السبت ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠١٦
بقلم عصام شرتح

الاغتراب الفني عند حميد سعيد

الشعر فن جمالي، ممتع، وهذا الفن،يرقى دائماً بمثيراته، ومولداته الجمالية، وهذا يعني أن جمالية هذا الفن متوالدة ومتغيرة، تبعاً للعوالم الإبداعية المفتوحة، أو الملامح الرؤيوية المتوالدة على الدوام، والنصوص الإبداعية المتميزة – بالتأكيد- هي مغتربة في شكلها الفني ومتمايزة إبداعياً، وهذا القول: (الشعر فن) سبقنا إليه الكثير من الباحثين، لدرجة نكاد لا نأتي بجديد، لكن ما يميز هذا الفن هو التمايز الإبداعي أو الاختلاف الإبداعي الذي يميز منتج فني عن آخر، وقد سبق أن أشرنا: أن الشعر فن جمالي ممتع بامتياز،والفن في جوهره، أو حركة وجوده تمايز واختلاف، فكما أن الاختلاف ناموس الوجود في حركة لا متناهية من المتغيرات فمن الصعب أو من النادر أن يكون الفن لغة التطابق،والتماثل،والائتلاف،إنه نزوع دائم إلى الانفصام،والتفرد، والتمايز، وهذا يعني أن الاغتراب الفني هو الكشف عن هذا المختلف أو المتغير في نتاج الشاعر أو الأديب،وإن هذا المتغير هو المعادل الاغترابي الموضوعي وراء نزوع الشاعر لاختيار هذا الشكل الفني دون ذاك، ووفق هذا التصور، فإن الاغتراب الفني هو التفرد الإبداعي في الشكل الشعري الذي اتخذه الشاعر في بناء قصيدته،وانماز به، عما سواه، وغالباً ما يكون الاغتراب الفني هو الكود الكاشف عن قيمة التجربة الإبداعية جمالياً، والشاعر المبدع- بمنظورنا- هو المغترب في شكل إبداعه،وتشكيل نصه، وكثيراً ما قرن المبدعون(الشعر بالفن) بوصفه: الركيزة الجمالية لطرائق التعبير الجمالي عن المعنى، ذلك أن الشعر هو التعبير عن الجمال أو تكريس للقيم الإنسانية الجميلة، ونبذ للقيم السلوكية الدنيئة أو السلبية، وبهذا يرقى الشعر بقيمه ورؤاه ومؤثراته الوجودية، وبمنظورنا السابق قلنا:"إن المبدع الحقيقي يعيش دائماً في رحلة عذاب واغتراب،وتأمل، وانفتاح، ورحلة العذاب هذه تبدأ من لحظة إحساسه الوجودي والوعي بهذا الإحساس، أي تنطلق من لحظة إحساسه الوجودي بكيانه، وهويته الوجودية أولاً،وعلاقته بهذا الوجود والتفاعل معه ثانياً، فالاغتراب- في المحصلة- ينطلق أساساً من القطب المحرقي( الذات)،ويمتد إلى الواقع المحيط(الوسط الاجتماعي أو البيئي الذي ينتمي إليه الفرد)،ومن ثم يرتد في حركة معكوسة إلى الذات،وهذا يعني – بالتأكيد- أن الاغتراب ينطلق من الذات،إلى الآخر، إلى الذات، ولا عجب أن يقول أحدهم (منفاي في داخلي)، فالمبدع مغترب في داخله،ويعكس هذا الاغتراب في أشكال إبداعاته الفنية، وطرائقه التعبيرية، ولهذا، فإن المبدع مغترب في كهفه الذاتي الداخلي،يرسم الوجود كما يراه،ويحلم أن يراه،بشكل ما،وطريقة معينة، ولهذا نرى المبدعين يتفاوتون في أشكال إبداعاتهم،تبعاً للمثير الاغترابي، وتملكه لذات المبدع"(1).

ولا نبالغ إذا قلنا: يعد الاغتراب الفني هو المتحول الجمالي في طريقة التعبير،وهو المتغير الأسلوبي الذي يتخذه الشاعر في طريقة البناء الشعري،وبمقدار انفتاح الرؤى،واختلاف طرائق التعبير، بمقدار ما تزداد إثارة النص الشعري فنياً، ويرقى الشاعر جمالياً في اغترابه الفني،وشكل قصيدته، ومسارها الإبداعي،ووفق هذا التصور يقول الشاعر صالح هواري:"إن الشعر- بالتأكيد- هو فن الجمال ومرآته التي تشف عما وراء زجاجها الضوئي الذي يتكسر عند اهتزاز الحياة، لما فيه من عناصر فنية آسرة تأخذ بتلابيب الروح"(2).

ووفق هذا التصور، فإن الاغتراب الفني هو الذي يميز الشعراء،ومدى كفاءة بعضهم، وتدني المستوى الفني عند بعضهم الآخر، يقول الشاعر السوري الشاب ثائر زين الدين:" عرفنا في العلم أجهزة قياس كثيرة، بعضها عادي،وبعضها حساس،وبعضها شديدة الحساسية في قياس درجة الحرارة مثلاً، أو الضغط، أو الاهتزازات وسوى ذلك،والمبدعون أشبه بأجهزة قياس عالية الحساسية، إنها تلتقط العوامل المحيطة بها بصورة فريدة، وبطريقة مختلفة عن التقاط الأجهزة الأخرى(البشر العاديين)،ولهذا، فردود أفعالهم ومنعكساتهم تجاه ما يحدث لهم ولمن حولهم شديدة وواضحة، وقد يولد ذلك شعوراً بالاغتراب"(3).ولهذا، يختلف الشعراء في شكل إبداعهم ،تبعاً لحساسيتهم الإبداعية،ومهارتهم الفنية، وقدراتهم على التقاط الحدث، أو الموقف الشعوري،وتجسيده فنياً بالشكل الموارب أو المختلف عما سبق.

أشكال الاغتراب الفني في شعر حميد سعيد:

يعد الاغتراب الفني من مؤثرات الشعرية ومحفزاتها – عند حميد سعيد- هذا الاغتراب الذي يقوم على بذور الإثارة التي تضمرها نصوصه الشعرية على المستوى الفني، وقد قلنا في دراسة هذا المستوى عند شعراء الحداثة، ومن ضمنهم شاعرنا حميد سعيد ، إن الاغتراب الفني – عند حميد سعيد- يتأسس على هندسة فنية، وإحكام فني في تشكيل القصيدة لديه، وهذا الوعي في إبراز القصيدة في أبهى حلة وتنميق، وتركيب هو للاغتراب بها عن الشكل الفني المألوف، إلى ما هو إبداعي وفني ومثير وغير مألوف، وهذا ما صرح به قائلاً:" يبدأ تشكل القصيدة- عندي- باقتناص فكرتها من خلال التأمل،والتعايش معها طويلاً، في استذكار وحوار متمثلاً تجربتي الإنسانية والمعرفية،وتتشكل القصيدة قبل كتابتها،ومن أصعب مراحل هذا التشكل،هو البداية، حيث أشتغل على وحدة الفكرة، والعبارة، حيث تحل الفكرة في العبارة،.. أعمل بدأب،وليس من اعتباط في أي مرحلة من مراحل تشكلها وكتابتها، فألاحقها بالوعي ذاته،وبالخبرة،والموهبة....والموهبة هي استجابة الإبداع للتشكل بالوعي والخبرة،وعي المبدع وخبرته"(4).

ولهذا ،تنوعت التقنيات الفنية في قصائده تدليلاً على اغترابها الفني،ومذاقها الأسلوبي الخاص، لدرجة أن شكلها البصري يرتبط بنبضها الداخلي،وهذا يؤكد أن اغترابها الفني يرتبط بنبضها الشعوري،وتصدعها الداخلي،ولا نبالغ في قولنا: إن تنوع التقنيات الفنية هو لغاية تكثيف الرؤية وخدمة ناتجها الدلالي، وهذا ما سنحاول رصده من خلال التجليات الاغترابية المكتشفة في قصائده على المستوى الفني ،وهي كما يلي:

الاغتراب الفني بالصور،وتكثيف المشاهد:

وهو من أبرز أشكال الاغتراب الفني مشاهدة -عند شعراء الحداثة المعاصرين،- نظراً إلى تنوع الصور وتراكم مؤشراتها الدلالية، وقد أدرك الناقد كمال خير بك أن المشكلة العظمى لغموض الشعر العربي الحديث،ومن خلالها القابلية الإيصالية لهذا الشعر، إنما يكمن في شكله التعبيري،وفي العلائق الشكلية التي تحدد دلالته(5)، وبمقدار ما يبتعد الشاعر في تشكيلاته اللغوية من خلال تراكم الصور، والتشظي،وتلاشي الروابط، والدلالات، والعلائق اللغوية، وتنافر المعاني، بمقدار ما تبتعد القصيدة عن القارئ،وتتسع الهوة بينهما، الأمر الذي يجعل النص في عزلة تامة عن محركه الدينامي الذي يجسده القارئ فاعلاً ومنفعلاً به.

ولا نبالغ في قولنا: يعد الاغتراب الفني بالصور،وتكثيف المشاهد من أهم أشكال الاغتراب الفني، التي احتفى بها شاعرنا حميد سعيد في تشكيل قصائده، خاصة قصائده الاغترابية في مجموعته ( من أوراق الموريسكي)ومجموعته(من وردة الكتابة إلى غابة الرماد)،التي تشهد حركة نوعية في تراكم الصور،وتكثيف المشاهد، لاسيما في القصائد ذات المنزع الصوفي ممثلة في قسم (وردة الكتابة)، وفي هذه القصائد تطغى الحالة الصوفية.
والجدير بالذكر -وفي خضم هذا التراكب الشعوري وتمثل الحالة الوجدية بكامل نبضها واعتمارها الداخلي- نجد شاعرنا حميد سعيد يكثف المشاهد واللقطات والصور الصوفية المفعمة ولهاً وتوقاً وصبابة،كما في قوله"
" أوقفتُ صفصاف الطفولة.. بين صوتِكِ والمكانْ

ورسمتُ نهراً.. قلتُ.. هذا النهر كانْ
ثم انتظرتُكِ..
جئتِ من طَلَلٍ.. وكان الوابلُ المدرارُ..
بلل أقحوان الثوب.. والشعر المرجَلَ في العواصفِ..
كُنتُ.. أعطيتُ الصباحَ عباءتي.. ومضيت
أنتِ معي.. وإن لم نلتق..
لا ورد في أصص المنازل.. لا حدائق في القصائد.
جئتُ من مدنٍ.. تباركها العواصف ُ..
هلْ تُقيمُ معي العواصفُ.. أم يشاكسها الغناءْ ؟!"(6).

بادئ ذي بدء،نقول: إن الاغتراب الفني- عند حميد سعيد- بتراكم الصور والمشاهد يضاعف من قيمتها الفنية، خاصة في السياقات الصوفية، هذه السياقات التي تتطلب زخماً في المشاعر، وكثافة في الرؤى، تواكب حالة التوق، والوله، والانشداه الروحي صوب عوالمه الصوفية،ومحركاتها الشعورية العميقة.

وبتدقيقنا- في المقطع الشعري السابق- نلحظ اعتماد الشاعر تراكم الصور، والمشاهد، بوصفها شكلاً اغترابياً فنياً، يرمي من ورائه الشاعر التحليق بعوالمه الصوفية بعيداً عن المتلقي ليسكن في خلده الروحي، ممتزجاً بهذه العوالم التي لا يدركها إلا من ذاق وعرف،نشوة هذه الرؤى وحرارة هذه العوالم التي تقود إلى السكينة، والنشوة الروحية،وقد اعتمد الشاعر تراكم الصور والمشاهد بوصفها فواعل رؤيوية، وليست فواعل تصويرية فحسب،كما في نسق الصور التالية:( بلل أقحوان الثوب- أعطيتً الصباحَ عباءتي- تباركها العواصف- يشاكسها الغناء)،والجديد بالذكر أن تراكم الصور الاستعارية لم يأتِ لغاية فنية فحسب،وإنما لنشوة روحية تسكنه في العمق ،وتدفعه للانقياد إليها عبر حركة المشاعر والصور،وهذا دليل أن الشكل التعبيري هو انعكاس جمالي فني للنبض الداخلي، مما يدلل على قوة دفع الحالة الصوفية، ووهجها في الداخل.

ومن الملاحظ أن الاغتراب الفني بتراكم الصور والمشاهد – عند حميد سعيد – يتأسس على وقع الحالة الشعورية،وعمق ما تصيبه الصور من بكارة، وألق، ونشوة روحية تضاعف من مردود قصائده الصوفية جمالياً، وسكناً روحياً فيأتي اغتراب الصور انعكاساً لاغتراب الذات في عوالمها الروحية وتفردها بهذه العوالم ،كما في قوله:
"الأناشيد ُ..

جِنيةٌ دفعتْ بي إلى أَرَقٍ ذي مخالب زُرْقٍ
يُطاردُني..
الأناشيدُ.. عاصفةٌ إثرَ عاصفةٍ
الأناشيدُ.. زُلزلت الروح.. زلزالها
الأناشيد.. صمغُ الكلامِ وسرُ المعاني
الأناشيدُ.. سارقةُ النومِ
كنتُ ابتعدتُ.. وفارقتُها
نمتُ..
الأناشيدُ.. توقِظُني من جديدْ"(7).

إن مؤثرات الاغتراب الفني تبدت في تراكم المشاهد والحالات وتعدد الصور المقترنة بلفظة أناشيد،وهذه المتحولات المشهدية المتتابعة للأناشيد تكثف مدلولها ومكنونها الفني،كما في المتحولات التالية:( الأناشيدُ.. جنية- الأناشيد عاصفة- الأناشيد صمغ الكلام)،وهذا التتابع في رصد الأشكال، والحالات المختلفة للأناشيد دفعه إلى الخوض في مضمار الرؤية،والحالة الصوفية بعمق، فهو يبحث عن السر ومكامن النشوة،في هذه العوالم اللامرتادة،ووفق هذا النبض المصطهج في أعماقه نجده يراكم المشاهد، والصور انعكاساً لما يعتمر في داخله من مؤثرات،ورؤى،ومشاهد محتدمة في قرارة ذاته الداخلية.

والجدير بالذكر أن الاغتراب الفني في قصائد حميد سعيد خصوصاً(وردة الكتابة) تتأسس على تراكم المشاهد، والصور، والرؤى، والرموز، والدلالات التي تصب في دائرة الاحتفاء بالتراث الصوفي وانفتاحه عليه،وهذا يعني أن تصوفه مؤسس على وعي معرفي وتمثل الحالة الصوفية بمصداقية، وعمق، وشمولية، وبعد رؤيوي بحت،ولهذا، جاءت مشاهده وصوره المتراكمة صدى لهذا الوعي، والعمق، والتأمل ،وللتدليل على ذلك أكثر نأخذ قوله:

لي ملاذٌ.."
سَيُخرجُني من ملاذ نعاسي
ويُدْخِلُني جَنَةَ النوم.. والنومَ
مازلتُ منهمكاً بتقاويم بيض..
وما زلتُ أُخرِجُ من حجب الذاكرةْ
لغةً ماكرةْ
ثم يَخرجُ موتى كثيرون.. يَغوونني ببياضٍ بعيدْ
أكادُ أُرافقهمْ..
نجمةٌ ستسد الطريقْ..
وتأخُذُني موجةٌ من ضياءٍ إلى ما تريدْ"(8).

هنا، تتبدى شعرية الاغتراب الفني- في المقطع الشعري- بوساطة تراكم الصور والأنساق المحتدمة بالدلالات الصوفية، فالشاعر يريد أن يسكن في عوالمه الممانعة، ورؤاه المنفتحة على آفاق رؤيوية ودلالية ممتدة، لهذا عمد إلى الاغترابين الفني والرؤيوي للتفرد في هذه العوالم، والتحليق بمخصبات الرؤية إلى الضياء، والبياض، والنور، ولا نبالغ في قولنا: إن الموجات التصويرية هي نفثات اغترابية،يروم الشاعر من خلالها إبراز تصوفه الهادئ، المشبع بالتأمل، والتملي المطلق.

وصفوة القول: إن الاغتراب الفني –بتراكم الصور والمشاهد الشعرية – في قصائد حميد سعيد- يدلل على عوالمه الرؤيوية والصوفية المكثفة بالدلالات، والرؤى، والمؤثرات الشعورية،وهذا ما يجعل الصور لديه ذات بريق فني، وناتج دلالي مفتوح و ممتد، ومن أجل ذلك نلحظ رقياً في قصائده الصوفية، ورقياً في تفاعل المشاهد والرموز الصوفية ك( الضوء- والنور، والإشراق،والبياض،والضياء)،وهذه كلها فواعل دالة في تبئير التجربة الصوفية، وتعميق أبعادها، ورواها، ومدلولاتها الروحية، المشبعة بالنشوة، واللذة، والصفاء الروحي.

الاغتراب بالفني بالرموز، والدلالات المبتكرة:

ونقصد به: الاغتراب الفني الذي يجريه الشاعر بالرموز، للابتعاد بتجربته عن بساطة المدلول،وتسطيح المعنى،وغالباً ما يعتمد شعراء الحداثة، ومن ضمنهم حميد سعيد إلى الرمز التاريخي الذي يعبر من خلاله على مرحلة مهمة من مراحل حياته، أو مرحلة عصيبة مر بها فوجد في هذا الرمز، أو ذاك متنفسه الوجودي في نقل شحناته الداخلية إلى القارئ ،حتى ولو كان هذا الرمز بعيداً في مؤثراته، ومرجعيته عن دائرة وعي، أو فهم القارئ. لأن الشاعر- بالأساس – ما اختار هذا الرمز أو ذاك إلا لينأى بإحساسه، وشعوره، ونبضه عن مدارك المتلقي،وليحظى بقدر ما من السمو، بإحساسه، ونبضه، وعوالمه الفنية إلى ما هو خاص ومسكوت عنه في عالمه الوجودي، وبهذا، الأسلوب يحظى الرمز بسموقه الفني، أو اغترابه الفني الذي يحافظ على بكارته، وشعريته، وفضائه الرؤيوي، أو الدلالي المفتوح، وبتصورنا: إن شعرية الاغتراب بالرموز- عند حميد سعيد- تتعلق بإمكانية الرمز ذاته، وفاعليته الفنية ضمن النسق الشعري،ولهذا، نعد النص المبدع هو النص الذي تتفاعل فيه رموزه، ودلالاته في تبئير الروية،وتكثيف ناتجها الدلالي، ولهذا، اختلفت الرموز وتنوعت- في قصائده- تبعاً لاختلاف التجربة،وشعريتها،وفاعلية مؤثراتها الإبداعية،وهذا يدفعنا إلى القول:إن شعرية الاغتراب بالرموز لا تتحدد فقط بشعرية الرموز ذاتها، ومصدر تفاعلها ضمن القصيدة، وإنما بالمستحدثات الدلالية المكتسبة من سياقها النصي الجديد، ولهذا، تنوعت الرموز، واختلفت باختلاف مؤثراتها، ومعطياتها على امتداد حركة الحداثة الشعرية،ولا نذهب بعيداً حين نقول:إن درجة شعرية الرموز تختلف من نص إلى آخر،ومن تجربة إلى أخرى، بحسب القوى الجمالية أو الرؤيوية النشطة في هذا الرمز أو ذاك، وعمق ما يصيبه من دلالات ورؤى جديدة في السياق،ولقد كانت الناقدة خلود ترمانيني محقة في قولها:

"إن الشاعر يكتشف الرمز ولا يخلقه من عدم،فهو يفتح أبعاداً من ذاته تماثل أبعاداً من الخارج،وعلى هذا يتوسط الرمز بين(الذات- الداخل/ والموضوع- الخارج)، كما أنه حين تتم لحظة التلقي فإنها ترمز إلى ما في دخيلة المتلقي لكي يمكنه أن يستكشف دلالات الرمز من خلال تجربته،وإحساسه بما يحققه الرمز في اللحظة التي يتلاقى فيها الإبداع والتلقي. فإذا كان الرمز مغرقاً في ذاتيته، فقد المقدرة على التواصل مع القارئ،ومن هنا، فإن الرمز ليس منطوق ذات مبدعة فحسب، بل هو منطوق النفس البشرية كلها، والرمز يتجاوز نفسه باستمرار، لأن المراد منه التعبير عن منطوق النفس البشرية كلها، والرمز يتجاوز نفسه باستمرار،لأن المراد منه التعبير عن المشاعر الوجدانية التي تعكسها الظروف الاجتماعية، بل الحياة بكل مفارقاتها ورؤاها المستقبلية،وصولاً إلى الحقائق التي تدير الوجود. فالرمز ناتج عن عمق الوعي بالوجود،وهو يحتاج إلى ذائقة إبداعية تخرجه إلى النور"(9).

ويعد الاغتراب بالرموز- عند حميد سعيد- من مؤشرات غنى تجربته،وخصوبة مردودها الدلالي،وأبرز ما احتفى به من الرموز الرمز التاريخي والرمز الصوفي، وبتقديرنا: إن اشتغال حميد سعيد على الرموز التاريخية له مؤثراته ومثيراته لديه،لأن مرجعية الرموز التاريخية –لديه- مرجعية فنية محملة بشحنات قديمة عالقة بهذا الرمز أو ذاك ،وهذه الشحنات لها تأثيرها في الذاكرة الجماعية والوجدان العربي، ولا عجب في غنى الرموز وفاعليتها في قصائده، فهي تحمل من الشحنات، والدلالات، والرؤى، ما يجعل رموزه فاعلة في تحريك الشعرية، وتكثيف إيحاءاتها،ومدلولاتها كافة، وللتدليل على قيمة الرموز وفاعليتها نأخذ قوله:

"ما عادَ للغجريِّ..
من يحكي لهُ ما كانَ..فاعتزَلَ الغِناءْ
وتفرَّق الركبُ الجميلُ
لا واحةٌ بيضاءُ في هذا البياض.. ولا قَـبيلُ
كنّا غَدونا ذاتَ منعطفٍ.. كباراً..
أيّـها الولدُ الكسولُ
الخيميائيُّ المبجَّلُ..
يَمنحُ المدنَ الكئيبةَ سِحرَهـا الليليَّ
يأتي حيث كانَ.. البحرُ
كيف يكونُ..
وقد نأت بيروتُ.. بعدَ تباعدِ النُـدمانْ
مَـن ماتوا.. ومَـن قُـتِلوا..
ومَـنْ لم تَحمِهمْ أوطانْ"(10).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الاغتراب بالرموز والدلالات المكثفة -في قصائد حميد سعيد- يتأسس على فاعلية الرموز وشعريتها المتناغمة مع الدلالات الصوفية والتاريخية الخصبة بالإيحاءات والومضات النصية المتفاعلة، وبقدر ما يكثف الشاعر رموزه التاريخية، وينوع في دلالتها، ورؤاه، بقدر ما ترتقي شعرية الرموز واغترابها الفني والجمالي في آن، ولو دققنا- في المقطع الشعري السابق- لوجدنا تفاعل الرموز ،ومؤثراتها في الأنساق،كما في الرموز التالية:( الغجري- الركب الجميل-الولد الخيميائي المبجل)، فهذه رموز دالة على الاغتراب.
والجديد بالذكر أن الاغتراب بالرموز-في شعر حميد سعيد- أكثر ما يتعلق بالسياقات الصوفية،وهذا يعني أن اغترابه روحي صوفي ابتهالي هادئ يميل إلى المكاشفة والتأمل الوجودي،كما في قوله:

"صَفو الحضورِ.. يُحيلُ أيامي إلى كدر الأفولْ
أوَ كُنْتَ يا قمر الفضاءات السخيةِ..
تستعيد فضاءكَ المُمتدَ من صَخَبٍ إلى صَخبٍ..
وتهربُ من نهاراتٍ مراوغةٍ إلى ليلٍ وقورْ؟!
بيني وبين صفاء أيامي.. سحابٌ معتِمٌ..
أتذكَرُ المطرَ الأليفَ..
مُبَلَلاً.. أرنو إلى صمتٍ بتولْ
وجدتُ في غلواء أسئلتي.. غُلُواً بي إليكَ..
وفيكَ..
أدخلُ في فراديس اليقينْ"(11).

هنا،يطالعنا الشاعر- برموزه الصوفية الاغترابية التي تكشف عن إيحاءات عميقة، من حيث الابتكار،والشفافية،والعمق، فهو ليس كعادة المتصوفة الآخرين، الذين يقلدون الطقوس الصوفية برموز مكرورة، أو مداليل مستعادة، أو دوال لغوية تقليدية معتادة،وإنما يفاجئنا بأنساق صوفية تشكيلية تشي بالدلالة العميقة،والإيحاءات المبتكرة التي لم نعهدها في تجربة سابقة،كما في الأنساق التالية:[ صفو الحضور- كدر الأفول- قمر الفضاءات السخية- نهارات مراوغة- ليل وقور- المطر الأليف- صمت بتول- فراديس]،إن كل نسق لغوي يشي بإيحاءاته الصوفية،ويشي ببعده الجمالي،وهذا يعني أن اغترابه الصوفي اغتراب روحي عميق، يصل إلى جوهر الرؤية،وتنكشف الحجب، ويتحثث اليقين، ولا نبالغ إذا قلنا: إن رموزه الصوفية رموز اغترابية أو مغتربة تنأى بتجربته عن التقليد، وهذا يعني أن لتصوفه طقسه الروحي الخاص، ونبضه الجمالي،وحسه الإبداعي الذي ينقل رؤيته، وتوقه الداخلي إلى الجسد اللغوي، لتكون تجربته الصوفية نابعة من الصميم، من الاحتراق الداخلي إلى الجسد اللغوي، إلى الفضاء البصري الذي تثيره القصيدة.
ولو دقق القارئ في جمالية الاغتراب الروحي الذي تثيره الر موز الصوفية لأدرك أن تجربته الشعرية ممزوجة بهذا الزخم الروحي والشفافية الخالصة التي تبثها رموزه الصوفية كتيار روحي دافق ينبع من نفس مشبعة توقاً، وأنساً، وشفافية متناهية بفيض خصيب لا ينتهي أو يتوقف،وللتدليل على ذلك نورد قوله:

" وَطَفٌ.. يبللُ ظلَكِ الممتد.. من أحراشنا الأولى..
إلى شجر الغيابْ
هذي زوابعُكِ البريئة.. تقتفي أثري.. أُحبُكِ في الزوابع..
في الحنين إلى المرابع..
في انفتاح الماء.. حين يدقُ أبواب المساءِ..
سَمِعتُ باسمك في أقاويل الرياح..
وكنتُ أبحثُ عنكِ.. في كتب العواصفِ..
في العواصفِ..
أنتِ تاجُ العارفين.. وأنتِ سيدة اليقين ِ..
وأنتِ.. أنتِ"(13).

إن قارئ هذا المقطع لا يخفى عليه رموزه الصوفية المشبعة بالحساسية والشفافية،والتوق الروحي،وقد سبق أن أشرنا إلى أن الاغتراب – بالرموز الصوفية عند حميد سعيد- يتأسس على بكارة الاستعارات التي تثيرها الرموز، من حيث الفيض الروحي الذي تنطوي عليه الأنساق التالية:[ ظلك الممتد- أحراشنا الأولى- شجر الغياب- زوابعكِ البريئة- انفتاح الماء- أقاويل الرياح- كتب العواصف- تاج العارفين- سيدة اليقين]، وبهذه النزعة الشعورية المفعمة بالهدوء والطمأنينة تأتي رموزه معبرة عن قمة الصفاء والانسجام الروحي الدافق، فالشاعر مستغرق بالحالة الصوفية، والحنين الدائب إلى عالمه الرؤيوي، والصوفي المفتوح، فهو يبحث عن ظلها الممتد،ويقتفي أثرها في كل الأماكن، ليصل إلى نورها المطلق، الذي يصله بالملكوت، والمعرفة، واليقين.

وصفوة القول:

إن حميد سعيد – في اغترابه الفني عبر الرموز، والرؤى، والدلالات، يحفز شعريته ، ويكسبها العمق، والبعد عن التسطيح،وذلك لأن قصائده تعتمد على بكارة الرمز وجديته،وبلاغته في تفعيل التجربة الشعرية من الداخل، وهذا يقودنا إلى نتيجة مهمة: إن المبدع الحقيقي يخلق رموزه المؤثرة التي تحرك فضاء تجربته الشعرية بمعزل عما سواها، ليؤكد خصوصية تجربته الفنية، وانفرادها برموزها الخاصة،ورؤاها العميقة، ولا نجافي الحقيقة في قولنا: إن الشاعر المعاصر ليس من واجبه تأكيد اغترابه بقلقلة رموزه،وتكثيفها بشكل عشوائي غير محدد، فهذا الأمر يضعفها ،ويقلل من خصوبتها،ومرجعيتها الإبداعية الثرة،وهذا ما أدركه حميد سعيد في تجربته ووعاه بعمق في قصائده على مستوى بناها ومؤثراتها الفنية.

الاغتراب الفني بالتخييل والانفتاح الرؤيوي:

ما من شك في أن لجوء الشاعر الحداثي المعاصر إلى الاغتراب بالتخييل له مبرره عند أكثرهم ، بأن الشعر بالأساس لعبة تخييلية، أو لعبة أخيلة،وتراكم مشاعر وأحاسيس، وهذا ما أشار إليه بقوة ووعي معرفي الناقد الجمالي(كولردج) قائلاً:" الشعر تشويش مستمر للتخيل،وفقدان وقتي للذاكرة"(14)،وهو- بهذا يعني –بشكل غير مباشر- أن الشعر اغتراب تخييلي أو خيالي يبتعد عن الذاكرة، ولحظة الوعي ،إنه أفق تخييلي مفتوح، وفضاء رؤيوي عائم على الدوام،والشاعر –في مفهوم الباحثين والنقاد القدماء- مبدع أخيلة،وصائغ جمالي لهذه الأخيلة في جسد تصويري مثير، وبهذا المقترب الرؤيوي يقول لسان الدين ابن الخطيب:" فمن الشعر –عندهم- الصور الممثلة،واللعب بالمخيلة،وما تأسس على المحاكاة والتخييل مبناه"(15)،وهذا يعني أن القدماء عدوا الشعر ضرباً من الخيال،أو طاقة تخييلية خلاقة منتجة على الدوام،وما دام الشعر-كذلك- فإن" للحياة التخييلية استمراريتها في نفوس الشعراء، لأنهم قلما ينسابون بلا إنتاج، فالانسياب بدون هدف عبر الحياة،محرم على عقل الفنان، لأنه دائم التأمل،فهو يعيش بصورة إبداعية دائمة يستعمل الزمن،ويستغله ليستخرج منه كل ما يستطيع"(16) من رؤى، ودلالات، وبنى فكرية، تدفعه لاعتصار كل ما لديه لتحقيق رؤية جمالية، أو رؤية فنية لمعظم الأشياء من حوله.

وبتصورنا:إن أبسط تعريف يمكن أن نثيره حول هذه المسألة مسألة(الاغتراب اللغوي) هو لجوء الشاعر إلى تكثيف الأخيلة، تجاه الشيء المخيَّل أو المتخيَّل،لإبراز رؤية جديدة، أو مغزى أو صورة جديدة للشيء المجسد،وبمقدار ما تكون الرؤية المتخيلة ممتدة في فضائها، وحراكها التخييلي بمقدار ما تصيبه من عناصر المتعة، والإثارة في تلقيها،لأن الصورة المتخيلة المبتكرة تجذب المتلقي إلى جماليتها،وجمالية ما تفيض به من إيحاءات ودلالات مبتكرة،وهذا بديهي لأن الطاقة التخييلية التي يمتلكها المبدع أو الفنان هي نتاج مخيلة خصبة،وهذه المخيلة هي نتاج مجموعة محفزات ومثيرات،وفواعل ضاغطة تثيرها وتحركها،وهذه المثيرات تصب جلها في أتون المعاناة،والمكابدة، والجراح، والإحساس بالاستلاب، وبعضها يصب في أتون التأمل، والاستغراق، والاستجمام الروحي في ملكوت الكون الواسع،ولهذا يعد الاغتراب الفني والانفتاح الرؤيوي شكلاً متطوراً من أشكال الاغتراب المجرد أو التجريدي،وفي هذا النوع من الاغتراب ينزع الشاعر إلى إكساب قصائده ظلال إيحائية مضاعفة بوساطة المتخيلات الصادمة التي يرمي من ورائها الشاعر إثارة المتلقي بالرؤى المتخيلة، إزاء الشيء المتخيل،وإبراز المتخيلات بقوالب فنية جمالية آسرة،هو ما يمنحها اغترابها الفني البليغ أو المؤثر. ولهذا شدد بعض المتحمسين على قيمة الاغتراب الفني بالمتخيلات الشعرية(قيس مجيد المولى) قائلاً:"إن الشاعر كلما تمكن من الإيغال بالخيال،وتمكن- بشكل عفوي- من مؤاخاة المزاج مع ما في طاقته الذهنية من ترتيبات توضع كأساس في بناء النص، كلما تمكن من التحرر التدريجي عما يثقله باتجاه اقتناصه للمعبر المفيد كي يستطيع أن ينطق بأجمل الصور إثارة تخييلية وشاعرية"(17) شريطة ألا يقع الشاعر في مغالاة السريالية،وما فيها من عبث وتركيب فوضوي يلعب بإيقاع الصور،ويودي بها إلى الحضيض.

ومن يطلع على تجربة حميد سعيد في بعدها الاغترابي الفني على مستوى التخييل والانفتاح الرؤيوي والدلالي، يلحظ غنى آفاقه الرؤيوية والدلالية، وكثافة المنظورات المواربة في بعدها ومنظورها الجدلي الصاخب، وهذا يعني أن آفاق المتخيلات الشعرية منفتحة على آفاق رؤيوية متخيلة عميقة التخفي والإحكام الفني، كما في قوله:

فاجَأَتني حديقةُ بيتي الذي كانَ..
إذْ تَبِعَتني إلى النومِ
ليس سوى حطبٍ في فراشي
أُجَمِّعُ ما كان من شجرٍ.. وثمارٍ..
كُلٌ يعودُ إلى حقلهِ
وأظلُّ وحيداً كما زهرة الصبار
إذ أكملَتْ نخلةُ الغريب أوراق هجرتِها..
وسترحَلُ..
حينَ تَمُرُّ ببستانِ أمِّ البنين.. وقد كانَ
لَنْ تجدَ البلَحَ الذَهَبيَّ المُتاحَ للعابرين..
لا نخلةُ الغريبِ.. ولا.."(18).

بادئ ذي بدء،نشير إلى أن الاغتراب الفني- بالتخييل والانفتاح الرؤيوي -في شعر حميد سعيد- يؤكد شعرية الرؤية عند حميد سعيد، وشعرية الناتج الدلالي، الذي تفرزه نصوصه، على المستوى الدلالي،وسبق أن أشرنا في دراسات سابقة: أن حميد سعيد يشتغل على المتخيلات المبئرة للحدث والمشهد الشعري خاصة المشاهد الصوفية، وهنا -في المقطع الشعري- يأتي الاغتراب الفني بالمتخيلات كاشفاً عن ذكريات الشاعر وحنينه إلى بيته وحديقته الخضراء وكل المشاهد والصور الناصعة في مخيلته الإبداعية عن ماضيه المشرق وذكرياته في بلده الحبيب العراق، فيتحد برمز الموريسكي، لدرجة الالتصاق وعدم الانفصام، فكما رحل الموريسكي عن موطنه في الأندلس رحل الشاعر عن بلده العراق،وظلت أصداء ذكرياته ومشاهده حية أمام ناظريه،لا يمحي أثرها أو يزول.

وإن القارئ – بعمق- لهذه الأسطر - يلحظ تمازج الاغتراب العاطفي بالفني، والعاطفي بالوجودي والوجودي بالاغتراب النفسي،وكأن صدى صوره ومشاهده ترتد من الذات إلى اللغة ،ومن اللغة إلى الذات بحركة شعورية صادقة ومتخيل شعوري عميق.وهذا ما يؤكده في المقطع التالي كذلك ، إذ يقول:

في الصباح.. يُراقِبُني الهدهدُ الحذِرُ..
هلْ كانَ يَعْرِفُني؟!
وهل هو مَنْ كُنتُ حاولتُ.. إذْ كُنتُ طِفلاً..
أَنْ يُشاركني فطوريَ ؟!
أمْ من سُلالته ؟
وهل كنتُ طفلاً؟
تَمَنَّيتُ لو تعلَّمتُ من لغة الطيرِ.. شيئاً..
لَحدَّثَني عن بساتينَ بِيضٍ.. عَلَقْتُ بها
ونساءٍ..
مازلتُ أَذكُرُ مَكْرَ انزياحِ العَباءاتِ..
عَمّأ يُخبِّئن من ثمرٍ ناضجٍ.. بانتظار القَطافْ"(19).

لابد من الإشارة بداية إلى أن حميد سعيد يلجأ إلى الاغتراب الفني بالمتخيلات الفنية المحركة للمشاهد الشعرية،مما يجعلها بغاية الحنكة، والدلالة، والخصوبة، والحراك الجمالي، والكشف عما يعتريه من مشاهد اغترابية شعورية،تمس الذات في إحساسها الحارق،وانكسارها المرير، كما في قوله:( تَمَنَّيتُ لو تعلَّمتُ من لغة الطيرِ.. شيئاً../ مازلتُ أَذكُرُ مَكْرَ انزياحِ العَباءاتِ.. عَمّأ يُخبِّئن من ثمرٍ ناضجٍ.. بانتظار القَطافْ"، ومن هذا المنطلق، تأتي المتخيلات الفنية كاشفة عن الحرقة الاغترابية الشعورية،ولا نبالغ في قولنا: تأتي المتخيلات الفنية كاشفة عن ارتدادات شعورية مأزومة لدرجة تعبر- بعمق- عن قلق الذات واغترابها،وهذا ما يدل على تضافر الإيقاعات الاغترابية جلها في تعميق الرؤية وتكثيف الحدث، وتأسيساً على هذا يمكن القول:

إن شعرية حميد سعيد ماثلة في الأشكال اللغوية، والفنية، والبصرية، والتصويرية،وهذا ما يجعل نصوصه محط تناغم وإثارة وحركة فنية ناتجة عن إيقاعات جمة ومثيرات متغيرة،مما يضمن لها الجمالية ودهشة التلقي.
الاغتراب الفني بالأنساق الاستعارية المتجانسة والمتفاعلة:
ونقصد بهذا الشكل من الاغتراب الفني أن يغترب الشاعر بأنساقه التصويرية الاستعارية لإبراز الرؤية الشعرية باقتصاد لغوي بالغ، وقيمة فنية عالية، أو مؤثرة،وهذه القيمة تزداد درجتها شدة وفاعلية بمقدار تفاعل الأنساق الاستعارية مع بعضها بعضاً،للتحليق بالاغتراب الفني الاستعاري إلى قيمة جمالية عليا لا يدركها القارئ إلا بعد كد ذهنه وتحثث مغرياتها الفنية المؤثرة، وهذا يدلنا على أن"بذور الحداثة تكمن في شرارات المعاني المتقدة من البنى الاستعارية المتجانسة التي تشيع التوتر في النص،وليست في البناء الشكلي، وإيقاعاته الخارجية المتمثلة في حركة الروي والقافية"(20).
وبتصورنا: إن الاغتراب الفني بالأنساق الاستعارية- عند شعراء الحداثة- ومن ضمنهم حميد سعيد- يتنوع -بحسب شدة الصدمة التي تثيرها هذه الأنساق في سياقاتها الشعرية، ومقدار جدتها وبكارتها وشاعريتها، ولهذا، تتنوع مثيرات الاغتراب الفني –عند شعراء الحداثة- بتنوع الأساليب، والمتغيرات الأسلوبية عند كل شاعر،وطريقة تمثله لهذا الإحساس الجمالي بالشكل اللغوي الملائم،والنبض الشعوري الدافق، وبقدر مهارة الشاعر في بث زفراته الاغترابية بمتغيرات أسلوبية جديدة وتقنيات فنية مبتكرة بقدر ما ترتقي فنية قصائده،وترتقي مداليل الاغتراب إثارة ودلالة وزخماً إبداعياً خصيباً،يستثير القارئ،ويفعِّله،ويجذبه إلى دائرة نصوصه الإبداعية، ولهذا، تتفاوت درجة شعرية الاغتراب الفني عند شعراء الحداثة – تبعاً لمهارة الشاعر وخبرته الجمالية في بث ما في دواخله من شحنات اغترابية بإحساس فني مركز،ووضوح مقصدي، وتكثيف إيحائي، وهذا قليل مقارنة بهذا الكم الهائل من القصائد الاغترابية الحافلة في شعرنا المعاصر.

ويعد الاغتراب الفني بالأنساق الاستعارية المتجانسة أو المفتوحة من مؤثرات الصورة ومحفزاتها الجمالية في شعر حميد سعيد، لاسيما إذا أدركنا أن هذه الجمالية مصدرها بكارة الاستعارات وقيمة فواعلها الرؤيوية ،ونواتجها الدلالية، وللتدليل على ذلك نورد قوله:

سينٌ.. أُخبئ ُ فيه.. ما أعطيتُ من شمس الكتابةِ.."
أو ظلال القولِ..
أنتِ قصيدتي الأولى.. انتظرتُكِ في صقيع النومِ..
في جمر العواصفِ..
وانتظرتُكِ في مقام الليلِ..
أسألُ..
هلْ أخونكِ حين أبحثُ عنكِ ؟!
أنت وقار ذاكرتي.. وأنتِ جنونُها..
ماذا سيبقى في حدائق صمتنا الفضي..
ماذا.. بعدَ أن رحل الكلامْ؟"(21).

لابد من التنويه بداية: أن الاغتراب الفني بالأنساق الاستعارية المتجانسة – عند حميد سعيد – يتأسس على حنكة هذه الأنساق وتفاعلها على مستوى الرؤية، وانسجامها على المستوى النصي،وبمقدار تضافر هذه الآنساق وتفاعلها بمقدار ما تستثير الشعرية وتحلق الاستعارات في شعريتها، محققة أقصى درجات الإثارة، واللذة الفنية، ولهذا، يعد الاغتراب الفني في هذا الشكل جزءاً من الاغتراب اللغوي،وقد نوَّهنا من سابق أن الاغتراب اللغوي والفني متلاحمان معاً لدرجة لا انفصام بينهما أحياناُ، في شعرية حميد سعيد،وهذا التلاحم هو سبب خصوبة شعريته، وتنوع مشاربها الإبداعية.
ولعل أبرز ما يثيرنا الشاعر في اغترابه الفني الاستعارات الجمالية التي ترتقي بالمشهد الصوفي،وتستثيره جمالياً،ومن أبرز هذه الاستعارات المتجانسة ما يلي:( ظلال القول- صقيع النوم- جمر العواصف- وقار ذاكرتي- صمتنا الفضي)، فالشاعر هنا، يرتقي بالرؤية الصوفية عبر الفواعل الدلالية، ونواتجها الإيحائية الفاعلة المنبعثة من الأنساق الاستعارية المتجانسة التي تخلق قوة حرارة الصور الصوفية، ذات الوقع المحتدم والإحساس المتقد أنساً، وولهاً، وصبابة،وهذا يقودنا إلى القول: إن الغنوجة التشكيلية لهذه الأنساق الاستعارية،تزيدها متعة،وحركة دافقة على مستوى الرؤية،وهذا ما يضمن عنصر جاذبيتها، وإثارتها، واغترابها الفني الشائق والممتع.

وما ينبغي التأكيد عليه: أن متعة شعرية الاغتراب الفني – عند حميد سعيد- يكمن في تنوع تقنيات قصائده فنياُ،وتفاعل هذه التقنيات، وانعكاس مردودها على مستوى الرؤية وتنوع الدلالات، وانفتاحها على آفاق رؤيوية ممتدة ومفتوحة على أشدها، وللتدليل على شعرية هذا النوع من الاغتراب الفني في شعر حميد سعيد نأخذ قوله:

أَغلَقتُ بابي واستعنتُ بزائري.. الوهمِ الجميلِ.."
وقلتُ ماذا لو تكون معي؟! وقلتُ.. تكونُ..
لكني سأكذبُ كذبةً سوداءَ..
حتى لا أغارُ.. ولا أُثارْ
وأدعي ما لمْ يَكُنْ بيني.. وبين قصيدتي..
وأقولُ..
أشواكُ الكآبةِ من قبيل القولِ..
أَزجُرُها وأشكوها إليها.. أو أَشكُ..
معاً.. تُطَهِرُنا مياه المزن.. من أخطائنا الأولى
ومن أحلامنا الأولى.. ومن حَسَكِ الفضولْ"(22).

إن أول ما يلحظه القارئ شعرية الأنساق الاستعارية وتفعيلها للمشهد الصوفي بأكمله، وهذا يعني أن الاغتراب الفني بالأنساق الاستعارية المتجانسة هو ما يحقق لها التناغم، والتفاعل، والانسجام، والتوهج، والحرارة الصوفية، فالشاعر لم يجد أبلغ قوة ولا أعمق أثراً في التعبير عن رؤيته الصوفية من بلاغة هذه الأنساق وقوتها الدافقة( حسك الفضول- أشواك الكآبة، الوهم الجميل)، فهذه الاستعارات المتوهجة رفعت درجة سوية المقطع ،وأثارت تواتجه، وفواعله الدلالية والشعورية،وهذا ما يحسب للاغتراب الفني في قصائده أنه ممتلئ بالدلالة ،وممتلئ بالكثافة التعبيرية،والفاعلية الرؤيوية للمشهد أو النسق الذي يتأسس عليه،مما يدل على خصوبة الرؤية، وسرعة مردودها الفني.
وصفوة القول الذي نروم قوله:إن الاغتراب الفني – بالأنساق الاستعارية المتجانسة- في قصائد حميد سعيد يهبها شرعيتها الجمالية،وقدرتها على تنويع الرؤى، وتكثيف الدلالات وتحميلها من الرؤى والمثيرات ما يجعلها متميزة في نسقها ،وكأن القصيدة لا تشع إلا بهذه الإشراقات الجمالية التي تتلألأ كالكواكب في سماء النص الشعري لديه،وهذا ما يحسب جمالياً لهذا الشكل الاغترابي الفني في شعر حميد سعيد.

الاغتراب الفني بالتعادلات البصرية واللغوية المتوازية أو الموازية.

ونقصد بهذا الاغتراب أن يلجأ الشاعر إلى الاغتراب البصري واللغوي في توزيع الأنساق الشعرية توزيعاً بصرياً ولغوياً متعادلاً، يرمي به الشاعر إلى تحقيق اغترابه الفني الذي يرقى بشعرية الأنساق وناتجها الدلالي، وفواعلها النصية،ويعد هذا الشكل الاغترابي عند شعراء الحداثة نقطة الارتقاء والتحليق بشكل القصيدة، ومضمونها جمالياً،ولا عجب إزاء هذا الاغتراب أن يوجه الناقد علي جعفر العلاق القارئ إلى كيفية تلقي النص الشعري تلقياً فنياً ناجعاً إذ يقول:"إن القارئ، في تلقيه للنص الشعري، لابد أن يولي اللغة عناية كبرى، فلغة الشعر عميقة التخفي،وشديدة الكثافة، إنها مفعمة بالانزياحات والمراوغة، وهي حين تجسد موضوعها،تمعن في الالتفاف حوله،ومشاكسته،وتلوين فجواته بالحيرة، أو الضوء، أو التردد،ولا يتوقف القارئ- عند هذا المستوى- من لغة النص، بل يذهب إلى ما يجسد كتلته الماثلة على الورق، حوار السواد والبياض،بعثرة كلماته، تمزيق الروابط بين عناصر الجملة الواحدة،الحجوم، الامتداد، والفراغات، وكثافة الحرف، وعلامات الترقيم"(23). وهذا دليل وعي الشاعر بالقيمة البؤرية للغة في تأكيد خصوصية المبدع،وتوجيه دائرة خطابه للمتلقي بالشكل الفني الذي يرتضيه،ويحفزه لتلقيه جمالياً.

ولا نبالغ في قولنا: يشكل الاغتراب الفني- في شعر حميد سعيد- علامة فارقة في تحفيز القصيدة بصرياً ودلالياً،وهذا دليل "أن الاغتراب ليس موضوعاً فردياً يجسد عاطفة مفردة،وإنما موضوع شامل مثقل بالأحاسيس، والرؤى، والتجارب"(24)، والشاعر المبدع هو من يجسد هذا الاغتراب بالشكل الحافل بالدلالة،والمشبع بالتقنيات الفنية، والمؤثرات الجمالية التي تثير النص،وترفع وتيرته الشعرية.

وبتصورنا: إن الاغتراب الفني – عند شعراء الحداثة- يختلف من شاعر إلى آخر، وبمقدار حنكة الشاعر في إبراز تميزه الفني بمقدار ما يرقى الاغتراب الفني في شكله الإبداعي الذي يتخذه الشاعر على بياض الصفحات، وهذا يعني أن الاغتراب الفني يتعلق بالفضاء البصري للقصيدة،ليكون الشكل البنائي للقصيدة صورة من صور الاغتراب،ومحرقاً في الدلالة عليه،

وقد لجأ الشاعر حميد سعيد إلى الاغتراب بالتعادلات البصرية واللغوية لتنظيم الحركة الداخلية والرؤيوية للقصيدة،وإبراز هندستها الفنية المحكمة،وقد أكدنا من دراسات سابقة أن الاغتراب الفني بالمتعادلات البصرية واللغوية يسهم في رفع سوية البناء المعماري الفني للقصيدة جمالاً وإثارة،ومتعة في تلقيها،لاسيما عندما يكون مشفوعاً بدلالة ما أو رؤية يرومها الشاعر من هذا المقتضى البصري أو اللغوي أو الفني في تحفيز رؤية القصيدة، وإبراز ملمحها الدلالي العميق.
ويعد هذا الاغتراب من أكثر أشكال الاغتراب الفني دلالة وعمقاً في تحفيز القصيدة، لأن إيقاعاتها الصوتية، والبصرية، واللغوية، تتضافر في خلق هذا التفرد والاغتراب والارتقاء بإيقاعاتها إلى آفاق فنية و رؤيوية ونفسية كاشفة، كما في قوله:

أهذه بغداد ؟!"
أسألُ عابرين فما أجابوا..
أين الصحابُ ؟
لا سامِرٌ في الحي.. لا ضحِكٌ.. ولا صوت المؤذن يذكر اسم الله..
لا ماءٌ قراحٌ.. لا سرابُ
هذا الخرابُ..
بستانُ عزرائيل.. يُثمرُ في مواسمه الخرابُ
لمْ يبقَ في أرجائه شجرٌ ولا حجرٌ..
لقدْ عمَ الخرابُ
عمَ الخرابُ
عمَ الخرا..."(25)

لابد من الإشارة بداية أن الاغتراب الفني بالتعادلات البصرية واللغوية – في شعر حميد سعيد - يتأسس على وعي فني بأبعاد هذا الاغتراب في الارتقاء بالإيقاع اللغوي والدلالي للقصيدة،لاسيما حين يوظف هذه التعادلات في إنتاج الدلالة،وتنشيط الفواعل الرؤيوية التي تضمرها القصيدة، وهنا، استطاع حميد سعيد أن يرتقي بالإيقاعات الدلالية لهذه التعادلات البصرية، والدلالية بوساطة الاغتراب الفني ، محلقاً بهذه الإيقاعات إلى آفاق خصبة من التكثيف، والإيحاء. وأولى بوادر الاغتراب الفني بالتعادلات البصرية واللغوية التعادل البصري البارز في قوله:

لقدْ عمَ الخرابُ
عمَ الخرابُ
عمَ الخرا".

إن هذا التعادل البصري اللغوي يدل على إحساس الشاعر المؤلم الذي حدث لبلده العراق وما ناله من دمار وخراب،وهنا، عبر الشاعر بالتوازي البصري واللغوي عن هذا الإحساس الشعوري الاغترابي الجريح،وكأن جراحاته الداخلية انعكست على شكل كلماته وفراغاته السطرية،مؤكداً عمق هذا الاغتراب وأثره على روحه قبل كلماته،وجسدها اللغوي السطحي، وهذا يدلنا" إن النص الشعري شكل قبل أي شيء آخر،ونحن حين نستقبل النص،فإننا لا نؤخذ، للمرحلة الأولى للتلقي، إلا بشكله أولاً، أي أن الخضة الأولى التي تعترينا لا تنبعث في الغالب إلا من شكل النص أو عناصره الشكلية الحسية، أما بناء النص فإن اكتشافه مهمة يصعب على المتلقي الأول إنجازها دائماً، لذلك، فإن كل قراءة لاحقة تظل اقتراباً من بنية النص واختراقاً لظلمته البهيجة، إن ما تبعثه القصيدة فينا من نشوة أو قوة، أو أسى لا يترشخ إلا عن مستواها الشكلي أولاً،ومن خلال هذا الشكل بتفاصيله ومكوناته تنجح القصيدة في إشاعة مناخها الجمالي والفكري في كيان المتلقي،وتستدرجه،بعد ذلك إلى فضائها الداخلي،وشباكها الخادعة، أي إلى أبهة البناء الشعري،وبهائه الساطع"(26).
والجدير بالذكر أن الاغتراب الفني بالتعادلات البصرية واللغوية يعبر عن الكثير من الجوانب الاغترابية التي تطال الذات في تصدعها وانكسارها وقلقها ووحشتها،لتكون هذه المتوازيات(البصرية/ اللغوية) نقطة تمفصل الرؤية، وكثافة المدلولات النصية المنكسرة، وللتدليل على فاعلية الاغتراب الفني وفق هذا المنزع التشكيلي، نأخذ قوله من قصيدة(من نافذةٍ في المشفى أرى وطني) لحميد سعيد ،وفيها يقول:

"أنظُرُ من نافذةٍ في المشفى الموحشِ..
كُنتُ أُحاوِلُ أنْ أخرجَ من غابة روحي..
سوداءٌ غابة روحي
الصمتُ يُحاصِرُني..
وثواني الساعة ديناصوراتٌ تمشي في حقل القارِ..
وفي هذا المشفى لا شيء سوى الوحشةِ..
لاشيْ
أُحاولُ أنْ أرفعَ صوتي.. كي أسمعَ صوتي
لا أحدٌ في هذا المشفى يسمعُ صوتي
كل الأبواب مُغَلَقةٌ.. من أي الأبواب سأخرجُ
أي الطرقات تقودُ خُطاي إليكَ، وفي كل الطرقات.. العسَسُ
من أي الطرقات أرى شَمْسَكَ؟
كلُ الطرقاتِ أقام َ بها الغَلَسُ..
من نافذةٍ في المشفى الموحش..
خُيِل لي أنك تسمعني.. بل أنك تسمعني
مَنْ يَسمَعُني ،، إنْ لمْ تَكُ تسمعني ؟!
ها أنت تمدُ يداً وأراها
مَن غيركَ كان يمدُ إليَ يداً.. أو كان سواي يراها ؟!"(27).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الاغتراب الفني بالتعادلات البصرية واللغوية – في قصائد حميد سعيد- يشف عن الكثير من المشاعر والرؤى الاغترابية التي ترتقي إلى أكثر من رؤية ومدلول،لاسيما حين يوفق الشاعر باختيار المقتضى اللغوي المناسب تبعاً لمقتضاه البصري،وهذا يعني أن الشعرية التي تتأسس عليها مغترباته الفنية ترقى بالمستوى الجمالي لهذا الشكل الفني أو ذاك ،ومن أجل أن ترتقي هذه التعادلات لابد من ارتباطها بالنواتج الدلالية، والفواعل الرؤيوية المنشطة للشعرية،وباعتقادي إن شعرية الاغتراب الفني ترتقي بنواتجه الفاعلة،سواء بارتباطها بالدلالة،أم بالإيقاع، أم بالفكر الجمالي لهذا الشكل الإبداعي دون سواه.

ولو دققنا في مثيرات الاغتراب الفني(البصري- اللغوي) في المقتطف الشعري لتبدى لنا أن الاغتراب الشعوري يمتزج مع الاغتراب الفني، مع الاغتراب البصري في إبراز وحشة الذات، وإحساسها الاغترابي المرير، فالشاعر كرر التعادلات اللغوية والبصرية في قوله:

[من نافذةٍ في المشفى الموحش..
خُيِل لي أنك تسمعني.. بل أنك تسمعني
مَنْ يَسمَعُني ،، إنْ لمْ تَكُ تسمعني ؟!]

إن القارئ هنا، يلحظ شعور الاختناق الذي يحسه الشاعر في المشفى وحيداً ينادي الجدران من حوله،فلا أحد يسمع نداءاته المتقطعة إلا الجدران المطبقة على أنفاسه،وهذه الصرخات المترامية من هنا وهناك ترتد منكسرة،حاملة صدى انكساراته وحرقته المريرة، وكأن كل زفرة من زفراته، وآه من آهاته تذكره بوطنه العراق،وذكرياته الماضية التي لا تفارقه حتى في لحظات مرضه وآلامه الكثيرة،ولهذا جاء المقطع الأخير ،كاشفاً بعمق عن صدى هذه الأحاسيس المحترقة في أعماقه قائلاً:

تُطَوِقُني الجدرانُ البيضُ.. وتنغَلِقُ"
لا أرضٌ في هذي المقبرة البيضاء.. ولا أُفُقُ
في الخاطر شيءٌ مما كانَ ومما سيكون ُ.. كواكبُ تهوي..
أنهارٌ تحترِقُ..
رملٌ يزحفُ.. كل عروسٍ شاركها الرملُ فراشَ العرسِ..
وأولَها قحْطاً وسَرابْ
من نافذةٍ في المشفى الموحش.. صرتُ أراكَ بعيداً
ما عُدتُ أراكَ..
وما عُدتُ أرى..
كيف أقول لمن يسألني.. هذا وطني ؟!"(28).

إن الإحساس بالوحشة، والموت،والأسى تطغى على إيقاعات القصيدة بإيقاعيها الاغترابي، واللغوي، والبصري،وكأن كل شيء فيها يؤذن بالحرقة، والمرارة، والأسى الخانق، وهذا -بالتأكيد- ينعكس على إيقاعاتها البصرية بكل ما فيها من علامات ترقيم،ونقط، وفواصل، وكأن الشاعر مشدود باغترابين جارحين:( اغتراب الباطن وما فيه من إحساس بالحرقة، والوجاعة، والألم)،و(اغتراب الخارج وما ينعكس على صفحته من مؤشرات تظهر في الشكل الكتابي والبصري على الصفحة الشعرية)،وهذا يعني اشتمال الدفقة الشعرية على أكثر من فاعل، أو مثير، أو مؤشر اغترابي محفز للرؤية الشعرية، وكاشفاً عن شدة هذه الاغترابات وحدتها على قلبه، وشعوره وإحساسه الداخلي، وأثر هذه الاغترابات على تراكيبه الشعرية ،وهنا، جاءت الاغترابات جميعها لتصب في بوتقة الاغتراب الفني، وما يستتبعه من مشاعر داخلية محتدمة متسائلة عن وطنه، وجراحات حنينه المبثوث بحرقة، وألم، وأسى، وشجن حزين.

وصفوة القول: إن الاغتراب الفني –على عمومه واتجاهاته - يصب في مجريات الرؤية ومحفزاتها،وبمقدار فاعلية الرؤية –عند شاعرنا بمقدار ما تأتي هذه الإيقاعات الاغترابية كاشفة عن بؤرة الحراك الشعوري، وقيمة النواتج الإبداعية في شكل القصيدة.

الاغتراب الفني بالتجريد وتبئير الرؤية

ونقصد ب( الاغتراب الفني بالتجريد وتبئير الرؤية)الاغتراب الفني الذي ينتهجه الشعراء بالاعتماد على ما تنتجه المخيلة الإبداعية من صور فانتازية متداخلة، أو مشوهة، أو متشعبة الأطراف، تعمل على تغريب الرؤية، أو تبئير مدلولها صوب أشياء لا محددة ،أولا متناهية في ذهن المبدع تشكل متنفسها في الخلخلة، وتجريد الأشياء لإبراز كنهها، وعمقها، وصخبها الوجودي، وبهذا المعنى يؤكد(نوفاليس):" التجريد يعمل على المخيلة الفانتازية"(29)،والمخيلة الفانتازية هي إطلاق حر للمتخيلات وفق حركة الذهن المشوَّهة أوالمتداخلة، أو اللامضبوطة ،ولهذا عرَّف(مالارميه) الشعر- وفق هذا المنظور- بقوله:" الشعر فيض صامت في عالم التجريد"(30)،أي إن الشعر التجريدي هو شكل من أشكال الاغتراب الفني في ربط الصور،إلى بعضها البعض، لتحقق قيمة شعرية، أو جمالية معينة، وعلى هذا النحو أدرك(بول ريفردي) شعرية التجريد وفنيته منذ اللحظة التي تكتسب فيها المفردات قيمة جمالية في نسقها قائلاً:" منذ اللحظة التي تتخلى فيها الكلمات عن معناها القاموسي، يستحصل الذهن المفكر قيمتها الشعرية"(31)وهذا يعني أن الصور- في الاغتراب الفني التجريدي- تقوم في بعض وجوهها- على التداعي، والتنافر، والاختلاف، لأن التجريد- من منظور الشعراء- لعب حر بالمتخيلات، سواء أكانت متآلفة أو متنافرة،وهذا اللعب يكون منتجاً بقدر تفاعل المتخيلات في الصور التجريدية، لخلق رؤية جديدة، أو منظور رؤيوي مغاير للمألوف والمعتاد.

ونشير إلى ناحية بغاية الأهمية، وهي أن الاغتراب الفني بالتجريد سلاح ذو حدين،فقد يوقع الشاعر في فوضى هذيانية من الصور، والدلالات المتلاشية،التي تشوش الرؤية،وتكسر منتظمها الفني، ولهذا فهم البعض ( الشعرية) مفهوماً مشوهاً أو مشوشاً، يصب في دائرة( تدمير سيادة المعنى وأسبقيته داخل النص،وتدمير سلطة اللغة، وتدمير التراتب النحوي،وتدمير القوانين العامة، وتخريب الذاكرة كآلة مستطيلة"(32)،

وبتصورنا: إن لجوء شعراء الحداثة إلى الاغتراب اللغوي والاغتراب الفني التجريدي هو ناتج رغبة داخلية في التحرر من سطوة المعنى الأحادي، أو الدلالة الأحادية إلى آفاق خصبة من المعاني والدلالات،لكن مبالغة بعض الشعراء في هذا النهج أوقعهم في مزلق خطير، يصب في فوضى اللغة،والمعاني المقتطعة والدلالات المبتسرة، والعبث اللغوي اللا موجه لخدمة المعنى أو توليد الدلالات. فأدى ذلك إلى تبعثر الدلالات، وتدني مرجعيتها، وخصوبة مردودها الفني، مما انعكس سلباً على حركة نصوصهم الإبداعية في بعض الأحيان.
وقد اعتمد حميد سعيد الاغتراب الفني التجريدي في تبئير رؤيته في كثير من القصائد الصوفية أو القصائد التي احتفى بها بالمشاهد الدرامية المحتدمة ، لخلق درجة من التكثيف والعمق في نقل الأشياء،والتعبير عنها بجمالية آسرة من جهة، وعمق وتبئير واستبطان شعوري مأزوم أو متوتر من جهة ثانية، كما في قوله:

"لحجارتها لغةٌ
وُلدت في ظلال النبوّاتِ
واكتهلتْ في نصوص السماءْ
فإن فَتَرَ الوحيُ.. نادتْهُ
أقبِل.. ومدَّتهُ بالعنفوانْ
هي أوَّلُ معجزةٍ.. وحدَّت بينَ طيف القراءاتِ
ثُمَّ تكونُ..
آخرَ معجزةٍ.. تتنازعُ فيها القراءاتُ
في كلِّ منعطفٍ موكبٌ.. يتغنى بما قيلَ فيها
وفي كلِّ معترَكٍ كوكبٌ.. يتعَثَّرُ بالشكِ..
في مايقول الرواةْ
للمليكة بين المدائن.. أو للرسولةِ بين البلادْ
ولروحٍ بها..
والذي كان فيها..
يُصلّي العُفاةْ
......
......
إنَّها..
النجمةُ المضيئةُ حيث يكون الأُفولْ
الحَصانُ الرَزانُ البتولْ
أُمُّنا..
بِكْرُ ملاحِمنا.. وقصيدتنا والنشيدُ الجليلْ
لأريج البيوتِ العتيقةِ فيها..
أناشيدُ محفورةٌ في البيانْ
وملحمَةٌ..
بدأت منذُ كانَ الزمانْ
وتبقى مباركةً..تتجلى على عرشها الأرجوانْ
حيثُ كنّا.. تكونُ
وحيثُ تكونُ..نكونْ" (33).

بادئ ذي بدء،نقول: إن الاغتراب الفني - بالتجريد وتبئير الرؤية عند حميد سعيد - يضاعف من مردود قصائده،وإيقاعاتها الدلالية، وهنا ، لجأ الشاعر إلى الاغتراب الفني عبر كثافة الدوال، والرؤى ،والمنظورات التقديسية الوجدية بمدينة القدس، بوصفها معلماً تراثياً خصباً، ومؤثراً في التراث العربي، وهي أولى القبلتين،وقد لجأ الشاعر إلى تبئير مدلولات رؤاه كلها في إبراز مشاعر التكريم والتقديس كلها لمدينة (القدس)،ومن أجل ذلك عمد إلى كثافة المسميات، والأسماء، والأماكن المقدسة ، كما في الدوال التالية:(ظلال النبوات- طيف القراءات- المليكة بين المدائن- الحصان الرزان البتول- النشيد الجليل)، بقصد الاغتراب برؤيته التقديسية والانفراد بها في عوالمه الرؤيوية المكثفة، ووفق هذا المنظور كثف الشاعر من رؤاه التقديسية بالتجريد، كما في قوله:

إنَّ الذين يرَونَ مفاتِنها.. في البياناتِ.. لا يفقهونْ
ومَن يدَّعون إنَّ الأساطيرَ مهرُ بكارتِها..
كاذبونْ"
إنَّها لحظةٌ.. أبدَعتها العروبةُ..
فابتعدَتْ في السُرى..عن ممالكَ موهومَةٍ..
وتواريخَ غائبةٍ..لن تكونْ
إنَّها لحظَةٌ..أبدعتْها العروبةُ واستوطَنتْها..
فَعنْ أيِّ أسطورةٍ يبحثونْ ؟
أيُّها المسجد ُ الذي كان قبل الزمانِ..
ترآى لمن سيكونْ
وصلّى على أرضه الأنبياءُ..من قبل ما يولدونْ
وكانت فلسطينُ.. سجّادةً في السماوات والأرضينْ
من عبيرٍ وطينْ"(34).

لابد من التنويه بداية: أن الاغتراب الفني بالتجريد وتبئير الرؤية – في شعر حميد سعيد- يزيد من فاعلية نصوصه، ويزيد من قيمة الفواعل الرؤيوية، في تكثيف إيحاءاتها، ولذلك، ينوع في الأثر الجمالي لهذه الفواعل في تحريك المشاهد،وتكثيف المنظورات، المحرضة للشعرية، وهنا، أضفى الشاعر على الدوال الشعرية الكثير من القيم الابتهالية التقديسية إحساساً بعظمة هذه المدينة وقيمتها في التاريخ، ولعل مراكمة هذه الدوال وتكثيفها في النسق الواحد يدل على إيقاع التجريد، والتكثيف وتبئير الرؤية صوب إبراز وجده وتصوفه، وتقديسه لهذه المدينة، كما في الأنساق اللغوية التالية:( الأساطير- البيانات – النبوة- السماوات والأرضين- عبير وطين- الأنبياء- المسجد)، وعلى هذا النحو من تكثيف الرؤى والدلالات،والمؤشرات تغتني الرؤية الشعرية ، وتزداد قيمة الأنساق عمقاً وأثراً وفاعلية في التحفيز النصي،وقد سبق أن أشرنا في دراسات سابقة: أن إيقاع التجريد – من مغريات القصائد الشعرية – عند حميد سعيد ، فقصائده لاتقف على دلالة أو رؤية محددة ، إنها تبتعث إيقاعها التجريدي بتكثيف مشهدي، وقوة بلاغية ،ومهارة تجسيدية عالية لدرجة يختلط فيها الحسي بالمجرد،والواقعي بالخيالي،والمشهد البصري بالمشهد الرؤيوي،وهذا ما يجعل اغترابه الفني بالتجريد غنياً بالمؤثرات، والمداليل، والفواعل الرؤيوية المتنوعة والنشطة في التحريك النصي.

وصفوة القول: إن الاغتراب الفني – بالتجريد وتبئير الرؤية – يزيد من فاعلية الأنساق المكثفة للشعرية ،وهذا ما يضمن للقصيدة لديه شعرية(الرؤية) أو شعرية (المدرك الخيالي العميق)، فهو لا يأنس إلى الصور السطحية، أو المنظورات السطحية ،وهذا ما يجعل قصائده تشتغل على أكثر من محرق دلالي، ومحفز فني أو جمالي، ولذلك يخطئ من يظن أن اغتراب حميد سعيد اغتراب لغوي أو فني فحسب،وإنما اغتراب كينوني يشمل الذات وكل متعلقاتها الشعورية والمشاعرية، والبصرية والنفسية والوجودية ، لهذا تشتغل قصائده على أكثر من محوراغترابي، وأكثر من شكل فني، وأكثر من محرض أسلوبي، وهذا ما يجعلها غاية قي التكثيف والشعرية.

الاغتراب الفني بالإحكام النصي والقفلة النصية الصادمة:

ونقصد بهذا الشكل من أشكال الاغتراب أن يغترب الشاعر بطريقة بناء نصوصه الشعرية، وقلقلتها فنياً بوساطة القفلة الفنية المثيرة في فاصلة الختام،لإحداث الإثارة الفنية، وإحداث المفاجأة بهذا الاغتراب الفني الذي يرومه الشاعر في تشكيل قصيدته،بوساطة خلق اتزانها النصي، أو ما أسماه النقاد(الإحكام النصي)وقلقلة هذا الإحكام، بالفاصلة الختامية، وإحداث الاغتراب الفني، لدرجة أن القصيدة تبدو – بكليتها – منشدة صوب هذه القفلة، بحراك شعوري،ونبض جمالي يتضح بوساطة بلاغة النسج،وشعرية التركيب، وإحكام الدلالة، لتصيب مرماها الفني في الإثارة والتحفيز،وقد سبق أن أكدنا في دراسات سابقة: أن الاغتراب الفني – عند شعراء الحداثة- بالقفلة النصية الصادمة يعد ميزة الشاعر المحنك الذي يحاول أن يترك بصمته المؤثرة وقراره الرؤيوي الأخير في الختام، وقد كان الناقد العراقي الفذ علي جعفر العلاق محقاً في قوله:" هكذا، تصبح كتلة النص لا صوته فقط ، منطلق الدلالة،ومبعث الإيحاءات. أي أن الجسد النصي بتموجاته المكانية وتمدده الفيزيائي هو المعول عليه- بالدرجة الأولى- في استنطاق النص الشعري،واستدعاء مكنوناته المختلفة دون أن يعني ذلك إهمال ما يفيض به النص من ثراء صوتي يمكن تلمسه في هذا المفصل النصي، أو ذاك"(35)،
وبتقديرنا:إن الاغتراب الفني-عند شعراء الحداثة ومن ضمنهم حميد سعيد- بوساطة الإحكام النصي، والقفلة النصية الصادمة، يشكل علامة أيقونية في تحفيز القصيدة، وهذا دليل أن" أن النص الشعري لم يعد صورة لغوية لانفعال الروح فقط، بل هو أيضاً ،تجسيد للحظة معرفية رؤيوية،تنفتح على هواء الحاضر والماضي معاً،وتضمهما سوية في نسيج حي مترابط لا انفصام فيه"(36).

وما ينبغي التأكيد عليه: أن الاغتراب الفني – بالإحكام النصي والفاصلة النصية الصادمة في قصائد حميد سعيد هو ما يحقق لها التمايز والاختلاف، فهو يختار القفلة الموقعة التي تترك بصمتها في ذهن المتلقي بشكل لا يدع مجالاً للشك، لأنها تدخل في صميم الرؤية،ونقطة تمفصلاتها الجمالية أو الإبداعية،ومن هذا المنطلق يثيرنا حميد سعيد بالشكل الجمالي المثير والقفلة المؤثرة، ودليلنا على ذلك مجموعة القصائد التالية:( تجليات علي الجندي)و(الخوف والقصيدة)و( من أوراق الموريسكي) و( القصيدة المقدسية) وغبرها من القصائد التي تحلق في فضاءات من الشعرية والاتزان الفني،وللتدليل على الإحكام النصي والقفلة المثيرة، نأخذ قوله:

"أوقفني الشيخُ وقد سَمِعني.. أُغنّي
على مَقامِ الصَبا..
وردْنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ
وزُرْنا أَشرفَ الشجرِ النَخيلا
سَأَلني.. أأنتَ من بغداد ؟
قلتُ.. بَلى
كَلفنا بالعراقِ ونحنُ شَرْخٌ
فَلَمْ نُلْمِمْ بهِ إلاّ كُهولا
وبعدَ صمتٍ طالْ
سَأَلني عن ماء بغدادَ وعن نخيلها..
فَما أَجَبْتُ
أَدْرَكَ الشيخُ.. شجى الروحِ
وقالَ لي مواسياً..
وزلنا بالغليلِ وما اشتفينا
وغايةُ كلِّ شيئٍ أنْ يَزولا"
0 0 0
وأنتَ..
في فَضاء ما افترضتَ من أسئلةٍ
مازلتَ في اللحظةِ..في كلِّ سؤالٍ..
شاهِداً..
يَدخُلُ في ما قالَ.. كلُّ ما يُقالُ من أسئلةٍ
نأَت عن الزوالْ
كأنني وجدتُ شيخيَ الجليلَ بانتظاري
يَفتَحُ بابَ دارهِ لي.. بعد أن فَقدتُ داري
وجئتُ طامعاً.. في أن أكون من أصحابك المُبَجَّلينَ..
في رسالة الغُفرانْ
تُدْخِلُني مُدْخَلَ مَن أدخلتهُ الجنانْ
فقال لي..
تغيَّر الزمان..تَغيَّر الزمان.. تغيَّر الزمانْ
......
......
بتُّ ليلتي..
تُحيطُ بي أسئلتي..
في الفجر.. كنتُ في قيامَةٍ أُخرى
بعيداً عن معرّة النعمانْ"(39).

بادئ ذي بدء،نشير إلى أن الاغتراب الفني بالإحكام النصي،والقفلة النصية المحكمة- في شعر حميد سعيد- يرتقي بالنسق الشعري إلى آفاق نصية محكمة من التفعيل والإثارة، مما يجعلها بغاية الإثارة والتكثيف،ومن يدقق في الاغتراب الفني الذي يشكل الشاعر قصيدته(الخوف والقصيدة) عليه- يلحظ بناءها المؤسس على المماحكة بالأفكار من خلال بث اغترابه الوجودي بالحوار مع شخصية المعري،بوصفها اللسان الناطق عن اغترابه الوجودي، واغترابه عن وطنه العراق بجامع المحايثة بين الاغترابين، فكما أن حميد سعيد عشق العراق وكلف فيها تهياماً وعشقاً، ومودة، ومحبة ،فكذلك حال المعري الذي تربى وترعرع إبداعياً في هذه البلد المنير بمعارفه وعلومه، وهنا، يطرح محاورته الكاشفة، وجهاً لوجه لإبراز كلفه، وعشقه بهذه الشخصية من جهة ،ولإثبات عمق الرؤية بالشجن الاغترابي الحزين،وكأن جراحات الشاعر جراحات المعري،وأنات الشاعر أنات المعري، بهذا الالتحام والتفاعل بين الأنساق يحفز الشاعر رؤيته الاغترابية،ويستثير الرؤية المماحكة أو الرؤية المضادة، ليقف في نهاية القصيدة ، مفاجئاً القارئ أنه يخاطبه بالحلم،وبقيامة أخرى بعيداً عن معرة النعمان،
والملاحظ – على المستوى الفني – أن الشاعر اعتمد المفاجأة النصية التي تخلق الاتزان وتؤكد التفرد، وهذه المماحكات النصية غالباً ما تثير القصيدة، وترفع أسهمها الإبداعية.
باختصار شديد، إن الاغتراب اللغوي النصي(بالقفلة النصية المحكمة) والاتزان النصي يحقق لقصائده فاعلية قصوى من التكثيف والتحفيز،وهنا، باغتنا، الشاعر بمحاورته مع فكر المعري ورؤاه الاغترابية،وهذا ما حفز القارئ،وخلق مؤشرها الفني البارز، ومضمونها الرؤيوي الفكري العميق.
وصفوة القول: إن ثمة لذة جمالية في اغترابه الفني تعكسها نصوصه في قفلتها النصية،وهذا ما يجعلها مثيرة في حركتها الجمالية وقوة فواعلها ومؤثراتها جمالياً. وهذا ما يحسب لها على مستوى إيقاعاتها وملامحها الفنية كلها.

نتائج أخيرة:

إن الاغتراب الفني – عند حميد سعيد- مؤسس على تنويع الأساليب الفنية،ولاسيما الاغتراب بالرموز ،الذي جاء في قصائده(من أوراق الموريسكي)، حافلاً بالدلالات والرؤى المنفتحة، عبر رمز الموريسكي،وغيره من الرموز التاريخية:(كالحلاج،والمعري، والشنفرى، وابن خلدون) وغيرهم، وهذا يعني احتفاء حميد سعيد بالرموز التاريخية،والفنية، لتكثيف رؤيته، وتنامي فواعلها، ونواتجها الدلالية.
إن الاغتراب الفني- عند حميد سعيد- بالصور والمشاهد المكثفة،يدل على غنى الفضاء التخييلي والرؤيوي لدى الشاعر،فالصور- لديه- متوالدة على الدوام، خاصة في المواقف الصوفية التي تتطلب كثافة في الرؤى والأحاسيس والدلالات المعبرة عن حالة الوجد واحتدامها في رؤاه ومشاهده الشعرية.

إن الاغتراب الفني –عند حميد سعيد- بالإحكام النصي، والقفلة النصية الصادمة هي التي ترتقي بسوية بناء القصيدة لديه،وهي التي ترفع درجة شعريتها وناتجها الدلالي في كثير من الأحيان.
إن الاغتراب الفني- عند حميد سعيد- بالتجريد وتبئير الرؤية جعل منتوجها الدلالي ثراً ومتوالداً رؤيوياً،لهذا فإن إيقاع التجريد لديه لم يأتِ فوضوياً أو عبثياً،وإنما هو حصيلة تفاعل مؤثرات وبنى خصبة في الإدراك والوعي الفني،والخصوبة،ويعد الاغتراب الرؤيوي فاعلاً في تبئير مداليل قصائده صوب المعنى الأبعد، والمدلول البعيد، وهذا ما نأى بتجربته بعيداً عن التسطيح والمعنى المتداول، والمدلول السهل الملتقط.

إن الاغتراب الفني- عند حميد سعيد- يتأسس على التعادلات اللغوية المتوازية،والمقتضيات البصرية المتفاعلة مع هذه المتعادلات، باقتضاء بصري لغوي فاعل، مما يدلل على أن قصائده مخصوصة بعناية أو منظمة بعلائق لغوية متوازنة تشي بالوعي، والتنظيم، والخبرة الإبداعية،ولهذا يعي حميد سعيد أن الفوضى اللغوية أو العبث اللغوي بالأنساق لا يخلق فناً ،ولا يثير أسئلة ولا يحقق قيمة إبداعية،وهذا يؤكد أن فاعلية الاغتراب الفني لديه مركزة فاعلة تحقق أعلى درجات الإثارة من خلال التعادلات اللغوية الهادفة إلى مدلول مركز، يرمي إليه ويقصده في هذا الشكل اللغوي أو ذاك.
إن الاغتراب الفني- عند حميد سعيد- خاصة بالتخييل الإبداعي والحراك الرؤيوي هو الذي يغني حركة الدلالات،وينشطها اإبداعياً،ولهذا، فإن تنوع القيم الفنية في شعره لاسيما في مجال الصور،هو ناتج فواعل، ورؤى، ومتخيلات عميقة تظهر في هذا التوثب الاستعاري الصادم والأنساق المتناغمة في إيقاعها اللغوي وحراكها العاطفي،وهذا ما يجعل لغته الشعرية فيوضة بتقنياتها الفنية، وقيمها الجمالية.

وبعد، فإن الاغتراب الفني - عند حميد سعيد- ينبع من صميم التجربة ومحرقها الإبداعي، ولهذا،فإن هذا الاغتراب في إيقاعه العام من مقتضيات تجربته،وهو لا ينفصل عنها،وإنما هو جزء منها، ولهذا يخطئ من يظن أن الاغتراب اللغوي لديه ينفصل عن الاغتراب الفني، فكل من هذين الاغترابين يغني الآخر ،وينميه،ويزيده أثراً وتأثيراً في قارئ قصائده على المستوى الإبداعي، أي على المستوى الدلالي البؤري العميق، وليس على مستوى إفراز السطح ومدلول الملفوظات العابر، فالقصيدة –لديه- ليست قيمة جزئية بقدر ما هي فاعلية كلية أو شمولية، ترقى بالقارئ وترتقي به، ومن هذا المنظور فإن فيوضاتها الجمالية والتقنية لا تنتهي ولا تنقطع ،لأن روافدها جمة ومناهلها عديدة. وهذا قلما نجده عند غيره من الشعراء.

الحواشي:

شرتح ،عصام،2010- الشعرية ومقامرة اللغة(مقامرة الكشف والاستدلال)،دار الينابيع،دمشق،ط1،ص9.
شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة؟!!)،دار الأمل الجديدة،دمشق،ط1،ص283.
المصدر نفسه،ص210.
المصدر نفسه،ص301.
خير بك،كمال،1986- حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، ط2، ص189.
سعيد،حميد،2000- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص17.
المصدر نفسه،ص8-9,
المصدر نفسه،ص10-11.
ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،أطروحة دكتوراه جامعة حلب، مخطوطة، ص228.
سعيد،حميد،2012- من أوراق الموريسكي، ص20-21.
سعيد، حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص49.
المصدر نفسه،ص46.
المصدر نفسه،ص22-23.
نقلاً من: مجيد المولى، قيس،2009- مخيلة النص(اشتغال آخر للمعنى)، دار الينابيع ،دمشق،ط1، ص15.
ابن الخطيب، لسان الدين- السحر والشعر،مخطوط، ص7. نقلاً من مقال: ديوب ، طلال،2007- مفهوم الشعر عند لسان الدين بن الخطيب، مجلة بحوث جامعة تشرين، مج 29، ع2، ص 125.
حسين،قصي،1998- تشظي السكون في العمل الفني، مجلة الفكر العربي، ع92، ص208.
مجيد المولى، قيس،2009- مخيلة النص( إشغال آخر للمعنى)، ص47.
سعيد،حميد،2012- من أوراق الموريسكي، ص91.
المصدر نفسه ص92.
شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في لغة الحداثة الشعرية،ص279-280.
سعيد، حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص25.
المصدر نفسه ،ص26.
شرتح، عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص339.
ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص325.
سعيد،حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص58.
شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في لغة الحداثة الشعرية،ص345.
سعيد، حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص60-61.
المصدر نفسه،ص65.
حيدر،صفوان،1998- تاريخ الفن التجريدي في الأصول الثقافية للرسم التجريدي، مجلة الفكر العربي،ع92، بيروت،ص226.
المرجع نفسه،ص226.
المرجع نفسه،ص226.
العدناني،محمد،2006- بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد(1990-2003)،عالم الفكر،ع3،مج،34، ص126.
سعيد، حميد،2012- من أوراق الموريسكي،ص10-12.
المصدر نفسه،ص13.
شرتح، عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص338.
تالمصدر نفسه،ص339.
سعيد،حميد،2012- من أوراق الموريسكي، ص


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى