الأحد ١٥ أيار (مايو) ٢٠١٦
بقلم رابعة حمو

ملحمةُ المهزومين: محمّود درويش مُقابل هوميـروس

في ظل إحياءِ الذكرى الثامنة والستين لنكبة الفلسطينية عام 1948، صدر في باريس في العاشر من أيار 2016 الجزء الثاني من دراسة نقدية في اللغة الفرنسية للدكتورة رابعة حَمو بعنوان (ملحمة المهزومين : محمود درويش مقابل هوميروس) عن دار النشر ليه فوايليه دو مي. الكتاب من الحجم المتوسط ويحتوي على 190 صفحة. وكان قد صدر الجزء الأول للدكتورة حمّو في العام 2014 بعنوان (المشهد الأندلسي للشاعر محمود درويش). وتأتي هذه الدارسة في الوقت الذي يستعد فيه الشعب الفلسطيني ليحـي ذكرى النكبة التي أتت على كلّ أرض فلسطين وتشرد على إثرها أكثر من مليون لاجئ فلسطيني في عدة دول عربية وأجنبية. وانقسمت هذه الدراسة إلى فصلين رئيسين. الأول حمل عُنوان (الهوية كوسيلة للتعبير عن الهوية الوطنية). والثاني حمل عنوان (مميزات الهوية الفلسطينية عبر العصور).

وما يلفتُ النظر في هذا الكتاب هو الفكرة الجديدة التي طرحتها هذه الدراسة. حيث اعتمدت على مُواجهة ملحمية بين شاعر فلسطين محمّود درويش وهوميروس شاعر اليونان الأكبر. وجعلت من الشعر الملحمي الأرض التي يقف عليها كلا الشاعرين. درويش يكتب ملحمةَ شعبه الذي أُحتلت أرضه وطُرد منها عام 48. وهوميروس يكتب ملحمة الإلياذة التي انتصر فيها الإغريق على الطرواديين. شاعر فلسطين يُعلي من صوت المهزومين الخافت وهوميروس يكتب صوت المنتصرين وصخبهم.
وقد حاولت الدكتورة حمو توضيحَ سبب اختيار محمّود درويش لفن الملحمة كتعبير عن الهوية الوطنية وخاصة في فترة دواوينه الصادرة منذ عام 1986 حتى عام 1991: (هي أغنية هي أغنيه، ورد أقل، أرى ما أريد وأحد عشر كوكباً ). حيث اعتبرت هذه الدراسة أنّ هذه الدواوين تحملُ نفساً ملحمياً سعى محمّود درويش إلى تحقيقه. حيث ينفتح الشعر على أفق التاريخ. يكون الأول رافداً للثاني والثاني داعماً للأول. ذلك لإنّ هذه السنوات حملت تغيرات كبيرة عاصفة في الوطن العربي. فقد خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت وتوزعت منظمة التحرير الفلسطينية في البلاد العربية، ثم شهدت بداية حرب العراق 1990 وبداية مؤتمر السلام بين الدول العربية وإسرائيل عام 1991. وتعتبر هذه الأحداث هي الخلفية التراجيدية للملحمة التي أراد أن يكتبها محمّود درويش في ملحمته الشعرية. وهكذا أصبحت الملحمة وسيلة للتعبير عن التغيرات الكبيرة عند الفلسطينيين في الماضي والحاضر والمستقبل. لأنه من خلالها سيطرح أسئلة سياسية معاصرة تغوص في التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل.

وقد حددت الدكتورة رابعة حمّو ثلاثة أسباب استدعت الشاعر محمود درويش لاتخاذ هذا المنحى الفني من الشعر. أولها وهو افتتان شاعر فلسطين بقدر المهزومين. فقد أراد من خلال قصائده أن يشهد على الهزيمة وخصوصاً في فترة الطوفان العظيم عام 1948 اليوم الذي اختفت فلسطين وامتصتها الدولة الجديدة اسرائيل. فباستخدام الشعر والصور الشعرية يستطيع أن يكتب ملحمة وطنية للشعب الفلسطيني تنقش مأساة وطنه في أرشيف التاريخ وتترك بصمة شعرية تكون بجمال وأناقة الالياذة والأوديسة.

ثانيها وهو إرادة محمود درويش أن يجمعَ المنتصرين والمنهزمين على أرض قصائده حتى لا يُسجل في تاريخ الجمعي لفلسطين وذاكرتها فقط صوت المنتصرين وتتبخر أصوات المهزومين ودموعهم في الهواء. ولذلك فإنه حاول ان يعيد التوازن في أرض قصيدته بعد أن تعذر في أرض الواقع عن جمع الأخوة الأعداء وهو بذلك يحمي قوة الضعيف ضد قوة القوي.
ثالثها وهو أن محمود درويش قد سُمـِيَ من قبل كثير من النقاد خلال حياته بشاعر فلسطين لكن كانت لديه رغبه كبيرة بأن يكون ابن من ابناء مدينة الملك بريام ملك طروادة ولذلك كان يًحب أن يُسمى شاعر طروادي وليس شاعر طروادة كما قال له صديقه الشاعر اليوناني ريستوس في بيت الشعر اليوناني : انت يا درويش ابن بريام، انت شاعر طروادي. وهذه الرغبة سكنت محمود درويش لمواجهة أبو الشعر هوميروس بكتابه الوجه الآخر للالياذه ملحمة تجسد مأساة ألفلسطينيين لأنه اعتقد دوما أن عدم وجود شعر عند أي شعب هو سبب كافي لهزيمته.

كما تطرقت الدكتورة حمو في دراستها إلى الخصائص التي استدعتها لاعتبار الدواوين الأربعة السابقة دواوين شعرية ملحمية. حيث عزت ذلك إلى أن فن الملحمة له خصائص تميزه عن باقي فنون الأدب الأخرى وأولها التاريخ. فقد عاد درويش في هذه الدواوين الى أحداث التاريخ في الماضي للبحث عن مفتاح للحاضر والتنبؤ بالمستقبل. الميـزة الثانية هي الحرب وهي تعتبر المصدر الأساسي للشعر الملحمي حيث قامت أغلب الملاحم على مواجهات حربية أو عن التحدث عن أبطال حربين. وقد اتبع درويش هذا الأسلوب لفن الملحمة بكل ديكوراته وقسم أرض الحرب الى قسمين. الأول معسكر الأقوياء والثاني معسكر الضعفاء. ولذلك تنوعت المعارك وأسلحتها وأبطالها في كل العصور كما لو أننا في المتحف الحربي، فمن خوذات من البرونز قادمة من العصر البرونزي الى الخيول في العصور الوسطى مرورا بالبنادق والدبابات وحاملات الطائرات في عصرنا الحالي. أما الميزة الثالثة فهي النبوءة والتاريخ في المستقبل. حيث تطرقت الدراسة إلى صورة النبي الشاعر ويظهر محمود درويش كنبي لوطنه حامل هويته ومتحدثاً باسمه في انتصاراته كما في هزائمه. وقد اعتبر نفسه النبي يوسف وما يثير قصة النبي يوسف من قضية الرؤية والتنبؤ في المستقبل وكشفه. حيث لعبت قضية الرؤية دوراً مهماً في ديواني (أرى ما أريد وأحد عشر كوكبا). وتثير هذه الرؤية هي التبصر نحو المستقبل. وقد رأى درويش مستقبلاً مظلماً أمام شعبه يُشبه إلى حدٍ بعيد سلوك الأمم الغاربة في التاريخ كالعرب المسلمين في أسبانيا الذي سقطت حضارتهم وأصبحت في طي النسيان، والهنود الحمر في الأمريكيتين الذين أختفوا من أرضهم ومن بقي منهم يعش في محميات طبيعية. وقد وظف درويش كل هذه المآسي كخلفية شعرية لفلسطين بعد مؤتمر السلام عام 1991، وما ستؤول إليه فلسطين بعد أوسلو ومدريد عام 1991، وكيف سيؤدي بهم هذا السلام الى النهاية وانتهاء وجودهم على أرضهم وعيشهم في مخيمات أو محميات طبيعية تحيط بها المستوطنات من كل مكان ويفصل أبناء الارض الواحدة بجدار فصل عنصري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى