الخميس ٢١ تموز (يوليو) ٢٠١٦

قراءة في رواية معيوف

نزهة الرملاوي

إلى المتمسكين بعرى الحق، الذين يكتوون بجمر الجهل والخيانة والتضليل، وهم يحملون الشعلة لتضيء لغيرهم طريق الحرية والكرامة.

بكلمات الإهداء الجميلة، بدأت رواية "معيوف" للأديب المقدسيّ عبدالله دعيس، تقع الرّواية الصّادرة عن دار الجنديّ للنّشر والتّوزيع في القدس في 388 صفحة من الحجم المتوسّط، ويحمل غلافها لوحة للفنّانة التّشكيليّة جيهان أبو رميلة.
ظن الراوي (معيوف) أن العالم ينتهي عند أطراف قريته بيت حنينا، وهي إحدى قرى القدس، وقد ركز الكاتب بإبراز جمال قريته، حين وصفها ووصف محيطها بلغة أدبية راقية، أخرجته من عالمه الصغير، ليبدأ رحلة التفكير والتساؤل، عما يختبئ خلف الوادي المجهول، ووراء الجبال المحيطة بها.

لقد تجسدت مفردات الخوف والجهل والإشاعة والخرافة، في صفحات الرواية الأولى، حيث أبدع الكاتب في اختيار زاوية يدخل منها الى الزمن الذي ساد به الجهل والتخلف، ورافق حياته الصغيرة، عن طريق الحكايا و( الخراريف ) التي حكتها له أمه فتأثر بها، وراح ينسجها في خياله، بلغة تعبيرية شيقة، وهنا يحاول الكاتب إيصال رسالة الى القارئ مفادها، أننا كنا نصنع الحزن والخوف والجهل بأنفسنا، فضاع الأمان والفرح من حياتنا، وبالحكايا التي كانت شائعة في القرى والمدن الفلسطينية في أوائل القرن الماضي، صور جسده الصغير بين ضخامة المارد والغولة والوحوش الضارية، إلا أنه اكتشف في كبره، أن العالم مملوء بالوحوش الآدمية، ولم تكذب عليه أمه، ولعل شخصية (أبو حمار) الذي كان يتودد إلى القرية بحجة بيع أهلها والشراء منهم لصالح المنظمات الصهيونية، واكتشاف ذلك من قبل معيوف أثناء تجوله في البلدة القديمة، جعله أحد تلك الوحوش.

سيطرت مشاعر الحزن في الرواية على فقد الأم، فقد كانت ملاذ الراوي ( البطل) في أوقات خوفه، وإن كانت من اصطنعت الخوف لحمايته، سواء عن طريق حرمانه من الاغتسال لسنين طويلة، أو تجريده من ملابسه العفنة، أو حتى من اسمه الحقيقي (رضوان)، ظانة أنها ستبقيه على قيد الحياة، فاغتال الموت الحق أنفاسها وهو صغير، صعد الجبل ليلحق بها في السماء كما قالوا له، فقد كانت قمته قريبة منها، وعندما وصل القمة هربت السماء منه.

تطرق الكاتب إلى ظاهرة الإغتراب في قرية بيت حنينا، وخاصة إلى أمريكا للعمل فيها، وتحدث عن ظروف القهر التي تحياها النساء هناك مع أبنائهن في ظل أبوة مفقودة، أبوة في عداد الموتى، والموتى المغتربون لا يعودون، وهذا حاله مع زوجته (خضرة ) وأبنائه.

امتازت تعدد الأماكن والسفريات في الرواية، فقد سافر معيوف إلى مصر وتعرف إلى "أولغا" وبيروت وباريس، حتى وصل أمريكا للعمل.

سيطرت العاطفة الدينية على الرواية، وحملت في جعبتها الكثير من العادات والتقاليد التي تميز بها المجتمع القروي في بلادنا، والكتاتيب وشيوخ العلم في المساجد، وقد أجاد الكاتب وصف العرس، والمآتم، ومجالس العلية، وما يتداوله كبار القوم والشيوخ في تعليلة المساء، وقد رافقت النزعة الدينية، مواقف عدة في الرواية، أهمها تلاوة القرآن والأدعية للمرضى، وعدم الأخذ بالمسببات، وتولية عمه الشيخ أمين دورا كبيرا في أحداث الرواية، لأنه مزار أهل القرية، وعنده شفاؤهم، إضافة إلى انخراطه بالجماعات الإسلامية مما أدى إلى اعتقاله.

تطرق الكاتب إلى وصف القدس ودخوله إليها لأول مرة، فقد أحسن الكاتب وصف الأمكنة والشخوص المتحركة في الرواية، كوصفه لابنة عمه خضرة وسميرة، وقسوة أبيه على أخيه، ووصف الحزن والدموع في عيون أمه إثر موت أولادها لأسباب مختلفة.

تجلت المشاكل والسلوكيات المجتمعية في الرواية، حيث حاول الكاتب بأسلوبه، وضع الكثير منها تحت مجهر القارئ، ليتسنى فهمها ومعالجتها، فالكاتب ابن بيئته، وهو أعلم الناس بما يدور حوله، سلبا وإيجابا، فقد لوحظت البساطة والاحترام في المجتمع سابقا، مقابل القسوة والوحشية في الوقت الحاضر.

والتخلف والجهل في الماضي، مقابل التعلم والتطور في عصرنا الحاضر، فقد رأى ناطحات السحاب في أمريكا، والقوة الإقتصادية التي تتمتع بها، مما جعلها محطة للمغتربين الفلسطينيين في قريته، إثر إغرائهم من قبل أحد أبناء القرية الذي أصبح من الأثرياء، وقد حثهم على العمل هناك.

امتازت الرواية بالإثارة والتشويق، وانتقاء المفردات الجميلة ذات البلاغة بسلاسة، إضافة الى تسلسل زمني واضح.
أما شخوص الرواية كشخصية البطل معيوف شخصية مسالمة، لا أعتقد أنه كان غامضا، بقدر وضوح شخصيته التي تتمتع بالطيبة، فقد وصف نفسه بالإنطوائية المنعزلة، وبالرغم من الصفات التي ألصقت به، إلا أنه يتحين الفرص لإلقاء الأسئلة الكثيرة،التي تتمخض عن حب الاستطلاع والقراءة التي جعلت من بيته مكانا مكدسا للصحف المقروءة.
ولا أدري لماذا ادعى الإنطوائية، وقد أكمل تعليمه وأصبح معلما، وانخرط في العمل السياسي مما أدة إلى اعتقاله، وعاش أياما من الحب والزواج، وسافر إلى مدن كثيرة.

لوحظ الترتيب الزمني لأحداث ومحطات مهمة في حياة القرية، وأحداث مهمة تعرضت لها فلسطين كالاستعمار البريطاني، ووعد بلفور، والحكم الأردني الذي لم يكن مرتاحا له، لكنه بدى منافقا أمام الملك وهو يسلم عليه، لمعيوف آراؤه السياسية تجاه العرب ودورهم في الدفاع عن فلسطين، والاحتلال الاسرائيلي وأثره على تقطيع البلاد وتهجير أهلها.

الرواية ذات أبعاد إجتماعية وسياسية ودينية، بنيت على أساس متين من الحبك والسرد، وتعددت الأساليب في عرضها، فقد استخدم الكاتب المنولوج ( الحوار الداخلي )، من خلال سرد الأحداث، وإثارة الأسئلة، كذلك أسلوب الحوار بين شخصيات الرواية، فقد عبرت الرواية عن سيرة ذاتية للبطل والقرية.

أكثر الراوي من استخدام أساليب الاستفهام والأسئلة الإستنكارية، التي تقحم القارئ بكل سهولة في أحداث الرواية، ولوحظ التطور في شخصية معيوف، متطرقا إلى الأسباب التي جعلت منه شخصية لافتة، تنظر إلى نفسها باستهتار وأنانية، وتحكم على نفسها بالجنون والهروب من المشكلات التي تواجهها.

زخرت الرواية بعواطف عدة، كعاطفة الحزن والاغتراب النفسي التي سيطرت بقوة على صفحات الرواية، افتقاد الوطن وموت سميره وطفله، ودخوله السجن ظلما وتعسفا على يد أبناء جلدته، وكذلك ظهرت عاطفة حب جياشة، حيث أحسن الكاتب اخيار المفردات لاخراج تلك العواطف المتدفقة حينما افتقد أمه، وحين التقائه بسميرة التي أحبها بعد سنين من الفراق، وحينما رجع إلى القرية كمعلم هناك، متقمصا شخصية مدني، أراد أن يندفع إلى صبي ذكي، يضمه إلى صدره، ويخبره أنه أباه الميت المغترب الذي عاد، ليشهد حسرة اليتم في أبنائه، وقسوة الرملة في زوجته خضرة، ولكن سرعان ما نلاحظ هبوطا في درجات الغليان العاطفي عنده، عندما التقى بأولاده ولم يضمهم، أو يكشف عن شخصيته كأب لهم، كانوا وأهل القرية يحتسبونه عند الله شهيدا، وعندما احتضن الملك وأخذ صورة تذكارية معه، ولم يفصح له عما يريد، فشعر بعدم الالتزام بمبادئه واهتزاز شخصيته.

أثار الكاتب مشاكل واجهته في أمريكا مثل العنصرية والتحايل على الآخر في البيع والشراء، ورؤية أجناس مختلفة من البشر، وطريقة إخراجه من أمريكا واتهامه بالشيوعية، واعترافه بالذنب لأنه لم يدافع عن استاذه د.بيل وتجاربه بالبحث العلمي.

تطرق الكاتب بأسلوبه السردي الممتع إلى الاحتلال الإسرائيلي للقدس والضفة، وحرق المسجد الأقصى، ونظرته نحو الأمة الاسلامية التي لم تحرك ساكنا لما يحدث في القدس.

عرج الكاتب نحو محطات تاريخية تعرضت لها فلسطين عامة والقدس خاصة، بعد نكبة 1967، كالانتفاضة ومؤتمرات السلام، والاعتقالات، ولازم في سرديته للأحداث التتابع الزمني والتاريخ للأحداث، وواجه بكلماته الجريئة استياءه من عروض السلام غير المجدية، والتي زادتنا ذلا ومهانة، والساسة الذين تبنوها، وصنعوا لانفسهم كيانا في أرضنا ثمنه كرامتنا ودماؤنا.

يتساءل معيوف عن العدالة، وأنه يعاقب على خذلانه لبعض شخصيات القصة، لكن من يستحقون القصاص العادل لم تنلهم يد العدالة بعد، فمن خان الوطن يقلد المناصب العليا، وتضرب له التحية، وشر البلية أن الخائن الحقيقي أخذ يدافع عن أراضي المغتربين في بيت حنينا ويدافع عن هجمات المستوطنين.

يكرر الكاتب في كل أزمة ومشكلة يمر بها معيوف، ابتعاده عن الناس، ومعاقبته لنفسه، وذلك بحرمانها الإغتسال أو التنظيف أو تغيير ملابسه، فيطفوا عليه الدرن والأوساخ، مما يجعل الناس تعافه وتهرب من رائحته النتنه.
عقد الكاتب في نهاية الرواية مقارنة جميلة بين الحق والباطل من خلال شخصياته، وأثار الأسئلة كعادته، لتدخلنا كقراء إلى رحلة حب وطهارة وأمل، على أدراج مدينتنا، وفي رحاب أقصانا تتجدد في نهاية الطريق، نرى فيه أن الله ينتظرنا كمذنبين، يتقبل توبتنا فيغفر لنا ما اقترفته أيدينا، نبدأ بالصلاة والدعاء، فتنتشر على قبابها وقراميدها، وتقف تحت سمائها مؤمنة بعدالة الله.

نزهة الرملاوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى