الأربعاء ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

تحليل ديوان «المحبرة» لجوزف حرب

محبرة الخليقة (65):

ملاحظة: حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً
وقد خاض الشعر – بعد افتراقه - كفاحاً إنسانياً ملحميّاً مجيداً من أجل الحفاظ على استقلاليته، فهو الذي حفظ للعقل والروح رأسيهما من أن يطيح بهما سيف طغاة الدين إلى الأبد. لقد ظلّ الشعر روحاً سافرة بلا حجاب. وبهذا الكفاح الصبور والدائب تغلغل الشعر في كل شيء حتى في الدين. هو الإستعداد العقلي الذي يعدّ المؤمن الحقيقي لفهم دينه. فحين نقول "شجرة طلعها كرؤوس الشياطين" تردّ الناس بالقول أنهم لم يرو شجرة الزقوم فهي غير موجودة في الطبيعة، ولم يروا راساً لشيطان في حياتهم، فكيف يفهمون هذه الآية وفيها المشبه والمشبه به خياليان! الإستعداد الشعري فقط هو الذي يجعلهما حقيقة. وحتى الأذان يرفع شعراً. فصار الشعر دين المؤمنين الحقيقيين، الذين يدركون حقّاً معنى سلسلة الخلق الإلهية الطويلة التي تكمن وراء (و) في الوردة والشجرة والغصن والعشبة. الشعر هو الذي كشف تعب الله المشرّف وحاجته للإحترام والتبجيل، فصار شريك الله في كتابة النص. ولم اجد أعظم من هذه الصورة التي عبر بها جوزف حرب عن شراكة الله والشاعر:
(هما
أنتَ والورقهْ.
هما،
أنّنا فيهما.
وهما
أننا النصُّ.
أنتَ الذي
خلقهْ
فأنتَ له
فاطرهْ
كما شئتهُ،
وأنا
شاعرهْ.
فيا سلفيْ،
تعلمُ الآنَ أنّكَ أنقذتَ نفسكَ
بيْ.
صرتَ غيرَ الذي
كانَ قبليْ. – ص 1675 و1676).

إنها ليست تعبيرات عن النرجسية المرضية المنتفخة، ولا هي انتفاخات دفاعية لأحاسيس قائمة على الشعور بالتهديد المابعد حداثي الذي يرى البعض أنه سوف يطيح بالشعر ويمحقه. إنّ ما يضيفه الشاعر إلى النصّ الأصلي هو أنه يجعله أكثر خفّة، يمنحه أجنحة ليحلّق، ومجاذيف ليبحر. لقد يبست أرض النص القديم وتشققت روحها، وهي بحاجة لنسغ الشعر المحيي يجري في عروقها ليهبها حياة جديدة، ولنؤمن بديانة مضافة تعزّز القديمة هي ديانة الشاعر.. ديانة لا تخشى الألم ولا الموت. إن الله بحاجة لأن يخرج من الدين الذي سوف يقتله، ويتكفل الشعر برفع لوائه على كتفيه اللتين تحدوهما رياح الأمل والبحث والتساؤل والإيمان بالإنسان. يجب أن نؤكّد دائماً على أن الشعر شريك عظيم في كتابة النص الحقيقي للحياة، ولن يقبل بموقع التبعية في قراءته التي عبّر عنها الشاعر من خلال الدهشة الكبيرة في يداية القصيدة. (يجب أن ننظر إلى الشعر بإجلال كبير وباسلوب أرفع مما اعتدنا أن نفعل. يجب أن نعتبره قادراً على استعمالات أسمى، ومدعوّاً لمستقبل أعلى من ذلك الذي رسمه الإنسان بشكل عام حتى الآن. وسيكتشف العالم تدريجياً أننا يجب أن نتجه نحو الشعر كي يفسر لنا الحياة ويواسينا ويقوّينا. فبدون الشعر يبدو العلم لنا ناقصاً، ومعظم ما نعتبره الآن ديناً وفلسفة سيُستعاض عنه بالشعر. وأنا أقول أن العلم سيبدو ناقصاً بدونه. ويدعو ووردزورث الشعر بدقة وصدق بـ "التعبير المنفعل البادي على وجه العلم". وما قيمة الوجه إذا لم يكن معبّرا ؟ ويدعو ووردزورث مرة ثانية الشعر بدقة وحق "نفس المعرفة وروحها المرهفة". إن ديننا الذي يستعرض أدلة يعتمد عليها عقل الشعب، وفلسفتنا التي تزيّن نفسها بتعليلها للأسباب والنهاية واللانهاية ؛ إنْ هما إلّا ظلال وأحلام ومظاهر مزيّفة للمعرفة. وسيأتي اليوم الذي نندهش فيه من أنفسنا كيف وثقنا بهما وأخذناهما مأخذ الجد. وكلما أدركنا نفاقهما قدّرنا "نفس المعرفة وروحها المرهفة" التي يقدمها الشعر (115).
وعليه فإن ما يُحسب لجوزف حرب هو أنه لم يقترح على مؤلف النص الأصلي أن يشتغل منقّحاً لديه.. بل أن يكون مؤلفاً معه على قدم المساواة – بل مؤلّفاً جديداً - من أجل الحياة والإنسان اللذين يستدعيان أن يخرج الله من النص الديني، وأن يدخل نص الشاعر ليصبح أهمّ وأبقى وأجمل:
(أضفني إلى النصِّ
فالنصُّ
أضحى
لأنّيَ فيهِ، أخفَّ جناحاً،
وأطيبَ صبحاً،
وأعمقَ حفراً،
وأرسخَ لوحاً.
أضفني إليهِ
وإلّا ستمحى.
أضفني إلى النصِّ
يُصبحْ
أهمّ
وأجملْ،
وأبقى
وأكملْ.
فلولايَ لن يتحوّلْ
كلانا
إلى آخرٍ فيهِ يرحلْ.
فيا
حيرتيْ
إننيْ الشعرُ. فاخرجْ من الدينِ
حرّاً، فليسَ لديّ الجوابُ النهائيُّ عنكَ.
لأنّيَ
آتٍ لأسألْ.
وكيْ أتخيّلَ هذا الوجودَ، فجئنيْ
بنصّكَ كيْ
أتخيّلْ (...)
لديّ على سطحِ هذي السفينةِ
كلُّ مجاذيفيَ المالحاتِ،
جميعُ
رياحيْ إليكْ،
وها أنا أبحرُ عبرَ مياهِ الغموضِ،
وإنّيَ آتٍ
ألا افتحْ يديكْ. – ص 1677 – 1681).

أمّا المسالة الثانية المهمة التي وعدتُ السيّد القاريء بالتوقف عندها، فهي ما قلته عن ذكر الشاعر لموضوعة "الحب" مرّة واحدة سريعة ويتيمة في هذا النصّ. أمّا المرة الثانية فهي عندما بدأ الشاعر يحدّث المؤلف كيف أنه – أي الشاعر – هو الذي وهب الأشياء لغتها التي من دونها تبقى منطوية على معانيها المتحجّرة، ولا تشترك مع الإنسان في عالمه الإنفعالي كي يكون الكون كلّه عبارة عن مجتمع "إنساني" لا نقاط بين مكوّناته بل فواصل وجود شفيفة. فالكون عماء بدون استعارة.. ولغة الشعر هي التي تحيي مكوناته وتؤنسنها وتشخصنها فتتناقص عدوانية الإنسان عليها حين يشعر أنّه محاط بقلوب وعواطف تنبض في أجسام زهرة وشجرة وساق زرع وعشبة وغصن. فالشمس هي الشمس، قرص جحيمي ملتهب يسخن الكون، ويحرق من يقترب منه، لكنها مع الشاعر الذي يتعامل وفق منهج "الأنا – الأنت"، أي تعامل "حياة لحياة"، صارت الشمسُ لغةً يذهب الكوكب اليابس الشمعدانِ إليها ويملأ منها جراره، ويحملُ للملك العيدِ آذارَ ياقوته، وأباريقهُ، وسواره (ص 1662 و1663). هنا ياتي ذكر الأنوثة مرّة ثانية:

(ويُهديْ إلى الريحِ
أندلساً من خصورٍ،
وللشجرِ الدلِّ
يُهديْ زُمُردَ صبحٍ،
وللنهدِ يُهديْ ندى مرمرٍ،
واستدارهْ ؛
ويُلقي على مقلتيْ امرأةٍ
سوسناً،
وعلى ثغرها
جلّنارهْ.
لكلٍّ
لهُ لغةٌ.
كلّما نبتَ الزبَدُ الغضُّ
في الموجِ، حوّلهُ طائراً أبيضاً،
وأطارهْ. – ص 1663 و1664).

وبدخول النهد والمرأة فضاء النصّ فاح عطر وخفقة قلب وبشاره. وخلوّ الملحمة من الحضور المبارك الفاعل للأنوثة جسداً ونهداً وانفعالاً ملتهباً ومعاني خصب وديمومة آسرة، جعلها في بعض المواضع عملاً "ذهنيّاً"، حتى عندما يعالج الشاعر موضوعة الأنوثة نفسها كما هو الحال في قسم "السيّدة الشجرة". ولأنّ ملحمة خليقة جوزف حرب هذه هي ملحمة "موت" أصلاً ؛ الموت المحور الذي تدور حوله الحياة والكون بكل موجوداته، وبقدر ارتباط الأمر بقلق الموت الذي استولى على مناخ القصيدة وكان حافزها الأكبر، فإن من المهم بمكان أن نشير إلى العامل الأكبر الذي يجعل الموت "مشكلة" حقيقية تستولي على مجامع النفس ألا وهو "الحب". وقد أشار "جبريل مارسيل" على لسان إحدى شخصياته الروائية: "إن من أحبّ شخصاً فكأنما هو يقول له: "إنك لن تموت قط بالنسبة إليّ". وقد وقعت يوماً مساجلة فلسفية بين كل من "ليون برنشفيك" و "جبريل مارسيل" حول حقيقة "مشكلة الموت"، فقال الأول منهما للثاني: "إن موت ليون برنشفيك لا يهم ليون برنشفيك قدر ما يهم جبريل مارسيل موت جبريل مارسيل". وهنا ردّ عليه الثاني بقوله: "إنني سأسلم معك بأن اهتمامي بموتي قد يكون مبعثه الأنانية أو حبّ النفس، ولكن ما قولك في موقف اللامبالاة أو عدم الإكتراث عندما نكون بصدد موت الشخص المحبوب ؟". ونحن نقول مع جبريل مارسيل إن اهتمامي بمشكلة الموت قد لا يعني أنني أعلق أهمية كبرى على وجودي الخاص، فإن "موتي" ليس هو المشكلة، بل المشكلة هي في موت "الأنت"، أي ذلك الموجود المحبوب الذي لا يمكنني ن أتحدث عنه بضمير الغائب. والظاهر أنه إذا كان الموت لم يعد مشكلة في المجتمعات المادية الراهنة، حيث أصبحت الآلية الشاملة هي العلم، فما ذلك إلا لأن الفرد قد اصبح مجرد ترس صغير من تروس تلك الآلة الكبرى، أي "قطعة غيار" يمكن استبدالها في أية لحظة. ولعل هذا هو السبب في أن الموت قد فقد في نظر الكثيرين طابعه السرّي فاصبح مجرد واقعة حسابية نضع فيها اسماً و رقماً محل اسم و رقم آخر. لكن عندما تصبح الذات حقيقة حيّة لا مجرد ظاهرة موضوعية يرتبط الموت بالحب حتماً، ويسترد طابعه السرّي المقدّس. وهنا يصبح موت الحبيب هو "موت الوحيد" الذي لا يمكن لأيّة قوّة في الوجود أن تحيل حضوره إلى غياب مطلق. وبمجرد حضور "الأنت" يرتفع عن الموت طابع الغياب المطلق. وهنالك يبدو لي الميت الذي عرفته وأحببته وكأنه حاضر أمامي وجهاً لوجه. وحينما يتحدث جبريل مارسيل عن "الوفاء"، فإنّه يتحدث عن قوة إبداعية تتحدّى كلّ غياب، وكأنّ في الإمكان أن يكون ثمة تراسل بين الأحياء والأموات، أو كأنّ الراحل لا يمكن أن يستحيل إلى فكرة أو شيء، بل هو يظل شخصاً أو "أنت" (116).

ولا أعلم كيف كانت ستكون انعكاسات الغياب الأنثوي / غياب الحبيبة على نظرة الشاعر إلى الموت وطريقة معالجته، ولا كم سيكون طريّاً ومنفعلاً بطبيعة الأنوثة، لا فاعلاً بطبيعة الذكورة المهددة، أداء الشاعر لغة وصورة ورمزاَ حين يكون الغائب حبيبة معشوقة تلخّص كل الحياة. وعلى سبيل المثال، منذ الصفحة الأولى من هذا النصّ (ص 1619)، وحتى الصفحة التاسعة والثلاثين (ص 1658) سرنا مع الشاعر في محاورة طويلة رائعة ذات طبيعة فلسفية شعرية معرفية نقديّة مركبة كما حللنا ذلك، لكن "الحرقة" الذاتية كانت في إطار عقلي يحلل الخسارة، ولكن بمجرد استعانة الشاعر برمز أنثوي هو "الياسمينة" حتى بدأ وجيب القلب يتصاعد، والروح ترتجف:

(ألا يا سؤاليَ ظلّ جوابيْ
ولا تهجريْ قلقيْ يا
هموميْ.
هي
الياسمينةُ.
ليستْ بياضاً تطيّبَ كامرأةٍ مِنْ
رُخامِ السحابِ، وأُغلقَ من بعدُ بابَ العبيرِ على
رقصها، إنّها،
إنّها،
إنّها،
وإلى أن تشيخ الشموسُ،
ستبقى موشّحةً
بغموضٍ
وسرٍّ،
برغمِ الذي اصدرتهُ
من الشعرِ عنْ
دارِ
نشرِ
النسيمِ. – ص 1657 و1658).

أمّا الملاحظة الثالثة والأخيرة فهي هذا الإعتداد العالي والمعلن - الخلّاق – بـ "النقص" ؛ إعلان لا يصدر إلا عن أصحاب النفوس الكبيرة، والشخصيات القويّة:

(أنا الناقصُ الحرُّ في أننيْ
لنْ أصيرَ كمالاً،
فأغدوَ وحديْ،
وقدْ جلّلتني الكآبةُ، حيثُ يمرُّ الجميعُ ولا
ينظرونَ إليّ كأنيَ
بحرٌ
تساقطَ عن شجري ورقُ الملحِ،
وامتصّ منّي اليباسُ
اخضرارَ الغيومِ.
ألا أيّها النقصُ
كنْ كاملَ النقصِ فيَّ.
فأنتَ جميلٌ لأنكَ نهرٌ تعيشُ
لماءٍ سيأتيْ. فإن جاء بِتَّ وأجملُ ما فيكَ
نقصكَ حينَ توزّعُ ماءكَ بينَ الحقولِ، فتزدادُ
بينَ الحقولِ الزهورُ لتنقصّ حينَ يجيءُ الهواءُ
ويحملُ منها العبيرَ، فينقصُ وهو يوزّعهُ في الجهاتِ،
فيصبحُ هذا الهواءُ عبيراً أقلَّ
وأنقصَ.
هلْ يا نبيذُ بمعناكَ أجملُ
مِنْ أنكَ الآنَ
نقصُ الكرومِ ؟! – ص 1659 و1660).

إن هذا الإعلان تمتد جذوره إلى عمق تربة الموقف الأصل: الشعور بالموت كمشكلة والذي يعبّر عن قوّة شخصية جوزف حرب وصلابتها وغناها وجسارتها.. (لأن الشعور بالموت كمشكلة يقتضي الشعور بالشخصية والذاتية أولاً، لأنه بدون هذا الشعور لا يستطيع الإنسان إدراك الطابع الأصلي الجوهري للموت وهو أنه شخصي صرف، ولا سبيل إلى إدراكه إدراكاً حقيقياً إلا من حيث هو موتي أنا الخاص. ولا يبلغ الشعور بالشخصية والوُحدة درجة أقوى وأعلى مما هو في هذه اللحظة، لحظة الموت، لأنني أنا الذي أموت وحدي، ولا يمكن مطلقاً أن يحل غيري محلي في هذا الموت. ولهذا نجد أنه كلّما كان الشعور بالشخصية أقوى وأوضح، كان الإنسان أقدر على إدراك الموت: وبالتالي على أن يكون الموت عنده مشكلة. ولهذا أيضاً لا يمكن أن يكون الموت مشكلة بالنسبة إلى من يكون ضعيف الشعور بالشخصية... واللحظة التي يبدأ فيها الموت بأن يكون مشكلة بالنسبة إلى إنسان ما، هي اللحظة التي تؤذن بأن هذا الإنسان قد بلغ درجة قوية من الشعور بالشخصية، وبالتالي قد بدأ يتحضر. ولهذا نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائما ميلاد حضارة جديدة، وأن ما يصدق على روح الأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات. وقد فصّل ذلك "اشبنجلر"، ولهذا كان كل إضعاف للشخصية من شأنه تشويه حقيقة الموت. وهذا الإضعاف للشخصيّة أظهر ما يكون في حالتين: حالة لإفناء الشخصية في روح كلّية، وحالة لإفناء الشخصية في الناس ) (117).

أي أن إضعاف الشخصية يتمّ في ظلّ الدين، وفي ظلّ سياسة القطيع.. وكلاهما عرّاهما جوزف حرب بسلوكه الشعري وبموقفه الجسور من الموت.

محبرة الخليقة (65):

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى