التي تراكمت عند قدميه من مادحيه وناقديه على حدّ سواء. وكان له أن يغترف منها لمعالجة شعره، والتفنن في إخراجه؛ زيادة على أساليب إنشاده، وطرائقه المختلفة المتنوِّعة، والتي نزعم أنَّ النصوص فيها غير النصوص التي ترقد في صفحات الديوان"(). ولذا، فإنَّ قارئ القبَّاني يسبح في موج من الدلالات الشعريَّة المبتكرة في حسها الشاعري المفعم في توظيف الكلمة في سياقها النصّي الملائم لها، الذي يشع بنفثات شعوريَّة تصطلي بنيران العاطفة وحرقة المشاعر، سواء أكان ذلك في مجال التعرية السياسية اللاذعة الكاشفة من الفساد، أم في مجال النقد الإجماليّ للعادات، والتقاليد، والعصبية القبلية التي مازالت تنفث زخمها إلى وقتنا الراهن؛ وهذا ما نلحظه في قوله:

"أحاوِلُ أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنْ مُفْرَدَاتِي
ومِنْ لعنةِ المُبْتَدَا والخبرْ.
وأَنفضَ عَنِّي غُبَارِي
وأَغْسِلَ وَجْهِي بماءِ المَطَرْ
أُحاوِلُ من سلطةِ الرملِ أنْ أستقيلْ...
وداعاً قريشٌ
وداعاً كليبٌ
وداعاً مَضَرْ"().

قبل الدخول إلى الحرم النصّيّ لدراسة علائقيَّة الكلمة، ودورها بنيويًّا في النسق الشعريّ نُؤَكِّد أنَّ القبَّاني استثمر فاعليَّة الكلمة [الفعل]، والكلمة [الاسم] بشكل جماليّ متأصِّل إبداعيًّا في توظيفها الفنّيّ؛ فالفعل – لديه- هو الأقدر على بث الزخم الشعوريّ في قصائده الحماسيَّة، والمواقف التعرويَّة الكاشفة التي تتطلب حراكاً زمكانيًّا؛ وفضاءً أفقيًّا ممتداً؛ يتعالق مع كثافة الانفعالات، واستتباعها الحراك النفسي والشعوري المتوتر، والانتقال الدافق لصيرورة الحدث الزمانيّ بكل منظوماته الحديثة المتتابعة، واستدراجاته الزمنية المفتوحة؛ في حين أنَّ [الكلمة- الاسم] هي الأقدر على التعبير عن حالة الركون، والثبات، والاستقرار النسبي في الحالة الشعوريَّة، تدليلاً على ركون الحالة الشعوريَّة، واستقرارها، وهدوئها النسبي، وهذا أكثر ما نجده في قصائده الغزلية ذات التوصيف الأنثويّ، والإغراق في أوصافها الحسيَّة تحديداً. ومن هنا: "لا نُحَدَّد الوظيفة القَبِّلِية للمفردة بالقياس المعجمي، بل يتدخَّل في تحديدها تراكم وتشابك مُكَوِّنات المعرفي الثقافي والذي يتمظهر بعلاقة اللغة بالواقع؛ وعلاقة اللغة بالوعي، وما يمسُّ ذلك من تكوينات الذاكرة، والخيال، والآفاق الأيديولوجية، والخارطة الجماليَّة... كما أنَّ الوظيفة القبلية للمفردات لا تُحَدَّد فقط بمعاني الاشتراط العام المعجمي، مثلاً، بل تُحدِّدها أيضاً طبيعة امتلاك النصوص السابقة لها؛ وحركيات توظيفها في صيغ متعدِّدة؛ بحيث تحمل موقعاً محدَّداً في خطوط الذاكرة بمفهومها المعرفي، وليس الفيزيولوجيّ، بارتباطها باللغة، وعلاقة هذه الأخيرة بمظاهر أشكال الوعي"().
وبالعودة إلى - المقبوس الشعري السابق- نلحظ أنَّ الشاعر عَبَّرَ بالحركة الفعليَّة عن صيرورته الدائبة صوب الثورة والتغيير؛ إذْ تدل الحركة الفعليَّة على زمنها المتحوِّل، أو المتحرِّك في صيرورة الحدث الآني إلى صيرورة زمكانية الحدث، ومن ثمّ إلى صيرورة زمكانية الرؤية، وامتدادها التعروي الكاشف عمَّا يتضمَّنه الفعل من آلية كشف عمَّا هو ماضٍ، إلى كشفِ عمَّا هو آتٍ؛ ولذا، فإنَّ زمن الفعل في صيرورة دائبة من الحركة، والانزلاق، والتحول الزمكاني. إلى صيرورة الحدث من جهة، وحراك الرؤية المبثوثة في زمنها الوجودي الإرهاصي من جهة ثانية؛ وهذا ما تمثله الشاعر كاملاً في الانسلاخ عن الزمن الماضي بكل مستتبعاته الملصقة به من لغة، وتاريخ، وحضارة عربيَّة موهومة؛ عرَّاها الشاعر بنيويًّا بالحراك الدلالي [الزمكاني] الذي ولَّده الفعل [أَتَبَرَّأ] بانبثاقته الحدثية وأبعاده الزمنية المفتوحة التي تنفي الأشياء وتؤكِّد حقيقتها؛ على نحو ما نلحظه في بنية الأفعال المضارعة المفتوحة في مدها الزمكاني الحدثي [أَتَبَرَّا- أَنفضُ- أغسلُ- أحاولُ- أستقيلُ]؛ فهذه الأفعال حرَّكت الزمن من الماضي إلى المستقبل؛ وعبرَّت عن زمنها الإرهاص الواقعي [الزمن الحاضر]؛ بزمن مفتوح انسلاخي على ما حدث بالماضي، لاستجماع النفي والانسلاخ عنه في الواقع الحالي [الزمن الحاضر]، لتأكيد انسلاخه عنه في زمن مستقبلي مفتوح لا يتأرجح أو لا يتغير، ففي الفعل [أَتَبَرَّأ] تتمثّل طاقته الدلالية الشعوريَّة المحركة للحدث، باستجماع كلّ الامتدادات الشعوريَّة عبر [التضعيف] المشدَّد على انسلاخه عن الماضي العربي، بكل حضاراته، ولغته، وأمجاده المزعومة؛ عبر الثورة على كلّ ما يلوذ به من لغة، وتاريخ، وأمجاد، ومسميات قبلية ما هي في حقيقتها إلاَّ تكريساً لمظاهر العصبية، والجهل، والتأزم، وسفك الدماء؛ فكما أنَّ ماء المطر يغسل الأرض من أدرانها، وأرجاسها، ليعيد إليه النضارة، والإشراق؛ فهو يريد –كذلك- أن يغسل أدران وجوده من هذه الرجاسة التي محقته، ابتداءً من اللغة التي تمثل هوية الإنسان الكلامية، وانتهاءً بالتاريخ الذي يمثل هوية الإنسان الوجوديَّة؛ منسلخاً عن سطوتها؛ ليعيش حريته الوجوديَّة كإنسان يمارس الحياة حقيقة وفعلاً لا زيفاً أو خارطة انتماء وما الأسماء التالية: [قريش، وكليب، ومضر] إلاَّ أسماء لقبائل عربية اشتهرت في زمنها بفصاحتها، وعراقتها من جهة؛ وحضارتها ولسان ترجمان للغة العربية الفصيحة من جهة ثانية؛ والملاحظ أنَّ الحركة الزمكانية المفتوحة التي فجَّرها الفعل [أستقيل] أمَدَّت النسق بطابعها الانسلاخي التعروي الكاشف عمَّا هو أبعد من حيِّز الدلالة الملصقة به؛ فالاستقالة -هنا- ليست استقالة عن منصب؛ أو عن عمل موكل للمرء، وإنَّما هو استقالة عن صيرورة وجود وكينونة حياة، تشدّه إلى ماضٍ أليمٍ، وحاضرٍ دنسٍ، ومستقبلٍ مجهول لا يعي فيه ما يريد؛ وما سيحل به في ظل التقلبات، والأوهام والتمسك بالماضي وإرثه، فهو يريد أن ينسلخ عن سلطة الأجداد، والتباهي الرنان بانتصاراتهم العريقة على حساب واقعنا الحالي المخزي؛ ولذا جاء الفعل [أستقيل] بمنزلة المؤشر البنيوي الواعي الذي يُعَدُّ المتنفس الشعوري عمَّا يعتصر كيانه من دوافع وارتكاسات شعوريَّة متراكمة؛ ليعلن أنَّه حرٌّ؛ وحريته ليست وليدة ارتباط بتاريخ، وحضارة مزعومة، وعصبية جاهلية لا تعي ما تريد؛ إنَّه يحاول أن يفلت من أسره الوجوديّ [الزمكاني الماضوي] الذي يريطه بالحاضر، ليعيش وجوده الزمكاني الحر [الزمن الحاضر]؛ نابذاً كلّ النوازع الطائفيَّة أو القبليَّة، والدينية، واللغويَّة التي تربط الإنسان بماضيه، وتجرّه إلى متاهاتها، وجذورها المقيدة؛ وما الإنسان إلاَّ حركة وجوديَّة أو كينونة وجوديَّة حرَّة لا ينبغي أن تُقَيَّد بمذهبٍ، أو عرق؛ أو حضارة؛ أو دين، أو أيّ انتماء إلاَّ لذاتها؛ لحراكها الوجودي؛ وفعلها الحقيقي المؤثِّر؛ وهذا الحراك الزمني المطلق في الفعل [أستقيلُ] ولَّد حركة مفتوحة في الدلالة، على آفاق دلاليَّة خصبة، ولّدها الفعل في حراكه [الزمكاني/ الحدثي]، معلناً وجوده الحرّ، وزمنه المطلق المفتوح؛ وبهذا "يتجاوز استخدام الشاعر للفعل مهمة نقل الحدث المرتبط بزمنٍ معيّن حين يتحوَّل الفعل إلى لبنة أساسيَّة في بنية النصّ الشعريّ؛ بحيث يولِّد الفعل طاقات تعبيريَّة هائلة وابنثاقات دلاليّة مدهشة؛ وعلى هذا الأساس، يؤدي الفعل دوراً مهماً في عملية الإبداع الشعريّ، حين يتحوَّل إلى قوَّة مولِّدة للطاقة التي تمدُّ عناصر النصّ بدفعات متواليَّة تشحنها بالقوّة الحركيَّة اللاّزمة"(). وهذا يدلُّنا على أنَّ الشعر، هو تفجير كينونات إبداعيَّة يُمَثِّلها النسق الشعريّ، بحركة أفعالها المفتوحة، وحراكها الحدثي، وصداها الزمكاني في بث الحالة الشعوريَّة، وكشف عمق الرؤية؛ وهكذا؛ "يكون الشعر ارتباطاً بالزمان والمكان الراهنين، وهو في الوقت نفسه انعتاق منهما معاً. إنَّه فيض الروح والجسد، وهما يتمردان على أغلالنا الترابية الباهظة؛ وهو تطلعنا القلق إلى الاكتمال أيضاً.. إنَّ الشعر ازدهارٌ للغة الخاصَّة في مواجهة الشائع والمكرور من أنماط القول؛ وهو انتصارٌ لفرديتنا المُعَذَّبة على عقليَّة القطيع والتشابه والعزلة"().

وقد يأتي الفعل – في القصيدة السابقة- مُحَفِّزاً زمكانيًّا استقطابيًّا لزحزحة سكون الاسم؛ وثباته؛ وخلق حركة انسجاميَّة تواشجيَّة من خلال التواشج الفنّيّ بين ما يحدثه الفعل من استجابات حدثية حركية زمكانيَّة، وما يحدثه الاسم من ثبوت واستقرار للحركة؛ لتأكيد حالة راسخة، أو موقف ثابت، لا ينبغي للشاعر تغييره؛ كما في قوله:

"أحاولُ رَسْمَ بلادٍ
تُسَمَّى مَجَازاً بلادَ العَرَبْ...
سَرِيْرِي بها ثَابِتٌ.
وَرَأْسِي بها ثابِتٌ
لكي أعْرِفَ الغرقَ بين البلادِ وبَيْنَ السُفُنْ
ولكنَّهم أخَذُوا علبةَ الرسمِ مِنِّي
ولم يَسْمَحُوا لي بتصويرِ وجهِ الوَطَنْ"().

قبل الدخول إلى الفضاء الدلائليّ للمقطع السابق نؤكِّد: أنَّ القبَّاني وظَّف الفعل بوصفه باعثاً حيويًّا للاستغراق في الكشف عن أمنياته، ورغباته، ومشاعره المتقِّدة عاطفةً، وكشفاً عن الدلالات النفسيَّة المصطرعة في أعماقه من جهة؛ والكشف عن تمرُّده وثورته على الواقع بما يَتَضَمَّنه من جهل، وظلم؛ وقمع؛ واضطهاد من جهة ثانية؛ بمعنى: أنَّه وظَّف الفعل كحركة زمانيَّة حدثية دائبة من التمدد، والتغير، والاستطالة الزمنية التي ترصد حركة الذات في علاقتها بالآخر، وفق مسار زمني متغير، انزلاقي متأجج على الدوام؛ أمَّا الاسم فقد وظَّفه في أنساق جمليَّة قصيرة؛ وفق أرتالٍ من المتواليات الاسميَّة، أو المصفوفات الاسميَّة التي تشي بتعدّد الأنساق الوصفية، والأنساق المضافة الدالَّة على الرسوخ، والديمومة، والثبات في الحدث مجرّداً من الزمن؛ وهذا أكثر ما نجده في أوصافه الغزليَّة التي تتعلق بالأنثى في حركتها الجسديَّة التي تتفتق غريزة وشهوانيَّة؛ أو سياق نرجسيته التي تتضخم في [الأنا] بشكل متتابع في الكثير من قصائده؛ للتعبير عن صيرورة الذات، في تمثلها بالآخر وصراعها معه في جوٍّ غزليّ حميمي حيناً؛ وجوّ ثائر انفعاليّ غاضب حيناً آخر؛ تتفتق من خلاله الرؤى والمثيرات؛ والدلالات المفتوحة التي تنطوي على كم هائل من الدلالات الراسخة في تجسيد الرؤية أو الحدث برسوخ، واستقرار وثبات، بعيداً عن تموجات الذات، وهيجانها العاطفي الذي يتبدَّى في غلبة الصيغ الفعليَّة، وتتابعها في النسق الشعريّ؛ فالقبَّاني يملك حساسيَّة فائقة في اختيار [الكلمة- الفعل] في موقعها النصيّ الشعريّ الحدثي المناسب الذي يعبِّر عن توتر الحالة، واصطهاجها، بعمق، وسلاسة لغويَّة متسارعة (رشيقة) تجري بانطلاق شعوريّ انبثاقي عبر براعته في اختيار الكلمات المتداولة بنقلها من حيِّز الحراك الواقعي [النبض الاجتماعي]، إلى حيِّز الحراك الفنيّ الشعريّ؛ بإكسابها روحانيَّة شعوريَّة- انبثاقيَّة جديدة تتعدَّى حاجز استعمالها الشائع المكرور، وتشي بدلالات شعريَّة تنبثق من رحم [الحساسيَّة الشعريَّة] والاستعمال الفنّيّ الحيويّ الانبثاقي الجديد؛ في حين يستخدم [الكلمة- الاسم] في سياق من الترسيخ الشعوريّ لمحفّزاته التشكيليَّة؛ وموصوفاته التأمليَّة الغريزيَّة التي تتناول الجانب الحسّي الشهواني من الأنثى [التركيز الغريزيّ في التوصيف الغزلي] في فضاء غزليّ متراكم من الأرتال الاسمية والمزدوجات المتناغمة والمترابطة في مدّها الشعوريّ، وتركيبها الإسناديّ المتلاحق الترسيمي لفضاء الرؤية، وطيفها الإسنادي الانبثاقي الدلائلي المفتوح؛ وهذا دليل على أنَّ الشاعر المعاصر – ومن ضمنهم القبَّاني- "يهتم بخلق المفاجآت، والصدمات، بواسطة الإيقاع المتولِّد عن استجابات النفس؛ وهذا ما يجعل المتلقّي في وضعيَّة انتظار الجديد على مستوى التشكيل الصوتيّ، والموسيقيّ المتناسب مع الحالات النفسيَّة المتوِّجة للشاعر؛ وهنا؛ تتجلَّى قدرة الشاعر الإبداعيَّة في السيطرة على وضع الكلمات في أفضل نسق، يساوي تماماً الحالة التي يشكلها من خلال الكلمة التي اكتسبت وضعها داخل السياق. إنَّ اختيار الكلمات نفسيًّا وموسيقيًّا وتفجير طاقاتها الإيحائيَّة والدلاليَّة وربطها بأخواتها في تناسب وانسجام زمني يضفي عليها تناسباً إيقاعيًّا؛ قد يتغيّر من وضعية إلى أخرى دونما الحاجة إلى التزام وضعية واحدة كما حدث في شعرنا القديم والكلاسيكي، ومن هنا؛ أدرك الشاعر المعاصر أنَّ الكلمة تفقد شخصيتها المُسْتَقِلَّة عندما تدخل في انتظام مع كلماتٍ أخرى، وتتعدَّد معانيها ودلالاتها كلما تعدَّدت سياقاتها؛ ومن هنا؛ المُتَلَقِّي لا يتلقَّى الكلمات الشعريَّة كأصواتٍ كما يتلقى الأصوات الموسيقيَّة؛ بل يتلقاها أيضاً، كدلالات؛ وهذا ما يؤثر على عملية التلقي، وفي تاريخ التلقي الجمالي للكلمات وفي دلالاتها"().
وبالعودة – إلى فضاء المقبوس الشعري السابق- نلحظ أنَّ الحركة الاسميَّة ما جاءت لتحديد العلائق البنيويَّة على مستوى صلة الكلمة بالأخرى منحًى بنيويًّا جماليًّا؛ وإنما جاءت لإثارة الربط بين ما تبثه الحركة الاسميَّة من حراك شعوريّ على مستوى العلائق والروابط الوضعيَّة؛ وبين ما تبثه الحركة الفعليَّة من قوّة عكسيَّة صوب السكونيَّة والثبات، بدلاً من الحيويَّة والحراك الفعليّ التحفيزيّ الواعي؛ بمعنى أدَّق: إنَّ الفعل لم يملك إحداثيّاته الدلاليَّة الدالَّة على الحراك والتمرد النابع من الذات؛ وإنما جاء بقوة دفع مضادة عكسية صوب السكونيَّة، واليأس، والعقم، واللا إرادة [الإرادة المسلوبة]، التي خيَّمت على الذات؛ فارتدَّ الاسم بقوة دفع خلفية (عكسية) عبر [الكلمة- الوصفية]، أو [الكلمة = الحالية] النابعة من التشكيل الاسمي [متبدأ + خبر]؛ [سريري بها ثابتٌ]؛ و[رأسي بها ثابتٌ]؛ لتؤدي حركة الأسماء هذا الدور بعد انحسار المدّ الفعليّ على خارطة التوتر الدلاليّ؛ بحركة توثبيَّة توترية عالية؛ نابعة من رغبة الشاعر في تخطي حاجز الذبذبة واللاّ استقرار التي لازمته طويلاً في مسيرة عمره الشاقّة الحافلة بالمشقَّات، والجراح، ومرارة الأسى، ومواجد الاغتراب؛ فالحركة الاسميَّة، إذاً؛ جاءت عبر هاتين الجملتين، كركيزة صوتيَّة بنيويَّة انبعاثيَّة؛ لإحداث قوَّة ردٍ إيجابيَّة، إزاء الانحسار الفعليّ، لتوكِّد حضور الذات كقوة فاعلة مؤثرة قادرة حيال العقم الفعلي القسريّ الذي فُرِض عليها من الخارج [سلطة الآخر]؛ [أخذوا علبة الرسم منّي] [لم يسمحوا لي بتصوير وجه الوطن]؛ فالحركة الفعليَّة، إذاً؛ ما جاءت لتجسِّد حراكاً نابعاً من وعي الذات؛ وإدراكها بوقعها الفعليّ؛ وإنما جاءت لتجسِّد حراكاً قسريًّا مفروضاً عليها من الخارج؛ من سطوة الآخر وهيمنته، لا إرادة الذات وإدراكها؛ وهذا ما أكسب الحركة الفعليَّة قوة ارتداد عكسيَّة، فبدلاً من أن تحمل قوة دفع صوب الأمام لتملك فاعليتها على الإرادة والتغيير، أصبحت قوة دفع مرتدة إلى الخلف، صوب العقم، والتحجر، والانكسار، واللاَّجدوى، وهذا الانحسار في المد الفعلي منح الحركة الاسمية قوتها التحفيزيَّة التي أصبحت تملك الحراك، والقدرة على القيام بفعلها الوجوديّ الراسخ؛ بدلاً من الحركة الفعليَّة التي تلاشى دورها، وما عادت سوى ذبذبات صوتيَّة متلاشيَّة، ملصقة بها، لا تنطوي على أي حراك أو استطالة زمنية؛ أو أمل انبعاثي من ركام هذا الانهزام، والتحجر، والقوقعة الوجوديَّة، وعلى هذا؛ فالقيمة البنائيَّة للحركة الفعليَّة لم تَكُنْ قوة بنائيَّة دافقة بالحراك الفعليّ صوب التمرد، والثورة، وإنَّما جاءت ردَّاً سكونيًّا احتجاجيًّا مكبوتاً على هيمنة الآخر، وسطوته القسرية المؤلمة، دون أن تملك القدرة على الفعل، أو القدرة على تأدية دور الفعل ولو مجازاً، ولذا؛ فإنَّ تصويره لهذه البلاد لم يكون تصويراً حقيقيًّا مبنياً على الإرادة المسلوبة التي لم تعد قادرة على الامتلاك ولو مجازاً؛ وهنا؛ بدلاً من أنْ يكون الفعل هو المُوَجِّه الدلاليّ للحراك الفعلي القادر على التغيير، والتجديد، والانبعاث، أصبح مصدر التحجر، والعقم، والانكماش، والإرادة المسلوبة؛ وهنا، قام الفعل -على الرغم من ضآلته في المقطع الشعري- بهذا الحراك،بوصفه مركزاً للإرادة، والتوجيه، والهيمنة، والثبات؛ ولذا؛ أصبح الاسم متحرِّكاً بالانكماش الفعلي، وأصبح الفعل ساكناً جامداً، لا يملك قدرة الحدث أو فعل التغيير؛ وهذا الأسلوب يعكس قمة في الإصابة الدلاليَّة والاحتجاج، والإدراك الواعي لقيمة: [الكلمة- الاسم] أو [الكلمة- الفعل] في توجيه الدلالات في سياقها النصّيّ؛ ليكون المقطع صوتاً احتجاجيًّا قارَّاً راسخاً بأصداء تعروية احتجاجية، راسخة لا تتغير أو تتلاشى، نظراً إلى الثبات، والرسوخ، والاستقرار في التشكيل الاسمي؛ وهذا الثبوت الراسخ أدَّته غلبة الحراك الاسمي على الحراك الفعلي المقموع أو المسلوب الذي أذعن للإرادة المحطمة، في أن يملك جزءاً ولو بسيطاً أو يسيراً من حقوقه؛ وهو امتلاك الإرادة في رسم وجه من يجب ممثلاً بـ [وجه الوطن] تصويراً مجازيًّا أو امتلاكاً مجازيًّا؛ فكيف إذا أراد أن يمارس حقوقه فعلاً إراديًّا محضَّاً؟!

ومن هنا؛ فإنَّ المقطع – مع اختزاله اللغويّ- ينمُّ على إدراكٍ واعٍ مُنَظَّم في توظيف الكلمة في نسقها الشعريّ المرسوم لها على مستوى حراك الأسماء، والأفعال بمنظومة دلاليَّة محكمة غاية في التناغم، والتلاحم، والتفاعل بين وحدات المعنى، التي تثيرها حركة الأسماء، والأفعال في النصّ بفاعليَّة تحفيز شعوري جماليّ آسر ممتد؛ لا يدرك أبعادها، ومنعكساتها الشعوريَّة إلاَّ من يملك بصيرة- نقدية بنيويَّة جماليَّة، ومتعة في الكشف النصّيّ؛ وتمرس نقديّ في فرز الدلالات، وفك الشفرات الدلاليَّة (اللغويَّة) المستعصية؛ واستكمال دوافعها الإبداعيَّة؛ التي نخلص منها إلى القول:
إنَّ القبَّاني يملك وعياً تاماً في توظيفه الفني لكلماته الشعريَّة، لتؤدي دورها الفنّيّ المنوط بها؛ بفاعليَّة قصوى، وتركيز دلائلي عالٍ؛ رغم طابعها التداولي السهل المباشر؛ وإيقاعها الانسيابي الرشيق؛ إذْ إنَّ لغته الشعريَّة يُمْكننا توصيفها توصيفاً دقيقاً يقف على حقيقتها الجوهريَّة؛ وهي أنَّ لغته الشعريَّة [لغة السهل/ الممتنع]؛ التي تثير القارئ؛ وتصيب مكمن الرؤية، بإدراك مقصدي دلائلي واعٍ ودقيق، رغم سطحيَّة الملفوظ وحيزه التداولي السهل المباشر.

5- بنائيَّة الجملة:

الجملة – بالأساس-مُرَكِّب لغويّ استقطابي للدوال والمدلولات؛ وهي شكل بنائيّ ينطوي على معنى محدَّد؛ أو رؤية محدَّدة؛ إذْ "تتشكل الجملة وفق مفهوم الإسناد المفيد للمعنى؛ فإذا تمَّ بالمسند والمسند إليه، تمَّت الجملة؛ وقد يستدعي أحدهما كلاماً آخر لإتمام المعنى، يُقَالُ له الفضلة، وربَّما يحتاج ذلك كلِّه إلى أدوات تسمَّى أدوات الربط"(). والجملة بناء على هذا: "تتألف من مجموعة كلمات تمَّ تركيبها على نحوٍ معيَّن، وهذا التركيب يقوم على عمليَّة إسناديَّة بين اسمين في حال الإسناد الاسمي، وبين فعل واسم في حال الإسناد الفعلي"(). وهنا؛ تتأتَّى براعة الشاعر الحقيقية في فاعلية التشكيل اللغويّ وتركيب الجمل؛ معتمداً على حدَّة الانزياح كمقوِّم بنيويّ فاعل في خصوبة التشكيل جماليًّا؛ وعلى هذا: "فالانزياح شرط ضروري وأساسي في النصّ الشعريّ؛ فهو خرق للقواعد، وخروج على المألوف؛ لتكون اللغة تعبيراً غير عاديّ عن عالم عادي؛ وكُلَّما عمد الشاعر إلى تعميق الانزياح ازداد انفصاله عن الجمهور، ومن ثمَّ اكتنف النصّ غموض شعريّ، وحقق المفارقة بين وظيفة النثر ووظيفة الشعر؛ وهذا يعني أنَّ الشاعر بهذا الانزياح، والانحراف باللغة عن مقاصدها التي وضعت لها أصلاً؛ يضعف من بنية الرسالة، ويُعطِّل وظيفتها النثريَّة؛ ويحوِّلها إلى تأدية وظائف أخرى ذات أبعاد غير مقيدة بمنطق اللغة النثريَّة"(). وما ينبغي الإشارة إليه: "أنَّ الانزياح ليس هدفاً في ذاته – كما ظنَّ بعض شعراء الحداثة- الذين ظنّوا أنَّ التلاعب باللغة، والإيغال في غموضها ضربٌ من التحديث الشعريّ، والخروج عن المألوف؛ ومن ثم يتحوَّل النصّ إلى عبث لغويّ وفوضى في الرسالة الشعريّة ذاتها؛ يلقي الشاعر بمسؤوليَّة عدم التذوّق أو الفهم على القارئ الذي يجهد نفسه في فكّ شفراتها وألغازها ولا يستطيع"(). وعلى هذا، تتأسّس الجماليَّة الشعريَّة على مقدار ما تثيره الجملة الشعريَّة، من تجاوزات، وانتهاكات لغويَّة غير متوقَّعة لحيِّز الإدراك، والتمثّل الذهني؛ لدرجة الاستقطاب، والتحفيز الشعوريّ؛ ومن هنا؛ "فإنَّ الجماليَّة البلاغيَّة تتجاوز الدلالة المباشرة للتركيب النحوي؛ وتخترق ماهية اللفظ إلى استجابة تمتدُّ في الذات الفاعلة، والمنفعلة على السواء"().
وكلما تعدّدت فاعلية الانزياح وتنوّعت في النصّ الشعريّ كلما حققت فاعليتها النصيَّة، ورفدت الجملة بدلالات جديدة لا حصر لها؛ تحقق أعلى درجات الإمتاع والإثارة النصيَّة؛ وهذا ما أشارت إليه الدكتورة بشرى البستاني بقولها: "تتنوّع فعاليَّات الانزياح في تحقيق اللغة الشعريَّة، وتتفاوت هذه الفعاليَّات دقة، وعمقاً بين آليات البلاغة، والتصوير، والترميز، والغياب، وأنواع المفارقات، مما يؤدِّي إلى تكثيف لغة النصّ من جهة، وتوسيع أفق الدلالة، وتحرير المعنى من جهة أخرى؛ فأنواع التشبيه والاستعارات، والكنايات، والتوريات، والرموز، والمفارقات، والإيجاز، والتقديم والتأخير، كلها آليَّات تشتغل داخل أطر الانزياح"().

وما يثير الانتباه أنَّ القبَّاني – في توظيفه للجملة الشعريَّة [الاسمية/ الفعلية]- لم يلجأ إلى التعقيد، والغرابة، والجدة في الإسناد؛ لدرجة التشويه، أو الغموض؛ وإنما لجأ إلى السلاسة، والرشاقة، والانسيابيَّة الفائقة، والموازنة الفاعلة بين الأنساق؛ لخلق لغة انسيابيَّة ذات شفافية عالية، تمتزج فيها العاطفة بالرؤية؛ خاصَّة فيما يتعلق بتشكيل الجملة الشعريَّة الآسرة التي تُرَكِّز مدلولها النصّيّ، صوب حساسيَّة الرؤية وعمق الشعور؛ بلغة انسيابيَّة، تحقق فاعليَّة قصوى من الاستجابة الشعوريَّة، والتأثير في المتلقي إثر تلقيها؛ كما في قوله:

"أحَاوِلُ منْذَ الطفولةِ فتْحَ فَضَاءٍ مِنَ الياسَمينْ...
وأسَّسْتُ أوَّلَ فندقِ حبٍّ...بتاريخِ كُلِّ العَرَبْ...
ليستقبلَ العاشقينْ...
وألغيتُ كلَّ الحروبِ القديمةِ...
بين الرجالِ... وبين النساءْ..
وبين الحمامِ... ومَن يذبحون الحمامْ...
وبين الرخام..
ومَنْ يجرحُونَ بياضَ الرخامْ
ولكنَّهم أغلقوا فندقي..
وقالوا بأنَّ الهوى لا يليقُ بماضي العَرَبْ...
وطُهْرِ العَرَبْ... وإرثِ العَرَبْ..
فيا لَلعجبْ!!..." ().

بداية؛ نشير إلى ناحية مهمَّة، قبل الخوض في غمار هذا المقطع؛ وهي: أنَّ القبَّاني يملك خاصيته الأسلوبيَّة المميَّزة في تشكيل الجملة بنوعيها؛ فلا نلحظ أنَّ ثمَّة تفاضلاً مخصوصاً – لديه- في التوظيف الفني المبتكر للجملة الاسميَّة على الفعليَّة؛ أو الفعليَّة على الاسميَّة؛ لكن ما نؤكِّد عليه – حقيقةً- أنَّ الجملة الفعليَّة تبدو في قصائده أكثر إشراقاً، وطواعيَّة في التعبير عن مكنون الذات وتأملها في مساقاته كلها؛ لهذا؛ يستطيل بها كاستطالته في استثمار دلالة الصورة المتوترة التي تعبِّر عن تراكم الأحاسيس الثوريَّة أو العاطفيَّة المكثّفة – لديه- مقارنة بالجملة الاسمية التي لا تستوعب مثل هذه التحولات النفسيَّة المتوترة؛ بأبعاد دلاليَّة مفتوحة؛ وتتابع شعوريّ مُكَثّف يُعَبِّر من خلالها عن صيرورة الذات وتحولها المستمر من حالة إلى أخرى؛ ومن رؤية إلى رؤية أكثر امتداداً واتساعاً؛ وهو ما تفصحُ عنه رؤيتنا البديهيَّة لهذه القصيدة؛ وتحولاتها الشعريَّة المستمرة على مستوى دوالها ومدلولاتها وانشغالاتها الفكرية؛ ومحفزاتها الشعورية النفسية المكثفة؛ ولعلَّ أنضج فاعليَّة شعريَّة استثمرها القبَّاني في جمله الفعليَّة هذا التلاحم الدلاليّ بين الجمل الفعليَّة واستجاباتها لشفافية الرؤية في الصوغ الفني؛ والتتابع الشعوري المكثف الذي يدلّ على هيمنة الانفعالات، وهيجانها الدائم لديه الذي يتبدَّى في إفرازها الدائم لتحولات الجملة الفعليّة المترافق لحركيَّة الرؤية، وكثافة الانفعالات والمشاعر المصاحبة لها؛ من ألم، وتمرد، وثورة، وتقريع، وتنديد؛...إلخ؛ و"لعلَّ خصب الجماليَّات في الجملة الفعليَّة ينبثق من انقياد المسند للمسند إليه " ().
وبالنظر -إلى المؤشِّرات البنيويَّة التي تتحكم في المسارات الدلاليَّة للمقطع السابق- نلحظ غلبة الحركة الفعليَّة على الاسميَّة، تغليباً شبه مطلق؛ وهذه الغلبة لم تأتِ إلاَّ كمؤشِّر بنيويّ، أو كمرجع دلائليّ على حركة الذات، وتحولاتها، ورصد متغيِّراتها؛ تبعاً لصيرورة الحركة الفعليَّة في الكشف عن فاعليَّة الذات؛ وإحداثياتها الحركية الدائبة في خلق عالم رومانسيّ خصيب؛ مؤسَّس على زمن فضائي بهيج مطلق (زمن المحبة، والألفة، والؤئام)؛ في مقابل زمنٍ نقيض مأساوي حزين تعيشه أمتنا العربيَّة [زمن القتل، والتنازع، والانهيار]؛ وما بين الزمنين تتصارع الحركة الفعليَّة صوب البناء تارةً، والهدم تارة أخرى؛ بمنظورات متناقضة؛ ومن هنا، فإنَّ رصد هذه المتغيِّرات أو التحولات الزمنية التي تخلقها الحركة الفعليَّة يعني – بالدرجة الأولى- الكشف عن طبيعة العلاقة التي تربط الفعلية بالفاعليَّة في صيرورة تعروية كاشفة، ترتبط بحيوية الفعل، ومصاحباته الحدثية الزمكانيَّة في بناء علم رومانسي عبر صيرورة التحويل التي تمتلكه الحركة الفعليَّة، في إشعاعاتها الدلاليَّة التي تبثها الأفعال التحوليَّة التالية: [أُحاولُ، أسَّسْتُ- ألغيت]؛ وقد ازدادت حدَّة فاعليّة الحركة الفعليَّة، مدًّا، وانبثاقاً دلائليًّا مع خارطة الحدث الشعريّ، بمقابلتها بنقيضها عبر فاعليَّة المواجهة الفعليَّة بين صيرورة الفعل المُوَجَّه صوب البناء والحراك الإيجابي الفاعل بارتباطه بالذات في حراكها، وسعيها الدائب إلى البناء والتغيير، وصيرورة الفعل المُوَجَّه للآخر، وارتداده سلباً إلى الهدم والمحو، لكل ما هو مضيء، وإيجابي، وبنَّاء؛ وهذا الاصطراع الفعلي بالارتداد في اتجاهين معكوسين: [اتجاه الهدم] و[اتجاه البناء]؛ أعطى الحركة الفعليَّة حراكاً مستمراً انعكس على بنية المقطع مدًّا دلائليًّا مفتوحاً؛ وزحزحة متواصلة في حيوية الحدث، معبِّراً عن ذروة الإثارة الاختلافيَّة بين ما تبثه الحركة الفعليَّة من شحنات اختلافيَّة بين صيرورة الحركتين المتعاكستين؛ عبر فاعلية البناء: [أُحاوِلُ، أسستُ- ألغيتُ] من جهة؛ وفاعلية الهدم: [أغلقوا- يذبحون- يجرحون- لا يليق] من جهة ثانية؛ وهذه المواجهة عَمَّقَها بالملفوظ الغرائبي الدلائلي الاستنكاري الصريح: [فيا للعجب!!...] متبوعة بإشارتي تعجب ونقط لا متناهية؛ دليلاً على أنَّ فاعليَّة هذه الاستنكار التعجبي مفتوحة إلى ما لا نهاية؛ لتبدو فاعليته مفتوحة على كل الاحتمالات؛ والمساحات المفتوحة في الزمان، والرؤى، والمداليل؛ لتعميق حدَّة المفارقة بين هاتين الفاعليتين المتعاكستين؛ إزاء الواقع الاصطراعي المتناقض؛ لتدلّ على منظورات العرب المتناقضة المغلوطة إزاء الأشياء؛ فلا يملكون القدرة على التعبير، بين ما هو ظاهر، وجميل، وحسن؛ وما هو دنس، وقميءٌ، ومستهجن؛ وهكذا؛ بدت الحركة الفعليَّة في امتدادها النسقي مؤشِّراً بنيويًّا لتنامي الحركات، والدلالات، والأحاسيس المأزومة إزاء الواقع المتردي من جهة؛ واستمراراً للحركة التعجبية المفتوحة التي تُعَضِّد الحراك الفعلي بإثارة الأسى والاستنكار من هذا الواقع العجائبي المغلوط الذي تعيشه أمتنا إلى مالا نهاية، من جهة ثانية؛ وهذا يؤكِّد لنا الدور العلائقيّ البنيويّ للفعل في إثارة الجمل الفعليَّة التي تؤسِّس منظومتها الزمكانيَّة، على إثارة الحدث، وبث الرؤية بمنظوراتها المتغايرة التي تترك النصّ في حركة دائبة من الحراك الدلاليّ، الذي تبثه الذات في عالمها الاصطراعي مع الآخر؛ ليؤكِّد شكلاً من جسارتها على فعل المواجهة، رغم سطوة الآخر وهيمنته المطلقة؛ وما المواجهة- هنا- إلاَّ تحريضٌ للحركة الفعليَّة في خلق إحداثياتها الوجودية، في السعي لإثباتها؛ كعلامة بارزة في سبيل تحقيق وجودها على مسرح الإرادة والتغيير. وهذا دليلٌ على أنَّ الجملة الفعلية، بحركتها الفاعليَّة، وقدرتها على الانزياح "تتضمَّن في ذاتها قيمة أسلوبيَّة؛ ثمَّ تستمد قيماً جديدة متحوِّلة من النصّ، والموقف والبينة، ومن طبيعة اللغة التي تنتمي إليها، وفي إطار العناصر المكوِّنة لها والعلاقات التي تربط بينها"(). وهذا يؤكِّد لنا: "أنَّ مقاربة النصّ الشعريّ نقديًّا تعني إمكانيَّة اختراق التكثيف الواسم لفضاء النصّ؛ وكشف الزحزحة، والخلخلة في العلاقة بين الدوال ومدلولاتها، والتي لا تحققها إلاَّ القصيدة؛ إنَّ النقد عمليَّة دخول استثنائيّ في حفلة عري اللغة، لكشف الكامن، والمُخْتَبئ وراء حدود تحريكها، انطلاقاً من المعنى الحركي للحرف، وليس انتهاءً بالأبعاد الفراغية لفضاءِ النصّ، مروراً بحركية المفردات والدوال، وتداخل الأزمنة، وانكساراتها باتجاه تفكيك الفضاءات التي يحيل إليها الخطاب الفكري، أو الموضوع المعرفيّ للنصّ؛ وهذا ما يجعل القراءة النقديَّة التفجيريَّة هذه تختلف عن القراءة التقليديَّة التي تجدِّد قوانينها من خارج علاقات النصّ واللغة؛ محدّدة رؤيتها بالسائد المبهم الذي يتحرَّك ضمن أُطُر تمثّله الأيديولوجي"().

وقد يعمد القبَّاني إلى خلق مصفوفات متراكمة من الجمل الفعليّة، لتأجيج الشعور الاتقادي، وفاعلية الحراك الفعلي؛ مقابل الجمود والسكون الاسمي عبر المتواليات الاسمية؛ إيذاناً بسكون الحركة؛ والانكسار الشعوريّ إثر هذا المدّ الانفعالي الهجائي الضاغط الذي يتمثل بالحراك الفعلي؛ رغبة في الإفصاح عن هذا المخزون الشعوري المتقِّد الذي ينمُّ على رغبة عارمة في التغيير؛ يرافقها حركة قمع عكسية لهذا التغيير عبر السكون الاسمي؛ واليأس المطبق الذي تشكله هذه المتواليات الاسمية باستكانتها ورسوخها وقدرتها على تبديد هذا الهيجان إلى لحظة الانطفاء، والخمود، والتلاشي الانكساري اليائس، كما في قوله:

"أُحَاوِلُ أنْ أَتَصَوَّرَ ما هو شكلُ الوطَنْ؟
أُحاوِلُ أنْ أَسْتَعِيْدَ مَكَانِي في بَطْنِ أُمِّي
وأسبَحَ ضدَّ مِيَاهِ الزَمَنْ.
وأسرقَ تيناً، ولوزاً، وخَوْخاً...
وأركضَ مثلَ العصافيرِ خلفَ السُفُنْ
أحاوِلُ أنْ أتَخَيَّلَ جَنَّةَ عَدْنٍ
وكيفَ سأَقْضِي الإجازةَ بين نهورِ العقيقِ
وبينَ نُهُورِ اللَّبَنْ...
وحينَ أفقتُ اكْتَشَفْتُ هَشَاشَةَ حُلْمِي
فلا قَمَرٌ في سماءِ أَرِيْحَا..
ولا سَمَكٌ في مِياهِ الفراتْ...
ولا قهوةٌ في عَدَنْ"().

قبل أن نخوض في غمار المقبوس السابق نؤكِّد: أنَّ القبَّاني يحتاج إلى إمكانيَّة اللغة مما يجعله يندفع في جمله الشعريَّة، إلى التلذُّذ بتشكيلها قبل أنْ تطفو إلى السطح؛ فالجملة لا تقوده، وإنَّما يقودها بما تمتلكه من حساسيَّة شعوريَّة قلقة، وقدرة على إحداث منظورات شعريَّة مغايرة، وطرائق أسلوبيَّة تشكيليَّة مبتكرة، تستحدث الرؤية، وتتقمصها؛ وتنبني وفقها؛ بأسلوب شاعريّ مغاير عبر لغة آسرة، تجري بنائيًّا بأنساق متناغمة مموسقة تنبلج منها الروح ريَّانة خصبة، بما استحدثته من وقع جماليّ؛ يتلمسها القارئ بكشوفات مرئيَّة؛ تجعله يستحضر المتخيَّلات بأبعاد، وحيِّزات، وتجسيدات شعريَّة بصريَّة أقرب منها إلى مدركه الحسيّ الشعوريّ، منها إلى عالمه التخييلي المفتوح، الذي يثير لدى القارئ متعة الاكتشاف، ومتعة الاستئناس بلمفوظاته السهلة التي تعبِّر أشدَّ التعبير عن سهولة اللغة، وانسيابها، وتدفقها الساحر لديه؛ فلا نكاد نلمح في جمله الشعريَّة انكساراً، أو تهتكاً تشكيليًّا شاذاً ينمَّ على تسرع، أو عجالة في التشكيل، أو تحنيط لمقولاته الشعريَّة بالحدثية الآنيَّة؛ بل نلمح طاقة انبلاجيَّة في تشكيل الكلمات والجمل؛ بتآلف، وتضافر، وانسجام؛ لدرجة أنَّ القارئ يلحظ أنَّ الجملة – لديه- تقود الجملة في حركة انسيابية متضافرة إلى نهاية النسق الشعريّ؛ أو القفلة المقطعية التي تشكل قرار التشكيل المقطعي الأخير، وهذا إنْ نمَّ على شيء فإنَّما ينمّ على وعيٍّ بنائيّ تشكيلي عميق بمثيرات الجملة، ووقعها على القارئ، لتدخل أعماقه قبل أن تلامس أحاسيسه السطحيَّة؛ وبهذا، تحقق نصوصه المتعة، واللذة، والتقبل السلس لدى القارئ؛ وهذه الخصيصة هي التي ميّزت القبَّاني كشاعرٍ جماهيريّ لا يُعْلَى عليه في هذا المضمار.

وبدخولنا إلى الحرم النصّيّ نلحظ أنَّ القبَّاني ابتدأ منظومته الشعريَّة، بالحركة الفعليَّة عبر الفعل [أحاولُ]؛ وهذه المنظومة الفعليَّة هي منظومة حركيَّة لا تطمئن إلى اتجاه، حتى تَتَفَتَّق من بؤرتها اتجاهات أخرى؛ وهذه الحركة هي محاولته المستبطنة في الكشف عن رغباته المتتابعة في أن يبني عالمه الوجوديّ، بحريَّة مطلقة؛ دون أيِّ قيود، أو حواجز تمنعه؛ إذْ؛ إنَّ هذه العوالم أشبه ما تكون بعوالم الجنة بفضاءاتها الرومانسيَّة المفتوحة، وأفقها الجماليّ الممتد عبر العلائق الاسمية التالية: [مياه الزمن- تين، لوز- خوخ- العصافير- جنَّة عدن- نهور- العقيق- نهور اللبن]؛ وهنا، على الرغم من إحداثيات الأفعال الحركيَّة التي أثارت بخصوبتها البنية الدلائليَّة الجماليَّة [الروحانيَّة] الخصبة في المقطع؛ فإنَّ الشاعر شظَّى هذه الرؤية بقوله: [هشاشة حلمي]. وكأنَّ كل هذه الأفعال فقدت دورها، وسقطت في دائرة التلاشي الحلمي؛ إذْ الفعل في (الحلم) هو فعل مسلوب الفاعليَّة... فعل لا يملك دوره، ولا يملك منظوره الحركي الفاعل؛ وهنا؛ سيطرت الحركة الاسميَّة بمدلولاتها؛ لتكون هي الفاعل الحركي في تحفيز الرؤى، وإدارك أبعادها الواقعية؛ حيث استفاق الشاعر من حلمه، فلم يجد من هذه العوالم إلاَّ الأخيلة الجامحة التي هي في حقيقتها مجرد أوهام أو أضغاث أحلام ليس إلاَّ؛ فلا ثمَّة قمرٌ في سماء أريحا، ولا سمكٌ في مياه الفراتِ، ولا قهوةٌ في عدن؛ وهنا، يبدو المقطع شكلاً لغويًّا للحراك الفعليّ الذي يفرِّغه الشاعر من فاعليته؛ أو محتواه لفظة [هشاشة حلمي]؛ وبذلك يفتح الحركة الدلاليَّة للمتواليات الاسميَّة، لتقف على حقيقة الرؤية؛ ومنظوراتها الواقعيَّة؛ وهذه هي اللعبة الشعريَّة التي يعتمدها القبَّاني، لخلق الإثارة بالمزاوجة بين الحركة الفعليَّة، والاسميَّة؛ بوصفها مفتاحاً لفهم تجربة القبَّاني الشعريَّة التي تعتمد سلطويَّة الرؤية، وتخليقها الانسيابي، وجدلها الحركي عبر التناقض/ والتضاد بين الأنساق اللغويَّة؛ للتعبير عن هواجسه واصطراعاته الداخليَّة؛ وهنا؛ تبدو قصائده الشعريَّة، "وكأنَّها انهماك طريٌّ في ملامسة اللغة، اللغة الغامرة بشخصانيَّة متدفِّقة؛ يستغور- من خلالها- الشاعر جسد الكتابة، بوصفها نصًّا مُشَكَّلاً؛ نصًّا مفتوحاً... على تنويعات لغويَّة غارقة بالتأمل"().

وهذا يدلنا على أنَّ القبَّاني: يملك السِّسْتِم التحفيزيّ للغة، أو للحقيقة اللغويَّة؛ فالمزاوجة بين الجمل الفعلية، والاسميَّة ليست مبنية على علاقة سطحية، مردها تغليب إحداهما على الأخرى؛ ولكن ما يهمه -في المحصلة- إنتاج الشعريَّة بمنتج اللغة الفنيّ، والتأسيس الجماليّ، والبث الشعوريّ بكل محفِّزات لحظة الضخ الشعريّ للحدث أو للمشهد المنبث داخل التشكيل اللغويّ؛ لتأسيس بنية جماليَّة تحقق المتعة، والإثارة؛ بتمامها وكمالها؛ فالشعريَّة – بالنسبة للقبَّاني- ليست بنية لغويَّة انبثاقية لنظام لغوي شائع أو متداول؛ وإنْ كانَت مادتها من هذا الواقع المتداول؛ من خلال ملفوظاته المقتنصة من الواقع الحيّ؛ فإنَّ القبَّاني يتحكم في سياق قصائده، بتحويل هذا الواقع المباشر، إلى واقع شعري؛ ومن هذه اللغة المتداولة المباشرة، إلى بنية لغويّة شعريّة تفيض شعريَّة؛ فهي بقدر ما تبثه من البساطة، والسلاسة، والوضوح بقدر ما تمتلك من التجاوز، والمغامرة، والإدهاش ما تستثير القارئ، لا بشكلها الانزياحي الحاد؛ وإنما بشكلها اللغويّ البسيط الذي يخلق المتعة اللغويَّة، بالانزياحات المأنوسة في عالمنا الحسيّ المدرك؛ لا الصادم الذي يشوه العلاقة بينه وبين متلقيه؛ وهو – بهذا المنظور- يقترب من منظور الناقد إيجلتون؛ إذْ يقول: "الشعريَّة ليست تخييلاً أو خيالاً؛ إنَّما هي في كيفيَّة استخدام اللغة، على نحو ما نادى –بذلك- الشكلانيون من مناهضتهم للكتابة الواقعية والتاريخيَّة؛ وهم بذلك؛ وبروح علمية تطبيقيَّة حوَّلوا الانتباه إلى الواقع الماديّ للنصّ الأدبي ذاته، على اعتبار أنَّ النقد الأدبيّ عليه أن يفصل الفن عن الغيبي، ويهتم بكيفية اشتغال النصوص الأدبيَّة؛ ولم يكن الأدب يشبه الدين، أو علم النفس؛ أو علم الاجتماع؛ وإنَّما هو نظام خاصّ للغة؛ له قوانينه، وبناه، وأدواته الخاصَّة، تلك التي كانت تُدْرَس لذاتها أكثر من أن تختصر إلى شيء آخر، لم يكن العمل الأدبيّ مركبة للأفكار، ولا خواطر للحقيقة الاجتماعية؛ ولا تجسيد لبعض الحقائق السامية، لقد كان واقعة مادية يمكن تحليل اشتغالها... وسيكون من الخطأ النظر إليه للتعبير عن فكر المؤلف"().

وهذا دليل وعي القبَّاني بأنَّ اللغة هي بنية الحساسية الإبداعيَّة؛ ومكمن الخلق الإبداعيّ؛ ولذا، فإنَّ اللغة- لديه - ليست مطواعية فحسب؛ وإنَّما هي مسكونة شعراً، وإن تدنت مستوياتها أحياناً، فهي للإبلاغ والتأثير على نحو ما نلحظه في سياقات قصائده السياسيَّة غالباً.

6- بنائيَّة المقطع:

إنَّ إدراك الشاعر المعاصر لبنية القصيدة الحداثيَّة؛ من حيث التجديد، والبناء دفعه إلى التغيير في نمط القصيدة الموحَّدة التي تنبني على مقطع شعريّ واحد، يشكل لحمته من بدايتها إلى نهايتها؛ بالانتقال إلى بناء القصيدة المقطعيَّة، التي تقوم على مقاطع عدَّة تنبني وفقها القصيدة؛ مُقَسَّمة رؤيتها، على جرعات؛ متمثِّلة في كل مقطع على حدة؛ وبهذا: "أدرك الشاعر الحديث أنَّ البناء التشكيلي للقصيدة؛ فاعل جوهريّ في إخصاب النصّ الشعريّ، من خلال التمركز التبئيري للجمل الشعريَّة، بوصفها بنًى دالةً في تراكمها الكميّ، أو تكرار بنيتها، أو التلاشي التدريجي لها؛ وهي تستوعب البعد الأيقوني للتجربة، في تشكيل الواقع؛ واستقراء المعنى، لذا، اندفع في خضمّ التجريب، ساعياً إلى توليد تقنيات جديدة تخضع تشكيل النصّ، لحركة النفس في تحولاتها المتجدّدة، وقادرة على تأصيل هذا الوعي الخلاق، على أنَّه حركة داخلية حرّة تتوجَّس شوقاً لخلق أنماطه الملائمة... ومن هنا، ظلت شهوة التجريب مستمرةً ومتوقدة دون أن يكون حافزها نسق مقومات البناء التقليدي"().

وقد اختلفت القصيدة المقطعية في أسلوبها وبنائها؛ تبعاً للحافز الشعوريّ الذي تثيره، وتعبِّر عنه؛ وهذا ما أشارت إليه خلود ترمانيني بقولها: "تختلف القصيدة المقطعيَّة التي تقوم على أسس غنائيَّة في أسلوبها عن القصيدة غير المقطعيَّة التي تقوم على أسس غنائيَّة أيضاً؛ ذلك أنَّ غياب المقطعيَّة عن القصيدة الغنائيَّة يجعلها ذات نفس شعريّ مسترسل يميل إلى رصد موقف انفعاليّ، يفتقر إلى التفريغ وتعدّد الاتجاهات، مكتفيًّا بتصوير معاناة الذات، بأسلوب بسيط. في حين أنَّ الغنائيَّة في القصيدة المقطعيَّة تتجاوز الانفعال الذاتي إلى الانفعال الموضوعيّ – إنْ صحَّ التعبير- إذْ يتم تشكيل القصيدة في ضوء الإمكانات الفنية الجديدة للشاعر. ورغم تشابه القصيدتين في اعتمادهما على الذات الشاعرة والموضوع الواحد غير المتشعِّب فإنَّ القصيدة المقطعيَّة الغنائيَّة توسِّع من الموضوع الواحد من خلال تعداد الرؤى، وإحداث تنويعات دلاليَّة على ذلك الموضوع الواحد"().

ومن هنا؛ فإنَّ البناء المقطعي يسهم في تنظيم الرؤى، وتكثيفها؛ وهي تستجيب للتقنيات الأسلوبيَّة والفنية على اختلافها؛ وعلى هذا: تَتَعَدَّد أشكال بناء القصيدة في الشعر العربي الحديث، بسبب تطور تقنيات الكتابة الشعريَّة كاستخدام الرموز الأسطوريَّة، والأجواء الملحميَّة؛ والأقنعة التراثيَّة؛ واستعارة تقنيات الفنون الأخرى من قصة، مسرح ،ودراما... إلخ؛ وتأسيساً على ذلك؛ بدا البناء الشعريّ القائم على أساس مقطعي، نتيجة طبيعية لتلك التطورات. وعلى الرغم من غلبة العنصر الدرامي على بناء القصيدة المقطعيَّة فإنَّ هذا لا يلغي ظهور العنصر الغنائي في القصيدة المقطعية؛ بحيث ينحو التشكيل القائم على عناصر غنائيَّة منحى السرد، بالإضافة إلى وجود تطوُّر في تشكيلات القصيدة، يختلف من مكونات الروح الغنائيَّة التي ظهرت في الشعر التقليدي- العمودي"().

والشاعر الحداثي لا يعتمد التشكيل المقطعي جزافاً؛ بقصد الإثارة بصريًّا لتأمُّل المقطع؛ بانفساح مستوى البياض، وانحسار مستوى السواد؛ وإنما يعتمده للكشف عمَّا تختزنه هذه المقاطع من رؤى جزئيَّة، تتكامل فيما بينها في تشكيل الرؤية النصّيّة؛ إذْ إنَّ "البناء المقطعيّ هو البنية المهيمنة في احتواء هذه الأنماط، وتقطيع التجربة الشعوريَّة على شكل مقاطع؛ لا لتشتيتها؛ بل لتكثيف تشظياتها في احتواء بؤر الدلاليَّة، والسير بها في اتجاه الذورة الدراميَّة"().
والحداثة ليست شكلاً، بقدر ما هي رؤية، ولا يعني تقسيم القصيدة إلى مقاطع اكتساب حداثتها؛ وإنَّما تنظيم الرؤى، والمشاعر إلى دفقات شعوريَّة، ترتسم وفقها تخيلات القصيدة؛ وتكتسب نظامها البنيويّ التأسيسي الخاص بها؛ والذي يكسب القصيدة حداثتها؛ ليس شكلها المقطعي المؤطَّرة فيه؛ وإنما طريقة صوغ اللغة، وأسلوب تشكيلها؛ بشكل يستثير القارئ؛ ويدفعه إلى تقبلها "فالاستخدام الحسن للغة يكمن في إدخال الكلمات في صيغ إيحائيَّة؛ ليكسب التركيب فاعليَّة؛ على الأسلوب المتبع الذي يعني التحوُّل الكيفي، متخطيًّا حاجز الطبع في تلقيه، وتردده إلى الصنعة الفنيَّة"().
والحداثة - من منظور الشعراء أنفسهم- لا تولد من الشكل، بقدر ما تخترقه في رؤياها، وتتجاوز واقعها هدفاً؛ لإعادة البناء على مستوى الشكل والمضمون؛ فهي بناء منظم شكلاً ومضموناً؛ ترفض لتخلق أو تغاير؛ وليس للتقسيم المقطعيّ أيّ دور رئيس في خلق شعريَّتها؛ سوى أنَّه يلعب دور المنظم في تنظيم رؤاها؛ بحريَّة رؤيويَّة، وقدرة على بث مكنونها، بمدها الشعوريّ الإنساني؛ يقول أُدونيس: "مَنْ يُرِدْ مستقبله حرًّا وإنسانيًّا فلابُدَّ له من أن يحضنه، ويهيئ له بإنسانيَّة وحريَّة. في هذا الأفق تولد القصيدة العربية الجديدة. تعانق الحداثة وتتجاوزها. ترفض الواقع لحظة تقبله، وتحاوره، وتعيشه؛ تصد عن الأقاصي في نفس الشاعر؛ وتحمل الناس معها في رحيلها وتطلعها؛ إذَّاك تبطل أن تكون مجرد مزمار للشعور المفجوع، أو مجرَّد مرآة للحساسيَّة، تصبح تعبيراً عن ثقل التاريخ عن كثافته، وعبئه، في مناخ من الرفض والحنين، من الرعب والإضاءة"().

فالقبَّاني اعتمد البناء المقطعي الترقيمي في مقاطع قصيدته (متى يعلنون وفاة العرب)؛ إذْ قسمها إلى سبعة عشر مقطعاً؛ وهذا الترقيم يشكل في ذهنية الشاعر فاصلاً دلاليًّا؛ يوحي بالترابط التدريجي في بلورة الفضاء الدرامي، من أوَّل نقطة سواد إلى آخر نقطة سواد؛ جاعلة من العمق مداداً روحيًّا لهذه الترابطيَّة؛ ينفتح بعدها البياض على مسكوتٍ عنه، لم يفصح الشاعر عن ماهيته"().

وإنَّ من يَتَعمَّق -في قصيدة القبَّاني- التي نحن بصددها؛ يلحظ تضافر رؤاها، وتلاحمها؛ وهذا التلاحم لا يعني تسلسلها التدريجيّ، في بث رؤية محدَّدة؛ إذْ إنَّ كل مقطع شعريّ ينطوي على رؤية جزئيَّة؛ وهذه الرؤية تسهم في تشكيل الرؤية النصّيّة العامة؛ لكنَّها لا تُشَكِّل مرتكزاً لها؛ بمعنى: أنَّ الرؤية المقطعيَّة لا تؤثِّر على سيرورة القصيدة، ودلالاتها؛ باقتطاع مقطع منها؛ وهذا، يؤكّد انفصال المقطع برؤية محدَّدة واستقلاله بها؛ لكن هذا لا يعني – إطلاقاً- تناقضاً، أو تغايراً في رؤية المقطع، وانحداره عن مستوى الرؤية العامة أو الكليَّة التي تطرحها القصيدة؛ وللتدليل على ذلك؛ نأخذ المقاطع الثلاثة التالية:

"أحاوِلُ بالشِّعْرِ...أنْ أُمْسِكَ المستحيلْ...
وأزْرَعَ نَخْلاً... ولكنَّهمْ في بِلادِي
يَقُصُّون شَعْرَ النخيلْ...
أحاولُ أنْ أجْعَلَ الخيلَ أعْلَى صَهيِلاً
ولكنَّ أهلَ المدينةِ...
يَحْتَقِرونَ الصهيلْ!!
11
أحَاوِلُ - سيِّدتي - أنْ أحبّكِ...
خارِجَ كُلِّ الطقوسْ...
وخارِجَ كُلِّ النُصُوصْ...
وخارِجَ كُلِّ الشرائعِ والأنْظِمَهْ...
أحاوِلُ سيِّدتي أنْ أحِبَّكِ...
في أيِّ مَنْفَى ذَهَبْتُ إليه...
لأشْعرَ، حينَ أضُمَّكِ يَوْماً لصدري
بأنّي أَضمُّ ترابَ الوَطَنْ...
12
أحَاوِلُ، مِنْذُ كُنْتُ طِفْلاً،
قراءةَ أيِّ كتابٍ
تحدَّثَ عَنْ أنْبِياءِ العربْ...
وعَنْ حُكَمَاءِ العربْ...
وعَنْ شُعَراءِ العربْ...
فَلَمْ أرَ إلاَّ قصائدَ تلحَسُ رِجْلَ الخليفةِ
من أجلِ حفنةِ رُزٍ...
وخمسينَ دِرْهَمْ...
فيا للعَجَبْ!!
ولَمْ أرَ إلاَّ قبائِلَ...
ليْسَتْ تُفَرِّقُ ما بَيْنَ لَحْمِ النِساءِ...
وبَيْنَ الرُطَبْ...
فيا للعَجَبْ!!
ولَمْ أرَ إلاَّ جرائِدَ تَخْلَعُ أثْوابَهَا الداخليَّهْ...
لأيِّ رئيسٍ مِنَ الغيبِ يأتي...
وأيِّ عقيدٍ على جُثَّةِ الشعبِ يَمْشي...
وأيِّ مُرَابٍ يُكدِّسُ في راحتيهِ الذَهَبْ...
فيا للعَجَبْ!!" ().

قبل الخوض في غمار المقطع الشعريّ نؤكِّد: أنَّ القبَّاني في تشكيله المقطعي يحاول أن يظهر ترسيماً مُنَتظَّماً لمقاطعه الشعريَّة؛ إذْ، إنَّه، غالباً ما يُرَكِّز على عبارة استهلاليَّة محدَّدة، يجعلها مرتكزاً فنيًّا علائقيًّا رابطاً؛ يشدُّ بها مقاطع القصيدة كلها، من أوَّلها لآخرها؛ لتبدو مُوَحّدة دلاليًّا، ومنظمة بنيويًّا في نسقها الدلاليّ الحكم؛ وهذا النزوع ينمُّ على خصوصيَّة تنظيميَّة تشكيليَّة مضبوطة، بوعي وإدراك فني؛ يميط اللثام -من خلالها- عن بنى مقطعيَّة متلاحمة؛ تبدو، للقارئ، من خلال المرتكز الاستهلاليّ ذاته؛ أو من خلال مرتكز القفلة النصّيّة المُوَحَّدة؛ التي تتواتر في أغلب المقاطع؛ أو جلَّها؛ وهذا دليلٌ على أنَّ القبَّاني مُوْلَعٌ في كشوفاته الإبداعيَّة النصّيّة على التناغم، والتنظيم في الكشف عن حركة نصوصه الداخليَّة؛ ومساراتها الدلاليَّة بعلائق تشكيليَّة متواترة؛ ركيزتها التكرار الفني الموحيّ؛ وبؤرة تناميها الجماليّ التنظيم العلائقي، والمغامرة الواعية القادرة على استقطار الرؤية؛ وتعزيزها بالتدفق، والاندفاع، والتركيز الشعوريّ على الصياغة المنظَّمة التي تحكم سيرورة المقاطع كلها من أولها لآخرها.
ونشير أيضاً على أنَّ القبَّاني – في هذا النصّ- تحديداً- لم يَنْشَغل بالتنظيم المقطعي الفنّيّ النسقي، بقدر انشغاله بالرؤية، والخصوصيَّة الأسلوبيَّة في التعبير عنها، فهو نَظَّم الرؤى المقطعيَّة؛ وتركها مفتوحة للاحتمالات، والتساؤلات، والاستنكارات، والاستفهامات التعجبية التي ما زادتها إلاَّ تواصلاً وانفتاحاً نصيًّا على الآخر، ليكون الآخر مشاركاً في كشف تحولاتها؛ فاعلاً في إثارتها؛ واستكمال ما تركته من رؤى، واحتمالات مفتوحة، ليسبح في فضاءها التأمّليّ، دون أن يجد قراراً نهائيًّا لها؛ أو إجابات محدَّدة؛ تُرَمم ما فتحته من أغوار دلاليَّة وتصّورات جدليَّة مفتوحة على كل الاحتمالات والمهيمنات الرؤيويَّة التي تركتها في مسارها النصّيّ.

وبدخولنا إلى الحرم النصّيّ نلحظ أنَّ القبَّاني – في كلِّ مقطع من مقاطع القصيدة التي بلغت سبعة عشر مقطعاً- يبدأه بمحاولة من محاولاته الفعليَّة عبر استجرار الفعل [أحاولُ]، إلى تصوير رؤاه بمنطلقات تعرويَّة؛ كاشفة يستغور -من خلالها- طاقات صوتية حادة؛ تشي بالتقريع، والتنديد، والرجرجة الصوتيَّة حيناً؛ وتشي بمحاولات غارقة في البثّ الشعوريّ الانفعالي الحاد؛ حيناً آخر؛ وكأنَّها تستجرُّ أفعالها، ورغباتها المتدفقة حيناً آخر؛ وهذه المحاولات ما هي - في حقيقة الأمر- إلاَّ رغباتٍ مكبوتة؛ تشي برغبة الشاعر العارمة، في التحرر من أوهامه، وأحلامه، وقيوده التي ما قادته إلاَّ إلى منحدرات اليأس، والإحباط، والتأزم الداخليّ؛ إثر وطأة الأسى، وعمق الجراح، وشدَّة مرتكسات الواقع؛ ومظاهر اتضاعه، وهشاشته؛ ففي كلّ محاولة للبناء تستجرُّه محاولاتٍ أخرى مرتدة إلى الهدم، من خلال مضادَّات الواقع، ومنطلقاته الوجوديَّة؛ المرتكسة التي تتمظهر بكل أشكال البنى الدالَّة على العقم، والتحجر، والإحساس بالمرارة، والأسى، واللاَّجدوى؛ وعلى هذا تبدو القصيدة - في مؤشِّرها البنيويّ الدلائليّ- مبنية على مرتكز دلائلي محوريّ، يُمَثِّله [الوطن] بمتعلقاته الشعوريَّة الدالة على [النفي والاغتراب]؛ وهنا؛ نلحظ رغبة الشاعر العارمة في تصوير الوطن؛ بصور مشرقة نضرة؛ تنمُّ على إحساسه الرهيف إزاءه، لكن سرعان ما تصطدم الذات أمام هاجسها النفسي الاصطراعي المؤلم؛ فترتدُّ ارتداداً معكوساً خائباً (من الذات إلى الذات) إلى عمقها، وتحجرها؛ ويأسها المطبق؛ ردًّا على تأزُّمات الواقع، ومُسَبِّباته المخزية؛ من جهل، وتخلف، وظلم، واضطهاد؛ وهنا؛ نلحظ أنَّ القصيدة تحث مؤشِّرها الدلاليّ على التوغل في الكشف عن الباطن؛ من خلال تراكم دوالها، ومدلولاتها، للوصول إلى جوهر الرؤية الشعرية المتمثلة بالاغتراب، والحنين إلى الوطن؛ وهذا ما نستشرفه دلائليًّا عبر حركة المقاطع الثلاثة:

ففي المقطع الأول: تبدو محاولة الشاعر ظاهرة إلى نفي الفعل الوجوديّ الحقيقي؛ باللجوء إلى فاعليَّة الشعر ذاته؛ ليقوم بالدور الفعلي الذي عجز عنه الشاعر نفسه؛ بمقوِّمه الفعلي على تحقيق المواجهة؛ إذْ يحاول الشاعر أن يبني بالشعر صورة نضرة مشرقة للوطن، صورة طالما رسمها الشاعر في خياله، وعلى خارطة أحلامه، صورة تكلؤُها النضارة، والشفافية والإيحاء؛ لتمنحه الخصوبة، والتجدّد والاخضرار؛ لكن سرعان ما لاحظ أنَّ ينابيع شعره قد جَفَّتْ، وما عاد لها وقعها الساحر، وبصمتها المؤثرة؛ لقد غدت قصائده خرساء مسلوبة الإرادة، كصوته المقموع؛ إذْ إنَّ بلاده قد اعتادت على الفساد والدم، فلا يُعيبها التخيل، ولا يرفع هامتها صهيل البطولة والأمجاد؛ ولذا؛ فإنَّ هذا المقطع جاء مستجرًّا بدلالته المقطع الثاني؛ بكل مؤشراته الدلاليَّة، وكشفه عن المزيد من الاجتراحات الدلاليَّة، والشعوريَّة العميقة التي تتجاوز كل ما هو سطحي، إلى ما هو باطني عميق؛ ولذلك؛ جاء المقطع الثاني ليكشف عن نبرة غزليَّة حادة يختلط فيها الذاتي بالموضوعي؛ والخاص بالعام؛ والأنثى بالوطن؛ بلغة انسيابيَّة آسرة؛ يستجمع الشاعر قواه التعبيريَّة بمطارحة تأمليَّة يمزج فيها الأنثى بالوطن؛ بمستحدث فعلي يتوسمه عبر فاعليَّة الحبّ؛ فإذا عجز الشعر عن القيام بدور الفعل في المقطع السابق؛ فإنَّه يتلمس هذه الدور عبر مُحَفِّز الحب؛ فهو يريد بالحبّ أن يُغَيِّر الطقوس؛ ويخرق القوانين؛ أن يُشَكِّل أنثاه؛ تبعاً لصيرورته التأمليَّة في تشكيل الوطن؛ فما ارتداد الشاعر إلى الأنثى إلاَّ ارتداده إلى الوطن؛ وما الأنثى والوطن إلاَّ مسمى لشيء واحد؛ لا يمكن اجتزاء أحدهما عن الآخر؛ وهذا الاتحاد بينهما عمَّق ما قلناه سابقاً من التصاق الشاعر بالوطن، تأكيداً على محاولة الشاعر استجرار الأفعال، استجراراً داعماً عسى ولعلَّه يُحَطِّم سكونه اليائس؛ ويبني مجده الانبعاثي من رحم الاغتراب؛ محطماً منفاه الوجوديّ، معلناً بقوة الفعل والإرادة تمسكه بالوطن وترابه؛ إلى آخر لحظة من لحظات الحياة؛ وهذا ما لم يعبِّر عنه بصريح العبارة؛ وإنَّما عَبَّر عن برؤى مسكوت عنها مستبطنة في أعماقه، في خلجات نفسه الداخليَّة؛ وهذا ما استجره المقطع الثالث؛ في نزقه وحدَّته التعرويَّة الصريحة؛ لكن بصور ترشح حدَّة انفعاليَّة، تعتمد المكاشفة، والتعرية إيقاعاً حركيًّا للفعل؛ كاشفاً من خلاله عن اتضاع الواقع؛ وهشاشته المخزية منذ القدم إلى الآن؛ فكما أنَّ الحكماء والشعراء لم يُعَرّوا الأشياء على حقيقتها؛ ويكشفوا زيفها قديماً؛ فإنَّ الواقع الجديد لم يتغير كذلك، فمازالت إفرازات الواقع الفاسدة تجترّ هذه الحالة المكتسبة منذ القدم؛ مؤكِّداً، بذلك، أنَّ الفساد المعاصر هو انعكاس للاتضاع، والفساد في الماضي؛ وهذه الرؤية عبَّر عنها في استبصار فنيّ تعوري كاشف عمَّا هو مسكوت عنه في أعماقه؛ بنزوعٍ متوالٍ صوب التتابع اللزومي للفظة [فيا للعجب]؛ إيذاناً بالاحتجاج والتقريع؛ بلغة استفهاميَّة تعجبيَّة مفتوحة إلى مالا نهاية؛ وهذا دليل على أنَّ المقاطع كلها، وإن بدت متنوِّعة الرؤى؛ مُتَشَعِّبة المداليل؛ فإنَّها ترتبط فيما بينها بخيط دلائلي خفي هو خيط التعرية، والكشف اللاّذع عن مرتكسات الواقع، برؤى تعروية جريئة تحاول رصد الحقيقة باستشرافات تأمليَّة عميقة؛ تستبطن الحدث، وتبث الرؤية المضادَّة أو المناقضة؛ بانبثاق شعوري وتلاحم مقطعي؛ يؤكِّد تضافر الرؤى، وتفاعلها ضمن الإطار النصّيّ؛ وهذا ما أسبغ على القصيدة طابعاً من الصخب الصوتيّ؛ والقوة الانفعاليَّة؛ والحدة، والجرأة، في طرح الرؤى التعرويَّة بعين كاشفة؛ تستمدُّ بُعْدَها الجماليّ، ومؤشرها البنيوي من مكاشفاتها الشعريَّة التعروية الصريحة؛ وعمقها في إصابة مقصودها الدلاليّ.

ومن خلال هذه الدراسة البنيويَّة الدلائليَّة لحركة المقاطع- نلحظ أنَّ القبَّاني يمتلك رؤيته النصّيَّة الجسورة التي تخرق العادة في قوّة اكتشافها؛ وسعيها إلى تحفيز الرؤية؛ باستجرار الحركة الفعليَّة، والتماهي مع التحولات النفسيَّة التي تستتبعها من حدث، وتجليات، وكشوفات للعلائق اللغويَّة؛ إذْ تحفل هذه القصيدة بقوة اكتشافها، واستعلائها على التقريع، والانفعال السطحي، إلى قوة الكشف عن مضموناتها بالترسيم الشعوريّ، واستجرار الماضي، لا لتمجيده، وتقديسه على عادة الشعراء الآخرين؛ وإنَّما لتعريته؛ وكشف مفاسده بوضوح، مبعثاً لارتكاس الحاضر، وهشاشته، واتضاعه؛ لتكون هذه القصيدة واحدة من أهم قصائده السياسيَّة الجريئة التي يدخل فيها القبَّاني عالم المتلقي من أوسع أبوابه.

7- بنائيَّة التشكيل البصريّ:

إنَّ الكشف عن فاعليَّة التشكيل البصريّ لهو كشفٌ في صلب الدراسات البنيويَّة عن الخاصيَّات اللاّ لسانية في الكشف عن مكنون النصّ، وأبعاده الدلاليَّة؛ إذْ "إنَّ توافر العلامات المكانيَّة الطباعيَّة في النصّ؛ أصبح مؤشِّراً على النزوع الإبداعيّ الحداثيّ للشاعر العربي الحديث، ورُبَّما على ثقافته الحداثيَّة وتنوّع منطلقاته، وتجريبيته؛ وذلك لأنَّ هذا الشاعر قد دأبَ على تطوير أدواته باستمرار؛ وسعى إلى تجديد رؤياه الإبداعيَّة، بمتابعة حركة الحداثة، إبداعاً وتنظيراً، الأمر الذي دفعه إلى تجريب أشكال بصريَّة متعدِّدة يلعب فيها بياض الصفحة، وحجم الحروف، وتوزيعها دوراً بارزاً في المعنى... إنَّ هذا التوظيف للفضاء المكاني للورقة قد شكَّل منعطفاً حادَّاً في طبيعة البنية الأدائيَّة للنصّ الحديث؛ وذلك لأنَّه حين وجد محققات أخرى للشعريَّة عن طريق استغلال الفضاء الطباعيّ، والانفتاح على استخدام علامات الترقيم؛ لتحقيق إيحاءات ودلالاتٍ؛ لإثراء تجربته، أصبح –بذلك- أكثر بعداً عن السمة الإلقائيَّة، أو أكثر قرباً من السمة الكتابيَّة الحداثيَّة له؛ ولكنه من جهة أخرى، أسهم، عبر الكثير، من حالات التشكيل المجاني له؛ في خلق البلبلة، والقطيعة، وفقدان التواصل بين النصّ ومتلقيه"().

ومن هنا؛ نلحظ أنَّ التشكيل البصريّ عنصرٌ بنيويٌّ – في النصّ- لا يمكن إغفاله في عملية الكشف الشعريّ؛ لأنَّ الشاعر يدلُّ - من خلاله - على مُسْتَبْطَنَاتٍ نفسية، وشعوريَّة مستترة (مسكوت عنها) في طبقات النصّ، رغبة منه في تشفير قصائده، وترك مجالاتها مفتوحة أمام القارئ، للأخذ، والرد، والمجاذبة التأمليَّة، لفكِّ شفراتها البنائيَّة، التي تشكِّل متنفساً لا لسانيًّا للنصّ؛ وإنما متنفساً شعوريًّا، يكشف عن بواطن عميقة، قد تشكل هاجساً، أو تأزماً، أو منحًى شعوريًّا مُتَعَرِّجاً، لا تُعَبِّر عنه إلاَّ الأشكال البصريَّة، في مدّها البصريّ؛ وعلى هذا؛ "فإنَّ المستوى الكتابيّ لا يمكن اعتباره ثانويًّا؛ لأنَّه يحمل دلالات يمكن سبر أغوارها، حتى لو كان المبدع نفسه، لا يتحكم في إنتاج قصدي، للمستوى الكتابي في أثناء عمليَّة الإبداع الشعريّ، وبذلك؛ يقع على عاتق المتلقي، جزء كبير من مهمة الكشف عن كيفيَّة توظيف التشكيلات الكتابيَّة، واستغلال الإمكانات التعبيريَّة للغة المكتوبة؛ وهذا لأنَّ دراسة المستوى الكتابيّ لا تُمَثِّل تحليل اللغة الشعريَّة في مظهرها البصريّ فحسب؛ وإنَّما ترى في ذلك التشكيل البصريّ للغة مستوى تعبيريًّا، ينبغي التوصل إليه، لمعرفة كنه الإبداع، وجماليّته في النصّ الشعريّ الحديث. وبذلك؛ فإنَّ المستوى الكتابيّ يحكمه شكل يجد مرجعه في ذائقة المتلقي وحساسيته"().
وهذا دليلٌ على أنَّ التشكيل البصريّ عنصرٌ بنائيٌّ تأسيسيٌّ مهم في الكشف عن خصوصية العمل الشعريّ؛ لأنَّه جزء لا يتجزَّأ من بنيته النصّيّة؛ "فالشكل الكتابيّ بوصفه بنيةً تشكيليَّة هو الذي يُحَفِّز الخاصيَّة التجنيسيَّة للنصّ الشعريّ، لتجسيد مقصديَّة الشاعر؛ إذْ طالما ارتبط التشكيل الشعريّ عند العرب بهاجس القصد أو النيَّة"().

ولعلَّ إدراك القبَّاني لفاعليَّة التشكيلات البصريَّة ودورها في عمليَّة البث الشعريّ دفعه إلى الإكثار منها في متون قصائده؛ لتشي بمستبطناتٍ شعوريَّة مستترة في أعماقه؛ إذْ إنَّ اللغة وحدها لم تعد تسعفه بامتداداتها التشكيليَّة في التعبير عنها؛ فأراد أن يبثَّها بإيقاعات بصريَّة ممثلة بعلامات الترقيم، والتناوب البصريّ بين إيقاعي [السواد/ والبياض]؛ وذلك للكشف عمَّا يمور في أعماقه، من هواجس، وتداعيات شعوريَّة عميقة لا تكشف عنها إلاَّ الأنماط البنائيَّة الممثلة بعلامات الترقيم، ومساحة [السواد/ والبياض] ولهذا حرصنا على دراستهما في سياقهما المقطعي، وفق منظورات بنائيَّة؛ نابعة من فضائهما الدلاليّ ومدهما البصريّ، وفق المنظورات التالية:

أ- بنائيَّة التشكيل البصري لمساحة [السواد/ والبياض]:
إنَّ بنائيَّة التشكيل البصريّ لمساحة [السواد/ والبياض] في القصائد الحداثيَّة دليل وعي الشاعر الحداثي بأهميتها البنائيَّة؛ في تشكيل بنية القصيدة؛ وتحميلها بمحفزات دلاليَّة، تختزن طاقات هائلة من الإيحاءات التي تعبِّر عن أحاسيس داخلية عميقة؛ إذْ "إنَّ استخدام الشطر الشعريّ بدلاً من نظام الشطرين، أو طريقة رصِّ الكلمات، والجمل الشعريَّة القائمة على انفراجات واسعة بين السطور؛ كل هذا يترك مساحات بيضاء، توحي بالصمت والهدوء، ومن هنا؛ فإنَّ البياض الذي يعني صمت الشاعر، يقابل السكتة في الموسيقا... وبذلك يأخذ البياض/ الصمت -في النصّ الشعريّ- معناه من السياق الذي يرد فيه؛ والموقف الوجداني، الذي يعيشه الشاعر، فيصبح الصمت/ البياض أسلوباً تعبيريًّا لا يَقُلُّ أهميَّة عن الكلام الشعريّ().

وقد اعتمد القبَّاني هذه التشكيلات البصريَّة بوصفها محفِّزات دلاليَّة، تسهم في الكشف عن فضاء النصّ ومحور ثقله الدلاليّ؛ نظراً إلى الدور الفني المنوط بها؛ إذْ إنَّ الشاعر يبثها على شكل شفرات نصيَّة بنائيَّة تستدعي الكشف، والاستقصاء، والتأمل؛ فهي ليست زوائد نصيَّة تزيينيَّة لا قيمة لها؛ وإنَّما هي مؤشِّرات بنيويَّة مهمة، جدّ ضروريَّة في تقييم النصّ، وكشف منعرجاته الدلاليَّة؛ و"كثيراً ما يعمد الشاعر إلى اجتراح مسافة من البياض بين الأسطر الشعريَّة، أو المقاطع تنطوي على نزعة تأويليَّة تربط ما قبلها بما بعدها بقراءة اجتهاديَّة؛ تجعل من الفراغ هاجس تحفيزي، لإثارة ملكة التخيُّل لدى القارئ؛ وتوثيق الصلات الدلاليَّة بين الأجزاء النصيَّة، بما يضمن لها التناسق المرجعي في جدليَّة التماثل، والتباين، وتأسيس المحاور، والخلفيات المتناسخة، في تجليَّات الطاقة البنائيَّة للفراغ التي تحول المحور إلى هامش يغدو خلفية لمحور جديد"().

ومن هنا؛ فإنَّ اعتماد القبَّاني -في القصيدة المدروسة- إيقاع البياض والسواد محوراً بنائيًّا تأسيسيًّا مؤشراً على فاعلية البنية الشعريَّة، وتحولاتها النصيَّة؛ لدليل على الطاقة الدلاليَّة التي تفجرها هذه التقنية بين الأنساق اللغويَّة، لتشي بدلالات وإيحاءات متتابعة لا حدَّ لها؛ كما في قوله:

"أنا مُنْذُ خَمْسينَ عاماً... أُراقبُ حَالَ العربْ:
وهُمْ يَرْعدونَ... ولا يُمْطِرونْ
وهُمْ يدخلونَ الحروبَ... ولا يخرجُونْ
وهُمْ يَعْلِكونَ جلودَ البلاغةِ عَلْكَاً.. ولا يَهْضِمونْ...
وهُمْ يستلمونَ البريدَ الثقافيَّ كلَّ صباحٍ..
ولكنَّهُم لا يجيدونَ فَكَّ الحُروفِ.. ولا يقرأونْ..
أراهُمْ أَمامِي.. وهُمْ يَجْلِسونَ على بَحْرِ نفطٍ..
فلا يَحْمِدونَ الذي فجَّرَ النفطَ مِنْ تَحْتِهم..
ولا يشكرونْ..
وهُمْ يَخْزِنُونَ الملايينَ في بَطْنِهمْ..
ولكنَّهم، دائِماً يَشْحَذونْ!!" ().

قبل الخوض في غمار المقطع السابق نؤكِّد: أنَّ القبَّاني استخدم البياض فضاءً محسوباً مهندساً؛ بخصوصية وعناية،أي: مقصوداً لذاته؛ فالأسطر الشعريَّة تتوزَّع، تبعاً لهندسة شعوريَّة محكمة؛ ليست نمذجة شكليَّة؛ وإنَّما تنبع من إيقاع شعوريّ داخلي عميق مخصوص بذاته ولذاته؛ فالفراغ صمت، وهذا الصمت قد يستطيل تبعاً، لامتداد النفس الشعريّ، واستطالة النفثة الشعوريَّة المأزومة، التي ينفثها الشاعر؛ وقد ينحسر البياض، ليستطيل السواد؛ تبعاً لرغبة الشاعر في تجاوز الصمت إلى الإفصاح؛ ورغبة عارمة في استئناف الحركة الشعوريَّة، لتنفث زخمها بعد فاصل زمنيّ فراغيٍّ ممتد، وهذا دليل أنَّ القبَّاني يستغلُّ البياض بهندسة فراغيَّة، تشكيليَّة محكمة، بتوزيعه على الفضاء المكاني للنصّ، بهندسة شعوريَّة يستتبعها بهندسة بصريَّة على بياض الصفحة الشعريَّة؛ وهذا التوزيع – لدى القبَّاني- ليس لإثراء الشكل الطباعيّ، لخلق جمالياته البصريَّة في النصّ؛ وإنَّما للتعبير من خلاله عن حالة من التكثيف الشعوريّ؛ والمدّ الاستطالي في تصوير الحالة؛ والتقاط حراكها بتفعيل مشهدي عميق؛ قد ينوء السواد الكتابي مهما استطال وامتدّ من التعبير عنه؛ ومن هنا؛ نلحظ أنَّ المتلقي للشعر الحديث: "يستعدُّ لفضاء جديد مع كلّ قصيدة، لأنَّ الشاعر الحديث يُخْضِع هندسة القصيدة لبنية تريد المغايرة عن البنية القديمة، فيستغلّ في ذلك الخط والفراغ خاصَّة، وأنَّ القصيدة الحديثة ابتعدت عن الإنشاد الذي تعتمده القصيدة القديمة، فعليه لابُدَّ من بحث عن طرق بصريَّة تُعَوِّض العنصر الغائب؛ فأنْ تشتغل أُذُن المتلقي لم يعد مهماً، بقدر ما تهم العين"(). ولذلك؛ لجأ الشاعر الحديث إلى هذه التقنية، ومن ضمنهم القبَّاني، لأنه يدرك تماماً كغيره من الشعراء "أنَّ للفضاء الشعريّ دوراً كبيراً في إعطاء الانتشار هذه المزية الفنية التي تتحرَّر فيها الإشارات من معانيها القديمة؛ وخصوصاً مع الهيئة الطباعيَّة الكتابيَّة للنصّ الشعريّ الحداثي، والتوزيع الكتابيّ على الصفحة البيضاء، ونوعيَّة الخط؛ وما يتبعه من أشكال، ورسومات، وغيرها من الأشكال المصاحبة للنصّ الشعريّ"().

وبالعودة – إلى المقطع السابق- نلحظ أنَّ القبَّاني يفصل بين العبارات الشعريَّة بنقطتين متتابعتين، وهما تمثِّلان فراغاً بصريًّا مستتبعاً لمدلول العبارة؛ لتشارك في استكمال الدلالات وإيحاءاتها؛ فالشاعر لا يعتمد الفراغ جزافاً أو منظوراً فراغيًّا غير مخصوص؛ وإنَّما يُخَصِّصه بدلالات وإيحاءات شعوريَّة ممتدة دالَّة على امتداد الصدى التنديدي أوالاحتجاجي التقريعي الصارخ، لسلسة من الرؤى، والمنظورات المغلوطة التي شكلت صيرورة الواقع العربي المأزوم؛ فالفراغ المستتبع لعبارة "هم يرعدون... ولا يمطرون"؛ تشي بالاستمراريَّة، والمدّ الزمني المفتوح؛ وكأنَّ الشاعر يريد أن يفتح مدلول العبارة التقريعيَّة إلى مالا نهايَّة؛ تدليلاً على أنَّ العرب يستغرقون بالأقوال على حساب الأفعال؛ إذْ إنَّ أقوالهم ليست كحجم أفعالهم؛ فما يدلون به سيبقى في حيِّز القول ودائرته؛ ولا يخرج إلى نطاق الفعل والتنفيذ والعمل؛ ولهذا أمدّ العبارة بالفراغ؛ استجابة لانفتاحها الدلاليّ، ومدّها التقريعيّ التنديدي الساخر؛ فكأنَّ هذا المدّ الفراغي بين العبارات الشعريَّة قد شكلَّ فواصل بصريَّة؛ تؤكِّد استمراريَّة الطيف الدلاليّ للعبارات من جهة؛ وتجعل القارئ يأخذ فرصة لتأمل مدلول العبارات؛ بتركيز أكثر، واستبطان تأملي مشبع؛ من جهة ثانية؛ ودليلنا على ذلك أنَّ الفراغات الموزَّعة على عبارات المقطع جميعها تدل على الاستمراريَّة والمدّ الزمني المفتوح؛ كامتداد الحالة التقريعيَّة الساخرة على التأزُّم العربيّ؛ والواقع المنهار الذي تعيشه أمتنا العربية قديماً وحديثاً؛ وكأنَّ القبَّاني يوجِّه القارئ إلى المدّ الدلاليّ المفتوح، للعبارات بهذه الفراغات؛ ليستجلي مدَّها الشعوري، وإيقاعها التعروي التقريعي الممتد؛ وبهذا؛ تصبح الأشكال البصريَّة مؤشِّرات بنيويَّة داخلة في بنية النصّ، وليست خارجة عنه؛ "وكأنَّ الشاعر يوقظ في القارئ كلَّ الحواس ليتابع نصَّه؛ فيعطي له حالات للقراءة؛ ويتمثل ذلك في العلامات المكتوبة (اللغة) التي تتطلب معرفة أدبيَّة لدى القارئ، وقدرات مختلفة، ومهارات قراءة متعدِّدة، كما يعطي له حالات موجَّهة للقراءة؛ كهندسة القصائد، ومختلف قدرات القارئ تتوجّه نحو النصّ"(). لاستكمال دلالاته عبر هذه المؤشِّرات البصريَّة التي تحمل خصوصيتها في الإحالات الدلاليَّة المستبطنة (المسكوت عنها)، في بؤرة النصّ الداخليَّة؛ لتمييز العبارات الشعريَّة، واعتصار مداليلها بكل محفِّزاتها الشعوريَّة العميقة المستبطنة في قرارات النصّ اللغويَّة؛ ومن هنا: يُعَدُّ تشكيل الفراغ المكاني جزءاً لا يتجزَّأ من القصيدة التكويني؛ إذْ هو مستوى إيقاعي يفصح عن حركات الذات الداخليَّة؛ ويتسم بالصراع بين ما تُمَثِّله الكتابة "المساحة السوداء المُحَبَّرة"؛ وما يُمَثِّله الفراغ "مساحة البياض"، وهذا الصراع لا يمكن أن يكون إلاَّ انعكاساً مباشراً، أو غير مباشر للصراع الداخلي الذي يعانيه الشاعر، فيقيم حواراً بين الكتابة والبياض؛ مستنطقاً الفراغ، ومساحته الصامتة، بحيث تعبِّر عن نفسيَّة الشاعر المندفعة، أو الهادئة على المستوى البصري"().

وقد يتقلص دور البياض -تدريجيًّا- بين العبارات الشعريَّة؛ ليتجه صوب النهايات؛ مُشَكِّلاً على المستوى البصريّ جملاً بنهايات مفتوحة؛ دلالة على مدّها الشعوريّ وتصاعدها الدلاليّ؛ في حين يَطْغَى السوادُ على البدايات، مكرِّساً الحدة الشعوريَّة، والكثافة الانفعاليَّة، والتعروية الكاشفة التي تعمل على فتح آفاق دلاليَّة جديدة، تتسع تدريجيًّا لتصل إلى الذروة في الفاصلة الختامية؛ لتشكِّل قراره التعبيريّ النهائي، ومدّها الشعوريّ المتصاعد؛ كما في قوله:

ففي أيِّ مَقْبَرَةٍ يُدْفَنُونْ؟
ومَنْ سَوفَ يَبْكِي عَليهم؟
وليسَ لديهم بَنَاتٌ... وليس لَدَيْهم بنون..
وليسَ هُنَالك حُزْنٌ
وليسَ هُنَالِكَ مَنْ يَحْزَنونْ!!..." ().

قبل الولوج في التحليل النصّيّ نُؤَكِّد: أنَّ القبَّاني يَتَفَنَّن في تشكيلاته الجمليَّة؛ وفي توزيع البياض على السواد؛ عبر التلاعب في مساحة السطر الشعريّ؛ فَمَرَّة يتقلَّص البياض ليطغى السواد، وهنا يستطيل السطر الشعريّ ويطول، ليستحوذ على مساحة تشكيليَّة مكثَّفة الرؤى، مكتنزة، المداليل؛ ومرَّة أخرى يَتَقَلَّص السواد؛ ويستطيل البياض؛ وهنا، يقتصر السطر الشعريّ، وينحسر؛ بموجة تشكيليَّة قصيرة؛ مقتطبة؛ أشبه بالوخزة البرقية؛ ليترك البياض بمساحته المفتوحة أن يتممها، أو يعبِّر عنها؛ تبعاً لمهارة القارئ في ملء هذه الفراغات؛ واستكمالها بما يملكه من خبرة معرفية: "فعين القارئ عندما تبدأ بقراءة الأسطر الشعريَّة تسترسل في انتظام، لكن سرعان ما تشوِّش، لأنَّ النهايات غير متوقعة، مرَّةً تطول، ومرَّةً تقصر، ومرَّةً تتساوى، إلى جانب علامات الترقيم التي ندرج ضمنها علامات الوقف من فاصلة ونقطة و... فهي تتوزع بشكل غير منتظم؛ فقد تغيب حيث يجب أن تكون؛ وتتوجّه بذلك القراءة دون توقف، لأنَّ النصّ يرد بكامله أشبه بالجملة الواحدة؛ وتتكرر هذه الظاهرة عند أُدونيس والقبَّاني، كما تتكرَّر النقط المتتابعة التي تمثِّل دلاليًّا (المسكوت عنه) وإشراك القارئ في ملئِهِ"().

وبالدخول إلى فضاء المقطع الشعري السابق – بنيويًّا- عبر العلامات الفراغيَّة البصريَّة، نلحظ أنّ هذه العلامات لعبت دوراً علائقيًّا مهماً في التركيب؛ لتدلّ على استمراريَّة المدّ الزمني لدلالة الجمل من جهة؛ والتعبير عن مأساويَّة الحالة التي وصلت إليها أحوال العرب المزرية من جهة ثانية؛ بنقط متتابعة تدلّ دلالة واضحة على التشظي الصوتي؛ والارتدادات الصوتيَّة المتتابعة التي تنبعث أصداءً صوتيَّة متلاشية، كاستطالته الشعوريَّة التعجبية الممتدة التي أثارتها الفراغات المفتوحة في نهايات الجمل، بعد سلسلة من الاستفهامات المتراكمة التي وزَّعت الدلالة الارتكاسيَّة في أكثر من اتجاه؛ كارتدادات الأصوات الاستفهامية بمدها الاستنكاريّ الشعوريّ المتشنج، ورجرجة أصدائها، في كلّ الاتجاهات؛ وبذلك؛ خلق الشاعر معادلة صوتيَّة بين الشكل البصريّ للنقط الفراغيَّة، والامتداد المتشظي الشعوريّ الاستنكاريّ لعلامات التعجب، والاستفهام التي استطالت، رغبة في تأجيج صوت الذات الغاضب، حيال هذا الواقع المتردِّي الهشّ؛ وهكذا؛ امتدَّت الصيرورة الدلائليَّة للاستفهامات، والتعجبات، لتصل إلى ذروتها في التعرية، والتقريع، والمكاشفة؛ بقوله: [ليس هنالك حزنٌ... وليس هنالِكَ مَنْ يحزنون!!...]؛ تدليلاً على تشظي الذات، وتبعثر الدلالة الارتكاسيَّة التقريعيَّة الغاضبة إلى مالا نهاية؛ ومن هنا؛ يُشَكِّل البياض المُنَقَّط علامات أيقونيَّة تكشف عن منزلقات الدلالة؛ وتبعثر الأصداء الصوتيَّة، المرتدة كتلاشي الأحاسيس وتراكمها الاصطراعي التأزُّمي الممتد إلى مالا نهاية؛ وهذه الاستمراريَّة تركها مفتوحة بالمدّ التنقيطي، لتؤكِّد نفاذها المتدفق في مساحات زمنية مفتوحة؛ لا تُحَدُّ؛ وهذا دليل على أنَّ "التنقيط يرد بعد السرد الأيقونيّ لعلامات التعجب والاستفهام؛ دالاًّ على العمق الخفيّ لهذه العلامات في إضاءة أبعادها الدلاليَّة"(). ومن هنا؛ يبدو لنا: "أنَّ التنقيط يفسح المجال لإلغاء الكلمات في تجسيد المعنى؛ جاعلاً منه بديلاً عنها، أو معادلاً موضوعيًّا لحذفٍ مقصود؛ والنقطة في موروثنا الكتابيّ دالَّةٌ تضمرُ في إفرادها؛ أو تكرارها حافزاً دلاليًّا، لتكثيف الوعي التأويلي، والسنن القرائيَّة"().

ب- بنائيَّة التشكيل الهندسي:

إنَّ الشاعر الحداثي الأصيل لا ينتج نصّه باعتباطيَّة غير محسوبة، أو بامتدادات تشكيليَّة لا تصيب حيِّز الرؤية؛ أو بأنساق تشكيليَّة غير منظمة في تفعيل النسق الشعريّ العام؛ بخصوصيَّة بنائيَّة منظمة (مهندسة) شكلاً بصريًّا؛ ومدًّا تأمليًّا؛ فمثلاً: "إنَّ القارئ في القصيدة القديمة اعتاد ابتداءً من نقطة، لينتهي إلى نقطة أخرى محدَّدة؛ وله سابق معرفة لنماذج متشابهة؛ بخلاف القارئ للقصيدة الحديثة، الذي يبدأ من نقطة معلومة لينتهي إلى نقطة مجهولة؛ إذْ إنَّ السطر الشعريّ يطول ويقصر حسب كلّ شاعر، بل حسب كُلِّ نصّ؛ وهندسة القصيدة الحديثة هدمت نموذج القراءة البصريَّة القديمة. فقد نعثر على أشكال بسيطة والأسطر الشعريَّة تتوزع بغير نظام، ووفق مقاطع تفصلها مساحات بياض، كما نعثر على أشكال معقدة؛ لأنها تؤلِّف لوحات عديدة؛ وكل لوحة بعنوان فرعي؛ وتعتمد تقنيات في توزيع البياض والسواد؛ حتى أنها تعمل على قطع السطر الشعريّ في مكان بواسطة فراغ، لتكمله فيما بعد؛ وهذه طريقة "الحداثة" التي تلغي "النموذج"؛ وتعمل على التجديد في تجريبيَّة مغايرة، لا تعمل ما ينسج على المنوال، بل بالابتكار والتفرد"().
ومن هنا، ينبغي على القارئ البنيويّ في فضاءات القصيدة الحداثيَّة أن "يُرَكِّز الانتباه على القصيدة لذاتها؛ على عناصرها الجماليَّة؛ على ما تشكِّله بعض العبارات والكلمات بالنسبة لنا، على الصور ودلالاتها، وإدراك الشحنة الانفعاليَّة فيها؛ وعلى النغم المنبعث من تشكلها الصوتي والخطي؛ على فراغاتها وبياضها، ثم نصل إلى تأمل شامل للقصيدة، بعيداً عن الاهتمامات العملية السطحية المباشرة"().

والشاعر الحداثي لا يبني قصائده بعشوائيَّة؛ وإنما بهندسة تشكيليَّة تنظيميَّة محكمة؛ ولهذا: "يحاول الشاعر العربي الحديث تجاوز التشكيل السردي، والخطابي في قصائده المقطعيَّة من خلال تشكيل قصائده تشكيلاً عضويًّا يعتمد على الهمس، والإيحاء، والتوتر النفسي، وهذا يجعل المقاطع الشعريَّة متوزِّعة على أزمان مختلفة، وبتشكيل هندسيّ يقوم على الاستفادة من الفنون الجميلة كالتخدير والتصوير...إلخ، ومن هنا؛ يشترك البصر في فهم أبعاد المقطع الذي يقوم على تشكيلات البياض والسواد"().

وإنَّ القبَّاني يهندس قصائده هندسة صوتيَّة تنظيميَّة محكمة؛ شكلاً لغويًّا، وتشكيلاً بصريًّا؛ فهو يُنَظِّم قصائده هندسة "لغويَّة؛ و"نسقيَّة"، و"فكريَّة"، و"صوتيَّة"؛ معبِّراً عن ذلك بانسيابيَّة اللغة، وهندستها وفق ترسيم شعوريّ عميق؛ يتساوق مع إيقاعها البصريّ؛ كما في قوله:
"أُحاوِلُ منذُ بَدَأْتُ كتابةَ شِعْرِي
قياسَ المَسافةِ بيني؛
وبينَ جُدودِي العرب.
رأيتُ جُيُوشاً... ولا مِنْ جُيُوشْ...
رأيتُ فُتُوحَاً... ولا مِنْ فُتُوحْ..
وتابعتُ كلَّ الحروبِ على شاشةِ التَلْفَزَهْ...
فَقَتْلَى على شاشةِ التَلْفَزَهْ....
وجَرْحَى على شاشةِ التَلْفَزَهْ...
ونصرٌ من اللهِ يأتي إلينا...
على شاشةِ التَلْفَزَهْ!!" ().

قبل دخولنا إلى فضاء المقطع السابق نؤكّد أنَّ القبَّاني: يهندس قصائده بفراغات ونقط بين الأنساق المتوازية؛ ليخلق شكلاً متوازناً، مهندساً، يقوم على التناظر ،والموازنة بين الأشطر الشعريَّة ليحقِّق التعادل بين الأنساق اللغويَّة؛ إنْ مدًّا بصريًّا؛ وإنْ شكلاً خطيًّا، وإن منحًى تعبيريًّا؛ متجاوزاً قيود الشطرين، ليخلق أشطره الشعريَّة؛ تبعاً لنفثاته الشعوريَّة؛ وهذا دليل على أنَّ القبَّاني يخلق هندسة قصائده خلقاً جديداً، تبعاً لاسترسال المشاعر، وتدفقها، وانسيابها؛ وهذا التوازن يسهم في توجيه عين المتلقي صوب الأنساق المُنَظَّمة، لتشكيل وعيها الفني بالمنظورات المتوازنة التي تخلقها أنساقه اللغويَّة المتوازنة على فضاء الصفحة الشعريَّة. وهذا دليلٌ على أنَّ النصّ يحتفظ في صفحته على كثير من الآثار التي تدلُّ على التوترات، التي تنتاب الذات المبدعة أثناء عمليات الإبداع، تاركة وراءها دلائلها العينيَّة؛ التي لا يمكن استنطاقها للغوص بعيداً في عالم الغياب قصد استخراج المكنون فيه"(99).

وبالعودة – إلى المقبوس السابق- نلحظ أنَّ القبَّاني يعتمد الهندسة الصوتيَّة في تشكيل القصيدة بأنساق متوازنة تنفتح على توازٍ بصريّ على مستوى مساحة البياض من جهة؛ والفراغ المُنَقَّط من جهة ثانية؛ إيذاناً بامتداد شعوريّ تعروي كاشف عن الواقع الانهزامي الذي تعيشه أمتنا العربيَّة؛ فلا جيوشنا تشبه الجيوش، ولا فتوحاتنا تشبه الفتوحات؛ولاانتصاراتنا تشبه الانتصارات، وهذا التوازي الامتدادي البصريّ استتبعه تشكيل امتدادي على مستوى الفراغات المُنَقَّطة، وعلامات الترقيم؛ للدلالة على الانفتاح الزمني، والاستطالة الزمنية، والامتداد في الحركة الشعوريَّة التعرويَّة الكاشفة، عبر الفراغات المُنَقَّطة التي تتكشف تدريجيًّا في نفث المشاعر الحارقة؛ ليترك منحاه البصريّ، مستدرجاً القارئ، لتتبعه بهندسة بصريَّة محكمة، تستثير القارئ، وتُوَجِّه مساراته القرائيَّة؛ وهذا يدلنا: "أنَّ القصيدة الحداثيَّة تنهض على ما سُمِّي بالإيقاع المُجَرَّد الذي يشمل ضروب التوازي الشعريّ، والإيقاع التركيبي، ورمزيَّة الأصوات، والكلمات والتمثيل الخطّي لكلمات القصيدة، وأشكال التناظر، أو صيغ التقابل التي تقوم عليها أبنية المعنى، وما إلى ذلك من الإيقاعات المدركة بالتمثل الذهني، ولا دخل للسمع فيها"()، وإنما يلعب فيها الشكل البصريّ بهندسة تشكيليَّة محكمة، دوره في تحفيز هذه الإيقاعات، وتناميها؛ وهذا ما لاحظناه في مقاطع القصيدة المدروسة.

جـ- بنائيَّة التشكيل البصريّ لعلامات الترقيم:
إنَّ دراسة المؤشِّرات البنائيَّة لعلامات الترقيم – في النصّ الشعريّ- لهو دراسة في بنية اللغة، وخصوصيتها ذاتها؛ بوصفها علامات أيقونيَّة (بصريَّة) لا تنفصل في بنيتها الدلاليَّة، ومؤشِّراتها الرؤيوية عن الكلمات الشعريَّة ذاتها في أداء وظيفتها الإيحائيَّة؛ وعليها، يقع الاعتماد في الانجذاب القرائي التأملي صوب النصّ؛ بالاستطالة والامتداد في تمطيط الجمل؛ أو الاختزال والبتر في قطع هذه الامتدادات بالفواصل؛ ليَتَملَّى القارئ بصريًّا بالجملة؛ وترتسم صورتها بمخيلته برهة من الزمن؛ ليعاود الاستئناف والمواصلة في التبئير والتملي البصريّ؛ للجمل اللاَّحقة؛ ولذا تُعَدُّ علامات الترقيم من أبرز الموجهات القرائيَّة التي يُحَرِّض القارئ على تأمل الجمل الشعريَّة، بأبعادها التشكيليّة كافَّة، معاينة بصريَّة تستقرئ ما يمور في باطن التشكيلات اللغويَّة من دلالات، وإيحاءات مستبطنة في قرارة الذات الشاعرة؛ ومن هنا: فعلامات الترقيم تقوم مقام نبرات الصوت التي تُفَسِّر الأسلوب التعبيريّ الذي يحاول الشاعر إيصاله؛ ويحاول القارئ رصده، ومن هنا؛ فإنَّ جملة الاستفهام تختلف في نبرتها عن جملة التعجب؛ والفاصلة تختلف في دلالتها عن الفاصلة المنقوطة، والنقطة الواحدة تختلف في إشارتها عن النقطتين أو النقاط المتعددة؛ ويمكن القول: إنَّ معظم القصائد الحداثيَّة تتضمن علامات الترقيم بكثرة حتى أنَّه قلما تخلو قصيدة حديثة من علامات الترقيم"().

وتُعَدُّ علامات الترقيم أيقونات لغويَّة بصريَّة إيمائيَّة دالَّة على ما يختزنه البعد اللغويّ من إيحاءات شعوريَّة عميقة؛ ومن هنا "أصبح ضروريًّا على أيِّ مُتَلَقٍّ للنصّ الشعريّ الحديث أن ينظر في أمر الكتابة، وطريقة رصّ المفردات، وتشكيل الكلام على الصفحات الشعريَّة، وذلك بعد أن اعتمد الشاعر العربي الحديث على كثير من الخصائص الكتابيَّة في إنتاج النصّ الشعريّ الحديث؛ وهذا ما لم يكن معروفاً لدى الشاعر القديم الذي لم يعد يهتم بالخصائص الكتابيَّة، بقدر اهتمامه بالخصائص الشفاهيَّة، فكان يُعْنَى بالفصل والوصل، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار؛ لإحداث الأثر الصوتيّ من خلال الإلقاء الشعريّ، ومع ظهور شعر التفعيلة وتراجع دور الإنشاد والسماع فيه صارت الحاجة ماسَّة إلى التعويل على الخصائص الكتابيَّة المتمثلة في تشكيل المفردات والجمل الشعريَّة على الصفحة تشكيلاً خاصًّا يعتمد على علامات الترقيم في تحديد نقاط الوقف، والحركة في الجمل الشعريَّة"().

ومن يطلع على بنية القصيدة القبَّانيَّة يلحظ أنَّها قصيدة واعدة بمؤشراتها البنيويَّة؛ مولِّدة؛ لإحساساتها؛ غاوية في استشرافها البعد الجماليّ من خلال تحريك الفضاء المكاني البصريّ باشتغالات أسلوبيَّة، مبنية على متاخمة الوعي باللاَّوعي؛ والشعور باللاَّشعور؛ والحسيّ بالمجرَّد؛ والذاتي بالموضوعي؛ لإثارة الأسئلة التحريضيَّة المفتوحة، التي تفتح النسق، وتغلقه عبر الإيحاءات البصريَّة، التي تشير إلى معانٍ نفسيَّة ضاغطة في خلق المُنَبِّه الأسلوبي البصري؛ ليشير كإشارة البنية الكلاميَّة ذاتها إلى مدلول باطني عميق؛ وفق ما تُحَفِّزه من استدراجات دلاليَّة؛ تستثير القارئ؛ وتدفعه إلى مغامرة الكشف والتأمل العميق.

وقد ارتكزت القصيدة المدروسة في مقاطعها كلها على بنائيَّة التشكيل البصريّ لعلامات الترقيم، لإيصال ما يريد أن يبثه من رؤى تعروية كاشفة بمدّ استطاليّ، متتابع يقصر أو يمتد، تبعاً لتموضع هذه العلامات البصريَّة في النسق الشعريّ؛ معبِّرة عن تموجاته الشعوريَّة؛ ارتفاعاً أو هبوطاً؛ ليرسم مساره الفني الشعوريّ، بتساوق الشكل البصري مع المدّ الشعوريّ التعرويّ التنديدي الصريح، عبر تراكم هذه المؤشرات البنيويَّة الأيقونيَّة في البنية المقطعيَّة، كما في قوله:
"أَيَا وَطَنِي...
جَعَلُوكَ مُسَلْسَلَ رُعْبٍ...
نُتَابعُ أحْدَاثَهُ في المساءْ
فكيفَ نراكَ إذا قَطَعُوا الكَهْرَبَاءْ؟؟"().

قبل الدخول إلى فضاءات التحليل النصّيّ للمقطع الشعريّ السابق نؤكِّد: أنَّ توظيف القبَّاني لعلامات الترقيم، لم يَكُنْ مُمَنْهَجاً سلفاً؛ وإنما جاء تبعاً للمهيمنات الشعوريَّة المُكَثَّفة الضاغطة على الذات لحظة المخاض الشعريّ؛ فهي مُجَنَّدة لتجييش الدوَّال اللغويَّة، لأداء مُهمَّتها في البث الإيحائيّ والتموُّج الصوتي في رسم المَنْحَى النفسي الشعوري للذات؛ فتتنوَّع هذه الإشارات البصريَّة، بتنوّع المسار الدلائليّ؛ وما تُجَسِّده من منحًى تصويريّ بصريّ، ينعكس على جماليَّة النسق، وبداعة التعبير. فالقبَّاني استَمْرَأَ هذه العلامات البصريَّة، بوصفها علامات تعكس ما في داخله من تأزمات وارتكاسات وصراعات داخليَّة عميقة، تفجِّر ما هو باطني، وتُحَفِّز ما هو لغويّ بصريّ ظاهري؛ بنسيج لغوي مموسق؛ إيقاعاً صوتيًّا، ومدًّا دلاليًّا؛ وشكلاً بصريًّا؛ وهذا التضافر الفني المموسق لاشكَّ في أنَّه يُغْوي القارئ إلى متعة الكشف، ولذة التأمل، والمكاشفة النصّيَّة.

وبدخولنا إلى متن المقطع الشعريّ نلحظ أنَّ الدور الذي لعبته علامات الترقيم لاشكَّ في أنَّه دور وظيفي علائقي بنيويّ يدخل في بنية التركيب اللغويّ ذاته؛ فتتابع النقط، وإفرادها بسطر شعريّ بعد أداة النداء [أيا وطني] يفتح المدّ الشعوري الارتكاسي الحنون الذي يرثي به حال الوطن الجريح؛ فهذا المد الاستطالي العميق بوساطة أداة النداء عبَّر عن أنين الذات بنفثة شعوريَّة مستطيلة؛ أو زفرة عميقة ممتدة يبثها في الهواء باستطالة شعوريَّة ممطوطة؛ تُخْرِجُ ما في باطنه من آهات وتأوّهات جريحة، نابعة من حفر شعوريّ مأزوم، إزاء ما حلَّ بهذا الوطن من ويلاتٍ وآلام؛ وهذا ما أكده حين أردف النسق الشعريّ بهذه العبارة المفتوحة في مدِّها التنقيطي الفراغي: [جعلوكَ مسلسلَ رعبٍ...] الذي يدلُّ على المدّ الزمني المتعاقب المفتوح لمسلسل الأحداث الإجرامية الدامي المستمر؛ الذي لم يُعَبِّر عنه بدوَّال لغويَّة صريحة بقوله: [جعلوكَ مسلسلَ رعبٍ دائم]؛ وإنَّما عبَّر عنه بصريًّا بالتنقيط المفتوح، دلالة على الامتداد المتواصل لمسلسل الجرائم المتدفق، ولنهر الدماء المتدفق الذي امتدّ بصريًّا... ولم يمتدُّ لغويًّا... لأنَّ الفراغ أعمق أثراً وأشدُّ ومضاً من التصريح.. فهذا الصمت هو امتداد شعوري للتأمل الاستبطاني العميق؛ وصراخ احتجاجي تقريعي من باطن الصمت؛ ليعلن احتجاجه الصارخ بأنَّ وضع نقطة بصريَّة واحدة بعد قوله [نتابع أحداثه في المساء]، ولم يستمر بالتنقيط؛ تدليلاً على رغبة الشاعر الملحة في أن يوقف مسارات الفصول الإجرامية المرعبة بسرعة؛ ولم يجد سبيله إلى ذلك سوى النقطة المفردة التي تعبِّر عن القطع والبتر في الحدث، رغبة في إنهاء الحدث الإجرامي بسرعة البرق؛ متلمساً الخلاص؛ ولم يأتِ الخلاص مكشوفاً؛ وإنما جاء مفتوحاً يقرع صداه التنديدي الأسماع، ويستثير القلوب؛ ويُعَرِّي المواقف كلها؛ وبهذا التساؤل الاحتجاجي الثائر الذي ينمّ على وخزته الحادة ومرماها الدلالي العميق يقول: [فكيفَ نراكَ إذا قَطَعُوا الكهرباء؟؟..]؛ وهنا، أتت هذه الإشارات الاستفهاميَّة، لتكون علامات أيقونيَّة كاشفة عن شدَّة التقريع، والاحتجاج لما وصل إليه حال الوطن من بؤسٍ، وقتل، ودمار؛ ارتدَّ صداه شكلاً بصريًّا ومدًّا شعوريًّا مفتوحاً عبر التنقيط المتتابع ليعلن استمراره، ووقعه الجارح إلى أمداد زمنيَّة لا تُحَدّ.

وهكذا: أضفت علامات الترقيم على النصّ الشعريّ إشارات دلاليَّة جعلت منها – لا من الكلام- لغة مرئية، أكسبت النصّ الشعريّ قسماً مهمًّا من شعريَّته، وأضفت عليه مسحة إيقاعيَّة، لا يمكن تجاوزها"().

وقد تأتي علامات الترقيم؛ لتعزِّز شعريَّة القفلة النصيَّة، لتؤدِّي ما عجزت عنه اللغة ذاتها في الكشف، والاستبطان، وتخلق امتداداتها الشعوريَّة، بتتابع بصريّ تقريعي يستمر صداه إلى مالا نهاية على ما نلحظه في القفلة النصّيَّة لمسارات القصيدة المدروسة، ليستمر وقعها التنديدي التعرويّ مستمراً إلى المدى الزمني البعيد؛ كما في قوله:
"أنا بَعْدَ خمسينَ عامًا
أحاولُ تَسْجيلَ ما قَدْ رأيتْ.
رأيتُ شعوباً تَظنُّ بأنَّ رجالَ المباحثِ...
أمرٌ من اللهِ...
مثلَ الصُدَاع... ومثلَ الزُكَامِ.. ومثلَ الجرب..
رأيتُ العروبةَ مَعْروُضةً
في مزادِ الأثاثِ القديم...
ولكنني.. ما رأيتُ العَرَبْ!!.." ().

قبل الدخول إلى الحرم النصّيّ؛ نؤكِّد: أنَّ القبَّاني وظَّف علامات الترقيم لبسط مدلولات شعريَّة جديدة؛ تفسح المجال واسعاً للارتقاء ببنية التشكيل اللغويّ إلى مستويات دلائلية عميقة أعلى من مستوى السطح اللغويّ المباشر أو المتداول؛ إنها علاماتٍ أيقونيَّة تستقرئ ما خلف الكلمات من إيحاءات، وإشارات، ودلالات باطنية تشفُّ عنها؛ فهي أشبه بالمنبهات البصريَّة، التي تعزِّز فاعليَّة الدلالة؛ وترسخها، وتستنطق المعاني الخفية في التشكيلات اللغويّة؛ وإننا بقولنا هذا نناقض ما ذهب إليه الدكتور حبيب مؤنسي في قوله: "إنَّ القصيدة لن تتحقق وجوداً إلاَّ من خلال الإنشاديَّة. ذلك الحامل الذي يضفي على النصّ من كيان الشاعر حركاته الجسديَّة وهيئته المزاجيَّة، وزِيِّه، وتعابير قسماته. إنَّها أشبه بالحركات التمثيليَّة، التي تضيف للنصّ بعداً عينيًّا مشاهداً، يحقُّ للقراءة أن تدمجه في عمليات استنطاق المعاني"().

إنَّ ما أدلى به المؤنسي: يلغي الجانب الوظيفي للشكل البصريّ الذي ينتجه النصّ؛ ويُرَكِّز على الجانب الإنشادي، وهذا ما نأت عنه بنية القصيدة المعاصرة التي اعتمدت الشكل البصريّ إيقاعاً مكثفاً للدلالة؛ شأنه في ذلك شأن الشكل اللغويّ للنصّ في بنيته الخطيَّة؛ ولهذا فإنَّ الشكل اللغويّ (المعماري) للنصّ "رُبَّما يكون خطوة أولى يتم فيها التحول بالأحاسيس الداخليَّة من وضعيتها الأولى، أي من حالة الفوضى والتجريد والتشتت إلى وضع مغاير، تتخذ فيه شكلاً؛ وترتدي هيئة لفظيَّة؛ أو كياناً تعبيريًّا ملموساً، يمكن تحسسه أو فرزه، والتحدث عنه موضوعيًّا، غير أنَّ البناء يقع في ما وراء ذلك كله؛ إنَّه السيطرة على عناصر الشكل في القصيدة، وترتيبها في شبكة فاعلة مترابطة... وإذا كان الشكل يُمَثِّل خطوة أولى في الجهد الشعريّ غالباً فإنَّه جزئيّ في معظم الأحيان، فهو قد يظلُّ تجسيدات مبعثرة أو متجاورة، وكيانات لفظيَّة تتكئُ على بعضها البعض؛ لكنها لا ترقى إلى شموليَّة البناء، لأنَّ البناء نشاط تنظيمي شامل يضع وحدات الشكل وعناصره في سياق الحركة المترابطة، أي أنَّه ينتقل بكل عنصر منها من العزلة إلى العلاقة؛ ومن التجاور إلى الاندغام"().

وما يُحَفِّز الشكل الشعريّ - من منظورنا- بينة التشكيل البصريّ، وما تتخذه من ركائز بصريَّة تحيط بالنصّ من فراغات، وإشارات، وعلامات، ورموز، وما تتخيله من أيقونات بصريَّة تتمثل في علامات الترقيم؛ والشكل الهندسي الفراغي للنصّ؛ لتصل إلى أقصى درجة ممكنة من التأثير والعمق والشفافيَّة والارتقاء ببنية النص من جهة؛ والشكل البصريّ الذي تخطُّه من جهة ثانية؛ كما لو أنَّ النصّ مهندس شكلاً بصريًّا ومساراً لغويًّا إيقاعيًّا مموسقاً في شبكة نصيَّة ترقى أعلى مستويات التحفيز والإثارة الشعريَّة.
وبدخولنا – إلى فضاء المقبوس الشعريّ السابق- نلحظ أنَّ القبَّاني اعتمد التنقيط الفراغي شكلاً بصريًّا أدَّى وظيفتين مهمتين؛ أولاهما- إبراز العبارات في شكلها اللغويّ المُجَسَّد، لترتسم في بصيرة المتلقي، ليتملاَّها بعمق، وتأمُّل استبطاني دقيق، لتركيز مدلولها التقريعي التعروي الفاضح، وترك ارتداداتها الدلاليَّة مفتوحة على أمداء زمنية بعيدة؛ وثانيهما- هندسة القصيدة هندسة تشكيليَّة محكمة، تنمّ على التوازي والانسجام في بنية العبارات الشعريَّة،لدرجة تشي بمدلولاتها الواعية التي تصيب مغزاها بعمق وشفافيَّة، وسعة ارتداديَّة تكشف عن شروعها في التعميق، والإفصاح، والتأثير، لتأتي الفراغات التي تستتبعها علامات الترقيم أيقونات بصريَّة تحفيزيَّة تستبطن المعاني، وتبثها بكل مخزونها الدلاليّ ومداها التأمليّ الاحتجاجي الصارخ؛ وهذا ما أظهرته الفراغات المنظمة بين الجمل؛ لتنظيم نسقها اللغويّ، وفتح أواصرها الدلاليَّة على أشدَّها؛ خاصَّة في الجملة الأيقونيَّة الأخيرة التي شكلت ركيزة القصيدة التعبيريَّة: [ولكنني... ما رأيتُ العرب!!...] لتخلق في مداها البصريّ، وارتدادها الشعوريّ؛ موجة تقريعيَّة تنديديَّة راسخة لا ينتهي أثرها أو يزول. وهذا يدلنا على "أنَّ علامات الترقيم بأشكالها المتنوعة وسيلة بلاغية تجذب انتباه القارئ الذي يصادف بصريًّا علامات تمسك بيده ليستقبل النصّ الشعريّ، استقبالاً خاصًّا؛ فيمارس فاعليته في استكناه جماليَّة توظيف علامات الترقيم، في تحقيق شاعريَّة النصّ من خلال المقدرة على تلقيه تلقيًّا صحيحاً يمكنه أن يفكّ رموز الإيقاع الخفي الذي يستأثر بأرواحنا"().
وأخيراً؛ لابُدَّ أن نؤكِّد:

أنَّ القصيدة القبَّانيَّة حقلٌ خصبٌ لكلِّ المناهج البحثية؛ نظراً إلى ما تنطوي عليه قصائده من خصوصيَّة في التعبير في شكلها اللغويّ؛ ومدِّها البصريّ، لتؤكِّد خصوصيتها الإبداعيَّة، فهي لا تتوغَّل حيِّز الرؤية حدّ التعقيد؛ وإنَّما تنفتح بانفتاح الحياة وتدفقها؛ لتجري سلسلة متدفقة؛ برشاقة لغويَّة، تشكل لحناً رقراقاً عذباً، ينساب من عصارة أرواحنا؛ ليستضيء فيها جانبها المعتم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى