السبت ١٢ آذار (مارس) ٢٠١٦

رواية بورسلان والرّبيع العربيّ

محمد عمر يوسف القراعين

عندما قرأت رواية «بورسلان» لأيمن عبوش والصادرة عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، تبادر لذهني هذا البيت من الشعر

أنى يكون أبا البرية آدم
وأبوك والثقلان أنت محمد

والبيت يضرب مثلا على التعقيد المعنوي في البلاغة، لأن الأصل أن نقول: وأبوك محمد وأنت الثقلان. بعض الأفلام تبدأ بحكم قضائي تتسلسل الأحداث بعده، لتصل إلى نتيجة تبرر تنفيذ الحكم بالبراءة أو التجريم. أمّا في هذه الرّواية المعقدة، فالتّحقيق يستمر إلى ما لا نهاية، في ارتفاع وانخفاض، اعتقال وتحرير بالصدفة لقيام الثورة، إعادة اعتقال وإطلاق سراح لبطل ثوري يقود إلى منصب رفيع، وأخيرا إقامة جبرية مخففة، تؤدي في النّهاية إلى تصفية.

قد يكون ذلك الوزير، بطل أو موضع الحوارات، الذي جرى التحقيق معه بتهمة انتحال شخصية رجل بارز، أستاذا جامعيا، دكتورا في العلاج الطبيعي، ألحقوه بالمخابرات كوظيفة ثانية يكتب التقارير بحرفية، مصابا برهاب الارتياب، لديه انفصام بالشخصية، لأنه يكتب تقارير عن زملائه، يكره نفسه ورائحته النتنة، ويحلم بأن يخرج منها هاربا، وتركها في البيت مصابة بالأنفلوانزا، (دكتور جيكل ومستر هايد). ولكونه كتب تقريرا عن أحد المتنفذين، جاء مع زبانيته إلى شقة الدكتور، فأشبعه ضربا وحرّم عليه البقاء في المنطقة. هذا الاستفزاز جعله يلفق له تهمة اغتيال الرئيس، "إن الذبابة تدمي مقلة الأسد". ومن ناحية أخرى قد يكون كما صرح للمقدم فضل، أنه نشأ متشردا، لأن والده الظالم طرده من البيت، يتسول من الناس في الشوارع بلا إثباتات، بينما عاش أخوه التوأم مع والده، وصار على ما هو عليه، والصدفة جاءت به إلى بيت شقيقه الخاوي، يسأل عنه لا أكثر بعد غياب.

أحداث الرواية مرتبة لتركيبها على أي من الشخصيتين قتل وسرق الشيخ عزمي الذي يبيع الفول النابت، سواء كان توأم القيادي في الجهاز، الذي ألقي القبض عليه، وتم اعتقاله بسبب زيارته العفوية لبيت أخيه التوأم، أو أستاذ الجامعة المصاب بانفصام الشخصية والتخيلات، والمطرود من شقته، الذي رسم خطة اغتيال رئيس الدولة، وألصقها برجل السردين. المهم أن أحدهما عذب في السجن، وبقي رهن الاعتقال، إلى أن قامت الثورة، وهبّ الشباب لتطهير المعتقل، وفتح العنابر والزنازين، لأنّ الشعب يريد إسقاط النظام، فخرج من القبو محمولا فوق الأكتاف معتقلا سياسيا.

ولكن الرياح لا تجري دائما كما تشتهي السفن، فبعد أن استعاد بطاقته الشخصية، وعمل محاسبا في مطعم أعيد إلى المعتقل، على أنه من رجال العهد البائد، كان شارك في قمع مظاهرات حصلت قبل سنوات، إلى أن تم إخراجه على يد مرجي باشا رئيس الحزب المعارض، كمعتقل منسي في أقبية النظام البائد، على أن يلتحق بالحزب. عين وزيرا للتعليم العالي، وتمرغ في النعمة إلى أن دارت الدوائر وشنت الصحافة حملة شرسة ضده، واتهم بانتحال شخصية رجل بارز، كانت تمّت تصفيته حسب معلومات جهاز المخابرات، ففرضت عليه إقامة جبرية، ومن ثم التخلص منه. لا يصح إلا الصحيح حتى في الزمن الرديء، والبورسلان كالخزف سهل الانكسار.

قصة الرواية مشوقة مع تعقيداتها، وبمقدار ما هي مسلية، إلا أنها رمزية هادفة، تحاول لملمة صور تنطلق مما حدث حولنا في زمن ما أطلق عليه الربيع العربي، مع الفرق بيت توقيت الخيال والواقع، الذي خرج فيه الشباب الثائر في أربع دول عربية، ينادون أن الشعب يريد إسقاط النظام، ممّا أدّى إلى سقوط رؤساء، وتطهير سجون لأنها تشير إلى قهر النظام السابق أو البائد. المعتقلون عادة يخرجون إلى سدّة الحكم، إذا كانت تدعمهم أحزاب كما حدث مع وزيرنا، لذلك لم يكن الوضع في روايتنا استثناء، "والثورة تأكل أبناءها" لم يأت هذا التعبير اعتباطا، فالمنتصر على حق، والمهزوم هو الخائن. مظاهرات الشباب واعتصاماتهم في الميادين أسقطت زين العابدين في تونس، ومبارك ومرسي في مصر؛ لأن الجيش كان عنصرا هامّا، حيث تخلى عنهم، فيما لم تنجح الثورة في سوريا وليبيا، لأنّ الجيش ظل مع النظام.

الرواية تبسط الأمور حين تشير إلى الوضع قبل الثورة، وكيف أن الرؤساء يبدأون أوّل الأمر صادقين ونزيهين، ولكن الحاشية تحول الدولة إلى إقطاعية تديرها العائلة وبعض المحظيين، كأن الرؤساء مغلوبون على أمرهم. كما يصف الكاتب التعذيب في السّجون أيام العهد البائد، والعهد الجديد قد يصبح بائدا له سوءاته، فرضا الناس غاية لا تدرك، والناس يرحبون بفرصة انفراج تتيح لهم التعبير، وإبداء الرأي، فالكلّ يُنظر. تدور الحلقة، وتتصارع الأحزاب وتتم التسويات حتى لا تسيء فهمهم الدولة حامية الديموقراطية، ممّا يشير إلى التدخلات الخارجية العالمية والإقليمية التي حولت الربيع العربي إلى نقمة.

وأخيرا تركز الرواية على انتهازية الحزب المعارض، الذي جاء رئيسه من الخارج، وركب موجة الثورة واختار دمية تخدم فترة مرحلية، ليحرقها ويصفيها إذا فقدت لمعانها، والحجة جاهزة يعزوها لمؤامرة داخلية، أو عملية جماعة متطرفة، ويمكن إلهاء الناس بملهاة جديدة. هذا يظهر الوجه السيء للأحزاب، وهو الرائج مع الأسف عند الناس، فهل الحال دائما هكذا؟ في حين أن أحزاب تونس أظهرت الوجه المشرق، عندما اتفق النهضة ونداء تونس على المشاركة، وعدم الاستئثار بالسلطة، فقادوا السفينة إلى بر الأمان.

محمد عمر يوسف القراعين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى