الأحد ١٠ تموز (يوليو) ٢٠١٦
بقلم مهند النابلسي

رسالة عبر المجرات

نصوص قصصية في الخيال العلمي:

"السفينة المهجورة"

بعد أن خدمت السفينة الفضائية لسنوات طوال وخاضت تجارب رائدة واجتازت مخاطر جسيمة، قام مركز المراقبة الأرضي بإبلاغ رائد الفضاء الأخير على المركبة الكولونيل سعيد بأنه سيتم التخلي عن المركبة بعد أن استنفذت مهامها وقام قائدها بإجراء آخر تجربة فضائية. ثم طلب منه أن يحاول النزول بها بسلام على الأرض وأن لا يتركها تصطدم تائهة بعمران أرضي وتتسبب في دمار كبير بعد أن تتحطم بدل أن تدخل متحف الفضاء الكوني كأول مركبة فضائية قضت عقدين من الزمان وهي تعمل كمحطة للتجارب الفضائية الرائدة.

انزعج الكولونيل سعيد كثيراً وكأنه مقبل على فقدان كائن عزير، وقد أُبلغ أن هذه هي مهمته الأخيرة التي سيتقاعد بعدها، والتي ستتوج بطولاته الفضائية وتمنحه فرصة الحصول على ميدالية البطولة الفضائية التي تمنح للرواد المميزين.. "وفي أسوأ الظروف سأقوم بتوجيهها نحو أرض قاحلة.. صحراء ربما. ثم أقوم بالقفز منها بسلام.." حادث نفسه.

وأكثر ما أزعجه حصوله في الشهر الأخير على معلومات هامة جداً، وانقطاع اتصاله مع المحطة الأرضية بواسطة "انترنت الفضاء": فالنجم الذي عاد للتوازن كالبركان والذي تم رصده لأول مرة منذ مئة وخمسين عاماً، عاد للمعان مجدداً وكأنه يتوهج مبشراً بألعاب فضائية نارية مثيرة. ورصد منظاره الفضائي سحابة فضائية من الغاز والغبار تدور كالدوامة ملتفة حول كتلة صغيرة، وهي تنبئ بأنها ستبرد وتتكثف لتتحول يوماً ما إلى كوكب جديد. وفي مختبره الفضائي لاحظ نمو سريع لبكتيريا غريبة في التربة "المريخية" التي أحضرها أحد الرواد من كوكب المريخ، مما يعزز الاعتقاد بوجود نوع من الحياة على الكوكب الآخر. وتنهد بحسرة وهو يفكر أن معلومات كهذه لن تصل ربما للأرض، ومنها ما توصل إليه مؤخراً بواسطة تقنية جديدة مستحدثة تعتمد على "القانون الذهبي" والتي يمكن بواسطتها قياس المسافات الكونية بدقة كبيرة، مما قد يحدث انقلاب معرفي في مفهومنا التقليدي حول العمر المفترض للكون ودرجة تجدده.

لقد قرر أخيراً أن يهبط من المركبة قبل اصطدامها المريع بالأرض وتخلى عن يأسه ورغبته الخفية بالانتحار، فقد كان يشعر أن مصيره مرتبط بمصير مركبته المنبوذة!

وبذل محاولة يائسة لتسجيل المعلومات القيمة على قرص مدمج بعد أن فشل سابقاً لمرات عدة، واستعان بقوة التركيز النفسي حيث قام بالإيحاء مغمضاً عينيه، وتمتم بعبارات هامة: "هيا.. يا رب.. ساعدني.. يجب أن أنجح في تسجيل هذه المعلومات.. هيا.. سجلي.. سجلي.. هيا" ولم يصدق نفسه عندما رأى لمعان زر التسجيل يعمل مجدداً بعد أن يأس من إصلاحه.. وعاد لتفاؤله وثقته بنفسه وإيمانه.. وشعر أن الله معه في مهمته الكونية.

أخيراً سالت من عينيه دمعتان حارتان قبل أن يكبس على زر الهبوط وينطلق مقذوفاً من مركبته.. ونظر بحسرة ومرارة وهو يبتعد عن مركبته العتيقة التي خدمت العلم الفضائي لسنوات طوال، وبدا وكأنه يترحم عليها! ولكنه عاد لتفاؤله عندما تذكر أنه يملك في جيب بزته الفضائية قرصاً مدمجاً يحتوي على معلومات قيمة جداً، فالحياة يجب أن تستمر!.. وأشرقت فكرة منيرة في تلافيف دماغه وجاءت نفسه قائلاً: "لن أتقاعد.. سأعود للعمل مجدداً. سأقوم بإلقاء المحاضرات حول تجاربي الفضائية".

كبسولة القرن العشرين!

طلبت معلمة الانجليزي من طلابها تحديد عشرة بنود صغيرة لوضعها في كبسولة مغلقة، حتى إذا ما مر الزمان وجاء أحفادنا واكتشفوها، استطاعوا من خلالها تحديد طبيعة الحياة في العقد الأخير من القرن العشرين. وفكر تلميذ نابه واختار أن يضع ما يلي داخل كبسولة الزمان:

 صورة فوتوغرافية ملونة لمحطة الفضاء الروسية مير وهي تمخر عباب الفضاء.

 صورة فوتوغرافية صغيرة لطائرة الستيلت الأمريكية وهي تلقي بقنابلها الموجهة بالليزر نحو يوغوسلافيا أو العراق أو افغانستان لا فرق.

 رقاقة كمبيوتر صغيرة.

 تلفون خلوي متطور.

 كاميرا رقمية صغيرة.

 كاسيت لفلم كرتون جديد من إنتاج والت ديزني.

 صورة ملون معبرة لصفحة الانترنت لمحطة التلفزة الشهيرة سي إن إن.

 وحدة النقد الاوروبية الجديدة "اليورو".

 عينة صغيرة من الاسمنت الفائق القوة.

 صورة فوتوغرافية معبرة لمأساة لاجئ كوسوفو في الجزء الأعلى، ومنظر لمجزرة اسرائيلية تقتلع شجر زيتون في قرية فلسطينية في الجزء الأسفل من الصورة وذلك أمام رأي أصحاب الأرض المحتجين!

وبالفعل فقد دفنت الكبسولة في بئر مهجور، ومر عليها قرن من الزمان، وعثر عليها تلميذ نبيه آخر، ففتحها بدهشة وفضول واطلع على محتوياتها، وكتب موضوع إنشاء مدرسي واصفاً محتوياتها على الشكل التالي:

لقد كان هناك تعاون عالمي منظور في مجال استكشاف الفضاء الخارجي، وبقيت هناك قوة عالمية أحادية مهيمنة على مقدرات العالم ترسم خرائط الدول وتعاقب من تشاء بالقنابل والدمار، ولهذه القوة الكونية مصالح متناقضة فهي مرة تعاقب دولة ما لطغيان قادتها ونزعتهم الإجرامية في التطهير العرقي ومرة أخرى تدعم دولة ظالمة اسمها "اسرائيل" وتساعدها على الاستيطان وقتل الفلسطينيين (أصحاب الأرض) وهدم البيوت وقلع الأشجار. واستنتج التلميذ النبيه أن عالم العقد الأخير من القرن العشرين كان عالماً غير متوازناً تحكمه المعايير المزدوجة وشريعة الغاب بالرغم من التطور الحضاري المذهل نسبياً. وعزا التطورات المذهلة لتقدم تقنيات الحاسوب وظهور الانترنت وانتشار وسائل الاتصال، حيث أصبح انتقال المعلومات بسرعة سمة العصر.. واستنتج ذاك التلميذ المجهول الذي سيأتي بعد مئة عام بأن هناك ثقافة أحادية التوجه تسيطر على العالم وتصهر الأفكار والعقائد في بوتقة واحدة، وأن حيز الثقافة البصرية – السمعية يحتل نفس الحيز الذي كانت تحتله ثقافة الكتاب المطبوع.. هكذا كتب في موضوعه الإنشائي: لقد كادت إمكانات طفل في العاشرة أن تفوق قدرات شيخ في الستين من ناحية القدرة على تطوير مهارات التعامل مع الحاسوب والانترنت.. واستمر في استنتاجاته الذكية فلاحظ أن وحدة اليورو تشير لتشكل اقتصاديات إقليمية ضخمة جديدة تسعى لمواجهة المنافسة الدولية وربما الأمريكية، وهذا مؤشر على دخول عصر العولمة والتكتلات الاقتصادية الضخمة.. ثم انبهر لمرأى عينة الاسمنت ففهم أن الاسمنت بقي محافظاً على أهميته القصوى كمادة بناء أرضية قادرة على اجتياز تحديات الزمان. سره جداً اكتشافه للكبسولة ولم يخبر أحداً، فقرر أن يبقى موضوعه الإنشائي طي الكتمان، ونام وهو ملئ بالدهشة والحماس وحلم بالمكافأة التي سيجنيها بعد أن يقدم الكبسولة لقائد مركبة الفضاء عندما ينطلق مع والديه في رحلة المريخ الموعود بها في إجازته الصيفية القادمة!

هجوم الحشرات

عندما أطل اليوم الحادي عشر من آب 1999، لم يسقط نيزك ناري على مدينة النور باريس، والتقط العالم أنفاسه، فهذا اليوم تحديداً هو اليوم الذي يبدأ فيه تعرض العالم للكوارث حسب توقعات المنجم نوسترداموس الذي عاش في القرن السادس عشر، وسبق وتنبأ بحروب وكوارث حدثت كلها في المواعيد التي تنبأ بها!

الذي حدث كان خارج التوقعات تماماً، فقد فوجئ سكان مدينة نيويورك بحشرة عنكبوتية هائلة بحجم الديناصور تتجول صباحاً في شوارع المدينة المكتظة بالسيارات والمارة، وتثير الهلع والدمار في نفوس السكان المذعورين.. وتم استنفار قيادة الجيش، وأرسلت مدافع تحمل قنابل نووية تكتيكية صغيرة للفضاء على الحشرة الماردة، التي أصابها الذعر وأصبحت تركض بقفزات هائلة في شوارع المدينة المنكوبة، وحيث قادتها وحدات آلية لمنطقة نائية خارج المدينة ونجحت مروحية ضخمة في إصابتها بقذيفة نووية حولتها لأشلاء ممزقة..

وقامت فرق الدفاع المدني بإنقاذ الجرحى وإخلاء جثث الموتى.. وتحدثت وكالات الأنباء المتلفزة عن أخبار مماثلة تفيد بتعرض مدن كبرى مثل ريودي جانيرو، موسكو، لندن القاهرة وكلكتا لكوارث مشابهة ناتجة عن هجوم حشرات عنكبوتية ضخمة كاسرة تعيث دماراً وقتلاً، وأفادت قيادات الجيش في هذه الدول بعدم جدوى استخدام الأسلحة النارية العادية بل إنها تستفز عدوانية هذه الحشرات الذئبية وتزيد من شراستها!!

وطلبت معونة "نووية" عاجلة لاستخدامها في الفضاء على العناكب الكاسرة!..

وأفاد عالم الحشرات الشهير البرفسور رامز بأن هذه الحشرات مخلوقة من خلايا معدنية تشبه السبائك المعدنية المقواة لذا يصعب مواجهتها بالأسلحة النارية التقليدية، والذرة هي السلاح الوحيد القادر على تخليق حرارة فائقة تؤدي لصهر مكونات الحشرات وتدميرها.. ولاحظ العالم الشهير وجود أجهزة إرسال متطورة مركبة على قرون الاستشعار مما يعني أن هذه الحشرات الهائلة ما هي إلا طلائع كشافة وظيفتها الاستطلاع والتخريب والتجسس، وهي مقدمة لهجوم حشري كاسح يهدف احتلال الأرض وإبادة الجنس البشري!

واكتشف علماء النازا سر الهجوم الحشري، حيث تم رصد نيزك يقترب مسرعاً من الأرض، وهو يقترب بسرعة هائلة، ورصد المنظار "هابل" تشكيلات حشرية، ولوحظ أن مراكب فضائية خاصة تقوم بقذف الحشرات العنكبوتية على المدن الكبرى كطلائع لهجوم قريب كاسح، وأكد المارشال هنري وجود نية تدميرية عندما قال:

ليس هذا هجوماً تخريبياً مجرداً، بل تنفيذاً لخطة مدروسة، فالهجوم لا يقتصر إلا على المدن والعواصم الكبرى، والعناكب الذئبية تبدو بالرغم من وحشيتها الهائلة وكأنها تعرف ما تريد! أجل إنها تعي تماماً هدفها.. إن هجومها ليس عملاً انتحارياً بطولياً!! وإنما عملاً مخططاً ذو مقاصد عدة.. وضحك الحاضرون في المؤتمر الصحفي وعلق أحدهم: لقد قضت البشرية على مفهوم البطولة كلياً في دخولها القرن الحادي والعشرين وتعميقها لمفاهيم "العولمة".. وبقي أن تستخدم هذا التعبير الفذ في وصف "الحشرات الغازية"!!

هكذا استنفر العالم كافة قدراته وإمكاناته وسخر طاقات شعوبه وتم تجنيد أعداد غفيرة من الجيوش بعد أن تم تدريبها على استخدام الأسلحة التكتيكية، وركزت الدول الكبرى جهودها لصنع مركبات فضائية لإرسال الجيوش الأرضية العالمية لمواجهة النيزك الحشري قبل وصول الحشرات للأرض..

واستمتع عالمنا الأرضي بسلام دولي مؤقت نادر، حيث ذابت مشاعر الكراهية والتمييز العرقي، وصوب الجميع وجوههم للسماء، وارتفعت الأكف بالدعاء.. وتمنى الجميع التوفيق لجنود الأرض في معركتهم المصيرية القادمة، والتي حددت بعد شهرين من انطلاق المركبات الفضائية.. وكثرت الصلوات في المساجد والكنائس والمعابد البوذية والهندوسية حتى الوثنيون أقاموا طقوس خاصة قاموا خلالها بحرق عدد هائل من العناكب الأرضية الصغيرة، وكان القتل يتم بطريقة شعائر به بطيئة مصحوباً بترانيم سحرية.. ووصف كبير الكهنة ما حدث قائلاً "لقد نجحنا.. لقد حدث وميض هائل في النيزك الحشري!!".

وعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، حيث تم تجميد كافة الصراعات والخلافات، وتم الاتفاق على العودة إلى الله، وأفاد رئيس دولة عظمى: لو نجونا هذه المرة فسيكون هذا بفعل قدرة إلهية، فهناك رغبة كونية في استمرار الحضارة البشرية.. وإذا ما نجحنا في اجتياز هذه التجربة القاسية فأول ما يجب أن نقوم به كبشر متحدين هو أن نصلي لله شاكرين.

الروبوت العاطفي

قضى أسامة ساعاة طوال وهو يبرمج الروبوت الجديد الذي صنعه، ولم تكن مشاعر الغضب والحزن والفرح والارتياح والألم هي الأصعب في عمليات البرمجة، وإنما كان الجزء الخاص بربط هذه الانفعالات بحركات متطابقة: مثل أن يترافق الغضب مع حركة معبرة لليدين تعني الدفاع والصد أو المعاناة. ونجح بعد محاولات عدة في ربط حركات الحاجبين والعينين والفم مع حركات اليدين. كما أنه نجح في تطوير حركة جديدة تعد اختراقاً في مجال برمجة الحاسوب، وتتلخص هذه الحركة في تطوير حركات مماثلة للقدمين، فعندما يثور الروبوت بالفرح والارتياح يتحرك مقبلاً ببطء، وبالعكس فعندما يشعر بالغضب أو الألم يتحرك للأمام بشكل عدواني أو يتراجع بشكل دفاعي أو بطريقة تدل على الألم والإحباط!

هكذا أرهق أسامة نفسه تماماً في العمل البحثي الذي يمارسه في مختبره بسرية بعد الظهر، وهو وإن كان يطمح في الحصول على جائزة رفيعة في مجال تطوير لغة تفاهم مع الروبوت وجعله قادراً على التعبير إنسانياً عن مشاعره فهو يمارس هذا العمل كهواية. ويحلم باليوم الذي يقف فيه محاضراً في مؤتمر "الروبوتات" المقرر عقده في استراليا في بداية الشتاء المقبل.

شيء واحد قرر أن لا يدخله في "مشاعر" روبوته، شيء لا يؤمن هو شخصياً به ألا وهو الشعور بالحب ونقيضه الشعور بالكره.. لقد عاش حياته وهو يقنع نفسه بأن هذه المشاعر "مضيعة للوقت" ويجب على العالم الموضوعي أن يتخلى عنها، وهي وإن كانت ضرورية لتركيبه النسيج الاجتماعي ولديمومة الحياة، إلا أنها ليست ضرورية للعالم المتوحد مع ذاته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى