الأحد ١٣ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم عصام شرتح

لغة الجسد بين «الأسطرة / والتصوف»

في شعر جوزف حرب

إنَّ أهميَّة بعض التجارب الشعريَّة تنطوي على ما فيها من رموز، ودلالات، وإيحاءات، ورؤى، ومداليل غنية، تفرزها في مضمار تجربتها، لتميِّزها عن غيرها من التجارب، والرموز هي التي تغني التجارب الشعريَّة، وتفجر إيحاءات الصور الشعريّة، وتنمي دلالتها، ذلك أنَّ "الرمز يثير الصورة الشعريَّة، ويحقق لها الانفتاح الدلاليّ على دلالات متعددة لا متناهيَّة، كما يكسبها حيويَّة الصيرورة والتحول، لتخرج من الماضويَّة إلى الحاضر،وبهذا تتحقق الدراميَّة من الاصطراع والتنافر بين الرموز والصور بدل الغنائيَّة، كما يحقق الاقتصاد السردي، وعندما يتعامل الشاعر مع الرمز يخرجه من الدلالة الأحاديَّة إلى دلالة مفتوحة، تؤمن له الإيحاء في إشعاع معرفي، فالقارئ قد يجد صعوبة حين يحاول استخراج الرمز وإرجاعه إلى طفولته الفكريَّة، لأنَّ قدرة الشاعر على التوظيف تحتاج لقراءة محترفة، تعي الرؤى الفكريَّة والفنية لإقامة علاقة بين الرمز والمرموز. ونشير إلى أنَّ الرمز يتجاوز أن يكون وسيلة تواصل، فهو يستحضر الذاكرة لوعي المرجعيَّة الجماليَّة لفهم الذوق الفني ولاستجماع القرائن المرتبطة بالرمز"()، ولهذا نلحظ أنَّ بعض التجارب الشعريَّة تمركز رؤيتها على بعض الرموز أو الدلالات المعينة، التي تترك بصمتها وإشعاعاتها الدلاليَّة على تجربته كلها، وقد سعت معظم التجارب الشعريَّة إلى خلق الإثارة الشعريَّة عبر دوال لغويَّة محدّدة ميَّزت منحى كل تجربة من التجارب الشعريّة الحداثية على حدة، وإنَّنا من خلال مطالعتنا لتجربة جوزف حرب، لاحظنا أنَّ لغة الجسد سيطرت على عالمه الشعريّ، إلى درجة لافتة حتَّى أنه عنون الكثير من قصائده بمؤولة "الجسد"، ومن خلال تدقيقنا في منعرج هذه المؤولة، وأسلوبها التداولي النصّيّ لاحظنا حيازتها على رؤى ومداليل عديدة، توضِّح سيرها في مسار قصائده كلها، وفق الآتي:
أولاًَ- لغة الجسد الحسيَّة (النحت الجمالي للصورة الجسديَّة):

إنَّ اعتماد جوزف حرب على التصوير الحسّيّ لصورة الجسد قد رسمته بملامح جماليَّة غاية في الحسّ، والشعور، والإدراك لخفاياه الجماليَّة، إذْ حملت صورة الجسد فنية وإحساساً وشعوراً تصويريًّا في منح الجسد جماليَّة توصيفيَّة، تصف دقائقه وجزئياته، بوصفه مركز التفتح الجماليّ، إذْ يرى الجسد منارة الروح، وترسيمه النحتي الجماليّ، ولولا الجسد لما تفتقت روحانية الروح، وإحساسها الوجودي، يقول جوزف حرب في قصيدته الموسومة بـ "الجسد" ما يلي:
"ذَرِيْرُ صُبْحٍ بَطْنُهَا.

فَتُّهُ عَاجٌ.
أذوقُ الرقصَ مِنْ خَصْرِهِ.
يا صَحْنَ مسكِ الصبحِ، يا بَطْنَهَا.
وفَوْقَهُ سُرَّةُ طِيبٍ كأَنْ قد خَطَّهَا النرجسُ من زَهْرِهِ.
وليلُ عُشْبٍ تَحْتَهُ مائجٌ مِنْ جُلَّنَارٍ فُتْحَتَا فَجْرِهِ.
مُدَوَّرٌ كأُقحوانٍ. ندٍ كمرمرٍ. صافٍ كماءِ القُرَى.
وكُلَّما طافتْ به قُبْلَةٌ، تمتصُّ آهاً مِنْهُ أو أنَّةً.
وبعد فخديه مَسَاً، بينهما قد كُتِبَتْ جُمْلَةٌ أدْخَلَهَا الياقوتُ في حِبْرِهِ"().

هنا، يعتمد الشاعر الصور التوصيفية الجماليَّة في نحت الصورة التجسيديَّة الحسيَّة للأنثى، بوصف بطنها وتشبيهه بالصبح، وخصرها الأملس الرقيق بالعاج، وسرتها بالنرجس، ونهديها بالأقحوان، صفاءً و جماليَّة، وشهوة، ونشوةً. وفخذيها بالمسا الياقوتي الأملس ذي اللون البرونزي الفضي الذي يشبه إطلالة المساء، رقة، ونعومة، وسحراً، وجمالاً. وهكذا، نحت الشاعر الصور الجماليَّة للجسد الأنثوي نحتاً جماليًّا، وكأنه يرسم الصورة الأنثوية رسماً دقيقاً بتجسيد الجسد بأبعاده الجماليَّة، المشتقة من جزئيات الطبيعة الساحرة.

وقد ينحت الشاعر جوزف حرب الصورة نحتاً تجسيديًّا بارعاً، بترسيم الصورة، وتعميق رؤاها التوصيفيَّة، لتأتي غاية في التنسيق، والترسيم الجمالي البارع، لتستقطب القارئ بصيرورتها الجماليَّة، وبعدها التشكيلي النحتي الخالص، كما في قوله من قصيدة "الجسد" ما يلي:

"فيها قناديلُ لذَّاتٍ، إذا انتشرتْ
حمراً ليالي الهوى فينا، أُضوِّئُهَا
أصبُّ في راحتِيْ ناياً وأشْرَبُهُ
حتَّى إذا فَرَغَتْ، بالآهِ أملأُها
نُصُوصُ وردٍ على تَخْتِي مُغَمَّضَةٌ
أُفَتِّحُ الزِّرَّ فيها، حين أقْرَأُهَا
وأَفْرُكَ الحِلْمَةَ الخمريَّةَ اتَّقَدَتْ
وفي فمي مثل ياقوتٍ أُخَبِّئُهَا
فيها قناديلُ، ما قَبَّلَتْ لَيْلَتَها
إلاَّ وفي قُبَلِي قد ذابَ لؤُلؤُهَا
أظلُّ أمتصُّ منها النارَ لاهبةً،
حتَّى إذا ماجَ فيها النومُ أُطْفِئُهَا"().

إنَّ التصوير الحسيّ للجسد، ومغامرة التلاعب بالصور الغريزيَّة التي تصف دقائق الأشياء، المتعلقة بالجسد الأنثوي، قد جعل الصور شبقية جنسيَّة، تصف مشهداً لمضاجعة جنسية، يتم فيه المداعبة، باللمس، والفرك، والقبل...، بادئاً قصيدته بنحت الصور الجماليَّة ذات الحسّ الشعوريّ المصطهج، والمدّ التأمليّ في وصف المشهد، والترسيم الحسيّ الغريزيّ له، لإثارة الشهوة،و الغريزة، ومكمن اللذة الجنسيَّة في الجسد الأنثوي، كما في قوله:"وأَفْرُكَ الحِلْمَةَ الخمريَّةَ اتَّقَدَتْ وفي فمي مثل ياقوتٍ أُخَبِّئُهَا"، والملاحظ للقارئ تلكم القدرة التجسيديَّة النحتية للصور الغزليَّة التي تتضمنها نصوصه الشعريَّة بالانحراف صوب التجسيد الحسيّ الشهواني للجسد الأنثوي، ليكون مكمن اللذة والنشوة والجمال. كما في قوله:
"فيها قناديلُ لذَّاتٍ، إذا انتشرتْ حمراً ليالي الهوى فينا، أُضوِّئُهَا"

، إنَّ هذا التجسيد الجماليّ للصور الغزليَّة الإباحية يعكس حالة من الخروج عن الإطار التوصيفي العرفي، ليجسد في الأنثى الأوصاف الجنسية المسكوت عنها أو المكبوت في العرف الاجتماعي عن ذكرها، ليرسم صورة جماليَّة تجسيديَّة للجسد الأنثوي، كاسراً كل القيود الاجتماعيَّة أو العرفية، ليصنع قصيدة الدهشة، أو قصيدة النحت الجمالي أو قصيدة المتعة المحرمة، ولو نظرنا في قصيدته التالية الموسومة بـ "الجسد"، لوجدنا رقياً وسمواً جماليًّا في نحتها التشكيلي الجمالي، كما في قوله:

"عندمَا لاحَقْتُهَا، ذابتْ بِصُبْح.
رَكَضَتْ، واختبأتْ في نَصْلِ رُمْحْ.
اختفتْ في شجرِ الغابةِ، صارتْ أخضراً.
خفَّتْ إلى عصفورةٍ، طارتْ بَهَا
فصارتْ أزرقَهْ.
دَخَلَتْ في نايِ راعٍ، خرجتْ من زَنْبَقَهْ
هَرَبَتْ منّي، ولَكِنْ، عندما هبَّ على شهوتِهَا
جسدي، عادتْ إلى قامتها"().

إنَّ هذا النحت الجمالي للصور الغزليّ ذات الطابع الحسيّ، يرتقي بشعريّة الجسد من حيّز الشهوة، والحس، والغريزة إلى حيّز المتعة في توصيفه، واللذة الجماليَّة في تشعيره، ونحت الصور الجماليّة التي ترصد حركاته بدمجها بجزئيات الطبيعة وسحرها، وجمالها، وصفائها المطلق، ممّا جعل الطابع التوصيفي طابعاً جماليًّا، يجري مجرى الرسم التشكيلي في تزويق الصور، وبث الصور بألق تجسيدي مشتق من الطبيعة الخضراء، بزهورها، وورودها، وزنابقها، وطيورها، وفضاءاتها الجماليَّة وإفرازاتها الخصبة، كما في قوله""دَخَلَتْ في ناي راعٍ، خرجتْ من زَنْبَقَهْ"، إنَّ ولع جوزف حرب بشعرنة الجسد، بوصفه مبعث الحركة الجماليَّة في الطبيعة يدفع المرء للتساؤل...ما مدى إدراك الشاعر جوزف حرب لكينونة الجسد الأنثوي؟! هل ثقافة الجسد عنده ثقافة إمتاع ومؤانسة أم ثقافة حرص على التجاوز وكشف المستور والمحرَّم؟!... ما مدى إدراكه لكينونة الجسد الماديَّة في ظلّ العشق والتمتع بالجسد؟! وما علاقته بالروح...؟!

إنَّ نظرة جوزف حرب للجسد هي نظرة فلسفيةَّ تؤمن بأنَّ الروّح لا كينونة لها بمعزل عن الجسد، فالجسد هو المحرِّك للروح، وليست الروح هي المُحَرِّكة للجسد، بمعنى: أنَّ الجسد كينونة وجوديَّة ماديَّة تجذب المتعة، وتثير الانتباه، وتطفئ نيران الغريزة، وتشعلها متأججة بالشهوة والمتعة في آن، في حين أنَّ الروح عالم روحاني نوراني مجهول لا يعرف كنهه إلاّ الله خالق الكون والأرواح والماديَّات، لهذا، عدَّ الجسد القطب الجمالي الأول في خلق المتعة واللذة الجماليَّة، وما ديوانه [السيدة البيضاء في شهواتها الكحليّة] إلاّ محطة مهمة من محطات شعريَّة الجسد...يقول جوزف حرب:
"مرَّتْ فوقَ أكتافيْ أصَابِعُهَا كألسنةِ المياهِ،

وباركتْ مَجْرَايَ من عُنِقي، إلى ما بينَ خاصرتيَّ.
والتفَّتْ على خِصْبِيْ لتحملَ قطرةً مِنْهُ، وتَمْسَحَ نَهْدَ مَنْ كُنَّ افْتَتَحْنَ سِيَامَتِيْ بنشيدِ رقصٍ. فاسْتَحَلْنَ غمامةً بملائكٍ بيضٍ.
وَرُحْنَ يَذُبْنَ فوقي حيث يَشْرَبُهُنَّ جِلْدِي مصغياً لمياهِهنَّ
تسيلُ في جسدي.
فأنهضُ أخضراً من غيرِ أفْعَى، مُثْقَلاً ثمراً لتفاحٍ بغيرِ خَطِيْئةٍ.
فتنامُ عاريةً، وأهبطُ فَوْقَها صلواتِ أجنحةٍ لِتَغْفِرَ لي اتّهامي أنَّها لِصُّ الخليقةِ في دمي، بدءُ الخَطَايا، الَّلعْنَةُ الأولى.
فَتَفْتَحُ نومَ قامتِهَا وتَنْهَضُ في ذراعَيْ فِضَّةٍ، وأعودُ من شجرٍ، إلى جسدٍ، فَتُقْبِلُ نسوةٌ يُكْمِلْنَ طقسَ سِيَامَتِيْ،
حتَّى إذا ألْبَسْنَني بين الشموعِ عَبَاءَتِي،
رَفَعَتْ إليَّ ذراعَهَا بالياسمين وباركتْ لي قامَتِي.
عَرِيَتْ جَسَدْ"().

تستوقفنا هذه الصور التشكيليَّة ذا المنحى الترسيمي الجمالي للجسد الأنثوي، لتكون الأنثى منبع تدفق الأشياء وخصوبتها، فالجسد الأنثوي يفتح العالم على الجمال، والخصوبة، واللذة ،والنشوة الروحية، لهذا، تحيي الأنثى عروقه وتحفّزه على الخصوبة، والاخضرار، فيغدو شجراً يزدان خضرة وزهواً، وألقاً، وصفاءً روحانيًّا عظيماً، كما في قوله: "فَتَفْتَحُ نومَ قامتِهَا وتَنْهَضُ في ذراعَيْ فِضَّةٍ، وأعودُ من شجرٍ، إلى جسدٍ، فَتُقْبِلُ....رَفَعَتْ إليَّ ذراعَهَا بالياسمين وباركتْ لي قامَتِي./ عَرِيَتْ جَسَدْ"، إنَّ هذا الأسلوب التأسيسي الجماليّ للصور الأنثويَّة ذات الطابع الجنسي يثير القارئ، ويحفّز الصور، ويبعث في الدفقة الشعريَّة مثيرات تحفيزيَّة مشوبة بجو أسطوريّ تأسيسي لأسطورة الجسد، بجعله مركز الاستقطاب الجمالي، والكينونة الوجوديَّة المحركة لماهية الأشياء، لخلق كينونتها، وحركتها الدائبة المستمرة على الدوام، فما أجمل هذه التوصيفات الجماليَّة التي يخترق فيها حيِّز الجماد، محركاً الأشياء، تبعاً لتموجات الجسد الأنثوي، وحركاته المُوَقَّعة لحناً روحيًّا يؤجِّج الجمال والإحساس به، إذْ يقول:

"ولي جَسَدٌ من رسائِلَ مطوِّيَّةٍ في صناديقَ لامرأةٍ كلَّلتْهَا مناديلُهَا في غيابي،
وقد أنْزَلَتْهَا أخيراً إلى السوقِ دارُ المرايا، عليها اسمُ وجهي، وعنوانُها: جَسَدِي.
نَقَّحَ أخطاءَهَا الوردُ، رَتَّبَهَا الليلُ، حَقَّقَهَا الشَّمْعُ،
قَدَّم غيمُ الغروبِ لها، وهي مُرْسَلَةٌ مِنْ نُحُولِيْ إلى امرأةٍ، صارَ لي مَعَها جسدٌ كالكنائسِ، يَدْخُلُهُ البحرُ، والبجعُ المريميُّ، وخوخُ الحدائقِ، يُلْقُونَ بيضَ النذورِ على بابهِ،
يركعون أمَام تماثيلها، يُشْعِلُونَ الشموعَ، ويَبْكُونَ، حتَّى لأَسْمَعَ في داخلي البجعَ المائِلَ العنقِ كيفَ يُصَلِّي،
وأشعرُ بالخوخِ كيفَ يُبَلِّل بالصبحِ قلبي، وبالبحرِ كيفَ يفتُّ بمجمرةِ الشمسِ تحتَ يَدَيْها بخورَ الغمامِ... إلى امرأةٍ، مقلتاها لدى الله أجْمَلُ لونينِ: لونِ الدواةِ، ولونِ الندى.
كلُّ دورةِ نَحْلٍ لرشفِ البنفسجِ شَكْلٌ لِمِعْصَمِهَا.

كُلُّ رِجْلٍ، أصَابِعُهَا الخمسُ خمسةُ أبياتِ شِعْرٍ، رويُّ القوافي بها الوردُ. ليسَ لناعمِ خاصرتَيْها شبيهٌ بسوقِ النسيمِ.... وما عَلَّقَ اللهُ في صالةِ الصيفِ نجماً كنهدينِ في صَدْرِهَا، عُلِّقَتَا قمرينِ بليلِ فمي، كالنبيذِ القديمِ"().

هنا، يعتمد الشاعر التوصيفات التصويريَّة المحفِّزة للقارئ، بنسقها التجسيدي للجسد الأنثويّ، مصوِّراً حركتها النسقيَّة بتأمّل الصور، وحيّزها الغريزي الذي يبلور الرؤى الحسيَّة الشهوانيَّة للجسد، لشعرنته برؤى تحفيزيَّة مثيرة للقارئ، كما لو أنَّ حركات الجسد ترسم الصورة، بفنية بصرية حسيَّة شهوانيَّة، غاية في الإثارة، والتحفيز الجمالي، كما في قوله: "ليسَ لناعمِ خاصرتَيْها شبيهٌ بسوقِ النسيمِ.... وما عَلَّقَ اللهُ في صالةِ الصيفِ نجماً كنهدينِ في صَدْرِهَا، عُلِّقَتَا قمرينِ بليلِ فمي، كالنبيذِ القديمِ"، إنَّ هذا التصوير التحفيزي ينمّ على مهارة تصويريَّة في شعرنة الجسد، وإكسابه هالة جماليَّة تجسيديَّة في رسم حركاته، وأبعاده، وأنساقه، بحيازة نسقية توصيفيَّة للمشاهد الحسيَّة المرسومة لمؤوِّلة "الجسد"، وكأنَّ الجسد الأنثوي يمثل له قمَّة الفنية، والنحت الجمالي والإذعان المطلق لقدرة الخالق وجمال خلقه الفني، ونحته المثير لهذا الجسد، كما في قوله: "إلى امرأةٍ، مقلتاها لدى الله أجْمَلُ لونينِ: لونِ الدواةِ، ولونِ الندى./ كلُّ دورةِ نَحْلٍ لرشفِ البنفسجِ شَكْلٌ لِمِعْصَمِهَا./ كُلُّ رِجْلٍ، أصَابِعُهَا الخمسُ خمسةُ أبياتِ شِعْرٍ، رويُّ القوافي بها الوردُ"،
وهكذا، تمتاز صوره التجسيديَّة الحسيَّة لصورة الجسد بماهية نسقيَّة، تحرِّك مثيراته الغريزيَّة، ليبدو الجسد الأنثوي كينونة وجوديَّة فائقة الحيويَّة والجمال بالحركات الجسديَّة الموحية، التي تحرِّك النسق الشعريّ صوب الصور المجسَّدة التي تعتمد شمولية الرؤية الجسديَّة، وأبعادها الجماليَّة.

ثانياً- لغة الجسد الأسطوريَّة [أسطرة الجسدة]:

إنَّ جوزف حرب أعطى الجسد قيمة أسطوريَّة خارقة، بوصفه مبعثاً للتغير والانبثاق، والتجديد، فهو المحرِّض على تفاعل الخلق، وتنامي حركة الوجود، وهو الكينونة الوجوديَّة العليا التي تحرِّك الأشياء، فهو ليس إطاراً خارجياً أو لباساً زائفاً للروح، وإنما هو المحرِّك لكينونة الذات، وهو الانبثاقة الجماليَّة للتجسد الروحيّ ملامسةً وإحساساً، لذا، أولى جوزف حرب الجسد قيمة عظمى تثير التساؤل؟! لماذا الجسد - عند جوزف- يمثل أسطورة الوجود؟ وما علاقة ذلك بمنظوره التصوفي للإحساس بروحانيَّة الجسد؟ وهل ديوانه الموسوم بـ [السيِّدة البيضاء في شهوتها الكحلية] يمثل أسطرة الجسد أم أسطرة الروح (التصوُّف)؟ وهل ارتقى في مضمار الجسد إلى طبيعة تفكيره الأيديولوجي في مسألة الوجود وطبيعة الخلق والحياة وحركة الكون؟!

إنَّ الإجابة على هذه الأسئلة يضعنا في لبّ الرؤية المعاصرة للجسد، والرؤية المنحرفة لهذا المفهوم المعاصر لدى الشعراء لشعريَّة الجسد، فجوزف حرب يؤسطر الجسد، بوصفه مركز الإنارة، والبياض، والنحت الجمالي، والبداعة الربانية في تكوينه، لهذا، رأى في الجسد القدرة على الاختراق والتجدد والارتقاء الروحي، فالجسد هو المنارة المضيئة الدالَّة على جمال الروح، وهو مكمن النشوة، واللّذة الروحيّة بمعنى أدقّ: يمثل الجسد قبَّة للروح، وليست الروح قبَّة للجسد، إذْ يقول:

"مَالِحٌ مِثْلَ فاكهةِ البحرِ.
حُرٌّ كعصفورِ حِبْرٍ.
قَوِيٌّ كَصَوَّانِ خَصْرِ الخُيُولْ.
وَذِرَاعاكَ قوسانِ مِنْ جدلِ أليافِ بَرْقٍ.
وفي جِسْمِكَ المنحني مثل حكمةِ لقمانَ رائحةٌ من خُزَامى الحُقُولْ.
أيُّهَا الفارعُ العُمْرِ، لا سنديانُ الجبالِ أشدُّ.
ولا النبعُ أعمقُ.
حُرٌّ. رَضِيٌّ. وفي راحتيكَ مفاتيحُ أبوابِ كُلِّ الجهاتِ.
وحُرَّاسُكَ النِّيرانِ.
وعُمَّالُكَ الأوفياءُ الفُصُولْ.
كُلُّ ما فيكَ ليسَ يَزُولْ.
كُلَّما مسَّهَا الجوعُ للقمحِ، والعطشُ المرُّ للنهرِ، مدَّتْ إليكَ الأكُفَّ السهولْ.
لا تَكُنْ لغةً.
أجْمَلُ الصمتُ فيكَ. وبين يديكَ الوجودُ قد افترشَ الوقتَ يصغي لما تَقُولْ"().

هنا، يرسم لنا الشاعر رؤاه التجسيديَّة للجسد، مشعرناً صداه بالأسطرة، وتحميل الجسد طاقات خارقة، وحكماً بالغة، كما في قوله: "وَذِرَاعاكَ قوسانِ مِنْ جدلِ أليافِ بَرْقٍ./ وفي جِسْمِكَ المنحني مثل حكمةِ لقمانَ رائحةٌ من خُزَامى الحُقُولْ"، ويأتي الجسد إلهاً للخصوبة، لتستقطبه الفصول، وتمدّ له أكفُّ البحار والسهول يدها لاستقباله، كما في قوله: "كُلُّ ما فيكَ ليسَ يَزُولْ./ كُلَّما مسَّهَا الجوعُ للقمحِ، والعطشُ المرُّ للنهرِ، مدَّتْ إليكَ الأكُفَّ السهولْ"، وهذه القدرة الأسطورية الخارقة التي يملكها الجسد بقدرته على تحويل الأشياء، وإكسابها الخصوبة، هي قمّة الاستغراق في أسطرته وتحميله من القدرات ما لا يستطيع امتلاكه وتحقيقه لدى شاعر آخر.

وقد يمزج الشاعر رؤاه التجسيديَّة الجماليَّة للجسد برؤاه الأسطوريَّة مزجاً فنيًّا تتداخل فيه الرموز والدلالات بين دلالات أسطوريَّة ودلالات صوفيَّة، إذْ يجعل الجسد ميداناً للخصوبة، والولادة، والعطاء الجديد، تارة، ويجعله رمزاً للجمال والتقديس الإلهي تارة أخرى، كما في قوله:
"وَلامَسَتْ صفصاف وجهيَ كالغمامِ.
وَرُحْتُ أحلُمُ أنَّ بي قمراً يضيءُ،
وأنَّ ليلاً صافياً يمتدُّ إلى صُبْحٍ مُذابٍ في أصَابِعَها التي نُحِتَتْ بقايا من نُعَاسٍ،
حيث يبدأ بالصعودِ نهارُ قامتِها إلى وهجِ الظهيرةِ فوقَ فَخْذَيْهَا،

وارْتَدَتْ شفتايَ منديلينِ من قُبَلٍ،/ وَرَوَّحَتا إلى فَمِها الذي في بيتِهِ بين النخيلِ بحيِّ قامَتِها القريبِ، وعندما دَنَتا من البابِ، اخْتَفَى فَمُهَا، / فَرَوَّحَتَا إلى كُلِّ البيوتِ الحُمْرِ بين نخيلِ قَامَتِها، فَلَمْ تَفْتَحْ يدٌ لَهُمَا./ وكُنْتُ مُخَبَّأً بهما./ أُشاهِدُ جِسْمَهَا العاري فأَنْسَى وَرْدَتَيْ فَمِهَا إذا هَبَّتْ رياحُ البردِ من خُصُلاتِها الملأَى بعتمِ الليلِ فوقَ مياهِ كفيّها، وأنْسَى شعرَهَا لما تَرَى شفتايَ نَهْدَيْهَا قد اشتعلا بنارِ البدوِ./ أنْسَى جَمْرَهَا العاجيَّ، إنْ شاهدتُ عينيهَا، وأَنْسَى النسوةَ السودَ اللواتي قد وَقَفْنَ يَبْعْنَ وردَ الشمعِ في أسواقِ عينيها إذا أصغيتُ للأشعارِ تَرْفَعُ خَصْرَهَا قصراً بناهُ النايُ من حجرِ المسا لمحمدَ بنِ الأحمرِ المرسومِ فوقَ فمي"().

يدمج الشاعر - في هذه القصيدة- الرؤى التجسيديَّة الغزلية ذات الترسيم الجمالي بالرؤى الصوفية ذات الامتداد والتدفق الروحي، بالرؤى الحسيَّة ذات الطابع الغريزي الشهواني، محاولاً المزاوجة بين الصور الحسيَّة والصوفيَّة بالرؤى الأسطوريَّة، بجعل الجسد ينبوع الخصوبة والتدفق، والانفتاح والتجلي الجمالي، محاولاً خلق حركة بانورامية مفتوحة لرؤاه الشعريَّة صوب ماهية الجسد والأنثى عامة، فالجسد تارة يبدو منحوتاً بشبق غريزي، وحسّ جمالي، وتارة يبدو منحوتاً نحتاً حسيًّا شهوانيًّا غريزيًّا بصريًّا مثيراً، وتارةً يبدو نبع التأمل والجمال الروحاني، وتارة يبدو مكمن التحول والصيرورة الوجوديّة بأسطرة الجسد وتحميله رؤى ومداليل أسطوريَّة، وقدرة تحويليَّة خارقة، وهكذا تختلط الرؤى - في هذه القصيدة- خلطاً جماليًّا يرمي إلى تشعير الجسد، عبر مزج الحسّ الجمالي بالحسّ الغريزي التي يتغنى بالجسد وتوصيفاته الغريزيّة التي تشي بتوقٍ إلى الأنثى و ترسيمها جماليًّا، كما في قوله: "أُشاهِدُ جِسْمَهَا العاري فأَنْسَى وَرْدَتَيْ فَمِهَا إذا هَبَّتْ رياحُ البردِ من خُصُلاتِها الملأَى بعتمِ الليلِ فوقَ مياهِ كفيّها، وأنْسَى شعرَهَا لما تَرَى شفتايَ نَهْدَيْهَا قد اشتعلا بنارِ البدوِ"، وهكذا، يؤسِّس جوزف حرب حركة نصوصه على أسطرة الرؤى التجسيديَّة الحسيَّة للجسد الأنثوي، معمِّقاً هذه الرؤى الأسطوريَّة بأساليب توصيفيَّة شهوانيّة حسيَّة حيناً، وأسطرة نصّيّة بتحميله مداليل أسطوريَّة حيناً آخر، تباعد بين الرؤى المجسدة لكينونة الجسد الأنثوي، وماهيته المتغيرة، باختلاف المنظور الذي يبثه جوزف في قصائده.
والَّلافت أنَّ مثيرات التحفيز الأسطوري لمداليل الجسد تمتلك خصوصيَّة نادرة في تشعير الصور الغزلية المثيرة، واكتنازها بالعمق، والإيحاء، والامتداد الشعوري المكثف، كما في قوله:

"أُحبُّكِ من بدءِ خيطِ الغمامِ إلى آخرِ القطراتِ لموجٍ تَسَلَّقَ هذا الهواءَ، وصارَ سحاباً،
وصارَ السحابُ شتاءً،
وصار الشتاءُ على الأرضِ نهراً، وعادَ إلى البحرِ.
كُلُّ التماعاتِ برقي كانتْ لألمَحَ بابكِ.
كُلُّ طريقيَ في الريحِ كانتْ عذاباً جميلاً.
وكُلُّ صعودي إلى الشمس كانَ لأجلِ الوصولِ إليكِ. وما أنْبَتَتْهُ مياهي من الزَّرعِ والزهرِ كانَ قرابينَ نهرٍ لِيُلْقَى على قدميكِ.

ولكنَّهم سرقوا الغيمَ مني، ووردَ الحدائقِ، والشجرَ القِرْمِزيَّ،
فأخفيتُ كفيَّ كي لا تريني بغيرِ هدايا، ورحتُ أَمُدُّهُمَا.
يا لَعَارِيْ لَمَنْ سرقوني، لأشربَ منْهُمْ فتاتَ مِيَاهِي، وآكُلُ سقطَ ثمَاري وأصبحَ مثل ملوكِ الخريفِ، تُتَوِّجُني النائحاتُ بزهرِ الحدائقِ بَعْدَ الذبولِ.

وكنتُ مع الوقتِ أبعدُ عنكِ لأني مصابٌ بفقريْ، وأنسى طريقَ الوصولِ إليكِ، لأنَّ اغتساليْ بماءِ الكنائسِ، والخوفَ من عتمةِ الحبسِ، والجَلْدَ عند جدارِ المحاكِمِ، حَوَّلْنَ روحيْ إلى خادمٍ في بيوتِ اللصوصِ... ...
هذا دمي...عَلِّمِيْنِي قراءةَ الأرضِ، غُطِّيْ قَلَمَ الغَيْمِ في دواةِ البحارِ.
وانْحَتِي الريحَ لي يداً، واجعليني كاتبَ الشمسِ في بلاطِ النهارِ.
وهذا دمي فاشْتَهِيْني كأَنَّ نساءً من الجمرِ فيكِ، وَقَفْنَ وراءَ شبابيكِ صيفٍ وَرُحْنَ يُشَاهِدْنَ فرسانَ ماءٍ يمروُّن فوقَ خيولٍ من الغيمِ بِيضٍ، فَلَوَّحْنَ ثم شَرِبْنَ على العشقِ حتَّى انْطَفَأْنَ.

وهذا دَمِي فاغْمُريْني. لديرِ فمي عَتَّقَ اللهُ نَهْدَيْكِ، وانتشرَ الليلُ في شَعْرِكِ المَطَرِيِّ لأسهَرَ فيه، ولا شيءَ إلاَّ أباريقُ خمرٍ، وَتَرْجَاعُ آهٍ على شفتيكِ، يُرَافِقُ إيقاعَ خِصْرِكٍ حتَّى الصباحِ المُذَوَّبِ في قدميكِ.. وهذا دمي"().
تأتي القصيدة لتفرض على القارئ رؤاه الغزليَّة الترسيميَّة الوصفيّة للأنثى، وجسدها اللوحاتي الجميل الذي يبثُّ فيه كل مظاهر الجمال والإشراق والنور، فالشاعر لم يعبِّر عن الجسد بلفظة صريحة، لكنه شحنها بدلالات أسطوريّة ممثلة بالقرابين والنذور، فالجسد الأنثويّ يتحوَّل إلى هيكل للعبادة، أو هيكل إلهي يُقَدَّم له النذور والقرابين، كما في قوله: "وما أنْبَتَتْهُ مياهي من الزَّرعِ والزهرِ كانَ قرابينَ نهرٍ لِيُلْقَى على قدميكِ./ ولكنَّهم سرقوا الغيمَ مني، ووردَ الحدائقِ، والشجرَ القِرْمِزيَّ"،

وهكذا مزج جوزف حرب الرؤى الأسطوريَّة بالصوفيَّة، مسهماً في تشعير رؤاه الغزليَّة بإيقاعات تصويريَّة مهندسة دلاليًّا، بالتصوف والأسطرة، والترسيم الغزلي الشفيف، كما في قوله: "وهذا دَمِي فاغْمُريْني. لديرِ فمي عَتَّقَ اللهُ نَهْدَيْكِ، وانتشرَ الليلُ في شَعْرِكِ المَطَرِيِّ لأسهَرَ فيه، ولا شيءَ إلاَّ أباريقُ خمرٍ، وَتَرْجَاعُ آهٍ على شفتيكِ"، وعلى هذا النحو، يؤسّس جوزف حرب إيقاع رؤاه للجسد الأنثوي على الأسطرة والنزوع الأسطوري، والترسيم الشعوري الغزليّ الرهيف، والرؤى الصوفية الممزوجة بالتوق والعشق والتأمل الروحيّ العميق لما يخفيه الجسد من بواطن جماليَّة وإشراقيَّة دالَّة على الكمال والجمال المطلق.

ثالثاً- لغة الجسد التصوفّ [تقديس الجسد/ وتقديس الأنثى]:

إنَّ رؤية جوزف حرب للجسد رؤيةً صوفيَّة تقديسيَّة، فالجسد هو مكمن الوجود، وهو مكمن تلقي الأزمات والصدمات وتحمل الآلام، وهو الأوّل في المكابدة والتضحيّة، وهو الانبثاقة الأولى للروح، ولهذا، نظر جوزف إلى الجسد نظرة فلسفية عميقة، فهو مكمن الوفاء، والأمل بالانبثاقة الوجوديّة الجديدة، إذْ يقول:

"جَسَدِي، أوَّلُ من ظلَّ وفيًّا.
جَسَدِيْ، آخِرُ من ظلَّ وفيًّا.
كُلُّكُمْ قد خانني في الأرضِ إلاّ جسدي.
لَمْ يَحْتَمِلْ في مرضي القاسي معي إلاَّ جسديْ. ما جاعَ لمَّا جُعْتُ إلاَّ جسدي. أنكرتموني كُلُّكُمْ في الصلبِ إلاَّ جسديْ. لم يَعْطِنِي شمسَ دمٍ للوطنِ المُظْلِمِ إلاَّ جسدي.
لمَّا محاني العِشْقُ في البعدِ خيالاً ناحلاً لم يَمْحُ إلاَّ جسديْ.

ماذا سأُعْطِي جسدي كي أستحقَّ الشمسَ؟ كَمْ أهملْتُهُ من أجلِ هذا العشقِ؟ كَمْ حَمَّلْتُهْ موتي وأضرحتي؟
وكَمْ أغْمَضَ جفنيهِ ولم أتْرُكْهُ يَغْفُو؟ لم تَخُنِّي امرأةٌ أكثرَ مما خُنْتُهُ.
كان غَنِيًّا، فسرقت النومَ، والقوَّةَ، واللذاتِ، حتَّى صارَ كالشَحَّاذِ يستعصي العَصَا، واللونَ، والوقتَ، الذي كانَ بخيلاً، ونعاسَ الليلِ. هذا جسدٌ كالأمِّ.
مَنْ يُبْعِدُ عن وجهيْ المرايا؟ كُلَّما تَنْظُرُ عينايَ إليها لا أرى إلاَّ الخطايا.
أيُّها المشدودُ كالقوسِ، وكالماءِ الذي قَدْ موَّجَتْهُ الريحُ تغدو ليِّناً عند غيابي"().

هنا، يرى الشاعر في الجسد المعاناة، والمكابدة، والوفاء، فهو الصديقُ الوفي الدائم الذي لا يخون، وهو الذي يتحمله في حالة الإعياء والمرض الشديد، وهو الذي يجوع بجوعه، ويعي لمرضه، وينحل وتخور قواه لمكابدة العشق وجراح العشَّاق، ولهذا، قدَّسه الشاعر إلى درجة التصوف بحبه، كما في قوله: "ماذا سأُعْطِي جسدي كي أستحقَّ الشمسَ؟ كَمْ أهملْتُهُ من أجلِ هذا العشقِ؟ كَمْ حَمَّلْتُهْ موتي وأضرحتي؟"، وعلى هذا النحو، تبدو رؤيته للجسد رؤية متمردة، ثائرة، فهو يسعى لمنحه التشكل الوجودي الأسمى، للدلالة على العظمة حيناً، والوفاء والحب والتصوُّف الروحيّ والأُنس الوجودي حيناً آخر.
وقد يستغرق جوزف حرب في تقديس الجسد، ليصل إلى مرتبة الإحساس، والسمو المطلق به، فهو مركز الشعور، وعمق الإحساس، وهو الطيب، والزورق العاشق الذي يبحر به إلى المطلق، إذْ يقول:

"وكَمَا تمسحُ امرأةٌ نَهْدَهَا بالخُزَامَى، وتَلْمَسُهُ في المرايا، لكي تطمئنَّ إلى قسوةِ العاجِ فيهِ، وتدويرةِ الشمسِ لمَّا تغوصُ بنصفٍ لها في مياهِ الغروبِ
لمستُ أنا جسدي.
كانَ شيئاً من المَوَجَانِ، وخَفْقِ جناحِ الزَّوارقِ، والرقصِ في قاعةٍ من مياهٍ. فأدركتُ أنِّي بحريَّةُ الشَهَواتِ.
وكانَ الرجالُ يَجِيْئُونَنِيْ قِطَعاً من صُخُورٍ، وَمَشْقَ رِمَاحٍ، وعُمْدَانَ أرزٍ، فلا تتحرَّكُ فِيَّ تواشيحُ عُرْيِيْ، ولا تَتَبَلَّلُ فِيَّ خُصورٌ بتنقيطِ نايٍ.
ولمَّا رأيتُكَ هَبَّتْ عليَّ رَوَائِحُ مِلْحٍ
وشاهدتُ أزْرَقَ أزرقَ تَصْعَدُ منهُ نوارسُ موجٍ،
وتَغْسِلُ بالزَّبدِ الهَفِّ قلبي. فناديتُ: هذا هُوَ البحرُ.
يا جَسَدِي اذهبْ عميقاً، بعيداً.
وكُنْ صندلاً فوَّحَتْ كُلُّ أطيابِهِ مِنْهُ حينَ احترقْ.
وكُنِ الزورَقَ العاشِقَ البحرَ. لا عَصْفَ يمنعُ إبْحارَهُ أو غَسَقْ
أيُّها البحرُ مُدَّ ذِرَاعَيْكَ لي.
وَلْيَكُنْ أوّلَ العشقِ فيكَ الغَرَقْ"().

هنا، يرسم الشاعر لوحته الجسديَّة، رسماً فنياً موحياً، يعتمد دفق الصور الجماليَّة في منحاها التشكيلي التوصيفي للجسد، لتبدو اللوحة فنية ترسيمية مدهشة لتلاوين الجسد/ هذا من جهة، ومن جهة ثانية يقدِّس الشاعر الجسد، ليعبِّر عن تصوفه الروحي/ وحيازته المطلقة لما يكتنزه الجسد من جماليات، فهو زورق العاشق الذي يصله إلى الحبيب، ليتواصل معه جسديًّا وروحيًّا/ كينونةً/ وذاتاً وجوديَّة تعي ماديتها من جهة/ وترتقي روحيًّا من جهة ثانية، لتبحر في عالم العشق/ والسمو الروحي المطلق، كما في قوله: "وكُنِ الزورَقَ العاشِقَ البحرَ. لا عَصْفَ يمنعُ إبْحارَهُ أو غَسَقْ/ أيُّها البحرُ مُدَّ ذِرَاعَيْكَ لي./ وَلْيَكُنْ أوّلَ العشقِ فيكَ الغَرَقْ"

وقد يرتد جوزف حرب في حركة فلسفية معكوسة في رؤيته للجسد، فبدلاً من تقديسه المعهود للجسد إلى درجة التصوف، نراه في مواضع أخرى، يقزِّمه ويتمنى الخلاص منه لوهلة، للاندماج بالآخر روحيًّا، وينصهر إلى درجته حتى الالتصاق التام، كما في قوله:

"كُنتُ أُصْغِيْ للتراتيلِ التي أشتمُّ رائحةَ الوصولِ إليكِ فيها./ كُنْتُ أتْبَعُهَا لأعْرِفَ أينَ دَيْرُكِ في مرامي الأرضِ؟/ أَتْعَبَنِي نُحُولِيْ/ ليْتَهُ يزدادُ حتَّى أَمَّحِيْ كالريحِ./ حاولتُ التَخَلُّصَ فيكِ من جَسَدِيْ./ لأنَّ بهاءَ أنِّي عاشِقٌ، ألاَّ يُرَى في الأرضِ لي جسدٌ/ لماذا أنتِ يا جَسَدِي معي؟!/ ما أَحْقَرَ الأَجسادَ. لم تَنْقُلْ حبيباً لحبيبِهِ إلاَّ تقاسمتِ الحبيبَ كأنَّها لصٌّ مَعَهُ/ لو كُنْتُ بَحَّاراً وجسمي أشْرِعَهْ لتركْتُهَا عندَ الخليجِ، وزرتُ بيتَكِ، ليسَ لي جَسَدٌ/ فأجْمَلُ ما بمحبوبٍ له جَسَدٌ، إذا ما ودَّعَهُ،/ ومَضَى إليكِ. وحينَ عادَ إليه بَعْدَكِ ضيَّعَهْ"().

إنّ لغة الجسد تحولت - في هذه القصيدة- لتحلّ بديلاً عنها لغة الروح، فالشاعر رأى في الجسد القيد الروحي/ أو اللصّ الذي يأخذ ساعات الوصال الروحي بالحبيبة، فأجمل التجليات الروحية الصوفية هي التي تتحرر فيها الروح من قيد الجسد، ويحلق العاشقان معاً في صفاء الروحانية/ والسمو المطلق، لهذا، نظر إلى الجسد نظرة دونية بأنَّه القيد الذي يقيد أرواح العشاق، أو اللّص الذي يتقاسم العشاق صفوتهم، وروحانيتهم، الساحرة، لهذا فأجمل اللقاءات تلكم التي تحمي فيها الأجساد/ وتحلِّق الأرواح في سماء المطلق، وهذا ما أكّده في قوله: "ما أَحْقَرَ الأَجسادَ. لم تَنْقُلْ حبيباً لحبيبِهِ إلاَّ تقاسمتِ الحبيبَ كأنَّها لصٌّ مَعَهُ/ فأجْمَلُ ما بمحبوبٍ له جَسَدٌ، إذا ما ودَّعَهُ،/ ومَضَى إليكِ. وحينَ عادَ إليه بَعْدَكِ ضيَّعَهْ"، إنَّ هذا الشعور الجسديّ يؤكِّد تنافر الرؤية لديه صوب ماهية الجسد، فهو يراه المنارة الوجوديَّة/ والقطب الوجودي المثير لحركة الأشياء حيناً، ويراه القيد الوجوديّ الذي يقيّد الأرواح العاشقة للحدّ من فيضانها الروحي.

وقد يكثف جوزف حرب الرؤى الصوفيَّة بالمدلولات الأسطوريَّة في رؤيته للجسد، محاولاً خلق حركة تكامليَّة بين الأنساق الوصفية الترسيمية للجسد/ والأنساق الغزليَّة ذات التوقد الروحي/ والاصطهاج العاطفي، مكثفاً مثيرات الصور الغزليَّة التي هي أشبه ما تكون بالصور اللوحة/ ذات التجسيدات البصريَّة المشتقة من جزئيات الطبيعة، ولمعانها البصريّ الممزوج بالألوان/ والأنغام، كما في قوله:

"لِيْ رُكْبَتَانِ إذا شَمَمْتَهُمَا شَمَمْتَ بَلاَطَ مَعْبَدِهَا./ أنا حورُ الصلاةِ، يَلُفُّنِي عندَ الغروبِ، أمامَ مَذْبَحِها، ضبابٌ من بَخُورٍ./ لا يرانِيْ الشمعُ./ لا يُصْغِي إلى همْسي ملاكْ./ والنهارُ إذا وقفتُ بشَمْسِهِ، لا ظِلَّ لِيْ./ والنومُ لمَّا الليلُ قامَ لكي يوزِّعَهُ عَلَيْكُمْ، لمَ يجِدَنِي./ قَدْ بَرَاني الوَجْدُ حتَّى لَمْ يَعُدْ أحدٌ يَرَى جسدي سِوَاهَا./ لا خَطيئةَ بي./ ولا إنْ متُّ في قبري ترابٌ./ آهِ لو تَنْسَى الأماكنُ أنَّني حجمٌ./ ونهرُ الوقتِ لو يَنْسَى مِيَاهِيَ/ وهو يَجْرِيْ. زاهدٌ في كُلِّ شيءٍ/ كُلُّ شيءٍ لَيْتَهُ في الكونِ يَزْهَدُ بيْ، فأحْيَا، ليسَ يَعْرِفُ أنَّني قَدْ جِئْتُ إلاَّ أنتِ./ لو ممحاةُ لوحِ الوَقْتِ تَمْحُو منِّي الأيَّامَ./ لا أسرارَ أجْمَلُ مِنْ بقائِي غيرَ موجودٍ برأيِ الأرضِ./ ماذا تَفْعَلُ الأشياءُ كي تَبْقَى على قيدِ الحياةِ، وليس حتَّى الوقتُ يَدْرِي أنَّها مَوْجودةٌ؟!/ إنِّي أمامَكِ غَيْمَةٌ مُلِئَتْ ببرقٍ./ فافْتَحي جَسَدَ الرياحِ بأُفْقِهَا./ لا غيمةٌ إلاَّ وقَدْ غَرِقتْ بِلَيْلَةِ برْقِهَا، في عِشْقِها./ أخْرَجْتِنِي منّي./ أَعِيْدِيْنِي إليَّ لأشتهيكِ./ كُلُّ ما أبقيتِ بِيْ، طيفٌ يُصَلِّيْ/ ليسَ بي جَسَدٌ يُحِبُّكِ./ بي خيالٌ راكعٌ بين المَجامِرِ والتواشيحِ الكئيبةِ./ أرجعي لي قَامَتِي كي أشْتَهِي هذا التَفَتُّحَ فيكِ، واللَّهبَ المُرَصَّعَ بالتَلوِّي والندى./ آهِ أطلَعِيْ صُبْحاً ترقرقَ في قوامْ./ رُدِّي إلى وجهي مَنَاسِكَهُ./ بهيٌّ أن يكونَ لعاشقٍ قُبَّرَتَا مَسَاً./ وَفَمٌ يُحَرِّكُ وهو في فَمِكِ النَّدى ما تحتَ خاصرتيكِ./ نامَتْ شهوتي في ظلِّ صَفْصَافِ الصلاةِ فأيْقِظِيْهَا./ شَهْوَتي ريحٌ./ أعيدي ما تَفَتَّحَ فيكِ من شجرٍ لأعْصِفَ كُلَّما اهْتَزَّتْ جذورُكِ، صرتِ أكثرَ خُضْرَةً./ آهِ اجْعَلِيْنِيْ صخرةَ الأيَّام./ فَحَلَ البرقِ./ إعصارَ الخَوَابِيْ./ الساحِرَ القاسِيْ./ لسانَ النارِ./ وامْتَصِّي عناصرَ قوَّتِيْ حتَّى أصيرَ وكُلُّنِي نومٌ خريفيٌّ./ فأَجْمَلُ ما بشيءٍ عندما تمتصُّ خُضْرَتَهُ العواصفُ أنْ يَنَامْ./ أخْشَى على جَسَدِي من التمثالِ./ ضُمِّيْنِي قليلاً، قبل أنْ يأتي الرُّخَامْ"().

هنا، يُجسِّد الشاعر الرؤى التجسيديَّة للجسد/ برؤى تصويريَّة مكثفة الأنساق، مما يجعل النسق الغزلي مكَّثف الرؤى/ والمداليل/ والإيحاءت الشعريَّة، والصور الغزليَّة التي تسبح في خضم التصوف/ والتوق الروحي، رغم التصوير الجسدي الجنسي أو الغريزي الذي يبدو للقارئ للوهلة الأولى، كما في قوله: أرجعي لي قَامَتِي كي أشْتَهِي هذا التَفَتُّحَ فيكِ، واللَّهبَ المُرَصَّعَ بالتَلوِّي والندى./، وهكذا، يتطلَّع جوزف حرب إلى تكثيف الرؤى الروحيَّة صوب الأنثى، ليبث من خلالها مناجاته الروحية/ وقلقه النفسي إزاء الموت/ وهاجس الزمن الذي يسيطر على عالمه، ويسدل بشبحه المرعب على ذاته، فيرى في المرأة هذا الأنس الروحي الذي ينقذه من سوداوية الرؤية وإيقاعها الحزين، كما في قوله: "أخْشَى على جَسَدِي من التمثالِ./ ضُمِّيْنِي قليلاً، قبل أنْ يأتي الرُّخَامْ"، فالشاعر يخاف التحجر والجمود، ويرى في المرأة هذه الثورة القادرة على الوقوف ضد سطوة الزمن/ ومثيراته المؤلمة، ونوائبه المتتاليَّة، وعلى هذا النحو، يسعى هذا النصّ إلى إنجاز رؤيته بطريقة غزليَّة جماليَّة تضجُّ بالحيويَّة والإيقاع الروحي المثير.

وقد تُتَعَمَّق دلالات الجسد الصوفية – عند جوزف حرب- من خلال تكثيف الرؤى الجماليَّة المعمقة لإيحاءات الجسد، بتطعيمها بالصور الغزليَّة المثيرة، كما في قوله:

"فبيتي كالمزهريَّةِ، أَرمِي اللَّواتي ذَبُلْنَ، لأَغْمِسَ في العشقِ مَنْ لم يُفََتِّحْنَ بَعْدُ./ إذا الليلُ جاءَ ابْتَهَلْنَ إليَّ: لأَجْلِكَ نحنُ نُدَوِّرُ في صَدْرِنَا النَّهْدَ، نَنْحُلُ عندَ الخصورِ، ونُعْطِي لأفخاذِنَا بُعْدَ طَعْمِ خُمُورِكْ./ وإنَّا قيانُكَ، حُوْرُكَ./ سِرْبُ جَوَاريْكَ./ جئْنَا إليكَ وأذرُعُنَا الهِيُفُ مِنْ زنبقاتِكَ، أثداؤُنَا من حقاقِ بَخُوْرِكْ./ عَذَارى تَزَيَّنَّ بالعشقِ جئناكَ، فاسْكُبْ نبيذَ طهارتنا في كؤوسِ شرورِكْ./ ألا افْتَحْ لنا حِبْرَكَ الملكيَّ لندخُلَ في ملكوتِ الدواةِ كلاماً يُطَوِّفُ حَوْلَ سطورِكْ./ وما أنْتَ؟ خَمَّارُ هذي البروقِ بقامتِكَ الكَرْمِ، فاقْطِفْ لنا، واسْقِنَا من عصيرِكْ./ نَؤُوهُ وأنتَ تُنَقِّلُ جَمْرَكَ فينَا، أسِلْ ماءَكَ الحارَّ في مَغْمَضِ الخِصْبِ، واملأْ مجامِرَ أحواضِنَا بنذورِكْ/ ألاَّ أيُّها الفائقُ المستبدُّ ألا فاعْطِنَا...ليلةَ في سريرِكْ"().

هنا، يعتمد الشاعر الصور الغزليَّة المثيرة التي تضفي على الجسد حركة روحيّة/ تتأسس على مثيرات الشعور الصوفي/ الذي يتمثل في تنامي الإيحاء/ وتكثيف الشعور الصوفي الروحي الذي يتنامى شيئاً فشيئاً، ليستحوذ على عالمه الغزلي، وفضائه الإيحائي الذي يمتد بشعور تأمليّ مفتوح بالصور الغزليَّة المتراكمة، كما في قوله: "نَؤُوهُ وأنتَ تُنَقِّلُ جَمْرَكَ فينَا، أسِلْ ماءَكَ الحارَّ في مَغْمَضِ الخِصْبِ، واملأْ مجامِرَ أحواضِنَا بنذورِكْ"، وهكذا، يحاول جوزف حرب تشعير فضاء قصيدته على الغزل الصوفي الذي يعتمد الحس الشعوري الإباحي، منطلقاً في تكثيف الصور الصوفيَّة، ذات الشفافية الروحيَّة/ والتأمّل الباطني العميق.

وقد يرتقي جوزف حرب حيِّز الحس الترسيمي الدقيق إلى التحليق الروحي بمداليل الجسد، ليأتي الجسد - عنده- علامة على انفتاح تأملي وإدراك عميق بالغزل/ والتوق الروحي، كما في قوله:

"لا تَتْرُكيِنيْ هاهُنَا وَحْدِي./ أنا عارٍ على جَبَلٍ، تُفَكِّكُنِي العواصفُ، والبروقُ تَشُكُّ في جسدي الرِّماحَ، وزاحِفٌ نحوي المَدَى بقبيلتيْ رَعْدٍ، وأسوَدَ مُمْطِرِ. قَلِقٌ، شجٍ، لا أستقرُّ كَزِئْبَقٍ./ لكأنَّما ذا البَحْرُ أوراقِيْ، وذا الزَبَدُ الكلامُ، وتَحْتَهُ الماءُ المموَّجُ أسطُرِي./.....لمَّا رأيْتُكِ زِدْتُ حُزْنًا أنَّ لي عمراً مَضَى./ يا ليتَ هذا العمرَ لَمْ يَرَ وَجْهَكِ القدسِيَّ أو لم يَكْبُرِ./ خَجِلٌ لأنّي حامِلٌ تَعبَ الطريقِ هَدِيَّتيْ، وجراحَ أمْسيَ أُزْهُرِيْ، إنِّي أتيتُ إليكِ فانسي واغْفِرِيْ"().

يلجأ الشاعر - هنا- إلى تكثيف الرؤى التأمليَّة التجسيديَّة للجسد، ليبدو منارة الإحساس الوجودي/ والعمق الصوفي، ليحس بوجوده، متجاوزاً الصور الإباحيَّة الصريحة إلى التلقائيَّة العالية/ والقصديَّة الشفيفة، التي تثير الصور الغزليَّة ذات التموج العاطفي الروحي المستغرق في التأمل الصوفي، كما في قوله: "يا ليتَ هذا العمرَ لَمْ يَرَ وَجْهَكِ القدسِيَّ أو لم يَكْبَرِ./ خَجِلٌ لأنّي حامِلٌ تَعبَ الطريقِ هَدِيَّتيْ، وجراحَ أمْسيَ أُزْهُرِيْ، إنِّي أتيتُ إليكِ فانسي واغْفِرِيْ"، وربما كان الشاعر جوزف حرب مدركاً لتوجهاته التصويريَّة الصوفيَّة العميقة، حتى استطاعت قصائده أن تسمو جماليًّا وروحيًّا فوق حيِّز الصور الترسيمية البسيطة [الغريزيَّة الإباحيَّة]، لترتقي إلى فضاء الصوفية/ والأسطرة/ والنحت الجماليّ التشكيليّ، وهكذا، حلّق جوزف حرب برؤيته للجسد من الحس الترسيمي التجسيدي الغريزي إلى فضاء الأسطرة/ والتصوف والصفاء الروحي.

* نتائج واستدلالات:

إنَّ نزوع جوزف حرب إلى ترسيم الجسد بتفاصيله الجزئيَّة، ومظاهره الجماليَّة، يؤكِّد إيمانه المطلق بكينونة الجسد، وسموِّه وارتقائه فوق حيِّز الإحساس الروحي، فالروح والجسد صنوان مهمان في تحقيق الكينونة البشريَّة، والحسّ الجماليّ، مما يعني أنَّ ثمَّة رغبة جارفة- لدى جوزف حرب- بترسيم الجسد وتصويره، وكشف ستره وأوصافه الجزئية المسكوت عنها، ليؤكِّد خروجه عن العادة في توصيف ماهية الجسد الجماليَّة، من خلال تركيزه المطلق على الأوصاف الغريزيَّة التي تعرِّي الجسد الأنثوي، وترسم معالمه بريشة فنان تشكيلي بارع في رسم أبعاده الجماليَّة بأوصاف مشتقة من جزئيات الطبيعة وخضرتها ورهافتها الساحرة.

إنَّ ارتقاء جوزف حرب حيِّز الصور الحسِّيَّة الترسيميَّة الشبقية للجسد، إلى الصفاء الروحيّ، واللذة، أو النشوة الروحيَّة، يؤكّد نزوعه إلى تشعير لغة الجسد بأوصاف تجسيديَّة مرسومة بحياكة فنية مثيرة، ليغدو الجسد الأنثويّ إفرازاً طبيعيًّا من إفرازات الطبيعة بسحرها وجمالها ورونقها المثير.

تكتمل اللوحة التصويريَّة الترسيميَّة للجسد – في قصائد جوزف حرب- اكتمالاً شبه تام من خلال مزج الرؤى الصوفيَّة بالأوصاف الترسيميَّة ذات النحت الجماليّ، لتصل حدَّ الأسطرة، ليخلق حالة من المواءمة، والانسجام بين التصوير الحسّيّ، والسموّ الروحي، لتبدو الصور - لديه- ذات حيازة روحيَّة، وحسيَّة في آن.

إنَّ مغامرة الاستغراق في التوصيفات الجسديَّة لمداليل الأنثى تؤكِّد قدرة الشاعر جوزف حرب على ترسيم اللوحات الجماليَّة التي تَتَتَبع دقائق الأمور المتعلقة بأوصاف المرأة جسديًّا، لتغدو الأنثى بحركتها الجسديَّة ميزان الجمال، والتأمل الروحي بالخلق، والكون، والحياة، فالمرأة بجسدها الجماليّ هي بؤرة اصطهاج دائم في إفراز الصور الجماليَّة، وتعميق الإحساس الجمالي بها.

إنّ الجسد الأنثوي يمثل - لديه- مرتكز الشعور والإحساس الوجودي، لهذا، عمد جوزف حرب إلى أسطرته، بأن جعله مركز الانفتاح، على الأشياء والإحساس بها، فلولا الجسد ما سمت الروح وارتقت، وحلَّقت في فضاء التأمل، والإدراك، والإحساس بالجمال.

في شعر جوزف حرب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى