الثلاثاء ٢٤ أيار (مايو) ٢٠١٦
علي الوردي: «58»
بقلم حسين سرمك حسن

السمة التحرشيّة كسمة أسلوبيّة

هناك سمة أسلوبية أخرى ترتبط بالروح الساخرة التي يتميّز بها الوردي أولا، وبـ «تمرير» الحفزات التحرّشية المسمومة. ثانيا: وهذه السمة اكتسبها الوردي من تأثراته بالإسلوب «الخلدوني». قال الوردي:

( لعلني لا أغالي إذا قلت أن آراء ابن خلدون كانت أشد انحرافا عن شرعة الأخلاق والأديان من آراء زميله الايطالي [ يقصد مكيافيلي ] ولكن الناس لم ينتبهوا إليها. فقد امتاز ابن خلدون بإسلوبه الدبلوماسي الذي يغطّي الآراء المنحرفة بغطاء برّاق. فهو يكثر من ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يدعم بها براهينه، ويكثر كذلك من ذكر العبارات الدينية ينهي بها أقواله من قبيل " الله أعلم " و " هو الهادي للصواب " و " عليه التوفيق " وما أشبه، وظنّ الناس أنه كغيره من الفقهاء والمؤرخين سائر على سنة الله ورسوله، ولو أنهم أدركوا مقاصده الحقيقية بوضوح لربما شنّوا عليه حملة شعواء لم يعهد مكيافيلي لها مثيلا" (407).

لقد انتقلت هذه العدوى التحرّشية الأسلوبية من ابن خلدون إلى الوردي، فقدّم لنا طريقة باهرة في الكتابة لم يعرفها الكتاب العراقيون والعرب من قبل في ثباتها وديمومتها وفي إصراره عليها عمرا فكريا كاملا يعكس " قصديتها " العالية، وتصميم الوردي المسبق على ترسيخها في الخطاب الثقافي العراقي. في كل صفحة من صفحات مؤلفات الوردي، يجب أن تكون هناك جملة، عبارة، أو فقرة تنتهي باستغفار ديني أو استشهاد بنص قرآني أو بحديث شريف، أو حوقلة مدروسة، أو تعوّذ مخاتل، وإليك هذه النماذج:

# ( اتفق لي في عام 1951أن أخرجت كتابا صغيرا بعنوان: " شخصية الفرد العراقي " قلت فيه أن الشعب العراقي ذو شخصية مزدوجة. ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أني لقيت بعد قيام الثورة بيوم واحد شابا متحمسا كان في الماضي من أصحابي المقرّبين، ولكني وجدته في ذلك اليوم عابسا لا يحب أن يكلمني. وقد تحقق لي أنه صار يكرهني بعد قيام الثورة مباشرة. لاحظت ذلك فيه حين أخذ يوبّخني ويسأل: " كيف يجوز أن يكون هذا الشعب العظيم مزدوج الشخصية يا ترى ؟ ". فلم أجد له جوابا إلّا أن أعتذر إليه قائلا: " إني قد أذنبت في حق هذا الشعب العظيم، وأستغفر الله وأتوب إليه" (408).

# ( أنظر على سبيل المثال إلى النبي العبقري (محمد بن عبد الله ). لقد كان هذا العبقري نادرا حكيما واقعيا بعيد النظر حين يضع الخطط أو يدير المعارك أو يسوس الناس. فإذا توجه نحو ربّه نسي نفسه وانغمر في إيمان عجيب تحسبه جنونا وما هو بجنون. يُروى عنه انه كان قبيل معركة بدر الكبرى يستشير أصحابه وأهل الخبرة منهم فيعبّيء جنده ويعد سلاحه كأي قائد بارع من قوّاد هذه الدنيا. حتى إذا دنت ساعة النضال رفع يديه نحو السماء فذهل عن نفسه وأخذ يدعو ربّه دعاءا ملتهبا يكاد يفجر الصخر الأصم. فهو في مرحلة الاستعداد غيره في مرحلة الهجوم، وهو بذلك قد جمع بين جنبيه النقيضين. أما أتباع محمد فهم، كما قال المعري:

أما عقلاء لا دين لهم أو متدينون لا عقل لهم..
ولا حول ولا قوّة إلّا بالله...) (409).

# (حدث منذ سنوات أن تنافس إثنان من أبناء الشيوخ على حبّ راقصة، فأخذ كل منهما يقدم لها هدايا ثمينة بغية التفوق بها على غريمه، وكانت الراقصة شيطانة تعرف كيف تؤكل الكتف والرقبة معا. فجعلت كلا منهما يغار من الآخر ويحاول مغالبته في السخاء والمجد السمين. وكانت العاقبة أن أفلس الولدان واستغنت الراقصة. ولا يحسبن القاريء أن إفلاس الولدين كان نهائيا. إنهما يملكان من أقنان الأرض ما يستطيعان به خلق ثروة جديدة. فإذا كان في البلد راقصات تسلب المال، ففيه كذلك فلاحون يخلقون المال من جديد، والله فوق أرزق الرازقين" (410).

# ( إنه يخشى على السلطان أن تسقط حشمته وتخرق هيبته. وما دام الأمر قد صار منوطا بحفظ الهيبة والحشمة، فإن احترام السلطان قد أصبح واجبا على كل مؤمن ومؤمنة بغض النظر عمّا يقوم به من مظالم وفضائح. ولا بأس إذ ذاك أن ينحني المؤمنون لأميرهم تبجيلا ويرتّلون في مديحه القصائد الطوال. فكل ذلك يؤدي إلى زيادة هيبة السلطان عزّ نصره. إن وعاظ السلاطين كادوا يجمعون على أن النهي عن المنكر واجب عند القدرة عليه. أما إذا أدى إلى الضرر بالمال أو البدن أو السمعة وغيرها فهو محظور منهيّ عنه. يقولون هذا في عين الوقت الذي يقولون فيه بوجوب الجهاد في سبيل الله. فهم لا يبالون أن يتضرّر المسلم في ماله وبدنه ما دام يحارب بجانب السلطان ضد أعداء الدين وأعدائه. هذا ولكن الضرر الذي يجنيه المسلم من محاربة السلطان الظالم يعتبر في نظرهم تهلكة ينهى الله عنها، ومعنى هذا أن الدين أصبح عندهم بمثابة طاعة السلطان في سلمه وحربه، ولا يهمهم بعد ذلك أن يكون السلطان ظالما أو عادلا. فهذا في نظرهم أمر بسيط لا أهمية له.. والله يحب المحسنين" (411).

ومن الضروري القول إن ماقام به الوردي ليس ابتكارا بل إعادة إكتشاف يخدم استراتيجيته التي تبغي تقويض هيبة السلطة النصية المرجعية الجاثمة على صدر الجسد الثقافي في العراق، إذ أن الأصل يعود إلى سمة أسلوبية إسلامية شاعت في المدونات الكتابية للكثير من الفقهاء وعلماء الكلام والفلاسفة المسلمين. خذ مثلا ما يقوله ابن حزم الأندلسي:
((... فينبغي على هذا أن لا نحكم لشيئين أصلا بحكم واحد لأجل اختلافهما في صفة ما. وكل هذا خطأ وحيرة، ومؤد إلى التناقض والضلال. ونعوذ بالله من كل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله )).

وخذ واحدا من أقوال الغزالي الكثيرة في هذا المجال:

(( هيهات هيهات، قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء، فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان )).

وهناك الكثير من الشواهد، ولكن الفارق في استخدام الوردي لهذه " اللازمات " الأسلوبية يتمثل في أنه يوظّفها للتهكم أو السخرية أو للتحرّش بالنص المرجعي الأصلي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى