الثلاثاء ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
بقلم رامز محيي الدين علي

جنازة طبيب

حضرت جنازة شاب (سرخستاني) يدين بالسرخستانية (مصطلح رمزي لا يسيء إلى أحد)، قتلته المافيا الدولية لأسباب مادية.. هذه المافيا التي جاءت لتحارب الإرهاب.. أليس ذلك أكبر فيلم كاريكاتوري؟؟

وكان ذلك عام 1995 في أيام الدراسة حينما كنت أدرّس في إحدى قرى سرخستان.. وجاءت سيارات القصر الملكي العظيم في مقدمة الجنازة؛ لأن عم المغفور له كان صف ضابط في الحرس الملكي..

والمهم أن الجنازة وصلت إلى القرية وقد استقبلها جمهور غفير من أهالي القرية، إضافة إلى طلاب مدرستي؛ نظرا لأن المتوفى كان يدرس الطب في الإمبراطورية الروستانية.. واصطحبنا طلابنا إلى المقبرة تقديرا لمكانة الطبيب العظيم.. وشاركنا في موكب الجنازة مشيا على الأقدام.. وعندما وصلنا أنزلوا الجنازة من سيارات القصر الملكي، ولم أر في المقبرة إلا بضعة مقابر يتوسطها مقام ذو قبة .. فقلت في نفسي حتى المقابر لها رؤساء؟! تبا لكم أيها الأموات إن لم تثوروا على هذا المتغطرس عليكم وهو في سبات أبدي..

إنني على يقين بأن أكبر ملوك العالم يتساوى تحت إمرة ناموس الموت العادل مع فأر فطيس تحت التــراب، فلا رب ولا أرباب، لا ملوك ولا خــدم، فالكل يخضع

لقانون رباني عظيم، كما بين ذلك رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: " يا أيها الناس: إن ربكم واحد وإن أباكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب "..

وعزرائيل لا يعرف كبيرا ولا صغيرا ..لا رئيسا ولا مرؤوسا.. لا غنيا ولا فقيرا.. وهذا أجمل ما في الموت!! وليته يطبق في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة؛ فتغدو الحياة أجمل، وينتهي الصراع بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين الغنى والفقر، بين العلم والجهل، بين الإيمان والكفر، بين القوة والضعف، بين القناعة والجشع، بين.. وبين.. وبين كل متناقضات وأسباب الصراع في الوجود...

وأعود إلى مشهد الدفن.. شيء غريب لم أره في مشاهد الدفن عند قومنا المسلمين.. فالقبر لشخص مدفون من قبل بل ربما لأشخاص آخرين!!

وأقيمت صلاة الجنازة على المرحوم فاصطف المصلون هذا بحذاء الحرس الملكي.. وذاك بحذاء الفرقة العسكرية.. وآخر بحذاء يبكي الجن لو نظروا..

وصلى الإمام صلاة السرخستانية، وأنا أسمع وأتابع وبجانبي صديقي توسان الشاب العصري الذي تحرر من ناموس السرخستانية المخالفة لكل نواميس الأديان في العالم..

وتابعت صلاة الإمام الخشنة، وهو يقرأ قبسات السر بالعامية ناصبا المبتدأ.. جارا الخبر.. رافعا المضاف إليه.. كاسرا كل قواعد اللغة العربية.. وقضيت الصلاة ودفن الميت..

لكن صديقي توسان لاحظ دهشتي وأنا فاغر الثغر.. محملق في السماء، فسألني بصوت خفيض:
بشرفك شيخكم أفضل أم أمين سرخستانيتنا؟
فقلت له: أتريد الصراحة أم خالتها؟
فقال مازحا: خالتها.. عمتها.. جدتها.. ليس ثمة فرق!!
فقلت له: والله إن أمين سركم أفضل من شيخنا بكثير!!
فقال: بالله عليك.. ولماذا؟

فقلت: شيخنا مسكين يقرأ على الموتى بالفصحى فيفهمه ملكا الموت مباشرة!! أما أمين سركم فداهية؛ لأنه يقرأ بلغة سيحتاج معها الملكان إلى مترجم كي يفهما ما قاله الأمين.. فضحك توسان.. وقد غطى وجهه بثيابه حتى لا يـراه أحد وقال لي:

( والله لست سهلا! ) فقلت له: نحن من بعدكم يا أتباع هذا الأمين الذي جعل سيبويه يموت قبل أوانه!!
وأحل جثمان الطبيب فوق جثمان شخص آخر وقد يكون أنثى أو شيخا كبيرا.. المهم هو الإحلال؛ لأنه سيعود إلى الحياة حسب أعماله.. قد يعود بروفيسورا أو قد يعود راعي أغنام أو قد يعود علطبيسا وقد يعود دردبيسا.. إنها قصة طويلة .. وراح أزيز الرصاص يتعالى في الهواء الطلق من فوهات البنادق الآلية وكأننا في معركة تحريرية عظمى!! أو في زفاف ملكي فاخر!!

شيء مضحك مبك.. جنازة ورصاص.. وقد ذكرني هذا المشهد بسائق جرار طار جراره في الهواء من شدة السرعة في منحدر الوادي.. ثم توقف على تلة صغيرة بعد أن تتطايرت عجلاته في كل واد..

ولم يبق من الجرار إلا جسده الهامد.. وفوقه السائق الذي راح يهتف: الحمد لله أوقفتك رغم أنفك أيها الجرار اللعين!! وراح يطلق النار في الهواء من مسدسه.. وكأنه انتصر على الجرار بعد أن تهاوت عجلاته في كل ناحية ولم يتهاو معها السائق!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى