الخميس ٢٤ آذار (مارس) ٢٠١٦
الاغتراب الفكري والثقافي
بقلم عصام شرتح

في شعر حميد سعيد

ما من شك في أن المبدع الحقيقي هو الشخص الحساس، أو المغترب برؤاه، وأفكاره، وطموحاته، وأحاسيسه الوجودية،وما من مبدع، أو فنان حقيقي إلا وله طقوسه الخاصة، وأحاسيسه المشبعة أسىً وغربة، ووعياً، وإدراكاً، وتوتراً، واحتراقاً، ولهذا، يبقى الاغتراب ذلك الأفق الوجودي الذي يتطلع من خلاله المبدع إلى التغيير،والتعبير عنه بما يمتلك من حساسية، وحرقة، وتأمل ،ومن أجل هذا، يختلف كل مبدع عن الآخر، في شكل اغترابه، وقوته، وفاعلية تأثيره، فمن الشعراء من يجعل الاغتراب فناً رؤيوياً يشف - من خلاله- عن الكثير من البواطن الشعورية، والآفاق النفسية المحتدمة،والعوالم البكر اللا مرتادة، وهؤلاء هم المبدعون المؤسسون، أو هم المبدعون الخالدون الذي أسهموا في ركب الرقي الحضاري والثقافي لأمتهم؛وتركت أعمالهم أثراً فنياً راقياً لا يمحي أثره أو يزول.

وبتصورنا: إن الاغتراب الثقافي- بالموروث الثقافي- من مؤثرات الاغتراب المهمة الكاشفة عن مخزون الشاعر الإبداعي، وثقافته، ومواهبه، ورؤاه،وتطلعاته، وهذا يدل على أن للاغتراب الثقافي قيمته المثلى في الكشف عن مرجعيات الشاعر الثقافية ومرتكزات إبداعه الجوهرية التي تؤثر في منحى الرؤية،وتغير استراتيجيتها الدلالية،ولهذا، يبقى الإنسان المثقف الذي يملك ركيزة معرفية، وثقافية، وحساسية شعورية هو الأكثر تأثراً، وإحساساً بالاغتراب ،وبهذا المقترب الرؤيوي يقول الباحث أحمد صالح الرعيبي (يكون المثقف أكثر وعياً وإدراكاً للواقع المعيش ، وهو يسعى جاهداً لتغييره على وفق فلسفته تجاه الحياة والأحياء ، ولا يتولد الرفض لديه إلا بعد وعيه الواقع بصوره جيدة ، فقد يحس من يشعر بالغربة باختلاف الواقع ، لكنه يحاول الاندماج معه بغية تحقيق التوازن النفسي)().

والمبدع المغترب هو الذي يبقى في حركة دائبة من الحراك الشعوري، و الصدام مع الواقع، وتحديه والاغتراب عنه إلى عوالم رؤيوية متجددة،ومن هنا، فإن الاغتراب الفكري أو الثقافي هو ناتج انعدام التفاعل مع معطيات الواقع، فيرتد الشاعر إلى الماضي أو الصراع مع الواقع بالهروب منه إلى الأزمنة الغابرة رغبة في استرجاعها ،نظراً إلى سوء الواقع وجهامته عليه، وهنا، يأتي التمسك بالماضي بكل ما يحمله من قيم ورؤى ومؤثرات ليكون الفاعل الحقيقي في تكوين شخصية المبدع ،وهذا اغلارتداد إلى الماضي والتسلح بكل ما يحمله من روح الجدة والمعاصرة هو ما أسميناه بالاغتراب الثقافي أو الفكري باللجوء إلى الموروث وإحيائه من جديد بروح المعاصرة والجدة والابتكار، . ومن هنا يؤكد الناقد حسين جمعة :" أنه أياً كان مفهوم الاغتراب في النفس فهو ناتج عن انعطاف قلق يعاني منه المغترب تجاه كل مألوف، أو تجاه الأزمات،فيصاب بالسأم،والاضطراب،والتوتر، ويقل إنتاجه،لذا يقال: اغترب تتجدد،وهنا يدخل الاغتراب في باب المشيئة. وهذا يعني أن اغتراب المرء عن(المكان- الوطن) يعد مفارقة نفسية واجتماعية،ومكانية، وزمانية من أجل إعادة الذات إلى جوهرها الطبيعي،ما يربط هذا كله بالقلق الوجودي"(2).

ولا نبالغ في قولنا: إن ظاهرة الاغتراب قد اخترقت ميادين كثيرة (فلسقية وأدبية ،واجتماعية ،وثقافية وسياسية ونفسية،و حقول معرفية متداخلة)،لما لها من تأثير مباشر في كل الحقول المعرفية،وهكذا:" استطاعت ظاهرة الاغتراب أن تفرض نفسها بقوة على شتى الميادين الفلسفية، والنفسية، والاجتماعية، والسياسية، وظهرت كموضوع أساس في كثير من الأعمال الأدبية والفنية، وتوغلت في عمق المجتمعات الإنسانية فعرفت كظاهرة ملازمة للإنسان في جميع العصور والمجتمعات "وقد لا نبالغ إذا قلنا بأنها قديمة قدم الإنسان نفسه، فمنذ اللحظات الأولى لتكوّن التجمعات السكانية، صاحبتها مجموعة من الأزمات والمشكلات نتج عنها بعض مظاهر الاغتراب التي عانى منها الفرد، وزادت حدتها في العصر الحديث، الذي أصبح عصر الاغتراب بامتياز،"(2).

وبتقديرنا : إن الاغتراب الثقافي يملك مشروعيته القرائية لأنه يبين مرتكزات التجربة الإبداعية ومفاصلها الرؤيوية والثقافية، ذلك أن للتجربة الشعرية قيمها المثلى،وثقافتها المعرفية الخاصة،والاغتراب الثقافي هو جزء من الاغتراب المعرفي والفكري الذي يميز المبدع عما سواه وغنى تجربة شعرية عن أخرى،ولا يرقى المبدع معرفياً دون فواصل رؤيوية محركة للشعرية، وباعثة لعوالمها،ورؤاها المتنوعة.ووفق هذا التصور:""يمتاز مصطلح الاغتراب بالغموض والتشتت والإبهام وذلك بسبب تعدد استخداماته التي تشمل جل نواحي الحياة ، النفسية، والذاتية، والاجتماعية، والدينية، والسياسية والزمانية والمكانية، وحتى النواحي اللغوية؛ بسبب تعدد مصادره ومسبباته عند جميع الفلاسفة والمفكرين الذين قدموا كل واحد منهم مفهومه لهذا المصطلح بناءً على فلسفته وأفكاره الخاصة ضمن مجال بحثه وتوجهاته الفلسفية"(3)
وإن أي تجربة شعرية لا ترتكز على رؤى إبداعية ذات زخم رؤيوي وجودي، وثراء معرفي فني، ومرجعية رؤيوية عميقة، وزخيرة ثقافية إبداعية خصبة ستفقد شرعيتها وقوتها الجمالية وتطورها المواكب لعجلة الزمن المتغير والمتطورة،ولهذا، " أحسَّ شعراؤنا منذ بداية عصر النهضة بأن شعرنا العربي لن يستطيع أن يثبت وجوده ويحقق أصالته إلا إذا وقف على أرض صلبة من صلته بتراثه،وارتباطه، بماضيه،وأيقنوا أن انبتات الشعر عن تراثه في أي عصر من العصور، إنما هو حكم على ذلك الشعر بالذبول ثم الموت، لانقطاع جذوره عن منابع الحياة في تربة الماضي التي تمنحه القدرة على البقاء والنمو. ولقد كان الشاهد أمام أعينهم حياً في نتاج تلك المرحلة الطويلة من الضعف والانحدار التي عاناها شعرنا منذ أواخر العصر العباسي حتى فجر النهضة، بسبب انقطاع صلته بتراثه العريق في عصور قوته وازدهاره،وانطوائه على ذاته يجتر أشكالاً عروضية خاوية من المعنى،ومن كل نبض شعري صادق، وتحول الإبداع الشعري إلى نوع من المهارات اللفظية المصطنعة،والألغاز،وباللعب بالكلمات، حتى وصل إلى مرحلة من الضعف لم يصل إليها من قبل خلال تاريخه الطويل"(4).
وقد ارتأى الناقد علي عشري زايد أن وعي بعض الشعراء بأهمية الموروث الثقافي والانفتاح على الثقافات الأخرى يغني التجربة الشعرية، ويهبها الشرعية، والرؤية المعرفية الفذة،والمنظور الرؤيوي الشامل أو المتكامل ، لاسيما إذا ظهر هذا الشكل من الاغتراب كنوع من الامتصاص الجمالي للمخزون الروحي والإبداعي للموروث في إغناء التجربة الشعرية والارتقاء بها، إذ يقول:

" لقد اكتشف بعض الشعراء ومن ضمنهم محمود سامي الباوردي أنه لا نجاة لشعرنا من الهوة التي انحدر إليها بغير ربطه بتراثه العريق، ووصل أسبابه بما في ذلك التراث من عوامل القوة والنماء،ومن ثم عكف على هذا التراث يستوعبه ،و يتمثله،ويعمل على بعثه وإحيائه لا في وجدان الناس وعقولهم فحسب،وإنما أيضاً في شعره"(5) إغناءً لتجربته، وإحياءً لها.زبهذا الأسلوب وجه البارودي الأنظار إلى الارتحال إلى الموروث والنهل من معينه الحضاري بما يرفع سوية النصوص الإبداعية ويرتقي بها فنياً.

و من الملاحظ أن ظاهرة الاغتراب عامة والاغتراب الثقافي أو الفكري خاصة قد لفتت اهتمام النقاد،ومن بينهم الناقد حسين جمعة الذي يقول:" الاغتراب قديم قدم الإنسان،متجذر من الذات والكون، والحياة، والمجتمع،والأنشطة المتنوعة. وقد تجلى في صميم المعاناة الذاتية، ومفارقتها للجوهر الطبيعي. وهذا يعني أن الاغتراب ظاهرة نفسية فكرية ذاتية،ثم غدا ظاهرة اجتماعية ثقافية اقتصادية تستند إلى التنافر بين الذات والآخر،والطبيعة،والنشاط،والعمل،والزمان، والمكان و.. ما جعلها ظاهرة مركبة ومعقدة تعبر عن الانسلاخ والاستلاب،وضعف القدرة على التكيف تارة، وتعبر عن الغربة والتفرد والتميز والاختلاف تارة أخرى"(6).

ولهذا، تفاوتت الرؤى المتعلقة بمفهوم الاغتراب، لدرجة خلطت الأوراق، وبعثرت المعاني الدالة اتجاهه حتى لا تكاد دراستان تتفقان في مفهوم موحد بينهما سوى أنه حالة من الانفصال أو عدم التكيف بين المرء والواقع الذي يعيشه، وهذا ما أشار إليه:" د. فريد أمعضشـو" بقوله:"إنه على الرُّغم من كثرة ما كُتب حول موضوع الاغتراب ? وربّما بسبب هذه الكثرة، وتضارُب الآراء والأقوال - فإن مفهوم الاغتراب لا يزال يعاني اللُّبْس والغُموض في العلوم الإنسانية. وربّما كان ذلك أمراً طبيعياً؛ إذ من العسير جداً تحديد المفهومات الأساسية تحديدا دقيقاً، وتعريفها تعريفا جامعا مانعاً نهائياً؛ كما قال المرحوم محمد عابد الجابري)."7).

وقد شغلت هذه الظاهرة الكثير من الدارسين ، لدرجة أن بعضهم أنجز بحوثاً تطبيقية أكاديمية تتمحور حول هذه الظاهرة وقيمتها من بينهم الباحث عيد حسن في أطروحته:( ظاهرة الاغتراب في شعر شعراء الستينات في مصر"؛ قائلاً:" إن الاغتراب هو اللحن الأساسي في اهتمامات الشاعر المعاصر الفكرية والأدبية وأيضا الإحساس بما يعانيه الإنسان المعاصر من اغتراب؛ إذ أصبح مصير العالم مجهولا ومخيفا"(8).

ووفق هذا التصور،يشكل الاغتراب موضوعة جوهرية خلاقة في صميم التجارب الشعرية المعاصرة ،ولانبالغ إذا قلنا:إن موضوع الاغتراب يدخل في التركيبة الذهنية الوجودية للمبدع، بل للإنسان منذ وعيه الوجودي، وإحساسه الكوني،ومادام الإنسان في وجوده الكوني يعي حقيقة الحياة ومرتكساتها وصدمتها؛ فقد ارتبط بها ارتباط انفصال، وصدام مع متغيراتها،ولهذا، جسد المبدع أثر هذا الصدام مع الواقع بما يدلل على نظرته الجديدة، ومنظوره الرؤيوي المغاير أو المخاتل، وهذا ما أشار إليه بقوله:

(إن الأديب مغترب عن زمانه ومكانه ومجتمعه ، منتمٍ إلى ذاته وحدها في همه الإبداعي .... فذاته هي محور صياغة التجربة النفسية ، وتشكيلها كتجربةً إبداعيةً خلاقة أو مؤثرة ، ولولا تلك الغربة وذلك التفرد لعاد الأدب كلاماً من الكلام(9).

وهذا يعني أن الاغتراب هو الذي يمنح اللغة شعريتها، والأدب شموليته واتساع أفقه المعرفي والوجودي، ومن ثم يكسبه فاعلية الحضور الإبداعي المؤثر أو المحلق في سماء الخلق الفني، فالاغتراب ،إذاً، بما يملكه من شحنات عاطفية ومشاعر داخلية متوترة تمنحه فعالية الحضورالفني المؤثر، والمنظور الإبداعي المتجدد، لأنه القادرعلى تنوع الدلالات، وإبرازكثافة الرؤى، وبهذا المقترب الرؤيوي يقول محمد راضي جعفر:(لقد انعكس الاغتراب على الشاعر العربي المعاصر وتناسب طردياً مع تعقيد الحياة ، والشاعر أسرع إلى غيره في الإصابة بهذا الداء ، لأنه يتمتع بقدر عالٍ من الحساسية والتوتر والرهافة ، ولهذا فقد عاش في اغتراب مركب ، فردي ، واجتماعي)(10)

وقد أشار شاعرنا حميد سعيد إلى أثر الاغتراب الفكري بأنواعه كلها على شعره،فبات موضوعة مهمة في الكشف عن مفاصل جوهرية في رؤاه وتجربته الشعرية على العموم، إذ يقول:"

 يبدو لي إن الاغتراب النفسي في كثير من حالاته،ناتج عن الاغتراب الفكري ، وحين يتفاقم الاغتراب الفكري يؤدي إلى نتائج وخيمة، على صعيدي الفرد والجماعة.إذ يؤدي إلى العدمية، والتطرف والعدوانية ، فكراً وممارسة، وقد يؤدي إلى الاختلال العاطفي الذي يصل أحياناً إلى حد الإقدام على الانتحار.
قد يتمكن الإنسان فرداً أو جماعة ، الخروج من حصار الاغتراب الفكري ويتحرر من كثير من آثاره السلبية وذلك بتجاوز العزلة والانغلاق وممارسة الحوار والانفتاح الاجتماعي.
إن حالات الاغتراب الفكري اقترنت باستمرار بالانغلاق على ما يعرفه المرء حيث يجد في كل ما لا يعرفه خطأً، أو خطيئة تصل إلى حد الكفر .

ومعظم أحداث الدمار العام كالعدوانية والصراعات الدموية مصدرها الاغتراب الفكري وهي بعض نتائجه"(11).
وعلى الرغم من أن شاعرنا أخذ المفهوم السلبي للاغتراب الفكري فإن لهذا الاغتراب قيماً جمالية عند الكثير من المبدعين وماعناه شاعرنا ماهو إلا ذاك الاغتراب الفكري المدمر لاالاغتراب الفكري الذي يغير ويطور ويخلق، وهذا ما وجدناه عند الشاعر حميد سعيد،فاغترابه الفكري كان ومازال اغتراباً إبداعياً خلاقاً،وأسهم هذا الاغتراب بثماره اليانعة على فضاءات القصيدة عند هذا الشاعر الفذ الذي أكد تطور تجربته على الصعيدين الإبداعي والفكري من تجربة لأخرى ومن مرحلة إلى مرحلة ثانية، دون أن نلحظ تكراراً في الرؤى وعقماً في فكره الإبداعي ،ولهذا واحه الاغتراب ىالسلبي بقووة وعزيمة قائلاً:" أنا أعيش توازناً ذهنياً،وأعيش توازناً عاطفياً،وبهذين التوازنين أتجاوز الاغتراب ،بل أتجاوز حالات يبدو تجاوزها مستحيلاً،الأوجاع الجسدية مثلاً تلك التي تسكن مواضع في الجسد نتيجة اختلال فيه،تراني احتملها وأتعايش معها حتى لتصبح مثل هذه الأوجاع أمراً عادياً لا يزعجني أو أزعجه،وأفشل في وصفها حتى لطبيب أراجعه"(12).
وبهذا الإحساس كسر الشاعر حميد سعيد حاجز الاغتراب المرضي ليعيش ألق الاغتراب الفكري عبر شكل القصيدة، ومعطياتها على المستوى الثقافي والإبداعي،،ولا نبالغ في قولنا : إن حميد سعيد واجه اغترابه الداخلي مواجهة إبداعية أو مواجهة خالقة للإبداع،انعكست على بنى القصيدة، وفواعلها الرؤيوية لديه، فأتت القصيدة – لديه- ناضجة فكرياً؛ كنضجها الإبداعي المتوهج الخلاق،وهذا يؤكد أن الاغتراب عند حميد سعيد يدخل في صميم الإبداع ولا ينفصل عنه، ومن هنا يمكن القول: إن الاغتراب الثقافي بالموروث من فواعل التجربة الشعرية، ومحركاتها الشعورية عند حميد سعيد الذي يستعين بالرموز التاريخية، والثقافية،والدينية،وهذا ما نعكس على رؤاه ،ومنظوراته الإبداعية، ولا نبالغ في قولنا: إن كل ما قرأه أو سمعه كان له أبلغ الأثر والتأثير في اغترابه الفكري والثقافي،وهذا دليل غنى تجربته ثقافياً وإبداعياً،وهذا ما أكده في قوله:" حين أعود إلى قراءاتي الأولى المبكرة جداً،حتى التي سبقت وعي اختيار ما أقرأ أتذكر بوضوح: إن جماليات اللغة كانت تستأثر بإعجابي،قبل أن أعي بعمق المعنى والمضمون،وكنت أتعايش مع بعض القراءات بشيء من الذهول،وكأنني كما يقول خليل حاوي( أحسه ولا أعيه)، كان ذلك يحدث لي حين أستمع إلى القرآن الكريم،حيث تتوحد اللغة وروعة الأداء،حتى حين لم أكن أدرك جوهر المعنى،وكان ذلك يحدث لي أيضاً مع الكثير من الشعر العربي القديم والمعاصر أيضاً،كما حدث لي يوماً حين قرأت قصيدة في مجلة الرسالة للشاعر محمود حسن إسماعيل،وكانت لغتها بنى ومفردات قد خلقت لي حالة من الذهول. وحين صرت قادراً على اختيار ما أقرأ واكتشاف جماليات النص الذي أقرأ، لم أنقطع عن قراءة القرآن الكريم،وعمدت إلى أن تكون قراءاتي لكتاب من أصحاب الأساليب،وفي مقدمتهم من القدامى: الجاحظ،وأبو حيان التوحيدي، والمعري ،والطبري،وكبار المتصوفة،ومن المحدثين استأثر بي طه حسين،وكانت علاقتي بالسياب، أساسها لغته المتميزة،وأسلوبه الفريد، وهكذا، بفعل ما قرأت،وتواصل قراءاتي توافر لي ما أشرت أنت من جماليات لغوية أحرص عليها وأعمل على إغنائها،من دون أن افتعلها افتعالاً أو أفرضها على النص من خارجه؛فالأسلوب يتشكل داخل النص،ولا يفرض عليه من خارجه"( 13). ولهذا أغنى حميد سعيد قصائده بثقافة قرائية تزيدها انفتاحاً وعمقاً وثقافة، ووعياً معرفياً، بمواطن الإثارة والجمال في بنية قصيدته،وتشكيلها اللغوي الإبداعي المثير،فهو يسخر كل ما يغني النص الشعري ويزيد من فواعله ونواتجه الدلالية المحركة لقدراته الإبداعية وغناه الرؤيوي والمعرفي المتعالي في آن.

ومن هنا،يمكن القول: إن الاغتراب الثقافي بالموروث والانفتاح المعرفي على التجارب الإبداعية من جهة،والانفتاح على التراث الثقافي العربي، وتراث الأمم، قد أغنى رؤيته الشعرية، وأمدها بطاقة إبداعية خلاقة تغني تجربته،وتزيد فواعلها الرؤيوية عمقاً وثراءً وشمولية.

و لذلك من المؤكد أن ثقافة حميد سعيد الواسعة قد أغنت مخزونه الإبداعي،وطاقته الإبداعية الخلاقة، وقد دعم مخزونه الإبداعي بالإفادة من ثقافات عديدة، حتى نضجت تجربته، وتخمرت،وحققت حضورها اللافت، وقد أشار حميد سعيد إلى أهمية هذا الجانب في شعره ، إذ يقول:"إن مقولة اغتراب تتجدد،ولا تعني إعلاناً من إعلانات شركات السياحة في زمننا هذا، بل تعني اكتشاف ما هو جديد في الحياة، وتمثله إبداعياً؛ وهذا التمثل هو الذي يجدد الإبداع، فرحلة(غاثيا لوركا) إلى أمريكا، ظهرت في عمله الاستثنائي(نيويورك) فكانت انتقالته الشعرية أبعد من انتقالته جغرافياً.. ولقد أتيح لي بسبب عملي في الإعلام أن أرى بلداناً كثيرة واقترب من بيئات عديدة،لم أعرفها في ما قرأت بل تمثلتها في ما رأيت،وما سمعت،ومن ثم في ما عشت"(14).

وقد أكدنا في دراسة سابقة في هذا الخصوص أنه:" كلما كانت التجربة الشعرية عميقة ذات بعد نفسي وأيديولوجي متجذر في حقل المكاشفة، والمحاورة، والمناورة مع الحياة كانت أعمق أثراً،وأوسع رؤية،فكم من الشعراء قد خبا وميضهم بسبب ضحالة التجربة، وعقمها لديهم،والعكس صحيح كذلك،كم من الشعراء قد لمعوا في سماء الفن والشعرية باكتناز تجربتهم وغناها بالموروثات والمثيرات الهادرة،ورحلاتهم الاغترابية العميقة في فضاء الغربة والنفي والشقاء"(15).
وبتقديرنا: إن غنى التجربة الشعرية وخصوبة مردودها وراء شعرية اغترابها، وتنوع أشكالها ومسبباتها، وهنا ،نجد في شعر حميد سعيد تنوعاً في مرجعيات قصائده الثقافية،وبناها التشكيلية،ورؤاها الفكرية،ومنظوراتها الوجودية العميقة،ولعل أبرزها الأشكال الاغترابية التالية:

الاغتراب الثقافي بالرموز الصوفية:

ما من شك في أن للرموز الصوفية حركتها النصية المؤثرة في لغة الحداثة الشعرية عموماً ولغة حميد سعيد خصوصاً،ولهذا، يعد الاغتراب بالرموز الصوفية من أهم أشكال تغريب التجربة الشعرية ،والكشف عن مخزونها الرؤيوي الإبداعي الخلاق، ذلك لأن لكل تجربة صوفية رموزها الخاصة بها،ونمطها الأسلوبي المعين في تحفيز الشعرية،وتأطير التجربة،ضمن مسار رؤيوي معين، أو نزعة فنية ما تنم عليها وتشير إليها،وبهذا المعنى يقول علي عشري زايد:" كان التراث الصوفي واحداً من أهم المصادر التراثية التي استمد منها شاعرنا المعاصر شخصيات و أصواتاً يعبر من خلالها على أبعاد تجربته بشتى جوانبها الفكرية والروحية،وحتى السياسية والاجتماعية،وليس غريباً أن يعبر شاعرنا المعاصر عن بعض أبعاد تجربته من خلال أصوات صوفية، فالصلة بين التجربة الشعرية- خصوصاً في صورتها الحديثة التي يغلب عليها الطابع السردي- وبين التجربة الصوفية جد وثيقة،وتتجلى هذه الصلة أوضح ما تتجلى في ميل كل من الشاعر الحديث والصوفي إلى الاتحاد بالوجود والامتزاج به"(16).

ويعد لجوء بعض الشعراء المعاصرين إلى هذا النوع من الاغتراب بالرموز الصوفية دليلاً على غنى تجربته الإبداعية،ومحاولة تكثيف رؤاها، وتبئير دلالاتها بوساطة الرموز الصوفية، التي تتعدد دلالاتها ورؤاها بهذا الرمز أو ذاك، يقول أحد الباحثين المهمين:" لقد كان التصوف الأرض الخصبة التي نمى فيها الاغتراب، فاستخدمه الصوفية بمعانيه المختلفة، وعايشوه تجربة وجدانية ووجودية، ذات أبعاد دينية وميتافيزيقية تبدأ بخروج الإنسان من الجنة، وهبوطه إلى الأرض وهذا ما يشير إليه ابن عربي الذي يرى أن الاغتراب يعنى انفصال الإنسان عن الله، ويعبر عن هذه الفكرة بقصة"آدم"وهبوطه من الجنة إلى الأرض، يقول:"إن أول غربة اغتربناها وجودا حسيا عن وطننا غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبية لله علينا، ثم عمرنا بطون الأمهات فكانت الأرحام وطننا فاغتربنا عنها بالولادة"(17).
وبهذه النظرة الوجودية العميقة بفلسف هذا الباحث صلة الإنسان بالاغتراب بأنها صلة أزلية قديمة رافقت الإنسان منذ فجر وجوده على هذه الخليقة منذ غادر آدم الجنة وهبط على الأرض،فعاش الاغتراب الحقيقي والرحلة الاغترابية المريرة التي يمر بها بنو البشر، وأياً كان مفهوم الاغتراب لدى المفكرين والمبدعين ما يهمنا نحن في هذا الشق البحثي هو الاغتراب الفكري الإبداعي الخلاق الذي يكون مرتكزه الفن والإبداع ولاشيء سواه عند شاعر تشهد له أقلام نقادنا بالتميز والإبداع منذ كتب القصيدة وأتقن فنيتها ولعبتها الإبداعية المثيرة،وليس بجديد على القارئ أن يكون الاغتراب الفكري مقوماً إبداعيا من مقوماتها الخلاقة المتوهجة وحضورها العربي الواسع وامتشاقها ثوب الأصالة والمعاصرة في آن.ولا نبالغ إذا قلنا : يعد حميد من أكثر الشعراء احتفاءً بالرموز الصوفية ، بل والاغتراب بها عن مجرد التلقي السطحي المباشر أو الضحل ، إنه يخلق رموزه الصوفية خلقاً جديداً،ويمنحها الشفافية والعمق ،والحركة، والإيقاع،وهذا يعني أن اغترابه بالرموز الصوفية هو جزء من اغترابه الوجودي ؛وقد لا نذهب بعيداً في قولنا: إن اغتراب حميد سعيد بالرموز الصوفية هو اغتراب روحي ابتهالي هادئ يميل فيه إلى عمق المكاشفة،والتأمل الوجودي، كما في قوله:
" صفو الحضور يحيلُ أيامي إلى كدر الأفول
أو كنتَ يا قمرَ الفضاءاتِ السخيةِ..
تستعيدُ فضاءكَ الممتدَّ من صخبِ إلى صخبِ..
وتهربُ من نهاراتٍ مراوغةٍ إلى ليلِ وقور؟!!"(18).

هنا، يطالعنا الشاعر برموزه الصوفية الاغترابية التي تكشف عن إيحاءات عميقة،من حيث الابتكار، والشفافية،والعمق، فهو ليس كعادة المتصوفة الآخرين الذين ينهجون نهج السالفين من المتصوفة برموزهم ورؤاهم على غير هدى أو وعي ،فهو يبتدع رموزه ودلالاته، ورؤاه الخاصة بعيداً عن مسالك السالفين، لدرجة نقول معها: إنه يفاجئنا بأنساق صوفية تشكيلية مراوغة، تشي بالدلالة العميقة،والإيحاءات المبتكرة التي لم نعهدها من سابق عبر فاعلية الأنساق وحركتها الرمزية الاغترابية المشتعلة قوة، وإيحاءً، وشفافية روحية لا متناهية كما في حركة الأنساق اللغوية التالية:[ صفو الحضور- كدر الأفول- قمر الفضاءات السخية- نهارات مراوغة- ليل وقور]؛وهذا دليل أن كل نسق لغوي يشي بإيحاءات صوفية معينة، ويشي ببعد جمالي روحي؛ مفتوح الرؤى والدلالات،وهذا يعني أن اغترابه الصوفي اغتراب روحي عميق يصل إلى جوهر الرؤية،وبرد اليقين. ولعلنا لا نبالغ في قولنا: إن رموزه الصوفية رموز مغتربة تنأى بتجربته عن التقليد،وهذا يدلنا على أن لاغترابه الصوفي طقسه الروحي الخاص،ونبضه الجمالي،وحسه الإبداعي الذي ينقل رؤيته،وتوقه الروحي ،واحتراقه الداخلي المشبوب ولهاً وصبابة من النبض الشعوري إلى الجسد اللغوي،لتكون تجربته الصوفية نابعة من الصميم أو الجوهر، من الاحتراق الداخلي إلى الجسد اللغوي، إلى الشكل البصري، الذي تتخذه القصيدة في شكها الكاليغرافي على بياض الصفحة الشعرية.
و لو دقق القارئ في جمالية الاغتراب الروحي الذي تثيره رموزه الصوفية لأدرك أن تجربته الشعرية ممزوجة بهذا الزخم الروحي المشبوب بالوله والتوق والحنين، والشفافية الخالصة التي تبثها رموزه الصوفية كتيار روحي هادر لا يهدأ أو يستكين، كما في قوله:

وَطَفٌ .. يبللُ ظلَكِ الممتد .. من أحراشنا الأولى..
إلى شجر الغيابْ
هذي زوابعُكِ البريئة.. تقتفي أثري.. أُحبُكِ في الزوابع ..
في الحنين إلى المرابع ..
في انفتاح الماء.. حين يدقُ أبواب المساءِ..

أنتِ تاجُ العارفين .. وأنتِ سيدة اليقين ِ.."(18)

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الاغتراب الصوفي- بالرموز الصوفية في قصائد ( وردة الكتابة) لحميد سعيد يهبها عمقاً في الدلالة، وتكثيف أبعادها، ورؤاها،ومحفزاتها الشعورية، ودليلنا أن قارئ هذا المقطع لا يخفى عليه رموزها الصوفية المشبعة بالحساسية،والشفافية،والتوق الروحي،وقد أكدنا من سابق: أن الاغتراب بالرموز الصوفية- عند حميد سعيد- يتأسس على بكارة الاستعارات التي تثيرها الرموز،من حيث الفيض الروحي الذي تنطوي عليه الأنساق التالية:[ ظلك الممتد- أحراشنا الأولى- شجر الغياب- زوابعك البريئة- انفتاح الماء- أقاويل الرياح- كتب العواصف- تاج العارفين- سيدة اليقين]؛ وبهذه النزعة الشعورية المفعمة بالهدوء والطمأنينة تأتي رموزه معبرة عن قمة الصفاء والانسجام الروحي الدافق. فالشاعر مستغرق بالحالة الصوفية والحنين الدائم؛ فهو يبحث عن ظلها الممتد ،ويقتفي أثرها في كل الأماكن، ليصل إلى نورها المطلق، الذي يصله بالملكوت،والمعرفة،واليقين.

وبمنظورنا : إن الاغتراب الثقافي بالرموز الصوفية من محرضات الشعرية ومؤثراتها الفنية في قصائد حميد سعيد- وهذا ما نستشفه من قوله:

"أناديه من أول الصحو. . يا أول ألصحوِ
إني نسيتُ الذي كانَ.. كل الذي كان..
من وردة الكتابة .. حتى وعود الغناء
واقفاً بين روحي وفتنتها..
بينَ بابي إليه.. حيثُ بهاء الرضا
وبابي إلى ما مضى.. حيثُ جمرُ الغضا
واقفاً بين روحي وروحي
واقفاً.. بيننا"(19).

بادئ ذي بدء،نشير إلى أن الاغتراب الثقافي بالرموز الصوفية - في قصائد حميد سعيد- لا يعتمد فقط حركة الرمز داخل السياق، وإنما يعتمد حركة الأنساق اللغوية الأخرى، فالذي يثير الرمز ليس دلالة الرمز الإشارية أو الاسمية كما قد يتبادر إلى الذهن،وإنما الطقس الإبداعي الصوفي العام الذي تثيره القصيدة،وهنا، نلحظ أن الشاعر اعتمد الرموز الصوفية المشتقة من جو غزلي صوفي عذري بحت،كما في الأنساق التالية:( بهاء الرضا= جمر الغضا= واقفاً بين روحي وفتنتها)؛وهذا يدلنا أن الطقس الصوفي العام هو الذي يكسب الحركة الصوفية جماليتها، ونبضها الروحي الدافق وألقها الشاعري المتوهج. وهذا الاغتراب الصوفي يتأكد أكثر بالمسميات والرموز المعتادة كرمز ليلى،ولبنى من المعشوقات الأزلية عند المتصوفة ،فهذه الأسماء التراثية لها طقسها الصوفي الخاص عند المتصوفة جميعهم ،ومن ضمنهم حميد سعيد، إذ يقول:

"سَرَني ..
أَنْ أُبادلها وحشتي .. بالرضا
سأقولُ لها.. أنتِ التأخرتِ.. فاعتكفتُ
حاولتُ نسيانَ.. ما لمْ أَعُدْ أَتذكَرهُ الآن..
مُنْشَغِلاً كُنتُ..
أَرسمُ وجهاً وأمحوهُ.. ثم أعودُ لأرسمهُ
وتعلمتُ أسماءَ ليلى ولبنى
تعلمتُ أسماءَ إلزا وغالا
حين فاجأني وردُها

ما رأيتُ سواه.. وما عدتُ أذكرُ غير اسمها"(20).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الاغتراب الثقافي – بالرموز الصوفية- لا يقتصر فقط على فاعلية الرموز الصوفية ومحركاتها الرؤيوية والدلالية في نسقها الشعري فحسب،وإنما يعتمد على النسيج الفني المغري للحركة الصوفية لبنية القصيدة لديه،بمعنى أدق: إن شعرية الاغتراب بالرموز الصوفية شعرية خصبة بالمولدات الشعورية، لفاعلية النسيج الجمالي الذي يتضمن الرموز، وهنا، نلحظ الحركة الجمالية الصوفية التي ارتكزت على المسميات التالية:( ليلى- لبنى- إلزا،وغالا)، وهذه المسميات أردفت الوتيرة الجمالية للحركة الصوفية ،بالاعتكاف في محراب جمال المحبوبة، وهكذا ،نخلص إلى النتيجة التالية المهمة: وهي إن شعرية الاغتراب بالرموز الصوفية –عند حميد سعيد- تعتمد على بكارة الرمز، وجديته، وفاعليته ومقدار تفعيله للتجربة الشعرية من الداخل؛ أي من اللحمة الفنية بين الرمز والسياق المتضمن فيه؛ فالمبدع الحقيقي يخلق رموزه المؤثرة التي تحرك فضاء تجربته الشعرية بمعزل عما سواها،ليؤكد خصوصية تجربته الفنية، وانفرادها برموزها الخاصة ورؤاها المعينة، وبتقديرنا: إن رموز حميد سعيد الصوفية نابعة من صميم تجربته لهذا جاءت الرموز فاعلة في تحفيز قصيدته، والتعبير عن اغترابه الصوفي بعمق ومصداقية وشمولية إبداعية ترقى أعلى مستويات التفعيل، والقدرة على توصيف الحالة الصوفية، وتعميق الرؤية بألق صوفي جديد ينماز فيه عما سواه.
وصفوة القول:

إن عمق الحالة الصوفية وغناها الروحي كانت وراء شعرية اغترابه الفكري بالرموز الصوفية التي جاءت عبر حركة الإضافة أو حركة الموصوفات لتحقق منتوجها عبر جمالية التركيب الاستعاري الصوفي،وخصوبة الإسناد، وبلاغة وقع الحالة الصوفية،وما تحمله في بواطنها من رؤى جديدة انماز بها عما سواه.

الاغتراب الثقافي بالموروث التاريخي والديني:

إن الاغتراب الثقافي بالموروث الديني من أبرز أشكال الاغترابات الأخرى التي شهدتها لغة الحداثة الشعرية لاسيما إذا أدركنا أن المبدع- كائناً من كان- ابن ثقافته،وهو الترجمان عن لسان ثقافة مجتمعه،والناطق الرسمي بمؤثراتها،وخزائنها المعرفية،وما من شك في أن الشعر هو الثمرة اليانعة التي تقطفها الحضارات الإنسانية في تاريخ وجودها، وتدوين حضارتها؛ومن أجل هذا، فإن تأثر الشاعر بثقافة أمته هو تأثر نابع من وسطه الاجتماعي، وحيزه الوجودي،ولهذا،يسهم الشاعر إسهاماً فعالاً في دفع عجلة التطور الإنساني قديماً وحديثاً،بوصفه الدينامو المحرك في تطوير ثقافتها وميراثها اللغوي،وهذا يتطلب منه معرفة واسعة، وثقافة عظيمة بتاريخها،وينابيعها،ومؤثراتها الأصيلة حتى تتطور تجربته،وتحقق ثمارها الإبداعية المشتهاة،وهذا ما أكدت عليه الناقدة خلود ترمانيني بقولها:" يتحتم على الشاعر العربي الحديث أن يكون مثقفاً بأوسع معاني الثقافة لكي يتمكن من أن يختزل نهر الثقافة المتدفق في نص شعري محدود؛ مفجراً- بذلك- مكامن الإبداع،ومسجلاً أجمل الإيقاعات من خلال ارتباط الشاعر بأصوله الأولى، فالموروث يدخل في ثقافة الشاعر المعاصر،ولكنه لا يدخل في إبداعه الخاص،وبذلك ، يتجاوز الشاعر مادة التراث بهدف الوصول إلى الجوهر،حيث يكمن الينبوع الأول الذي تفجرت منه روح الفطرة الإنسانية"(21).

ووفق هذا المنظور، فإن الاغتراب الثقافي بالموروث التاريخي يوظف في خدمة الرؤية النصية لبنية القصيدة الحداثية،وهو الذي يضفي عليها ما يمنحها بريقها وتجذرها الإبداعي،وهذا يعني أن الاغتراب بالموروث ليس اغتراباً إيجابياً إن لم يخدم الرؤية الشعرية، ويغذيها بدلالات منفتحة، ورؤى متحددة على الدوام،وهذا يدلنا على:"أن الشاعر الناضج يستوعب جهود السابقين عليه لسعة اطلاعه وقوة تبصره بعملية الإبداع،وهو حين يستوحي ممن سبقه،ويدخله في دائرته الإبداعية فإنه يبحث عن الانسجام الذي هو كنه الإيقاع،ومن هنا،تتبدى أمامنا طبيعة العلاقة بين النص الغائب بأشكاله البسيطة والمعقدة،وبين الإيقاع العام في النص الشعري. فالشاعر يحاول من خلال إدخال بعض العناصر الوافدة إلى نصه أن يترجم كل تلك العناصر على طريقته على صورة لحن واحد منسجم؛ وهذا يجعلنا ندرك الوحدة في التنوع حين يتمكن الشاعر من دمج كل ما هو خارج عن النص في النص الشعري وحده"(22).

وبهذا التصور، فإن الاغتراب الثقافي - باللجوء إلى الموروث – هو – بالتأكيد- اغتراب ناجع فنياً، خاصة عندما يرتقي بمداليل القصيدة، ويعمق نواتجها الدلالية وفواعلها الرؤيوية والنفسية والشعورية، أي أن يأتي استحضار الموروث حياً نابضاً بالشعرية في متن النص، لا أن يأتي عبثياً أو مقحماً على رؤيتها من الخارج؛ وقد أدرك حميد سعيد أهمية اللجوء إلى التراث في إغناء التجربة الشعرية،لاسيما حينما ترتكز على تجارب إبداعية مؤثرة، و نصوص ثقافية خصبة،وقامات إبداعية حافلة بالعطاء، والوعي، والإبداع، والرقي الفكري، ويرى حميد سعيد أن حضور التراث والشخصيات التاريخية من أجل أن يكون فاعلاً ينبغي أن يقوم على عنصر المحاورة، أي حوار الشخصيات أو حوار النصوص لتكون أكثر قوة، وفاعلية في التعبير عن الواقع الراهن بكل طاقاته، ورؤاه،ومحركاته، إذ يقول :"من خلال الحوار مع الشخصيات أصل إلى حالات شعرية ، تنتسب إلى جوهر الشعر، إذ أستحضر تجارب الماضي من جهة، ومن خلالها أعيش تجارب الحاضر، من جهة ثانية .وفي كل رمز أو شخصية من الماضي في قصيدتي، ما يخرجها من رمزيتها أو من ماضويتها ، ليدخلها في صميم الحالة الشعرية، موضوعاً، وجمالاً، وفكراً، وهدفاً ، وباستحضار الماضي من خلال رموز وشخصيات، يكون تنشيط البنية الدرامية في القصيدة، وإبعادها عن التسطيح، وامتداداته السائبة، بالتكثيف الدرامي وتعدد أصواته وفضاءاته .

وكما قلت من قبل، وكررت القول في أكثر من مناسبة، إن الشخصية الشعرية ، سواء كانت من الماضي أو من الحاضر، ليست هي الشخصية كما هي في الواقع، بل هي شخصية شعرية أولاً وأخيراً، يخلقها الشاعر بأدواته الشعرية، ولو تأملنا في جميع النصوص الشعرية، غنائية أو درامية، التي تستحضر الشخصية ، سواء من الماضي أو الحاضر، في الشعر العربي أو الأجنبي ، لاكتشفنا إن الشخصية الشعرية فيها من الشاعر بهذا القدر أو ذاك، إلى حد إن في كثير من النصوص الشعرية تطغى فيها الشخصية الشعرية على الشخصية الواقعية .

ويتكرر هذا الحال ، في الأعمال التشكيلية أيضاً، في النحت والرسم، حتى إن المتخيل التشكيلي للشخص، يحل محل الشخص، ولطالما تذكرت مقولة النحات " رودان" حين أنجز منحوتة لأحد البابوات، وقيل له، لكنها لا تشبه البابا، فقال: إن البابا سيشبهها."(23). ووفق هذا التصور، فإن استحضار الشخصيات ليس موضوعاً يسيراً يستطيعه كل شاعر،بهذا القوة والفاعلية التي ترقى بالاغتراب الفني والجمالي والإبداعي إلى مصافي الإبداع الحقيقي وينابيعه الذاخرة .
وبهذا الوعي – إذاً- في استحضار الشخصيات التاريخية، والتفاعل مع الموروث يفعِّل حميد سعيد مداليل قصائده برؤاه، ومحفزاته الشعرية؛ لترقى مستوى من الفاعلية، والقوة، والإثارة، والحركة الشعورية ، كما في استحضاره لهذا الكم الهائل من الشخصيات، للكشف عن اغتراب الموريسكي واغترابه عبر شخصية الباهي محمد، و"إن من يطلع على مجموعته الشعرية(من أوراق الموريسكي) يلحظ فاعلية الاستحضار الفني والاغتراب الفني في تفعيل شخصيةو الموريسكي المغتربة في عدد من الشخصيات كشخصية المعري والشنفرى،والباهي وبودلير ،وعلي الجندي،وابن خلدون،وهذا الاغتراب بالشخصيات التاريخية لمنح تجربته التكثيف والعمق والشمولية وفاعلية التأثير وعمق الإيحاء، إذ يقول:

"جاء َبالفلواتِ من الفلواتِ.. وأسكَنَها الأرصِفَهْ
وأقامَ مضارِبَهُ.. وسيتبعهُ الآخرونَ..
كأنَّ الشوارعَ إرثُ قبيلتهِ..
وهو سيِّدُها والكفيلُ بها
في حقيبتهِ..
مُدُنٌ ظلَّ يحمِلُها وبلادٌ.. وما كتبَ الناسُ
قال الشَريفُ المَدينَّيُ..
كُنتُ أراهُ ..
برفقَةِ روسو وبودلير والشَنْفَرى.. وابنِ خلدونَ..
والمُتنَبّي.. وَ..
قالَ الحريزي..
رافقتُهُ في شوارع بغدادَ.. باريس.. وهرانَ..
كنّا معاً..
في دمشْق وبيروت.. ثُمَّ افترقنا
على موعدٍ..
ولكِنَّنا ما التقينا"(24)

إن أول ما نلحظه - في هذا القول الشعري- كثافة المسميات التراثية، والمعاصرة التي تعبر عن استحضاره لشخصيات فاعلة ،ومؤثرة في مجرى الأحداث، والتاريخ، وهذا الارتداد إلى الماضي يشكل ملمحاً من ملامح الاغتراب، بالتعبير عن الموروث، ولو حتى إشارة أو لمحة، أو استحضار صورة جزئية، أو مأثور القول،وهنا، جاءت الأسماء رغم تراكمها، واقتناصها من عصور متباينة، تملك أدواراً مختلفة،ورؤى متباعدة في ماهيتها الوجودية واغترابها مع الواقع والحياة، ولكنها في السياق ذاته جاءت متحولة، لتعبر عن ضياع الموريسكي، واختلاف زمانه عن زماننا،وواقعه عن واقعنا،وما تراكم الأسماء التراثية التالية:( الشريف المديني- روسو- بودلير- الشنفرى- ابن خلدون – المتنبي – الحريزي)إلا لتفعيل الرؤى الاغترابية المتعلقة بهذه الشخصيات ،وقد استحضر الشاعر شخصيات تاريخية معاصرة وقديمة( أجنبية/ وعربية)، لإبراز ملمحها الوجودي المتناقض واغترابها الفكري والثقافي الحاد ،كل شخصية حسب زمانها ومكانها وآلية وجودها الاغترابي المتصادم مع الواقع،و الحياة تجمعها شخصية محرقية هي شخصية الموريسكي،هذه الشخصية المغتربة في وجودها القمعي التي تحاول استرجاع زمنها الغابر الجميل وحضارة مدينته المغتربة أو المسلوبة،لكن دون جدوى مازالت سياط الاغتراب الفكري والوجودي تكويه بسياطها زنيران مواجعها المرير، إذ يقول:

خَشينا أن سيرحل ..بعد أن رحَلتْ
ولكنّي الرحَلتُ ..
وأقامَ حيثُ تُقيمُ ..
كم حدَّثتُ عنها ..
" لكِ يا مّنازلُ في القلوبِ منازلُ "
شاركتِني بيتي وزهوَ قصائدي .. والأغنياتْ
انزلتُ بو رقراق .. بابلَ ..في الضِفاف البيضِ *
فاعتنَقَ الفراتْ
وتَساءلَ النخلُ الذي رافقتُهُ طفلاً ..
ورافَقني ..
أأنتَ من الرباط ؟ "(25).

بادئ ذي البدء،نشير إلى أن الاغتراب الثقافي باللجوء إلى الموروث؛ سواء أكان الموروث أدبياً، أم دينياً، أم تاريخياً، أم صوفياً- في قصائد حميد سعيد- فهو اغتراب ثقافي فني، أو لنقل: إنه اغتراب جمالي، مؤسس -بالدرجة الأولى- على تكثيف الرؤية ،وتعزيز فواعلها الرؤيوية، ونواتجها الإيحائية،وليس وشياً، أو زينة، أو حلية تضاف إليها من الخارج ، وإنما تنبع من صميم الرؤية، وجوهرها، و محتواها الدلالي،وهنا؛ استحضر الشاعر مأثور القول الشعري( لك يا منازل في القلوب منازل) لتفعيل الرؤية الاغترابية، والشجن، والحنين إلى منزله الذي غادره مرغماً، ليعيش احتراقه، وذكراه ناراً تصطلي في قلبه، كلما ذكره أو مر في خاطره، وهذا الاغتراب الثقافي عكسه بالموروث الأدبي، الذي جاء متفاعلاً مع نسيج السياق، ودلالاته،وهنا، يتوحد الموريسكي بشخصية الشاعر ليعكس اغترابهما معاً؛ الشاعر عن الفضاءات البغدادية ،مشيراً إلى ذاته، وانتمائه العراقي بنهر(الفرات)، ومشيراً إلى الموريسكي، ورمز انتمائه المغربي أو الأندلسي بنهر( بو رقراق)، الذي هو نهر في المغرب، وهذا الاتحاد الشعوري فعَّل من القيمة الجمالية لاستحضار القول الشعري السابق،ليشير من خلاله إلى شجنه، وحنينه المشبوب الذي لا يزال يغلي بين حناياه شوقاً، وحنينا موجعاً إلى تلك الأزمنة والأمكنة التي خلَّفت في مخيلته ذكريات لا تنسى، وحنيناً مشبوباً بنيران الشوق والمواجع لا يهدأ أو ينقطع.ومن هنا يمكن القول: إن الاغتراب الثقافي بالموروث هو لبنة من لبنات القصيدة المؤسسة لشعريتها، وجوهرها، ومحتواها الدلالي،لاسيما حين يتغلغل الموروث في ثناياها متفاعلاً مع كل جزئية من جزئياتها،وهذا ما يكسبها قوة الدلالة، وبلاغة التأثير.

الاغتراب الثقافي بثراء المعجم اللغوي:

لاشك في أن الاغتراب الثقافي الذي يعتمد تنوع الاشتقاقات اللغوية، وتعدد مرجعياتها المعجمية، لهو اغتراب يصب في دائرة تفعيل اللغة، ورفد ينابيعها بطاقة إبداعية خلاقة، تزيد التجربة غنىً، وقيمة، وأهمية، خاصة إذا أدركنا وعي الشاعر حميد سعيد بأهمية هذه القيمة التوالدية في رفد الشعر، بطاقات لغوية مضاعفة، تزيد من نواتج الرؤى، والدلالات، قوة، وفاعلية، وتنوعاً في الحقول الدلالية، وهذا ما أشار إليه بقوله:" ليس من كتابة إبداعية من دون لغة مبدعة،وليس من مبدع حقيقي إلا وكان له ما يميزه في لغته،إن معجم أية لغة من اللغات الحية هو معجم واحد، حتى في تطوره، وما ينضاف إليه،لكن معاجم المبدعين في اللغة الواحدة،والمرحلة الزمنية الواحدة ليست واحدة،فمعجم صلاح عبد الصبور مثلاً هو غير معجم خليل حاوي،ومعجم يوسف إدريس هو غير معجم عبد السلام العجيلي، وما يصح على المعجم في اللغة، يصح على البنى اللغوية والإيقاعية. يقول الكاتب الإسباني" خوان غويتسلوا" على المبدع أن يعيد اللغة التي ورثها، وهي مختلفة عما كانت عليه،ولو حاولنا قراءة اللغة التي عبر بها المبدعون الحقيقيون،لوجدناها تختلف عن تلك التي كانت قد سبقتهم غير أن خصوصية لغة المبدع لا تتشكل بالحفر في المعاجم،ولا في تعمد الاختلاف، بل تتشكل من خلال تمثلين متداخلين،تمثل القراءات،وتمثل قدرات التعبير،وهكذا، تكون خصوصية لغة الإبداع، لغة المبدع وفرادتها"(26).
وبهذا الإحساس الشعوري الفني أدرك حميد سعيد أهمية اللغة والاغتراب بها عن البساطة، والتقوقع على الذات، والانغلاق عليها ؛فالمبدع الذي لا يستفيد من ذخيرة المبدعين، وينفتح على تجاربهم واستشفافها بعمق، وإحساس، وفاعلية، ستبقى تجربته سطحية رهينة قاموسها الأحادي الضحل،ولهذا يعد الاغتراب الثقافي بثراء المعجم اللغوي من فاعلية الخصوبة والغنى الجمالي والفني للقصيدة، وبهذا المدرك المعرفي يقول الناقد العراقي الشهير علي جعفر العلاق مؤكداً ضرورة توافر الوعي اللغوي في المبدع والمتلقي لتنجح عملية التلقي وتحقق منتوجها التأثيري الفعال، وقيمتها المؤسسة لأجلها، إذ يقول:" إن القارئ، في تلقيه للنص الشعري لابد من أن يولي اللغة عناية كبرى،فلغة الشعر عميقة التخفي، وشديدة الكثافة.إنها مفعمة بالانزياحات والمراوغة،وهي حين تجسد موضوعها تمعن في الالتفاف حوله، ومشاكسته،وتلوين فجواته بالحيرة أو الضوء، أو التردد،ولا يتوقف القارئ عند هذا المستوى من لغة النص، بل يذهب إلى ما يجسد كتلته الماثلة على الورق،حوار البياض والسواد، بعثرة كلماته،تمزيق الروابط بين عناصر الجملة الواحدة،الحجوم، والامتداد،والفراغات،وكثافة الحرف،وعلامات الترقيم"(27).

وبتقديرنا: إن خصوبة اللغة، وثراء مرجعيتها، والاغتراب الثقافي في تكثيفها، وإثرائها عامل رئيس في تطوير أية تجربة إبداعية، والارتقاء بها جمالياً شريطة امتلاك الأدوات الفنية، وعمق المنظور الإبداعي، وشعرية الرؤية،ولهذا، نعد من أهم فواعل خصوبة قصائد حميد سعيد، والارتقاء بها فنياً ثراء معجمه اللغوي،وغنى حقوله الدلالية، وتنوعها ،وفيوضاتها العاطفية الاغترابية الدافقة،وللتدليل على قيمة هذا الاغتراب الثقافي في قصائده نورد قوله:
" رجالٌ من غبار.. يحترفون الخطابةَ
لأمثالهم في المسارحِ الرخيصةِ.. وطنٌ
ولأمثالهم تُكتَبُ النصوصُ الرديئةُ
شغبٌ ميتٌ.. وموتٌ قميء
حنجرةٌ من رصاصٍ رديء(28).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الاغتراب الثقافي بثراء المعجم اللغوي – في قصائد حميد سعيد- يهبها فاعلية الغنى، والتنوع الدلالي،وبلاغة الحضور الجمالي لوقع الكلمة جمالياً في النسق ،وهذا ما لاحظناه في لفظة(قميء)التي جاءت في موقعها ذات قوة في التعبير عن فيوضات المشاعر، وتوترها وانفعالها المتوتر الصاخب، مبيناً اغترابه عن مرتكسات الواقع، وهشاشة الخطابات الفارغة التي لا تحمل في طياتها إلا الصخب والضوضاء دون اقتران الفعل بالقول، ولهذا، جاء التناسب الصوتي الفني بين لفظتي:(قميء= رديء)،معمقاً من فاعلية كلمة(قميء)في الدلالة على رداءة الواقع، وغوغائيته الفارغة.

وإن من يدقق -في قصائد حميد سعيد على مستوى علائقها اللغوية، وفواعلها المعجمية داخل سياقات الكثير من القصائد سواء في منجزها القديم أم المعاصر- سيلحظ تطور وغنى معجمه واغترابه بهذا المعجم عن الأحادية، في كل مرحلة شعرية من مراحل حياته الإبداعية،وهذا الغنى قد غذَّاه بالموروث سواء الصوفي، أم الديني، أم الأدبي، أم التراث الشعبي، وهذه الحقيقة يدركها كل من طالع شعره بعمق وشمولية ،وللتدليل على اغترابه اللغوي الثقافي في خصوبة معجمه،وفاعلية حقوله الدلالية المتنوعة، نورد المقتطف الشعري التالي للشاعر حميد سعيد:

"مرَ الظلام ُ.. يجوسُ بين كواكب الماضي.. ويأتي بالضياءِ
ونزلتُ أتبعه إلى ريا بساتين الفرات..إلى الفرات ..
إلى النشيد البابلي .. إلى إينانا..
كانتْ هناكَ تُطلُ من علياء فتنتها.. ومن وهج الصنوجِ
من غابة الفقر الجميل صعَدْتُ.. حتى وردها البريِ..
لم تسمع قراءات اليمامْ.."(29).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الاغتراب الثقافي باللجوء إلى ثراء المعجم اللغوي- يعد من محفزات بنية القصيدة لدى حميد سعيد الذين يستعين بقوة موجهات المعجم، وغناه بالمفردات البديلة التي تخلق وقعها الشاعري المؤثر في نسقها الشعري المناسب لها تماماً،محققة أقصى درجات التكامل، والتفاعل، والالتحام في سياقها، وهذا القول لا نعني به أن الشاعر يفتح معجمه الشعري أو معاجم اللغة ليختار من الكلمات ما يناسب سياق قصائده،وإنما الغنى المقصود أن الاختيار يأتي نابعاً من صميم الرؤية، وبوتقة الحدث الشعري المؤثر؛وأتون التجربة الإبداعية الحقيقية ذات الوهج الشعوري والتوتر الداخلي. ولهذا، تمتلك الكلمة وقعها البليغ المؤثر في نسقها الذي تشغله،كما في قوله: (علياء فتنتها= وهج الصنوج) ،وهنا، نلحظ الالتحام والتفاعل بين لفظة(الصنوج)التي جاءت قيمة في الدلالة على حرقة الشاعر ولوعته،وهي متناسبة مع لفظة وهج،ولفظة وهج متناسبة فنياً ودلالية بحركة ارتدادية شعورية لتعكس شوقه الصوفي ل(إينانا)،وبهذا الدفق والتركيز تتجلى قوة معجمه، وثرائه في الكشف عن دلالات متعددة غاية في القوة، والفاعلية، والحنكة الجمالية.
وصفوة القول: إن القيمة الجمالية والإيحائية لخصوبة المعجم الشعري وغناه في قصائد حميد سعيد يرتكز إلى قوة النسق التشكيلي المباغت الذي يخلقه على مستوى التشكيل ،ولهذا، نجده لا يتصيد التشكيل المغري جمالياً تصيداً مقصوداً ومخصوصاً لغائية آنية،،وإنما وسط هذه الانسيابية السردية نجد مثل هذه التشكيلات التي ترتقي بشعرية المقطع أو النسيج الكلي للقصيدة،وهذا ما يحقق اغترابه الرؤيوي والفكري والإبداعي،ويحقق لقصائده متعتها الجمالية، ومردودها الإيحائي الفاعل.

- الاغتراب الفكري بالنزوع التجريدي والفلسفي:

لاشك في أن للاغتراب التجريدي أثره في لغة الحداثة الشعرية، فالتجريد لم يكن إيقاعاً عبثياً فوضوياً في قصائدنا المعاصرة بقدر ما كان عنصراً إبداعياً فيها، مؤثراً في إنتاج دلالاتها، وتكثيف مداليلها، وفواعلها النصية، لتعبر- بعمق وشمولية – عن التجربة، بتفاصيلها، وعمقها،ومداليلها المشتتة أو المتباعدة،وذلك نظراً لتشعب الرؤى المعاصرة، واستحواذها على كم هائل من الجدليات، والمتناقضات الوجودية ،وقد أدرك الشاعر حميد سعيد أن لقصائده هذا المنزع الثقافي السريالي إذ يقول:

"إن ثمة أثراً ملحوظاً وتأثراً بالنصوص السريالية،إني أقرأها ، لكن لا تستلبني اللوحات السريالية بل أتأملها وأعجب ببعضها، ولا تأسرني الأطروحات النظرية السريالية ، بل أحاورها .نعم ، إن أكثر من ناقد أشار إلى المؤثر السريالي في قصيدتي، وهي إشارات أحترمها، فهي قراءة من القراءات في شعري ولأنني أنفتح بنصي الشعري على عدد من المصادر، والمؤثرات، ويتشكل من مجموعة من الاستجابات، فلمَ لا يكون المؤثر السريالي واحداً منها ؟وبالمحصلة قد يكون شعري ذا منزع سريالي ، لكنه ليس شعرا سريالياً "(30).

وبتقديرنا : إن الاغتراب الفكري التجريدي لم يفارق نهج الشعراء المعاصرين الذين يمتلكون فلسفتهم الوجودية الخاصة، ومنظوراتهم المواربة،ومن ضمنهم حميد سعيد ،لكن قبل ولوج الرحم البحثي في أثر هذا المؤثر الفكري في قصائد حميد سعيد لابد من أن نعرف الاغتراب التجريدي : وهو شكل اغترابي عشوائي الرؤية، أو متشعب الرؤية، يقوم على ما تنتجه المخيلة الفانتازية من متخيلات،وصور مشوشة، أو مشوهة، أو متداخلة،ولهذا؛ قال نورفاليس في تعريف هذا الشكل الإبداعي الاغترابي:( التجريد يعمل على المخيلة الفانتازية)(31).والمخيلة الفانتازية هي إطلاق حر للمتخيلات وفق حركة الذهن المشوشة، أو المتداخلة، أو اللامضبوطة،ولهذا عرف ملارميه الشعر من هذا المنظور قائلاً:" الشعر هو فيض صامت في عالم التجريد"(32)،ووفق هذا التصور، أدرك الشاعر حميد سعيد أن الاغتراب التجريدي هو اغتراب فكري،أو نزوع نحو تكثيف الرؤية، وخلق مثيرها الفني والرؤيوي الخلاق، ولهذا ،فإن النص- لديه- طاقة خلاقة من الإيحاء، والعمق، والشاعرية رغم الاغتراب التجريدي الظاهر الذي يبدو للوهلة الأولى عبثياً أو فوضوياً لا رابط له، كما في قوله:

" دخانٌ على الشرفةِ...
وجهٌ على النافذهْ
شجرُ الوحشةِ.. أطلقَ أغصانهُ
أيها الأصدقاء..
تعالوا إلى وحشتي..
اقتسموها معي
لكم.. وحشتي..
ورغيفي..
وكأسي.. اتركوا لي ثمالتها
فأنا ظامئٌ.. أيها الأصدقاء"(33).

بادئ ذي البدء نقول: إن الاغتراب الثقافي - بالتجريد السريالي – في قصائد حميد سعيد يهبها تنوع الدلالات، والفواعل الرؤيوية المحركة للرؤى، والمداليل الشعرية المكثفة، فكل دال لغوي يشير إلى مدلول بعينه، ومن مجموع هذه الدوال تتشكل رؤية نصية متلاحمة،و هذا يعني أن كل حركة نصية تفاعل الحركة النصية الأخرى بقوة دلالية بالغة الإيحاء، والفاعلية، والتأثير، وهنا، نلحظ أن كل صورة تبدو معزولة ،منفصلة عن الأخرى بإيقاع عبثي متقطع ،تفصيلي (ممنتج للرؤية الشعرية) كما في الصور التجريدية المُجَزِّئة للمشهد السريالي الكلي، كما في الصور التالية:) " دخانٌ على الشرفةِ...وجهٌ على النافذهْ.. شجرُ الوحشةِ.. أطلقَ أغصانهُ)، إن هذه الصور التجريدية الممنتجة للمشهد تشي بإيقاعها الاغترابي( فأنا ظامئٌ.. أيها الأصدقاء)،إن أول ما يلحظه القارئ هذا الانفصامم والتفريد للصور،وكأن كل صورة معزولة عن الأخرى في حركتها ودلالاتها،وهذا مظهر جمالي سريالي في تشكيل لوحته الشعرية ؛وهكذا،يأتي الإيقاع الاغترابي التجريدي جزءاً محركاً للرؤية الشعرية، كاشفاً عن مداليل عميقة، ومتشعبة في الباطن النصي.

والجدير بالذكر إن الإيقاع الاغترابي التجريدي- في قصائد حميد سعيد خاصة ما قبل عام 2002- يغلب عليها ضجة الصور التجريدية بعبثها، وصخبها الرؤيوي المفتوح،وكأن الشاعر يماحك القارئ بمثل هذه الرؤى التجريدية، لاختبار دربته في تلقي نصوصه بنجاعة، وقوة، وعتاد فني رؤيوي عميق،نظراً إلى ما تتطلبه تلك النصوص من بلاغة، وقوة، وصخب رؤيوي مفتوح، ورؤى عميقة، منفلتة من بين القارئ لا يستطيع أن يلتقطها إلا من كان له قوة الحراك الرؤيوي، وفاعلية المنظور الفني المثير، والقدرة الخلاقة على الكشف، كما في قوله:

حروفٌ مبعثرةٌ
كلماتٌ مخاتلةٌ
جملٌ ناقصهْ
صحفٌ وترتها عناوينُها
وعناوينٌ موتورةٌ معبأةٌ بالحوامضِ واللعنات"(34).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الاغتراب الفكري- بالتجريد السريالي- في قصائد حميد سعيد- يعتمد تشظي الرؤى والدلالات والصور والمشاهد، للإحاطة بالمشهد الشعري المتنوع أو المكثف،وقد سبق أن أشرنا إلى أن حميد سعيد يغترب في صوره، ومشاهده الدرامية، لدرجة أن الصور تبدو متشظية، متفرقة منكسرة العلائق اللغوية ،وكأنها فوضى تصويرية، وقلق رؤيوي اغترابي عبثي صاخب،كما في الصور التجريدية التالية التي لا ترتبط فيما بينها بأي رابط أو علائق واصلة ما بين رؤاها ومداليلها، كما في الصور التالية:

" ضجةٌ من [غبارٍ وأُبهةٌ من خواءْ
مدنٌ طلقتْ الدهشةَ..
تفصحُ عن عشقها بالوساوسِ
عشيقٌ من القشِّ والصمغِ..
يشكو فراغاتهِ.. والفراغَ](35)

إن هذه الصور العبثية الفوضوية تشي بإيقاعها العبثي الصاخب، ونزوعها السريالي الواضح ،وكأن الشاعر يرسم بريشة فنية لوحة سريالية متداخلة الظلال، والألوان، والأحجام،وهذا ما يمنح اللوحة حركة بانورامية مكثقة من المسميات، والتداخلات، والظلال، والألوان المتداخلة التي تظهر دون روابط أو دلالات واضحة تشير إليها، وهذه هي غربة الشاعر الفكرية اللغوية، وتجسيده للمشاهد بصخبها الرؤيوي كما هي عليه في منظوره وواقعه الاغترابي إزاء الأشياء، وإحساسه الوجودي المتشعب في رؤاه، ومدلولاته العميقة. وهذا يقودنا إلى القول: إن الاغتراب الفكري التجريدي- في شعر حميد سعيد- مال إلى التجريد العبثي السريالي بكثافة الصور التجريدية التي تفتقر إلى المداليل الواضحة الصريحة،ومال إلى التوصيف السردي، أو الصور السردية المتتابعة، وهذا أكثر ما نجده في قصائد مجموعته:(من أوراق الموريسكي)،معتمداً في تأكيد هذا النهج السريالي عبر طرائق أسلوبية جديدة شكلت ملمحاً بارزاً في اغترابه الفكري، وذلك عبر تراكم الصور، وتتابعها، وعدم وجود الروابط الفاعلة فيما بينها، رغبة في إظهار مظاهر الفوضى والعبثية ارتداداً شعورياً عن صخب الحياة وتناقضاتها المريرة، وتراكم التقطعات العلائقية فيما بين الجمل،كتداعي العلاقات، وانكسار الروابط فيما بينها،مما جعل اغترابه يصب في بوتقة التشويه (تشويه العلاقات والروابط النحوية)، كتشويه الحياة ذاتها، وما فيها من ارتكسات، وتناقضات مريرة،يجسدها الشاعر بشكلها اللغوي الفوضوي المتقطع، رداً على شكلها الوجودي المشوه أو المتناقض المأزوم،وذلك من خلال كسر ائتلاف الصور المشهدية، وكسر نمطها الشكلي أكثر من ميله إلى التلاعب بالأفكار والأخيلة والعبث السريالي بها.

وصفوة القول:

إن الاغتراب الفكري التجريدي- في قصائد حميد سعيد- ليس مظهراً سلبياً؛ أو مظهراً لا شعرياً في الصوغ الفني؛ ومن يُحَمِّله هذا المحمول فقد ظلم الشاعر، وظلم شعرية الشعر،فالشعر هو مرآة عاكسة لهذا الوجود،وعندما يصور الشاعر جانب السلب منها فيجب عليه أن ينقله كما هو دون تزويق، أو تزيين لئلا يزيف الفكر الجمالي الشعري الذي ينطلق من جوهر الحياة مرتداً إليها، وليس العكس ،وما إيقاع التجريد في قصائده إلا من مظاهر مثيرات حركتها الجمالية رغم فوضوية المشاهد، وعبثها أحياناُ، إلا أنها مكرسة في إيقاع فني جمالي لا تخفيه نصوصه على المستويات كافة.

الاغتراب الفكري بالانفتاح على التراث العراقي والموروث الشعبي:

يعد الاغتراب الفكري أو الثقافي بالانفتاح على التراث العراقي، والموروث الشعبي من أغنى المؤثرات الاغترابية إذا ما استثنينا الموروث الأسطوري، وخاصة الانفتاح على التراث الشعبي،والسير الشعبية،وقد أكد الناقد علي عشري زايد أهمية الموروث الثقافي بالانفتاح على السير الشعبية، والأمثال، والقصص الشعبية،لكن درجة تفعيله عند شعراء الحداثة أقل ضآلة إذا ما قيس بالاغتراب الثقافي بالانفتاح على التراث الأسطوري والمثيولوجي، ذلك أن الاعتماد على الأساطير كان شغل الشعراء الدائم،لاسيما شعراء العراق الشقيق الذين تفننوا وبرعوا في هذا الجانب حتى ذروة الفن والكمال؛ أما حظ الانفتاح على السير الشعبية والأمثال واللغة المحكية لم يصل إلى ماوصلت إليه الأساطير من تنوع وخصوبة وفعالية نصية؛ وهذا ما أشار إليه علي عشري زايد بقوله:"إن حظ سيرنا الشعبية من اهتمام شعرائنا المعاصرين بالغ الضآلة إذا ما قيس بثراء هذه السير،وامتلائها بالأبطال، وبالشخصيات الغنية، بالأبعاد النفسية، والاجتماعية،والتي تصلح لحمل أدق خلجات الشاعر المعاصر"(36).

وقد أدرك حميد سعيد أهمية الاغتراب الفكري، بالانفتاح على التراث الشعبي، خاصة التراث الغنائي من مواويل شعبية عراقية تترك في القلب والروح شجناً جارحاً ممزوجاً بالحنين والشوق إلى الأحبة والأهل والديار ،كما في قول الشاعر حميد سعيد:
"
< أسرعْ من الذيبْ
واخّف من الهوا العالي
أجيك حافي الجدمْ
يَمْعَذِّبْ أحوالي >
*أغنية عراقية قديمة*

كان ذلك في زمنٍ.. روّضت أغنياتُك فيه الذئاب..
وكُنتَ تُطيلُ السُرى
وتَعشَقُ ما لايُرى
تُغَنّي.. تُصَلّي .. وتبكي
وتجمَعُ بين الرياح الرضيةِ والعاصفهْ
قبلَ أَن تأزف الآزفهْ"(37).

بادئ ذي بدء نشير إلى أن الاغتراب الثقافي – بالموروث الشعبي – في قصائد حميد سعيد يهبها الصلة والانتماء بالتراث،ولهذا، يعد الاغتراب من... وإلى.. التراث بمثابة الانتماء إلى الهوية العراقية والجذور ،والأصالة العراقية،وهنا ،جاء الموال الشعبي:( < أسرعْ من الذيبْ واخّف من الهوا العالي.. أجيك حافي الجدمْ.. يَمْعَذِّبْ أحوالي >)، مستحضراً من خلاله الأجواء البغدادية بكل ما فيها من صبابة، وحنين، قبل أن تأزف الآزفة، ويرحل عن موطنه، مغادراً فيه قلبه الذي ارتحل عنه وسكن في تلك الأماكن،وما عاد يسليه ويعبر عن أنينه ونيران المواجع إلا المواويل الجريحة التي تخرج من حرقة الروح، ولوعتها الموجعة.

وكما ارتحل حميد سعيد إلى التراث الشعبي، معلناً اغترابه الثقافي، والفكري، والروحي ارتحل كذلك إلى الموروث الأسطوري أو المثيولوجي،لما لهذا الاغتراب الثقافي من أهمية في رفد القصائد الشعرية بطاقة مضاعفة من القوة، وبلاغة التعبير، لدرجة يؤكد الناقد علي عشري زايد أهمية هذا المنزع الأسلوبي في التشكيل الشعري المعاصر،إذ يقول:
" لقد ظلت الأسطورة مورداً سخياً للشعراء في كل عصر،وفي كل بقعة يجسدون عن طريق معطياتها الكثير من أفكارهم ومشاعرهم،مستغلين ما في لغة الأسطورة من طاقات إيحائية خارقة،ومن خيال طليق لا تحده حدود، ونظراً لأهمية هذا الأسطورة، ومكانتها في الدراسات الإنسانية فقد شغلت كل الباحثين، في هذا المجال: علماء النفس،وعلماء الاجتماع،وعلماء الأديان، والنقاد،حتى لا نكاد نعثر على علم من العلوم الإنسانية لم يولي الأسطورة شطراً من اهتمامه. ونتيجة لتعدد مناحي الاهتمام بالأسطورة،فقد تعددت مدلولاتها،وتعددت تعاريفها حتى أصبح من الصعب العثور على تعريف للأسطورة يكون محل إجماع من المتخصصين،ويكون في نفس الوقت سهل الإدراك بالنسبة لغير المتخصصين.. فالأسطورة حقيقة ثقافية بالغة الغنى والتعقيد يمكن تناولها وتفسيرها من وجهات عديدة ومتكاملة"(38).
والأسطورة تستحوذ على شعريتها من قوة الدافع الاغترابي في تشكيلها النصي، ولهذا، فإن قوة الشاعر البلاغية على توظيف الأسطورة في سياق إبداعي جمالي هو ما يحرك مغرياتها، ومؤثراتها الفنية،وقد أدرك الشاعر حميد سعيد أهمية اللجوء إلى الأسطورة، لتفعيل إيقاع قصائده الاغترابي جمالياً،ومحمولاً دلالياً مؤثراً؛ وللتدليل على ذلك نورد قوله:

"إن ملجأ العامرية
يمنحها ما تشهت من رياشِ الأباطرة المترفين
لحماً محرقاً
مدت موائدها لبغايا المعابدِ
يشكرنَ ربَّ الجنود
وللبابليات وعدُ الحرائقِ
ينزعُ أثداءهنَّ ربُّ الجنودِ
ويقتلُ أبناءهنَ ربُّ الجنود
وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ
تقطَّعُ أرحامهنَّ عواصفُ سودْ
ولتكن عاقراً أنانا
ولتكن عاقرا كل أنثى"(39).

بادئ ذي بدء نشير إلى أن الاغتراب الفكري باللجوء إلى الأساطير البابلية القديمة من مؤثرات قصائد حميد سعيد؛ فالأساطير لديه متنوعة، والأجواء التي تجسدها مثل هذه القصائد أجواء ملحمية أسطورية درامية تشي بقوة التصوير وبراعة الوصف السردي،والأجواء الممتلئة بنكهة الأساطير وطقوسهم،الحافلة بالمسميات الدالة على هذه الطقوس الأسطوريةالتي تشي بالمعابد والكهنة وطقوسهم من سكر، وشراب، وبغايا، وجنود، وأباطرة،ومداليل القتل والعقاب، وهذه الأجواء مجتمعة تؤكد ولع الشاعر حميد سعيد في تكثيف رؤيته، وإبراز اغترابه الفكري والثقافي باللجوء إلى هذا المعين الإبداعي الخصب،وقد أشار إلى هذا الملمح الأسلوبي في قصائدنا الحداثية علي عشري زايد ،ولا نبالغ في قولنا إن حميد ىسعيد يمثل شعلة في الاستحضار،وبهذا المقترب يقول زايد:" لقد شاعت في شعرنا الأساطير الإغريقية،والبابلية والفينيقية، وامتلأت قصائد شعرائنا بأسماءسيزيف،وبرومثيوس،وأوليس، وأوديب،وهرقل من التراث الأسطوري الإغريقي،وتموز وعشتار وأدونيس،وأنكيدو.. من التراث الفينيقي والبابلي"(40)

وهكذا، أفاد حميد سعيد من النهج الأسطوري في إبراز ملمح اغترابه الثقافي، باللجوء إلى الأساطير،وهذا يعني أن الأجواء الأسطورية حاضرة بقوة في قصائده، وإن غابت مسميات الأساطير بعينها،بمعنى أن الأسطورة لا تغيب عن طقوسها الإبداعية ،فهي وإن غابت اسماً أو مسمى فهي لم تغب واقعاً وفعلاً إبداعياً فاعلاً قط في حراك دلالاتها، وتنويع إيقاعاتها، بما يتلاءم وواقعنا المعاصر.

الاغتراب الفكري بالرؤى الجدلية،والمتشاكلة:

الشعر جدلي كالحياة،ومادام الشعر ركيزته الأساسية حركة الكون والوجود، فمعنى ذلك الازدواجية والجدلية حاضرة فيه بقوة كقوة الحياة الكامنة في أعماقنا، وأسرارنا الداخلية،وهذا يعني أن:"الشعر كفنّ تعبيري ضارب بجذوره في عمق التاريخ البشري، ليس مجرد سقوط "جواني" إلى الداخل، أو ضمّادات للتوتر الناجم عن الازدواجية الدالة على التنافر بين الذات والمحيط، أو ما شاكل ذلك من قبيل ما يحيل على أيّ من المقاربات الجادة من أجل التأكيد على جدواه، وفاعلية وظيفته. الشعر أعمق وأشمل من هذا كله بكثير.فهو يأتي كأداة ممكّنة من تحسس الحقيقة والغوص في الكينونات وكل ما هو جوهري، بعيدا عن الخضوع أو التقيد بمنهج معين أو نمطية معرقلة أو اجترار لطقوس الرتابة والروتين.هو صرخة صادمة وانتفاضة رقيقة في وجه التخلف والاضطهاد،والاغتراب، وكل أشكال الاستعباد . هو حناجر مزج طوباويّ بين العنصرين المعرفي والجمالي لتجسيم الرفض المطلق والاعتراض عن كل ما يسيء إلى الإنسان، ويلطخ كرامته، ويمرغ آدميته في مستنقع البهيمية والغرائز المهيمنة، ويهدر دمه بغير وجه حق. هو الألسن الجريئة المضمخة بالمرارة، والغصص،مطالبة بتحقيق عدالة اجتماعية ومساواة واستفادة مما هو حق حسب ما تمليه مناحي الحياة المعاصرة"(40).

بهذا الحس الشاعري الذي نستخلصه من المقتطف السابق يتأكد لنا أن من مهام جدلية الشعر أن يحرك الروح ويشبع النفس رؤية وحساسية وجمالاً،ويفرض واقعه الوجودي وحراكه الرؤيوي المؤثر،وهذا ما وعاه وأدركه حميد سعيد إذ يرى أن من مؤثرات الشعر الحركة الجدلية والاغتراب الجدلي،وهذا الحراك الجدلي أشد أثراً في تلوين الثقافة والمعرفة،وكما يقال الشعر الجدلي هو انفعال متوتر،يقبع خلف الذاكرة الوجودية مشعرناً إيقاعها وحركتها الجمالية،ولا يمكن أن يحقق الشعر منتوجه الجمالي بدون هذا الحراك المحتدم الذي يثير التجربة، ويحرك فواعلها الرؤيوية كافة، وهذا و ما أكده في قوله :"إن الإيقاع الجدلي القائم على التنافر، والتضاد، وسيلة للوصول إلى عمق صورة الواقع التي يشارك الإبداع في اكتشافها، ويشارك في ر سم النقيض لها في آن.. إن العزف على إيقاع التضاد يمنح النص طاقة جمالية على صعيد البنية الشعرية، بكل مفرداتها،بل في كل مكوناتها"( 41)

وتعد قصائده (من وردة الكتابة إلى غابة الرماد) ذروة في الحركة الجدلية والاغتراب الجدلي على مستوى اللغة والمفردات من جهة، وعلى مستوى الصور والمشاهد والرؤى المحتدمة من جهة ثانية ، أي ثمة حركة جمالية ترتقيها اللغة بالجدل والصراع بين حركة الأنساق الشعرية وجوداً، وإحساساً وفاعلية، ولهذا، فإن الاغتراب الفكري الجدلي -في شعر حميد سعيد -هو لبلورة الاحتدام الشعوري بين لغة الواقع،والرؤية أو الحلم التي يتوق إلى تحقيقها والوصول إليها،وهذا ما ندلل عليه شعرياً في هذا الجدل الماثل على صعيد المشاهد والرؤى المحتدمة، إذ يقول:

"بابٌ على ما كانَ..
ماذا لو يكون البابُ مفتوحاً على الآتي..
وماذا لو يكونْ؟!
تَتَنَزَل الأفراح ُ في روحي.. ولكنْ..
لا حقولي رافقت حزني إليكِ .. ولا مياهُكِ رافقتني..
ما زال بي شيءٌ.. أحاول أنْ أراه .. ولا أراهْ !
مازال بي مما نسينا في الطريق إلى الطريق..
عسى .. لعلَ..
أننتهي .. مما انتهينا منهُ ؟! نبدأُ مرةً أخرى ..
وندخلُ في المدارْ"(41).

بادئ ذي بدء،نقول: إن الاغتراب الفكري – بالمشاهد والدوال اللغوية المحتدمة- في قصائد حميد سعيد، يأتي لإغناء حركتها الجمالية، وتنامي مؤثراتها الرؤيوية والدلالية،وهذا يعني أن حميد سعيد يشتغل على البنية الدرامية داخل المشهد الشعري الواحد،وهذا ما يمنحها قوة في الدلالة، وبلاغة في الحركة النصية، ومن هذا المنطلق، جاء المقطع الشعري السابق، شعلة في الاتقاد الصوفي بين المشاهد والرؤى، بين رؤية البصيرة ورؤية العين،وهذا ما كرسه على صعيد الحركة الفعلية بين الفعل( أرى/ ولا أرى)و(انتهي/و أبدأ)و(ما كان/و سيكون)،وكأن الحركة الجدلية سرت من الباطن الشعوري إلى شرايين اللغة، ورنين الكلمات، وصيغها الجدلية المحتدمة بين الكشف والانفتاح، وعدم اتضاح الرؤية واكتمالها،وهذا ما يجعل رؤاه الصوفية مطلقة تنفتح على دلالات محتدمة، ورؤى متغورة عميقة لا يدركها إلا من له عين لاقطة تتحثث جوهر الأشياء، لا سطحها اللغوي العائم.

وأخيراً،نقول : إن الاغتراب الفكري الجدلي –في قصائد من وردة الكتابة إلى غابة الرماد- يهبها قوة في الرؤية، وحركة جمالية تتمظهر على مستوى المشاهد والصور من جهة ،وعلى مستوى الدوال والمدلولات الشعرية من جهة ثانية،وهذا ما يحسب لها على مستوى هذه الموضوعة المهمة في الكشف عن مضمرات قصائده الشعرية على المستويات كافة.

نتائج واستدلالات أخيرة:

إن الاغتراب الثقافي الفكري- عند حميد سعيد – يستند إلى مرجعية ثقافية واسعة، وغنى معرفي فعال خصوصاً في جانب الإمتاع اللغوي،وخصوبة قاموسه، أو معجمه الشعري،وهذا ما يدلل على أن انفتاحه الفائق على الموروث، بما يضمن لقصيدته التمثل الفني الفعال، والحراك الرؤيوي الواسع في شكلها اللغوي، ومضمونها الجمالي.
إن القيمة الجمالية لاغترابه الفكري والثقافي لا تقل قيمة، ولا أهمية عن اغترابه الفني، أو الجمالي؛ لأن معين نصوصه – بالدرجة الأولى – ينبني على ثراء الدلالات، ونواتجها الإيحائية،وفواعلها النصية، وخصوبة مردودها اللغوي الفني،وهذا سر إبداعها، وتحليقها جمالياً.

إن ثمة مرجعية جمالية يستند إليها الاغتراب الفكري الثقافي -في قصائده- وهي احتفاء نصوصه بالرموز الصوفية، والانفتاح على الموروث الديني، مما يضمن لهذا الجانب أهميته في الابتعاد بنصوصه عن سطحية الدلالات، وفضائها الدلالي العائم.

إن الاغتراب الثقافي – في قصائده- لم يخدم المعجم الشعري فحسب ،وإنما خدم الرؤية من جوهرها؛ فالرؤية الشعرية تتشكل -لديه- من مرجعيات ثقافية متنوعة: دينية وفلسفية وتاريخية، ونفسية،وسياسية،ولهذا، تتنوع الحقول الدلالية- لديه- وتختلف مؤشراتها ومداليلها معلنة تطورها من مرحلة إلى مرحلة، ومواكبتها ركب الحياة في تسارعها الحضاري وانزلاقاتها الفكرية، وتياراتها المحتدمة، ولهذا، لم تغب النزعة الدرامية عن قصائده رغم اختلاف الطرائق، والرؤى، والأساليب.

إن الاغتراب الثقافي – في قصائده- ينزع منزعاً جدلياً في الكثير من نصوصه الشعرية،وهذا دليل كثافة الرؤى، والمنظورات المتطورة، لديه ،وعمق الرؤية التي تنفتح على آفاق رؤيوية عميقة غاية في الامتداد، والشمول، والكثافة المشاعرية، والرؤى المحمومة التي تشتغل على أكثر من محرق دلالي ورؤيوي في القصيدة.
إن الاغتراب الثقافي- في قصائده- يمثل محور حركتها على المستوى الرؤيوي والإبداعي،وهذا يعني أن مخزونه الثقافي ماثل في صوره و المسميات والأماكن المتنوعة المحتشدة فيها وهذا ما يحسب لها إبداعياً.ومن هذا المنطلق ،تحقق القصيدة فاعليتها وقوتها التأثيرية.

وبعد،فإن الاغتراب الثقافي - في قصائد حميد سعيد – ليس منعكساً نفسياً أو شعورياً ،وإنما هو حس وجودي،يرفع سوية القصيدة فكراً، وفاعلية، وغنًى معرفيّ شامل،يرتد أثره على جوهر الرؤية الشعرية ومحرضاتها النفسية من الداخل،ولهذا، لا نجد في إيقاعها سذاجة، أو سطحية، أو أحادية المنظور،مما يجعلها حقلاً خصبا للحفر والتنقيب البحثي على الدوام.

الحواشي:

(1) الاغتراب في الشعر الجاهلي , أحمد صالح الرعيبي , أطروحة دكتوراه مرقونة على آلة الحاسوب الجامعة المستنصرية / كلية الآداب, 2004 ,ص 3 .
(2) جمعة،حسين،2011- الاغتراب في حياة المعري وأدبه،مجلة جامعة دمشق،مج7، ع1+2،ص21.

(2) العامري، إيمان،2016- إشكالية الاغتراب في الفكر والأدب،مجلة أصوات الشمال الالكترونية ،على الرابط: www.aswat-elchamal.com/ar/?p=98&a=37256

(3)المرجع نفسه، الرابط نفسه.
(4) زايد،علي عشري،1997- استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، مطبعة دار الفكر العربي،ط1، ص45.
(5) المرجع نفسه، ص 45.
(6) جمعة،حسين،2011- الاغتراب في حياة المعري وأدبه، مجلة جامعة دمشق،مج27،ع1+2، ص21.
(7) أمعضشو،فريد،2012- الاغتراب( نبْـشٌ في مفهوم مِحْـوَري داخل حقل الإنسانـيات)،جريدة العلم ،موقع على النت الرابط:
www.alukah.net/library/0/89575/

(8)حسن،عيد،2008- ظاهرة الاغتراب في شعر شعراء الستينات في مصر، نقلاً من ملخص أطروحة الدكتوراه على الرابط:
www.fayoum.edu.eg/pgsr/DarSearch42.aspx
(9) الجادر، محمود عبد الله،1988- طرفة بن العبد بين الانتماء والاغتراب في نصه الشعري، مجلة التراث العربي، بغداد، ع85،ص155.
(10) جعفر،محمد راضي،1999- الاغتراب في الشعر العربي المعاصر" مرحلة الرواد"، منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق، ص6.
(11) شرتح، عصام ،2016- حوار مع حميد سعيد ،مجلة ديوان العرب على الربط الالكتروني التالي:
www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...
(12)شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص310.
(13)المصدر نفسه،ص302.
(14) شرتح عصام،2011- مسارات الإبداع الشعري(دراسة نصية في شعر حميد سعيد)،دار الينابيع، دمشق، ط1، ص250-251.
(15)شرتح، عصام،2010- الشعرية ومقامرة اللغة( مقامرة الكشف والاستدلال)،دار الينابيع،ص250-251.
(16)زايد،علي عشري،1997- استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص105.
(17)أحمد بدير، شعبان،2009- جدلية الاغتراب في الشعر الصوفي،مجلة ديوان العرب، مجلة الكترونية،موجودة على الرابط:
،:www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...
(18) سعيد،حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص49.
(19)المصدر نفسه،ص46.
(20) المصدر نفسه،ص7.
(21)المصدر نفسه،ص8.
(22) ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، أطروحة دكتوراه،جامعة حلب، ص233.
(23) المرجع نفسه،ص234.
(24) شرتح، عصام،2016- حوار مع حميد سعيد، مجلة ديوان العرب الالكترونية على الرابط:
www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...
(25) سعيد،حميد،2012- من أوراق الموريسكي، ص35.
(26) المصدر نفسه،ص28.
(27) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة؟!)، ص298.
(28)المصدر نفسه(ملف حوار الشاعر علي جعفر العلاق)،ص339.
(29)سعيد،حميد،2002- الأعمال الشعرية الكاملة ،دار صادر،بيروت،ج2/ ص162.
(30)سعيد،حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص14,
(31)شرتح،عصام،2016- حوار مع حميد سعيد ،مجلة ديوان العرب على الرابط السابق المذكور
(32) حيدر،صفوان،1998- تاريخ الفن التجريدي في الأصول الثقافية للرسم التجريدي،مجلة عالم الفكر العربي،ع92،بيروت،ربيع ،ص226.
(33) المرجع نفسه،ص226.
(34)سعيد،حميد،2002- الأعمال الشعرية الكاملة،ج2/ص158-159.
(35)المصدر نفسه،ج2/ص161.
(36)زايد،علي عشري،1997- استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر،ص166.
(37)سعيد،حميد،2012- من أوراق الموريسكي،ص95.
(38) زايد،علي عشري،1997- استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر،ص 174.
(39) سعيد،حميد،2002- الأعمال الشعرية الكاملة،ج2/ص 323-324.
(40)زايد،علي عشري ،1997- استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر،ص 183.
(41)الشيخاوي، أحمد،2014- جدلية الشعر والراهن،مجلة إيلاف الالكترونية،
موجود على الرابط:
elaph.com/Web/Culture/2014/10/952905.html
(42)شرتح،عصام ،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص299.
(43) سعيد،حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص 13.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى