السبت ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٦
بقلم أحمد هيهات

القلوب الباردة

كانت ليلة باردة وطويلة مظلمة وموحشة تلك الليلة الأولى التي قضاها في زنزانة ضيقة أبعادها الثلاثية مكونة من ثلاثة أمتار طولا وثلاثة عرضا وثلاثة ارتفاعا، وستة أسرّة كل ثلاثة منها فوق بعض، جلس وحيدا بعد أن نام كل رفاق الزنزانة ووضع رأسه المثقلة بالهموم والخواطر والندم والحسرة بين ركبتيه المتصلبتين، غير عابئ بالوقت الذي فقد قيمته بسبب اعتزاله دورة الحياة العادية ودوران الشمس والقمر، واستغرق في تفكير عميق مسترجعا حياته المنصرمة التي خطفتها أضواء الحضارة المادية المغرقة في العمل والسرعة والاستهلاك واللهو وبريق السيارات الفارهة والطائرات النفاثة والصواريخ الأشباح وسفن الفضاء والأقمار الصناعية.

تلك الحياة التي أنهكها العبث المنظم وسينما العنف المخيف المقصود لذاته والجنس الفاضح المنحرف، والكاراتيه والكونغ-فو ومختلف فنون الحرب التي تستعمل لأخذ الحق باليد والسخرية من العدالة والقانون، والإدمان المزمن على أفلام الأبطال الخارقين وأساطير "باتمان" و "سوبرمان"، وخرافات غزو سكان النجوم للأرض وحروب الفضاء، وضجيج العلب والملاهي الليلية وكليبات العري المستفز والانفصال بين الصورة والصوت، وفوضى الألوان والأصوات التي لا توافق المعاني المبثوثة بصورة قلقة مضطربة.

بعد عشرات الأيام والليالي التي قضاها في الخلوة الصوفية التي تخّلى فيها عن استهتاره القاتل، وتحلّى فيها بقدر غير يسير من التأني والتفكير، وتجلّى له فيها سرابيّة اللحظات التي قضاها في المدن الساحلية المنعشة والمصايف الطويلة والمنتجعات التي لا تمشي على رمالها إلاّ الأقدام المتخمة والمنعَّمة التي أخذت أصحابَها السكرةُ بأنهم الأذكى والأرقى والأولى بالبحر والرمال والأرض وخيراتها، وبعد التأمل الطويل في وضعه الجديد الذي لم يخطر له في يوم من الأيام خاطر باحتمال وقوفه هذا الموقف الذي يفيض عجزا وينضح كآبة، وبعد الحوار المتشعب مع ذاته التي لا تستطيع الرسو على قرار، ومع الأفكار الكثيرة المتداخلة، والوقائع المتراكبة المتسارعة التي عاشها في وقت وجيز .

وبعد إعادة النظر في كل ذلك وتقليبه على كل الوجوه والاحتمالات الممكنة، أدرك أنه كان يعيش وهما بتصديق نفسه التي يبدو أنها قد احترفت قلب الحقائق وتسمية الأشياء بغير أسمائها، وتخدير المشاعر المترددة وغسل العقول المرتابة في مهارة قل نظيرها حتى نسي أنه إنسان عربي، وذلك بعد أن انغمس في نعيم الحضارة الغربية وتشبّع بخصال ومزايا الغربيين من ذوي السترات الأنيقة المكوية المرتبة والقلوب الباردة الصلبة والمشاعر الجليدية التي لا تتأثر بمشاهد الموت والدمار والقتل، لأنه يكفيها تبرير متهافت من مسؤول يجعل الكذب صدقا بالحيلة والفطنة والمراوغة وأن كل ذلك القتل والتنكيل والترويع والتخريب والقضاء على الحياة بمختلف مظاهرها مجرد دفاع عن النفس، وتحرير للإنسان وتثبيت للديمقراطية، وحفاظ على المصالح الغربية في مجاهل آسيا وأدغال إفريقيا، ومحاربة للإرهاب الأسود الذي يستهدف الجميع.

وقد أنساه هذا الظن السيء، وتنصله من أصله الحقيقي أنه مهما فعل وتظاهر بالانتماء إلى هذا المعسكر فإنه لن يصبح منهم، ولن ينسوا أنه من تلك الأمة التي لا تملك قوة ولا إرادة ولا وجودا لأنها أمة قيمتها في الوقت الحالي أقل من قيمة صفر إلى اليمين، وأنه من أمة عالة على هذا الغرب الذي يسعى –عبثا- إلى الانتساب إليه، فهو مهما أجهد نفسه في البراء من عروبته والولاء للغرب سيبقى من أمة تعتمد على غيرها في كل شيء من الإبرة إلى الدبوس إلى قلم الرصاص و الورق إلى الكتب والأكل والدواء والقمح والأرز والملابس والمنسوجات والآداب والعلوم والحواسيب والهواتف الذكية والسيارات والحافلات والقاطرات والأسلحة والدبابات والطائرات ونظم التعليم وطرائقه...

اقترب موعد انقضاء مدة العقوبة السجنية التي قضاها مسلوب الحرية بسبب حضوره حفلة مجنونة بسبب الإفراط في الكحول والمخدرات، تم فيها تخليص عدة أجساد من الأرواح التي تتوق إلى الملكوت الأعلى والانفلات من الجحيم السفلي، دون أن يبلّغ الشرطة واكتفى بالهرب قبل أن تخونه قدماه، ويتخلى عنه وعيه الذي أسلمه إلى نوم طويل انهته أصوات الصافرات القوية لسيارات الإسعاف التي نقلت الجثث إلى مستودع الأموات، وسيارات الشرطة المتعجلة التي نقلت الأحياء إلى أقسام الشرطة ثُم إلى الزنازين بعد المرور بقاعات المحكة.

بسبب اقتراب موعد الحرية التي لم يعد يسعى إليها، والطرد من النعيم المقيم والعودة إلى الجحيم والشقاء انخرط في تفكير من نوع جديد بسبب التصرفات الخطيرة المتهورة التي صدرت منه في المرات القليلة التي زار فيها وطنه العربي وأهله وأصدقاءه، وخصوصا الزيارة الأخيرة التي اضطر فيها إلى التعبير عن موقفه من الوجود والخالق والدين والهوية.
بعد استماعه بكثير من الكراهة والتبرم إلى خطاب طويل لأحد الشيوخ عن الصبر في الدنيا على الظلم والفساد والفقر والتخلف، والشكر على ما سوى ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وانتظار الآخرة والجنان وما فيها من نخيل وأعناب وكروم وفاكهة ورمان وتين وزيتون وعيون متفجرة بالمياه الباردة العذبة ولحوم على مقاس الشهية وأنهار من لبن وعسل وخمر وحوريات...

أثاره كلام الشيخ الذي يدعو إلى التواكل والرضا والقناعة بالذل والمهانة ويخدر الناس بالجنان والاستلقاء بين الأشجار وأكل الثمار والاستمتاع بالأبكار، ويستغرب أن تكون الجنة ونعيمها- حسب وصف الشيخ - في هذا المستوى من التفكير الغريزي للإنسان والذي لا يتجاوز شهوتي البطن والفرج، فأعلن إلحاده وعدم إيمانه بالغيبيات والماورائيات، فاصفرت الوجوه المصدومة من حوله، وأمطرته الألسن بأشد اللعنات،والأيدي بأقوى اللكمات والأرجل بأغلظ الركلات، كما أخلى المتوجّسون ذمتهم بالتبرؤ منه، ونطقت القلوب التقية الرحيمة بالاستغفار له ومن كلماته، ولهجت بالدعاء له بالهداية والتمييز بين الخالق وأفعال المخلوقين.

زال خوفه وزادت دهشته بعد أن زاره كل أهله وأقاربه وجيرانه وأصدقائه و معارفه خلال الأسبوع الأول من عودته إلى بلده متمنين له المقام السعيد، عارضين عليه مختلف صور الدعم والمساعدة كل حسب قدرته وحيلته، دون أن يحدثه أحد عن مواقفه الراديكالية من الدين والحياة والآخرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى