الثلاثاء ٢ آب (أغسطس) ٢٠١٦
بقلم محمد زكريا توفيق

الإلياذة: صعود نجم أخيل

لكي يصير من الخالدين، حسب الأساطير الإغريقية، كان يجب أن يغطس أخيل في الماء المقدس وهو طفل. أمسكته أمه من كعب أحد قدميه وغطسته في مياه نهر سيتكس. فصار كعبه هو المكان الوحيد في جسمه الذي لم يغمر بالماء المقدس. هذه هي نقطة ضعفه الوحيدة.

بعدها، تنبأ العراف بأن أخيل سيقتل في معركة طرواده. لذلك، قامت الأم ثتيس بإرسال ابنها أخيل إلى جزيرة سيكاروس، وألبسته ملابس النساء، لكي يعيش مع بنات ملك الجزيرة. إلى أن وجده أوديس، البطل الإغريقي، وأغراه بالانضمام إلى جيش الإغريق في حربهم مع الطرواديين.

كانت الحرب عنيفة قبل مقتل باتروكلوس. وكانت أشد شراسة بعد مقتله على يد هيكتور، ابن بريام ملك طروادة. قام هيكتور بنزع أسلحة أخيل ودرعه من على جسد القتيل باتروكلوس. إمعانا في إذلال الإغريق، قام الطرواديون بسحب جثة القتيل صوب أسوار مدينتهم.

لكن الإغريق ظلوا يقاتلون الطرواديين ببسالة، حتى تخضبت الأرض بدماء القتلى، وانتشرت الجثث في كل مكان. كان صدى صوت قرقعة السلاح يملأ الفضاء. أو كما يقول بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤوسهم، وأسيافهم ليل تهاوى كواكبه.

جاء أنتيلوكوس، أحد قادة الإغريق، إلى أخيل لكي يخبره بأن صديقه باتروكلوس قد قضى نحبه وسقط صريعا في المعركة، وأن قاتله هو هيكتور، الذي قام بنزع سلاحه وسحب جثته عارية على الثرى.

أخذ أخيل يصرخ ويتلوى من الألم. ارتمى على الأرض وأخذ ينتف شعر لحيته ويهيل التراب على رأسه. صوت نحيبه كان يملأ الفضاء، حتى وصل إلى مسمع أمه، الإلهة ثتيس. ثتيس كانت تجلس في قصرها تحت الماء. أبو أخيل هو الملك ميرميدون.

من أعماق البحار، جاءت ثتيس في لمح البصر لكي تعرف سبب بكاء ابنها أخيل. أخذت تنصت إليه وهو يقص عليها كيف قتل صديقه باتروكلوس على يد هيكتور، وكيف مثل هيكتور بجثته.

هنا قالت ثتيس لابنها، لكي تهدئ من روعه وتخفف آلامه:

"خفف من أحزانك، فلا أعتقد أن نصر هيكتور المؤزر سيستمر طويلا. لن يقدر له التمتع بسلاحك، الذي انتزعه من جثة باتروكلوس. لأنه سيذوق الموت هو الآخر، كما أذاقه لصديقك. لا تذهب يا بني إلى المعركة قبل أن أعود إليك بسلاح جديد، بدلا من سلاحك الذي فقدته بموت باتروكلوس"

بعد مغادرة الأم ثتيس، جاءت أيرس، رسولة الآلة، برسالة إلى أخيل تقول: "سيقوم الطرواديون بسحب جثمان باتروكلوس إلى خلف أسوارهم ما لم تتدخل أنت يا أخيل. لا نطلب منك القتال، فقط دعهم يشاهدونك. افعل هذا بحق صداقة باتروكلوس لك"

ذهب أخيل بدون سلاح ووقف بجانب أحد الخنادق. رفع جهيرته وأخذ يصرخ. عند سماع الطرواديين صوته، أصيبوا جميعا بالرعب، وأخذوا يتقهقرون إلى الخلف نحو أسوارهم. فقام الإغريق بسحب جثة باتروكلوس من بين جثث القتلى. بينما أخيل كان واقفا يبكي بالدموع صديقه الوفي الذي أرسله إلى المعركة لكي يموت دفاعا عن الإغريق.

هناك على قمة الأوليمب، كان الشرر يتطاير في الهواء وأصوات طرقات المطرقة على السندان تصعد إلى عنان السماء وتملأ الفضاء، بينما كان الإله هيفاستوس، الأعرج، يقوم بصنع أسلحة جديدة لأخيل.

كان هيفاستوس يلقي في اللهب سبائك البرونز والفضة والذهب، بينما المساعدون يقومون بالنفخ في الكور حتى يتأجج أوار اللهب وتتراقص ألسنة النار.

الدرع الموشى بالأحجار الكريمة والمعادن النفيسة، الذي لم تر عين مثل حجمه وصلابته وجماله، كان يصنعه هيفاستوس لأخيل. وأيضا، كان يصنع واقي صدري مصقول وخوذة بحواف ذهبية.

في أول بادرة لضوء الصباح، ومع خيوط الفجر الأولى، طارت الإلهة ثتيس من قمة الأوليمب الثلجية، وهي تحمل السلاح، هدية الآلهة الرائعة إلى أخيل. الذي تقلدها بسرور بالغ، وهو يصرخ بصوت مرعب في جنود الإغريق ليستنهض الهمم للقتال.

عند سماع صوت أخيل، لم يجرؤ جندى إغريقي، مهما كان حجم جروحه أو مدى إصابته، على التهرب من نداء الحرب والذهاب إلى المعركة. كان أجاممنون قائد جيوش الإغريق مصابا هو الآخر، لكنه تقدم، بالرغم من إصابته، إلى الصفوف الأمامية.

هناك، بينما كانت الشمس تشرق لتنشر أشعتها الذهبية على البقاع وعلى الجنود الذين خلدوا للراحة، وقف وسطهم أخيل وأجاممنون لكي يخبرانهم أن نهاية معاركهم مع الطرواديين قد اقتربت والنصر أصبح وشيكا.

جنود الإغريق الغاضبة والمتعطشة للحرب، بقيادة البطل أخيل، واجهت الطرواديين من جديد في حومة الوغى. كانت مثل حرائق هائلة، تأججها الرياح والعواصف التي تلتهم الغابات الكثيفة في لمح البصر، كذلك كان جيش أخيل، مدفوعا بالغضب، يعصف بجيش الطرواديين.

ساق أخيل أمامه جيش الطرواديين حتى نهر سكاماندر (زانتس). تخضبت مياه النهر بالدماء وامتلأ مجراه بالأشلاء. كانت ضربات أخيل لا ترحم، لا تبقى ولا تذر. بدون رحمة، كان سيفه يرسل أعدائه الشجعان قتلى وغرقى إلى قاع النهر. حتى ضج النهر فصرخ يشكو أخيل قائلا: "لقد خنقتني وملأت مجراي بالقتلى، وأنت لاتزال تقتلهم وترسلهم لي"

لكن أخيل لم يتوقف. فغضب النهر وأرغى وأزبد، ففاضت مياهه بقوة دافعة أمامها أجسام الغرقى والقتلى. في محاولة للتخلص من أخيل نفسه، ارتفعت مياه النهر حتى غمرت درع أخيل.

لكن أخيل أمسك بشجرة دردار، قلعها من جذورها وقذف بها في مجرى النهر حتى تحد من شدة السيل. لكن النهر واصل فيضانه، فهرب أخيل وجرى بعيدا عن المياه. لكن هدير المياه الغاضبة كانت تتبعه حتى لحقته وغمرته.

هنا صرخ أخيل طالبا النجدة من الآلهة. فأسرعت الإلهة أثينا لنجدته وأنقذته من الغرق. لكن أخيل لم يكف عن قتال الطرواديين، فعاد إلى أسوار طروادة بعيدا عن النهر لكي يواصل مطاردة أعدائه والفتك بهم.

من أعلى أسوار طروادة، كان الملك بريام يراقب ما يفعله أخيل بجنود طروادة. عندما اقترب أخيل، وسلاحه يبرق تحت أشعة الشمس كالنجوم الساطعة، أسرع هيكتور، بطل طروادة وابن بريام، لملاقاته. هنا صرخ بريام مناديا ابنه الحبيب قائلا: "هيكتور، ولدي الحبيب، أرجوك أن لا تقابل أخيل وحدك. فهو أقوى وأمهر منك بكثير"

لكن هيكتور كان أحرص الطرواديين على ملاقاة أخيل. هيكتور هو الوحيد بينهم الذي ظل ثابتا رابط الجأش غير خائف ولا مبالي بقوة وسمعة أخيل. والدة هيكتور، الملكة هيكوبا، جاءت هي الأخرى متوسلة لكي تثنيه عن عزمه ولكي تمنعه من ملاقاة أخيل. لأن ملاقاة أخيل في الحرب تعني الموت المحقق لهيكتور.

لكن هذا لم يثن هيكتور عن عزمه. وقف هيكتور في انتظار آلة الحرب المدمرة، أخيل، وهو يستند على درعه اللامع. أخيرا، تقابل البطلان وجها لوجه، ورمحا لرمح.

مثل الشهاب الساقط من السماء في جنح الظلام، فجأة مرق سهم أخيل من فوق الرؤوس وجاء ليخترق عنق هيكتور. ترنح الأمير الطروادي واستند على أسوار طروادة يلمسها لآخر مرة، ثم سقط قتيلا.

ظل الإغريق يحتفلون بالنصر المبين لمدة 12 يوما. خلال هذه المدة، كان جثمان هيكتور ملقى في العراء بدون دفن. وكانوا يقومون بجر جثمانه على الثري بعد ربطه بالحبال في العربات الحربية.

أمه هيكوبا وزوجته أندروماك كانا يراقبان موته والتمثيل بجثته بالبكاء والنحيب. فهو لم يكن بطل طروادة فقط، وإنما كان من العظماء التسعة في التاريخ اليوناني القديم، ليس فقط بسبب شجاعته ولكن أيضًا بسبب طبيعته النبيلة وكرم أخلاقه.

ذهب الملك العجوز بريام إلى معسكر اليونانيين. أمام البطل أخيل، خر بريام ساجدا جاثيا على ركبتيه، متوسلا وطالبا الرحمة وتسليمه جثمان ابنه هيكتور حتى يقوم بدفنه بالطريقة الملائمة.

رق قلب أخيل للشيخ العجوز، فوافق على تسليم جثمان هيكتور إلى الطرواديين نظير فدية. استقبلت نساء طروادة جثة بطلها الشاب بالبكاء والعويل. ترك موته في قلب أمه العجوز هيكوبا غصة. فهو من بين كل أولادها، الأعز. بكته هي وزوجته الحبيبة أندروماك بعيون دامية.

جاءت هيلين، بطلة قصة الإلياذة، هي الأخرى تبكي وتنعي الفقيد هيكتور. قالت وهي تعبر عن أسفها عما حدث: "يا أعز أخ لي. لم أسمع منك كلمة واحدة تسيئني أو تجرح مشاعري. لقد كنت تقف دائما إلى جواري بقلبك الطيب وكلماتك الرقيقة. خسارتي فادحة بموتك، خسارة فقد صديق عزيز. لم يعد لي في أرض طروادة من يحنو علي أو يرأف بحالي."

على محرقة عالية، وضع جثمان هيكتور. عندما أتت النار على معظم جسده، وضعت عظامه في جرة ذهبية. ثم بني حولها ضريح يبقي ذكراه العطرة.

لكن الحرب بين الإغريق والطرواديين لم تنته بعد. فقد قتل أخيل بسهم أطلقه باريس. في حلكة الليل، صوب باريس سهمه نحو أخيل فأصابه في كعبه بمساعدة الإلهة أفروديت. كعبه هو أضعف مكان في جسده. سرى السم في بدن أخيل وسقط على الأرض. فأسرع باريس وأجهز عليه. لكن باريس نفسه قتل في نهاية الحرب بسهم على يد فيلوكتاتيس.

بعد ذلك، فض الإغريق خيامهم، ورجعوا ليعبروا بسفنهم عباب المالح عائدين إلى بلادهم بعد غيبة طويلة، استمرت عشر سنوات. لم يتركوا خلفهم سوى حصان خشبي ضخم لم يستطيعوا حمله في سفنهم.

عندما تيقن الطرواديون من مغادرة جنود الإغريق، فتحوا الأبواب، وقاموا بسحب الحصان الخشبي داخل الأسوار. قرروا حفظه رمزا لصمودهم وانتصارهم على الإغريق، الذين لم ينجحوا في اقتحام أسوار طروادة.

لكن الحصان الخشبي لم يكن مجرد تمثال ورمز. بداخله، كان يختبئ نخبة من أشجع أبطال الإغريق. أثناء الليل البهيم، بينما الطرواديون يحتفلون، يرقصون ويمرحون ويشربون نخب هذه المناسبة السعيدة، خرج من بطن الحصان الجنود الإغريق.

قاموا بفتح أبواب الأسوار من الداخل. من البحر، جاءت سفن الإغريق عائدة، لكي يقوم جنودها بتدمير مدينة طروادة وحرقها بالكامل. ثم قاموا بقتل رجالها وسبي نسائها وأطفالها، ونهب ثرواتها.

لكن هيلين لم تمت. عاد بها زوجها مينلوس لكي تصبح ملكة على بلاده من جديد. هيلين هذه، هي نفسها التي تسببت في كل هذه المآسي والقتل والتدمير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى