الخميس ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٦
علي الوردي: (63) الدعوة للثورة
بقلم حسين سرمك حسن

هل مهّدت أفكاره لثورة 14 تموز؟

((كذلك يمكن العثور في هذه المرحلة الأخيرة على امتداد لتحديث الفكر الإسلامي، فقد كتب مفكر عراقي هو علي الوردي، عدة مؤلفات أعاد فيها كتابة تاريخ الإسلام من زاوية النضال الثوري لتحقيق العدالة، متوخيا تفسير الإسلام في ضوء ما كان يبدو أشد الأحداث وقعا في زمانه. تماما كما فسرته مدرسة محمد عبدة في ضوء أفكار زمانها ومنجزاتها ))
(ألبرت حوراني )

# هل مهّدت أفكار الوردي لثورة 14 تموز 1958؟ ولماذا صمت بعد الثورة لسنوات ؟

لو راجعنا - بدقّة - الثورة الفكرية التي قام بها الوردي، وأمعنّا النظر في مقالاته ومؤلفاته التي كتبها خلال عقد الخمسينات بدءا من محاضرته الشهيرة الصادمة: (شخصية الفرد العراقي – بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث ) والتي ألقاها في نيسان من عام 1951في قاعة كلية الملكة عالية، سنجد أن أفكار الوردي كانت هي المعول الفكري الذي مهّد الطريق لثورة الرابع عشر من تموز عام 1958. ولأن الحركة الثقافية العراقية ومنذ أزمان بعيدة - منذ أن دشن النبي ابراهيم الهجرة الأولى في تاريخ البشرية – تسير على أساس الشعار الخطير و (الفطير ): (مغنية الحي لا تطرب ).. وبعد أن يئس الوردي ونفض يديه من تراب أمل أن يعترف له أحد بدوره الحاسم – أو حتى الجزئي – في خلق الأجواء الثقافية – وبالتالي النفسية – للثورة على الواقع الجائر، اضطر هو نفسه لأن يتحدث عن دوره الخطير هذا في كتابه (الأحلام بين العلم والعقيدة ) الذي أصدره سنة 1959- أي بعد ثورة الرابع عشر من تموز التي أسهم في صنعها ولم يهنأ بدوره فيها كما سنرى حيث صمت بعدها لأكثر من ثماني سنوات - ويذكّر من نسوا - أو تناسوا - دوره الخلاق والمقاوم والمحفز ذاك. يقول الوردي في القسم الأخير من كتابه هذا، والذي جاء تحت عنوان (كلمة وداع ) - وسنفهم لماذا جاءت مفردة (الوداع ) هذه مباشرة -:

((لابدّ لي من كلمة وداع أودع بها القاريء في خاتمة كتابي هذا الذي هو فيما أعتقد آخر كتاب أخرجه إلى الناس. ويخيّل لي أن الكثيرين من القراء سوف لا يأسفون لهذا الوداع، ولعل البعض منهم سيفرح به – وتأمّل أيها القاريء كيف تضيّع عليك الروح الساخرة للوردي فرصة الإمساك بحزنه العميق ومرارة إحباطه الدفين، الكاتب – أصدرتُ في العهد البائد خمسة كتب وهذا هو كتابي السادس والأخير. وقد اختلفت آراء القراء في كتبي السابقة، فمنهم من اعتبرها تمهيدا للثورة وتحبيذا لها، ومنهم من جعلها على النقيض من ذلك إذ هي في نظره ليست سوى أداة لتشويش الأذهان ونشر الأفكار المدسوسة. وليس لي ما أقوله إزاء هؤلاء وأولئك شيئا، بل أترك أمري وأمرهم إلى التاريخ ليحكم فيهما بما يشاء. وعلى أي حال فلست أدعي بأني كنت في العهد البائد من الكتاب المكافحين المناضلين. فتلك صفة يجمل بي أن لا أنسبها لنفسي، فقد ظهر في العهد البائد كتّاب كانوا أشدّ مني مراسا وأوضح هدفا، وهم إذن أحق مني بتلك الصفة المحمودة )).

# الوردي يعترف بدوره في التمهيد للثورة فكريّاً:

ثم يحاول الوردي انتزاع فرصته – ومداراة جروح نرجسيته التي أشعلها الإهمال والتناسي – فيعود إلى الإشارة إلى ذاته بعد أن تأكد لديه بشكل قاطع – ومنذ زمن طويل – أن لا أمل في أن يظفر باعتراف بتضحياته الجبارة في سبيل معتقداته المعرفية والوطنية – الاجتماعية التي سخّرها لخدمة شعبه، فيقول:

((لا أنكر أني كنت أحمل شيئا من النزعة الشعبية أو اليسارية، وقد ظهرت هذه النزعة في بعض كتبي السابقة بشيء من الوضوح واتهمتني الحكومة بها أحيانا، وإني إذ أعترف اليوم بهذه النزعة لا أريد أن افتخر بها أو أتبجّح، ولعل وراء النزعة الشعبية في نفسي دافعا ذاتيا يحفزني نحوها، هو أني كالملايين من أبناء الشعب عانيت من مذلة الفقر وألم الحرمان ما عانيت، ولهذا فإني لا أستطيع أن أرى كيف أن فئة صغيرة تستكثر على الناس وتحتكر الفضل لها من دونهم )).
ثم يستثمر هذه المداهنة الإغوائية المحكمة التي ترخي قبضة الرقابة الضميرية التحكيمية المتسيّدة، فيمرّر تحت أغطيتها السم ممزوجا بالعسل.. ولم يكن أحد الكتاب مخطئا حين وصف الوردي بأنه يدس السم في العسل. يقول الوردي:

((إن العالم الحديث كله متجه نحو هذه النزعة على اختلاف مذاهبه وأهوائه. إنها في الواقع هدف التاريخ، وقد تختلف الأمم الآن في تفاصيل هذا الهدف أو في طريقة الوصول إليه، إنما هي لا تستطيع أن تختلف في أن الشعب وأن الفقير أولى بالعناية من الغني )).
لكن هل صحيحا أن الوردي – كما وُصِف – كان يدسّ السم في العسل حيث كان السم كما يقول الوردي يعني يومذاك كل ما لا يرضى عنه الحكام من آراء ؟.
إن الملاحظة الغريبة التي ستستوقفنا هنا هو أن الوردي لا يكتفي بالاعتراف بهذا الانتقاد – التهمة، وإقراره، بل يعلن أنه كان يراوغ ويداور !!. يقول:

((أعترف أني كنت لا أتوانى عن دسّ (السُمّ ) في جميع ما كنت أكتب أو أحاضر فيه. ولكنني أعترف بأني كنت أدسّ (السُمّ ) دسّا خفيا يكاد لا يبين له طعم أو ينتج الأثر المنشود منه. لقد كنت بعبارة أخرى أتبع سبيل المراوغة والمداراة في مختلف كتاباتي ومحاضراتي – أي أني كنت أتبع طريقة (كليلة ودمنة ) الذي ألّفه (بيدبا ) في قدبم الزمان. وقد جابهني البعض بالنقد الشديد على هذه الطريقة (البيدبائية ) فكانوا يقولون عني أني أدور حول الفكرة دون أن أدخل في صميمها، وأخرج منها أحيانا بغير النتيجة المقصودة منها. وهذا كلّه صحيح أعترف به ولا أريد أن أبريء نفسي منه !! )).
ويبرّر الوردي موقف المداراة والمراوغة المزعوم بالقبضة الباطشة الخانقة لسلطة العهد البائد:
((لقد كنت في العهد البائد مخيّرا بين أمرين: أما أن أفصح عن الرأي بصراحة تامة فأذهب إلى السجن، أو أراوغ فيه وأداري فأتخلص من السجن ومن مغبة قطع الأرزاق. وبعد تأمل وتمحيص وجدت الأمر الثاني أجدى وأصلح لي وللقرّاء )).

# الدعوة للإطاحة بـ "الجلاوزة" الحكّام حتى في الكتب العلميّة:

لقد وَضعتُ علامات تعجب أمام تبريرات الوردي هذه ووصفتُها بالمزعومة لأنها تسير خلاف مسار وقائع الأمور. ففي جانب الدعوة إلى الثورة في العهد الملكي البائد كما يُسمّى، كان لدى الوردي سلوك عجيب يثير الدهشة والاحترام في الوقت نفسه. ففي كل كتب الوردي.. وأغلبها لا علاقة لها بالسياسة بصورة مباشرة نجده يتحول بصورة غريبة إلى الهجوم المباشر على "الجلاوزة" كما يسميهم وكما شاعت هذه التسمية في الشارع العراقي، ودعوة الشعب إلى الثورة عليهم. خذ مثلا محاضرته الشهيرة (شخصية الفرد العراقي ) والتي دشن بها نشاطه الثقافي الضاري في العراق.. لقد أضاف الوردي في ختام المحاضرة عند طباعتها (ذيل) -على الصفحة 66 - لم يكن موجودا فيها أصلا. في هذا (الذيل) بدء أول تقرّب هجومي على السلطة وذلك من خلال الهجوم على طبقة الأفندية العراقية (المتحذلقة المغرورة ) كما وصفها. كانت هذه الطبقة موجودة في العهد العثماني ولكنها كانت قليلة العدد ومتعالية على الشعب. لكنها بعد تشكيل الدولة العراقي اتسعت كثيرا من الناحية العددية وحصل فيها تغيّر خطير أشار إليه الوردي بلا تردّد وحذّر منه وكان له تأثير مدمّر على مستقبل البلاد السياسي حيث قال أن طبقة الأفندية (أصبحت تستوعب أفرادا من أبناء العامة لم يكونوا يحلمون أنهم في يوم من الأيام سيصبحون من الطبقة الحاكمة ).

ولكن ما هو التأثير النفسي والاجتماعي لهذه الظاهرة ؟.

يقول الوردي:

((إن هذا الصعود المفاجيء من بعض أبناء العامة إلى مراتب الحكام والضبّاط نفخ فيهم شعورا زائفا بالعظمة أو العبقرية أو القدرة على المعجزات. فهذا مثلا ابن حمّال أو بقال قد يصير بين عشية وضحاها ضابطا في الجيش يأخذ الجنود له التحية في الشوارع، أو يأمر وينهي في أناس كان يعتبرهم قبلا من العظماء وإذا به أصبح من العظماء )).
إن هذه النقلة المفاجئة تزرع في نفس من تحصل له ثقة مفرطة قد تصل حدودا مرضِيّة خطيرة تختلف عن الثقة التي تأتي عن طريق الصعود المتدرّج لسلم المسؤولية في الحياة:

((إن النجاح المفاجيء يؤدي عادة إلى الشعور بالمقدرة الخارقة وإلى البطر. ولهذا نجد أغنياء الحرب لا يُحتملون، وأصحاب الشهادات في مجتمع جاهل لا حدّ لتحذلقهم وغرورهم. النجاح المتدرّج الذي تكتنف طريقه المصاعب هو الذي ينتج في الغالب العباقرة والعظماء الحقيقيين )).

إن هذا الداء العضال الذي ابتُلِيت به الدولة العراقية منذ نشأتها حيث لجأت إلى تعيين موظفين لا يستحقون أن يكونوا كتاب عرائض في بلاد أخرى كما يقول الوردي، هو الذي قاد البلاد إلى مسار خراب لم ينته حتى يومنا هذا. لقد أدخل هذا الداء العراق في مهلكة الانقلابات العسكرية المتكرّرة أولا، وتزييف الديمقراطية من خلال زيف من يقودونها لأنهم ناقصوا التربية الديمقراطية ثانيا، وهشاشة المجتمع المدني العراقي لان أي فرد ينتهز القوة قادر على الإطاحة بمكتسباته ثالثا، وشيوع الخطاب الهذائي (البارانوي ) بين ساسته رابعا، وسهولة أن يتسلق السوقة والشقاة المغلّفون وشذّاذ الآفاق سلم العمل السياسي حين تتوفر لديهم ثروة لغوية وأغطية آيديولوجية مناسبة خامسا. وهذا ما عانى منه العراق منذ إنشاء الدولة العراقية. وبلغت هذه الظاهرة ذروتها خلال عقد التسعينات في الظاهرة التي سميت بظاهرة (ترييف الدولة ) والتي كان لها أبلغ الأضرار المدمرة على بنية الدولة والمجتمع على حدّ سواء. لقد (تنبّأ ) بها الوردي من خلال استقراء علمي وتحليل موضوعي. يقول في تلك السنة المبكرة وفي أول نشاط ثقافي مقاوم حقيقي في حياته:

((وقد مرّ على البلاد زمان لا يكاد يتخرج فيه الشاب من الدراسة المتوسطة أو الثانوية حتى يجد مجاله في دوائر الحكومة رحيبا. فهو قد تعلّم شيئا من ألفباء العلوم ثم رأى نفسه قد أصبح مسموع الكلمة. وبذا فهو لم ير مانعا يمنعه من الدعاوى العريضة ووضع الخطط لتشييد إمبراطورية أو إعادة مجد الأجداد. وكثيرا ما نجده يلجأ إلى اللغة الفصحى يتنطع بها عن آماله الإمبراطورية. وجدنا هذا واضحا في بعض ضباط الجيش العراقي الباسل قبل الحرب العالمية الثانية )).

# التحذير من سيطرة طبقة الضبّاط:

ولكن ظاهرة ضباط الجيش المتنطعين قد نضجت بأذاها الكامل بعد ثورة 1958. ومن ناحية أخرى فإن روحية القائد العشائري – شيخ الخيمة الذي يأمر وينهي خارج أي ضوابط قانونية أو دستورية هي التي تلبّست كيان المسؤول العراقي بمختلف أشكاله ومستوياته بغض النظر عن مستواه العلمي أو ولائه الحزبي أو قناعاته الآيديولوجية. يقول الوردي مستنتجا في حين إنه يدق الناقوس محذّرا:
((ولهذا السبب أصبح كثير من موظفينا يعيشون في الأبراج العاجية،فهم لا يهمهم أن يعاني الشعب من أدواء الجوع والمرض والجهل ما يعاني، لأنهم مشغولون بتزيين شارع الرشيد حتى لا يتقزّز منه السوّاح، وفي وضع الخطط لفتح العالم)).
وهكذا، ومنذ عام 1951، أمسك الوردي بالعصب التناشزي السيكولوجي والاجتماعي لبنية شخصية المسؤول العراقي والتي دامت متمظهرة في الأداء السياسي والوظيفي لهذا المسؤول صغيرا أو كبيرا وخلال عقود طويلة غطّت النصف الثاني من القرن العشرين بكامله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى