السبت ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٦
علي الوردي: (56)
بقلم حسين سرمك حسن

رائد النزعة الشكّية في الثقافة العراقية

ومن السمات المنهجية والأسلوبية المهمة للوردي هو النزعة الشكّية أو التشكيكية. هذه النزعة هو الذي أدخلها في الخطاب المعرفي العراقي. قبله كان كل كاتب يتحدّث عن مسلّمات وحقائق نهائية واستنتاجات ختامية لا تهتز. وأعتقد أن سبب ذلك – وكما يرى الوردي - هو طغيان المنطق الصوري (الأرسطوطاليسي) القديم على طريقة التفكير في المجتمع، والتي من أول المناصرين والداعين إليها هم رجال الدين وقطاعات واسعة من المثقفين العائشين على فتاة موائد الطغاة كما يقول الوردي. وهذا المنطق قائم عادة على المسلمات وعلى الأفكار المطلقة. مع الوردي جاء المنهج " الشكّي " إذا جاز التعبير، والأسلوبية التي تقوم على الجدال المشكك وترحّب به، لأنه لا توجد في عرفها حقائق مطلقة وأحكام نهائية. هنا كل شيء نسبي معرّض للتناول النقدي وللمراجعة التي لا تكتفي بمراجعة المظاهر بل – وهذا هو الأهم – هزّ ركائز الأسس والمسلّمات الجوهرية.

يقول الوردي:

(وهناك في كتبي ناحية أخرى لم يرضَ عنها بعض القرّاء هي اتباع طريقة التشكيك، حيث كنت أكثر من استعمال (لعل) و (ربما) و(ما أشبه) عند إبداء رأي من الآراء. إن هذه الطريقة مارستها في حياتي الجامعية واعتدت عليها طويلا حتى صار من الصعب التخلّص منها. وهي في الحقيقة مما يفرضها المنهج العلمي على كل كاتب وباحث في العصر الحديث) (388).

ثم يشير إلى مشكلة الكتّاب العراقيين الأساسية في هذا المجال حيث اعتادوا على طريقة الجزم والتأكيد وإصدار الأحكام القاطعة التي لا يجوز الشك فيها لأنهم يؤمنون بالمنهج " العقلي " الذي يعتقد أن العقل البشري قادر على اكتشاف الحقيقة المطلقة بتفكيره المجرّد. ولذلك تجد التعبيرات القطعية هي الغالبة على أسلوب مثل هؤلاء الكتّاب مثل: مما لاشك فيه، مما لا يتنازع فيه إثنان، من المسلم به، من المعروف أن، مما لاريب فيه، لا مراء، لا جدال أن... وغيرها.

والوردي يؤمن أن نزعة التشكيك التي جاء بها السوفسطائيين كانت من أهم التهديدات للعقلية الأفلاطونية التي كانت سائدة في الحضارة اليونانية. يعد الوردي النزعة التشكيكية لدى السفسطة هي مصدر قوة ولكنها أخطأت عندما لم تطرح بديلا لشكوكها لأن الشك وحده لا يكفي للإصلاح، ولا بد للمصلح الذي يشك في صحة نظام قديم أن يأتي بنظام أصلح منه. وبرغم ذلك علينا أن لا ننسى المبدأ القائل: (أن الشك مبدأ اليقين). ولو درسنا تاريخ أي دعوة إصلاحية جديدة لوجدناها تنتشر بين الناس بعد أن يمر المجتمع بفترة من الشك والحيرة وهذه هي ما تُعرف أحيانا بفترة (الإرهاص). والناس لا يستطيعون أن يعتنقوا دينا جديدا إلا بعد أن يشكوا قبل ذلك بصحة دينهم الذي وجدوا آباءهم عليه. ويصل إلى نتيجة مهمة جدا تقول أن المشككين يظهرون عادة قبل ظهور أحد الأنبياء العظام، إذ هم يمهّدون بشكوكهم الطريق لدعوة هذا النبي. ويسند رأيه هذا بأمثلة منها دور جماعة (الحنفاء) الذين ظهروا في مكة قبل بعثة النبي محمد فأخذوا يثلبون عبادة الأوثان ويسخرون منها. ويرى بعض المستشرقين أن الإصلاح الديني في مكة بدأ على يد هؤلاء الحنفاء، وجاء محمد بعد ذلك فانتزعه منهم ونسبه إلى نفسه ثم بنى عليه دعوته الإسلامية الكبرى.

ولكن الوردي يخالف آراء هؤلاء المستشرقين ويعدها باطلة لأن الحنفاء كانوا دعاة شك أكثر منهم دعاة يقين. وهم في هذا يختلفون عن النبي محمد اختلافا كبيرا. ومحمد لم يكن بالشاك أو الحائر مثلهم. وتظهر حيرة الحنفاء في مواقف كثيرة منها أن أحدهم شوهد وهو مستند على جدار الكعبة بظهره ويقول:

(اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك به ولكني لا أعلمه).

ويبدو أن دور السوفسطائيين في المجتمع الأغريقي كان مماثلا لدور الحنفاء في المجتمع المكّي قبل البعثة المحمدية. ومن المهم الإشارة إلى أن لفظ (الحنيفية) مشتق من (حنف) أي مال. ومعنى الحنيفية في اللغة: الميل، وقد نُسب إبراهيم إلى الحنيفية لأنه (حنف إلى دين الله). وقيل (الحنيف في الجاهلية من كان يحج البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن، فلما جاء الإسلام كان الحنيف هو: (المسلم).

ويقول محمد عابد الجابري: (أن ما يميّز من وصفوا بـ (الحنفاء) قبل ظهور الإسلام، في الروايات العربية، هو الاعتزال للعبادة مع الميل إلى الزهد والتوحيد وانتقاد عبادة الأصنام، الأمر الذي كان يثير عليهم غضب قريش وسكان مكة خاصة، حيث كان العرب يحجّون إلى أصنامهم مع ما كان لذلك من رواج تجاري تستفيد منه قريش. ولهذا كانت قريش تضطهد هؤلاء الحنفاء فيضطرون إلى الإنتقال من مكان إلى آخر، ومن قبيلة إلى أخرى، يدعون إلى عقيدتهم. وتذكر المراجع الإسلامية أن من بين الحنفاء: قصي بن كلاب الجدّ الأعلى للنبي (ص)، وجدّه المباشر عبد المطلب، وقس بن ساعدة الأيادي، وأمية بن أبي الصلت، وسيف بن ذي يزن التميمي، وورقة بن نوفل القرشي، وزهير بن أبي سلمى، وعبيد بن أبرص الأسدي وغيرهم) (389).

إذن فإن سمة الشك والتشكيك بما هو قائم ومسلّم به جاءت عن طريق قناعة منهجية لدى الوردي ترى أن الشك هو طريق اليقين.

ويشير الوردي إلى أن من صفات الباحث الموضوعي هو أنه مشكك من الطراز الأول. ويذكر كتابا في النقد الأدبي لعبد المتعال الصعيدي عاب فيه على طه حسين كثرة استخدام عبارات التشكيك في كتاباته، ويعلّق على ذلك بالقول:
(لستُ أريد أن أدافع عن آراء طه حسين التي نقدها الصعيدي، ولكني أعتقد أن طه حسين حين يبدأ أقواله بكلمة " أكاد أعتقد " وغيرها إنما هو أقرب إلى الأسلوب العلمي الحديث من خصومه الذين يأتون بالرأي القاطع المطلق، ولا يحبّون أن يشككوا فيه" (399).

(وكما قال فرنسيس بيكون منذ أربعمائة عام ( في 1605) في أطروحة له بعنوان (تقدّم التعليم the advancement of learning- ) إذ قال:

( إن تسجيل الشكوك وعرضها له فائدتان إحداهما فائدة مباشرة: فهي تحرسنا (ضد الأخطاء)، والثانية تختص بدور الشكوك في بدء وتعزيز عملية البحث والتحقيق، التي يمكن أن تؤدي إلى إغناء فهمنا. لاحظ بيكون أن القضايا التي (كان يمكن أن تمر بنا ببساطة من دون تدخل).. تنتهي بأنها (تحظى بمراقبة دقيقة وحريصة) والسبب هو (تخلل الشكوك)" (400).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى