السبت ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١٦
العامل السياسي وتحقيق الذات
بقلم تيسير الناشف

والحرية الفكرية والإبداع

إن من الوهم الاعتقاد بتحقيق الكمال من قِبل البشر. لا يمكن للبشر أن يبلغوا أو أن يحققوا الكمال لأن حالتهم النفسية وظروفهم الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية البالغة التعقد تحول دون بلوغهم لحالة الكمال. ويمكن للبشر أن يكونوا أقل نقصا وأن يكونوا على قدر أكبر من الفضيلة والعقلانية ولكن تلك الحالة والظروف تحول دون تحقيق ذلك الإمكان.
ومما له صلة بوهم إمكانية تحقيق الكمال هو مسألة تفسير الظواهر الاجتماعية. لا تفسر الظواهر الاجتماعية تفسيرا أكثر شمولا إلا باعتبارها ناشئة عن عدة عوامل وليس عن عامل واحد. تفسير ظاهرة من الطواهر بعامل واحد يدل على النقص في التفسير. ولتحقيق التفسير الأكثر شمولا تجب مراعاة تعددية العوامل في نشوء الظاهرة الاجتماعية.

وكثير من المؤسسات التي يوجدها البشر فاسدة ومُفسِدة. ومؤسسات الحكم على نحو خاص فاسدة ومفسدة لأسباب من أهمها أن لديها قدرا أكبر من القدرة على الإخضاع والقسر والإكراه وفرض الإرادة. وما الاعتقاد بغير ذلك سوى ضرب من الوهم أو الجهل. وتشكل نظم الحكم عقبات كبرى تعترض طريق تحقيق الإنسان لنفسه وللسعادة. إنها عوامل أكثر تأثيرا في اغتصاب الضمير الفردي واغتصاب الحكم الذاتي وفي إبعاد الإنسان عن حالته الطبيعية والنيل من نفسه ومن تماسكه النفسي وفي إفساد الإنسان واإلحاق الضرر به. ومن الواضح أن هذه القيود تؤخر تحسين ظروف الحياة البشرية.

وتؤدي كثير من المؤسسات التي أوجدها البشر ويوجدونها وظائف سلبية ووظائف إيجابية، وتنتج عنها نتائج سلبية ونتائج إيجابية. إن كثيرا من هذه المؤسسات تحدّ من قدرة الإنسان على تحقيق السعادة دون قيود وتكبح قدرته على تطوير العقل. وهذه المؤسسات تقيد الحرية الفكرية والنشاط الفكري ونزعة الإنسان إلى الانطلاق الفكري والانعتاق العقلي والنفسي والتحليق الإبداعي. وتتسبب مؤسسات اجتماعية كثيرة في نشوء التحيز والتحامل والتعصب وضيق الأفق وتعيق الفردية والاستقلال والتقدم.

وفي سياق المجتمع البشري لا بد من تناول العقل الذي هو ملكة الإدراك. إن الانطباعات العقلية مصدر الفكر والمعرفة. وبالتالي فإن للانطباعات العقلية أثرا في المواقف التي يتخذها الإنسان وفي السلوك الذي يسلكه وفي الثقافة التي يثقف بها. وبناء على ذلك، فإن طريقة التعلم ومضامين الدراسة والمحيط الاجتماعي والنفسي والجغرافي ذات أثر كبير في تشكيل وتحديد الانطباعات العقلية وبالتالي في تحديد التفكير والشخصية والمواقف والسلوك.

ولدعم وتعزيز حرية الإعراب عن الفكر والمعتقد يجب الإتيان بالفكر الصحيح ويجب إصلاح العلاقات بين البشر. وليس من اليسير الإتيان بالفكر الصحيح لأن بعض العمليات الفكرية نابعة من العمليات الدماغية التي بطبيعتها تتداخل فيها عناصر موضوعية وذاتية. وأيضا ليس من اليسير إصلاح العلاقات بين البشر لأن هذه العلاقات تؤدي دورا مهما في بقاء البنية الاجتماعية.

وكل علاقة اجتماعية تنطوي على علاقة سياسية، أي العلاقة المتمثلة في استعمال وسائل لحشد التأثير في الآخر من أجل تحقيق هدف معين. وتختلف المؤسسات البشرية بعضها عن بعض في عدد من الوجوه. ومن أهم هذه الوجوه قوة الطبيعة السياسية لوظيفة المؤسسة وقوة الطبيعة السياسية لعلاقاتها بالمؤسسات الأخرى. والطبيعة السياسية للعلاقات بين المؤسسات معناها أنه في هذه العلاقات للعامل السياسي أثر. والطبيعة السياسية للوظيفة معناها أن أداء الوظيفة ينطوي على استعمال وسائل قانونية ونفسية واقتصادية واستعمال الوسائل التي تستمد قوتها من القيم والعادات والتقاليد والتراث لتحقيق التأثير من أجل تحقيق أداء الوظيفة. وذلك الطرح يبين أنه يجب استعمال مصطلح "السياسة" ومشتقات هذه الكلمة كأداة لفهم طبيعة المؤسسات البشرية وطبيعة العلاقات بينها.

ومن المؤسسات البشرية الكثيرة المؤسسات الحكومية التي من وظائفها ممارسة الحكم في المجتمع. وبالتالي فإن تلك العلاقات تنطوي على قدر أكبر من الضغط والقمع، نظرا إلى أن أداء وظيفة الحُكم يتطلب، في حالات كثيرة، طاعة المحكومين وامتثالهم لتوجيهات وأوامر الحكام، خصوصا في النظم غير الديمقراطية. وبما أن لدى الحاكم قدرة كبرى على استعمال تلك الوسائل فإن علاقته بالمؤسسات والأشخاص لها طابع سياسي قوي.

وبسبب الطبيعة السياسية للعلاقات الاجتماعية التي تنبثق عن المؤسسات البشرية فإن تلك العلاقات تشجع نشوء عقلية الطاعة والامتثال ومراعاة متضمنات تلك العلاقات على حساب فردية الإنسان وتشجع السلوك الذي ينال من استقلال الإنسان وذاته.
وثمة وسائل لإحداث التغيير السياسي: مثلا إنهاء الطغيان والاستبداد والظلم والقمع والقهر والاستعباد. يمكن تحقيق هذا التغيير عن طريق تطبيق نظام الشورى أو النظام الديمقراطي أو الكفّ عن الطغيان والاستبداد والظلم والقهر والاستعباد، أو تحسين الظروف الاقتصادية والنفسية والاجتماعية للبشر وتضييق الفجوات الكبيرة بينهم على مختلف الصعد. بيد أن البنية السياسية قوية لدرجة أن من الصعوبة تحقيق التغيير المنشود. وأحيانا من الصعوبة البالغة أن تستجيب بنية العلاقات السياسية إلى الحاجة إلى التغيير، وتكون أحيانا تلك البنية مفتقرة إلى الحساسية إزاء الحاجة إلى التغيير.

وتوجد في كل مجتمع قوانين وأعراف وتقاليد قوية. وتختلف هذه كلها بعضها عن بعض في مدى تنظيمها لحياة الفرد وتوجيهها لها وفي مدى التدخل فيها وفي مدى تضييق حيز الحرية السلوكية والفكرية للفرد. وكلما امتد هذا المدى مسافة أبعد قلت مبادرة الفرد وتأثرت ملكته الفكرية والإبداعية وتضاءلت سمته الإنسانية.

والانتقاص من الحرية يتضمن انصراف الإنسان أو عجزه عن ممارسة ملكة الفهم لديه.عجز أو انصراف الإنسان عن السلوك حسب ملكة الفهم هو الانتقاص من الحرية. في إطار الصالح العام للشعب أو الجماعة فإن المبدأ المشروع الوحيد الذي يحدد اتخاذ الموقف أو القيام بالسلوك يجب أن يكون اعتقاد المرء أو اقتناعه القائم على أساس فهمه.
ولا توجد بالضرورة علاقة متبادلة إيجابية بين التعزيز الأخلاقي والتقدم الفكري أو العلمي. التقدم الفكري لا يؤدي بالضرورة إلى التعزيز الأخلاقي أو رفع مستوى الأخلاق. قد يؤدي التقدم الفكري إلى التحسين الخُلقي وقد يؤدي إلى العكس من ذلك، إلى التردي الخلقي.

والعدل، الذي هو إعمال الواجب الأخلاقي وهو يسعى إلى إفادة الجميع، معني بالصالح العام. السعي إلى تحقيق الصالح العام هو العدل. وهو يعطي الأولوية للصالح العام على حساب الصالح الخاص. ومن هنا فالعدل هو إعطاء الأولوية لصالح الشعب على صالح الفرد أو الحمولة، وإعطاء الأولوية لصالح الإنسانية على صالح الشعب.
وللأفراد حقوق وتتوقف هذه الحقوق عندما يقتضي الصالح العام ذلك التوقف. وللهيئات الحكومية وغير الحكومية حقوق وهي تتوقف عندما تقتضي اعتبارات الصالح العام ذلك. توقف مدى الحقوق على الصالح العام هو إقامة العدالة.
وتشكل القيود الاجتماعية والقانونية والاقتصادية والتقاليدية والثقافية عقبة على طريق الممارسة الحقيقية للملكة العقلية. وقد يتقيد الناس بقيود العقود أو الارتباطات أو الالتزامات لأنها تحقق لهم مصالح أو لأنهم يظنون خطأ أنها تحقق لهم مصالح أو لأنهم يفعلون ذلك بحكم العادة والتقاليد والأعراف، أو وفقا لقيم اجتماعية أخرى سائدة.

ومن أنواع العقود الحكومية العقد الديمقراطي الذي يخول أفرادا بممارسة السلطة الحكومية. هذا العقد من أشد العقود تأثيرا. ويجب أن يكون الغرض من إبرام هذا العقد تحقيق مصلحة أفراد الشعب كلهم. ويجب أن تقتصر سلطاته على الحد الأدنى الضروري. وبالنظر إلى أن أثر ممارسة السلطة الحكومية يطال كل أفراد الشعب فيجب أن تكون لهم المشاركة في اختيار وانتخاب هؤلاء الحكام. ومن معايير الامتثال لسلطة الحكومة أن ذلك الامتثال أشد فائدة لأفراد الشعب من الفائدة من عدم الامتثال لها، أو أن رفض السلطة الحكومية أشد ضررا بهم من الضرر الذي يلحقهم نتيجة عن الامتثال لها.

وللمؤسسات أثر في إيجاد الأنظمة، وإذا كانت هذه الأنظمة موجودة فإنها – أي المؤسسات – قد تديمها وتعززها وقد تضعفها وتزيلها، وذلك رهن بتمشي تلك الأنظمة مع المؤسسات. والمؤسسات بطبيعتها محافظة. إنها قد تناوئ التغيير وتتحداه، ولا تبدي حساسية كافية إزاء الحاجة إلى التغيير. ولذلك فإن المؤسسات تجعل تحقيق التقدم العقلي بوجوهه المختلفة متعبا وشاقا. والتقدم العقلي يحقق أحيانا كثيرة بإلغاء الأنظمة والقوانين التي تفتقر إلى الحساسية حيال حاجات المجتمع والشعب والأفراد. والانتماء إلى الأحزاب والفئات المنظمة ذات البرامج السياسية هو من قبيل العقد الذي يقيد العقل والحرية الفكرية.
وتقوم علاقة بين الإكراه وامتلاك الممتلكات. امتلاك الممتلكات يوجد التقسيمات الطبقية. وينبع الغش والعجرفة والاستعباد والعبودية والأنانية والقمع والذل والخضوع والهوان من مؤسسات امتلاك الممتلكات ومن إدارة هذه الممتلكات.
ومما له صلة بموضوع الطبقية والمساواة بين البشر التربية. التربية عامل هام جدا في إيجاد أو إزالة المساواة بين البشر. يمكن أن تكون التربية سليمة وأن تكون فاسدة. خلال قرون كثيرة استعملت التربية ولا تزال تستعمل أداة قوية تجعل المرء يكيف نفسه وأفكاره وإعماله لأفكار الآخرين وسياساتهم، وعلى وجه الخصوص لأفكار وسياسات أصحاب النفوذ وللذين يمسكون بتوجيه دفة الأمور في المجتمع والدولة. ويمكن للتربية أن تحرم الإنسان من فرديته وأن تضعف لديه النزعة إلى الإبداع. وعن طريق التربية يقوم المربي بتشكيل شخصية الذي تجري تربيته. يبين ذلك مدى الأثر الكبير الذي يمارسه الكبار في الصغار. ويوضح ذلك أيضا أهمية أن تكون التربية سليمة. ومن الأفضل أن يُعلَّم الطلاب أن يحترموا الحقيقة عن طريق اكتشافهم للحقيقة وليس عن طريق فرض مفاهيم للحقيقة عليهم. ولا يحق للذين يقومون بالتربية أن يعزوا إلى أنفسهم اكتشافهم للحقيقة أو معرفتهم إياها.

وفي الحقيقة أن من الصعب تحقيق التربية السليمة. ومن الطرق الأقرب إلى الصواب لتحقيق تلك التربية أن يقرأ الناس، وعلى وجه الخصوص الأطفال والطلاب، المذكرات والسير الذاتية لأفضل النماذج، من قبيل الأشخاص الصالحين والأتقياء والنزهاء والمتفانين لخدمة الإنسان والإنسانية والمنافحين عن حقوق الإنسان والمدافعين عن الضعفاء والمستلهمين للمضامين الروحية والواعين بالانتماء البشري وبوحدة هذا الانتماء، وأن يتعلموا عن طريق الاقتداء بالقدوة الحسنة. ومرد أهمية قراءة المذكرات والسير الذاتية هو أن أصحاب هذه السير أكثر صراحة ونزاهة وتجردا في عرض أفكارهم ومشاعرهم ومواقفهم والأعمال التي قاموا بها وأشد جرأة على البوح بالحقيقة.

وحتى تنمو ملكة التفكير وتتعزز لدى الناس من اللازم أن يقرأوا على نحو نقدي وأن يجري القارئ دوما حوارا بينه وبين المادة المقروءة. والطالب أو الباحث الأفضل هو من يعتمد في دراسته على السير والمصادر الأولى من قبيل السير الذاتية والمذكرات والرسائل المتبادلة.

ومن أصول التدريس الصحيحة الهامة التي لها قيمتها الكبيرة في التربية الصحيحة أن يؤكد على قيمة ملكة التفكير المستقل وأن يكون التعليم خاليا من التخويف أو يؤكد على الاكتشاف وليس على التلقين، وعلى حرية الإفصاح عن الرأي شفويا وكتابة وأن يراعي التعليم قدرة كل إنسان على التعلم وألا يوضع الطالب في ظروف المنافسة القاسية التي تضعف أعصابه وتدب الوهن في عزيمته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى