الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم عصام شرتح

التكامل الجمالي في قصائد ( أولئك أصحابي) لحميد سعيد

غنى عنها للنصوص الأدبية في تحقيق مظهر إثارتها وجاذبيتها الفنية، ولهذا، تعد هذه التقنية من فواعل الاستثارة الجمالية التي تحققها النصوص الإبداعية المؤثرة، أي تلك النصوص التي تبعث اللذة الجمالية في نفس المتلقي إثر تكاملها الفني وخصوبة مردودها الإيحائي. ولا نبالغ في قولنا: إن التكامل الجمالي هو من أهم المؤثرات الجمالية التي تثير النصوص الشعرية في حياكتها الفنية ونسيجها البنائي العام؛ ومن هذا المنطلق، استحوذت هذه التقنية على اهتمامنا البالغ، في مدخلنا النقدي، بوصفها تقنية جوهرية مهمة تحكم سيرورة قصائد (أولئك أصحابي) في بنائها الداخلي وشكلها الخارجي. وهذا يعني أن هذه التقنية تدخل في صميم الرؤيا الشعرية، والموقف الشعري الذي تنطوي عليه حركة هذه القصائد، مما يجعلها بغاية التفاعل والانسجام والتكامل الجمالي في بنائها وشكلها النصي العام.

وما ينبغي التأكيد عليه: إن النصوص الأدبية المتميزة في عالمنا المعاصر اليوم هي تلكم النصوص التي تستحوذ على أعلى درجات التكامل الجمالي والتلاحم الفاعل في شكلها ونسقها النصي، وبنائها النصي العام. مما يدلل على شعرية في الداخل النصي وشعرية في الخارج النصي، ولا نقصد بالخارج النصي الجو العام الذي قيلت فيه القصيدة، وإنما في الشكل الخارجي للنص وما يفجره من جماليات في بنائه البصري، وهندسته الكاليغرافية على بياض الصفحات؛ مما يدل بالتأكيد على شعرية بالشكل النصي وشعرية في الداخل النصي، وهذا من مظاهر التكامل الجمالي الذي أقصده.

وبتقديرنا: إن أي عمل جمالي إبداعي مؤثر فنياً، أو جمالياً، لا بد له من أن يحقق عنصر التكامل، والتوازن، والانسجام الفني بين جزئيات المنتج الجمالي، وبما أن الناقد الجمالي يملك الموهبة، والحساسية، والرهافة، وتوهج الشعور؛ فهو يحايث المبدع الحقيقي في الحساسية الجمالية؛ ورهافة الشعور، وعمق الإحساس، وهذا يظهر –جلياً- من خلال التفاعل المثمر مع المنتج الجمالي، ومقدار ترجمة ما في مخزونه من طاقات إيحائية ومؤثرات فنية؛ يقول الناقد الجمالي (جان برتليمي):" يمتاز المبدع أو الفنان الحقيقي عن الرجل العادي بموهبة المشاعر... أو لنقل: موهبة الشعور، بقوة بما لا يشعر به الناس عامة إلا بضعف. فالفن ينبع من فيضان القلب (اضرب قلبك ففيه تجد العبقرية)"()؛ وهذا القول ينطوي على إحساس جمالي، ووعي معرفي بالمؤثرات الجمالية؛ وبما أن الفنان أكثر حساسية من غيره، فإن ما يثيره –دائماً-هو توليد اللذة الحقيقية في منتجه الإبداعي، يقول (لامارتين) " يبحث الشعراء عن العبقرية في مكان بعيد، في حين أنها في القلب"() أي في جوهر وعي المبدع وحساسيته الجمالية، فالعبقرية تنطلق من الذات إلى الوجود، ولذلك، فالمبدع لا ينماز عن غيره إلا بمقدار الرهافة، والحساسية الجمالية، والشعورية التي يبديها في منتجه الإبداعي ؛ وبهذا المقترب الرؤيوي يقول (لامارتين) :" إن بعض الانغام البسيطة التي تصدر في هدوء ومصادفة من هذه الآلة الموسيقية التي صنعها الله نفسه تكفي لتسيل الدموع من عيون قرن بأكمله"().وهذا دليل تأثير الفن في تكامله وعذوبته الجمالية التي تجعل المرء يتفاعل معه، وكأنه جزء لا يتجزأ من كيانه وإيقاعه الداخلي.

وهذا القول يقودنا إلى حقيقة مؤكدة في المنتج الإبداعي ألا وهي: إذا لم يحرك هذا المنتج دفق مشاعرنا جمالياً؛ فمعنى ذلك أنه لا قيمة لهذه التقنية إبداعياً في تحفيزنا، وخلق استجابتنا الشعورية العميقة، والدليل على ذلك ما ذهب إليه العالم الجمالي (جان برتليمي):" إن ما هو ضروري للشاعر هو العاطفة المتحركة.... فعندما أشعر وأنا أكتب أبياتاً ببعض ضربات القلب الذي أعرفه، أكون واثقاً من أن شعري سيكون من أجود الأنواع"(). أي يحمل عمق الاستثارة وفاعلية التأثير، لأنه خرج من نبض الروح ودفق القلب، وهذا ما يمنحه عذوبته ومصدر تأثيره.

وهذا دليل أن عمق التجربة والإحساس الجمالي المرهف، وزخم الحالة الشعورية المصاحبة للشاعر هي ما تحقق اللذة والمتعة الجمالية في منتوجه الإبداعي المؤثر، بالإضافة إلى عنصر التكامل الجمالي، وبهذا المقترب المحايث، تقول الناقدة خلود ترمانيني:" إن الجمال يكمن في روح البناء الكلية، أي الاتحاد بين الجزئيات، بحيث تصبح وحدة متكاملة، فيشعر الناظر إلى المصنوع بالصلة بين جزئياته، وعلى ذلك؛ فإن الروح الكلية هي التي تعطي هذه الجزئيات جمالها، ونحن لا نستطيع أن نبصر الروح إلا إذا تجاوزنا الجزئيات إلى الكليات"(). وهذا يدلنا على أن الجمال، أو عنصر الجمال الأكمل يكمن في التكامل الجمالي الذي يهب المنتج الإبداعي شكله الجمالي الإبداعي المنظم؛ في حين أنه لا يمنح المنتج العاطفة، أو الشعور؛ فالذي يمنح العاطفة، والحس الجمالي بنية المنتج الإبداعي ذاته، ومقدار الحساسية الشعورية التي يتمتع بها المبدع لحظة إنتاجه الإبداعي لهذا المنتج؛ ومقدار جاذبية المنتج الجمالية، وإشعاعاته الفنية، أو لذته الجمالية التي أثارها في المتلقي؛ ومن هذا المنطلق، يعد التكامل عنصراً تأسيسياً مهماً في إكساب النص الشعري قيمته الجمالية؛ ولذا، فإن الحكم الجمالي على قيمة أي عمل فني جمالياً لا بد من أن يكون معيار التكامل من أبرز مظاهر الحكم على هذا المنتج جمالياً أو سمواً إبداعياً؛ وإن العمل الإبداعي ليكتسب فنيته الشعرية لا بد من أن يثيرنا بتكامله، وانسجامه، وتناسقه الفني؛ وبهذا المعنى يصلنا (جان برتليمي) إلى حقيقة جد مهمة ألا وهي:" إذا كان الفن يمنح الخلود للحظة؛ فذلك لأنه رأى أنها تستحق الخلود، وهو وسيلة لإعلاء الشيء الذي ينتقيه"(). وهذا يعني: أن الذي يمنح الخلود للعمل الفني هو طبيعة الفن ذاته، والإحساس الجمالي للمبدع في أثناء تشكيله للعمل الفني المنتج، يقول (مايير):" إن للفن حقائقه البعيدة عن الواقع الذي تكتشفه البديهة، وهو نتاج عمل أكثر منه نتاج رؤية. وهكذا، يعطي الفنان لنفسه حق قيادتنا بعيداً عما هو قائم. ومهمته هي إنكار الواقع، بقصد إعادة بنائه"().

فالفنان الذي يمتلك رؤية جمالية مبدعة هو الذي يحقق التكامل والاتساق في عمله الفني دون تخطيط مسبق، سواء حايث عمله الفني الواقع؛ أو تجرد عنه؛ وهذا يعني:" أن الفن يظل مقيماً دائماً في مكان ما هو خيالي"(). والمبدع الجمالي هو الذي يبني الواقع بناءً جمالياً مؤثراً بإحساس جمالي وخبرة جمالية؛ ووعي فني؛ وإحساس عاطفي شفاف؛ فالفن الإبداعي الشفاف هو الفن الذي يملك سحراً إيحائياً، وخاصية إعجازية في التعبير، يقول بودلير:" الشعر سحر إيحائي، إنه لغة وكتابة، بوصفهما عمليات سحرية وشعوذة إيعازية"(). وهذا دليل أن الأثر الذي يتركه السحر من حيث الانشداه، وسلب الإرادة هو نفس الأثر الذي يتركه المنتج الفني، أو الجمالي في تكامله الفني ولذته الجمالية، من سطوة على المتلقي بسحره ولذته الجمالية؛ يقول الناقد الجمالي (جان برتليمي):" لقد كان الشعر دائماً ذا أثر يشبه السحر والجاذبية السالبة للإرادة بالمعنى الكامل لهذه الكلمة"(). ولهذا، يبقى للشعر سحره الجمالي الذي يسلب الإرادة في تلقيه والانشداه إلى ينابيع اللذة الجمالية المحرضة للشعرية في أثناء تلقيه بوعي جمالي وإحساس عذب.

وما ينبغي ملاحظته والتأكيد عليه: إن قيمة التكامل جمالياً تتوقف على مقدار الانسجام الذي يمتاز به العمل الفني المنتج، فما هو إبداعي يمتلك -غالباً-خاصية جمالية وتكامل فني؛ وما هو غير إبداعي يبقى دائماً غير منظم أو عبثياً في بنائه، وشكله الخارجي، ولهذا يبقى الشعر هو هذا الفن الذي يمتلك إمتاعاً جمالياً، ونبضاً روحياً يتدفق بقوة الحياة ونشاطها الدافق، الذي ينبع من إيقاعات الروح المنظمة في نسق لفظي متناغم، وأولى مظاهر التناغم تكامل العمل الإبداعي في خاصيته الفنية ونسيجه الفني المتناغم، ولذلك يقول (جان برتليمي):"الشعر يبدأ في النقطة التي لم يستطع أن يقول عندها شيئاً، والتي يشعر فيها أن كل شيء سوف يقال:" إن الشعر غموض وتعليم أصوله يحتاج إلى هدوء، وطمأنينة، وسكون أمام السر الشاعري"(). وهذا السر الشاعري يبقى ذلك التيار الخفي الذي يجعل الروح تستجم وتشعر باللذة لحظة تلقيه.

وبهذا المنظور، تتأكد حقيقة مهمة، هي أن الفن – عموماً-هو الذي يبقى في جانبه الأهم عصياً على التحديد، أو عصياً على الإدراك والفهم، وهذا يدلنا على أن قيمة الفن العظمى هي في تعاليه، وامتناعه، وتأبيه عن إدراك متلقيه، مهما أعمل فكره وتدبر في جزئياته، إذ إن ثمة أشياء خفية لا تظهر لنا تبقى هناك في ظلال الأبدية، ولهذا عندما يتم اكتشافها نشعر بمتعة الاستدلال، والكشف الجمالي الموحي الذي يزيدنا إدراكاً ووعياً وفهماً لما يجري من حولنا من متغيرات وجودية لا نملك لها تفسيراً سوى أنها حركت في داخلنا لذة ما أو نشوة روحية لا نملك لها رداً، وهذه من أهم ثمار الفن الإبداعي المؤثر أن يسلبنا الإرادة، ويمنحنا نشوة ما، أو لذة لا تقدر بثمن.

فواعل التكامل الجمالي في قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد:

يعد التكامل الجمالي من فواعل قصائد (أولئك أصحابي) الجمالية التي تشتغل على محاور نصية متداخلة، تشي بالتفاعل، والانسجام، والحراك الجمالي، فهذه القصائد تتفاعل رؤاها، ومؤثراتها، وأحداثها، لتحقق متغيرها الإبداعي، ومن يدقق في سيرورة هذه القصائد يعي أن شعرية هذه القصائد تتمحور على تكامل رؤاها، ومواقفها، وأحداثها الجمالية، وتفاعل شخصياتها، وبما أن شخصيات قصائد (أولئك أصحابي) شخصيات بطلة، وأغلبها شخصيات محركة للأحداث، والرؤى الجدلية المتمردة على واقعها، وعالمها المثالي المتخيل، فهذا يعني أن من فواعلها المؤثرة إثارة الأحداث الصاخبة، والمواقف المتمردة، التي تأبى عن التحقيق، وتملك في الآن ذاته عمق الموقف، وحساسية التعبير، وقوة الإرادة، والجسارة، والتصميم كما في شخصية( مدام بوفاري) وشخصية الصياد العجوز(سانتياغو)، وشخصية ( الكولونيل)، و(الدكتور زيفاغو)، فهذه الشخصيات رغم تنوع رؤاها ومواقفها الوجودية، لكنها تنتمي إلى قوة الإرادة، والعزيمة، والتصميم، فهي ذات محرق رؤيوي مشترك، وهذا ما يمنحها متغيرها الوجودي ضمن فضائها الشعري، لأن الشاعر لم يوظف هذه الشخصيات كنماذج ساكنة، أو مواقف مكرورة مستعادة من أزمنتها، وإنما وظفها كمواقف حية وشخصيات معاصرة تساهم في تحريك عجلة الواقع الراهن ومتغيراته الوجودية، ولهذا يلحظ القارئ تفاعل الشاعر مع هذه الشخصيات، لتكون من محركات رؤاه الوجودية لاسيما عندما يتحدث على لسانها أو يتحدث إليها بلسان حاله الوجودي لا وجودها، ولسان الواقع الراهن لا واقعها، وهذا ما يضمن حراكها الجمالي، وزوغانها الإبداعي المميز عما هو معتاد في هذه الشخصية في واقعها الروائي، وهذا الزوغان هو ما يمنحها هذا الألق والتميز داخل الفضاء الشعري الذي وظفت فيه هذه الشخصيات على اختلاف مواقفها ورؤاها في سياق تلكم القصائد.

وما يهمنا - نحن – في هذه الرقعة البحثية – أن نقف على قيمة جمالية مهمة؛ امتازت بها هذه القصائد، وهي : تقنية التكامل الجمالي، ونعني بها: تكامل الرؤى، والدلالات، والأحداث، والشخصيات جمالياً ضمن المضمار النصي. وهنا قد يسأل سائل: هل تقصد بالتكامل الجمالي تفاعل الشخصيات في تحريك الأحداث الروائية والشعرية المتخيلة ؟ . أم أنك تقصد تكامل القيم الجمالية في هذه القصائد لتحقق منتوجها الإيحائي والجمالي المميز؟!! أم أنك تقصد تكامل الفواعل النصية الكاشفة عن خصوبة الفكر الجمالي المنتج في تشكيلها؟. أم أنك تقصد تكامل المؤثرات الوجودية جميعها في تحقيق أعلى مراتب الإثارة في تفعيل الأحداث، والمواقف الروائية بحساسية جمالية ووعي جمالي لا نظير له ؟!!.

لا شك في أن هذا البحث سيترك أسئلة كثيرة بلا إجابات، ويجيب عن بعضها حسب درجة الكشف والوعي الجمالي والحس النقدي في قراءة هذه النصوص من الداخل، والخلوص بما يخدم مكتشفات التكامل الجمالي في تحريك هذه النصوص والتفاعل معها وجودياً وجمالياً؟ وهذا ما سنتطرق إليه في هذه المحاور والرؤى النقدية المكتشفة، وفق ما يلي:

التكامل الجمالي على مستوى الرؤى والأفكار النصية، وعمق الموقف الشعري، وفاعلية الشخصية الروائية:
لا شك في أن التكامل الجمالي على مستوى الرؤى والأفكار النصية، وعمق الموقف الشعري، وفاعلية الشخصية الروائية، من مغريات الفواعل الرؤيوية النشطة في تكثيف الأحداث على لسان الشخصيات الروائية، لتغدو هذه الشخصيات محفزة لشعرية هذه القصائد، وهذا يعني أن التكامل الجمالي خاصية نصية كبرى تطال الأحداث الجزئية، وصولاً إلى الرؤيا الكلية التي تبثها القصيدة، وكما هو معروف في مثل هذه القصائد أن لغة السرد، والقص السردي بما في ذلك الوصف، والتمهيد للأحداث تطغى على لغة الحوار، أو لغة الحراك الشعري المشهدي، وهذا يعني أن من أبرز محركات شعرية هذه القصائد تكاملها الجمالي، وتضافر رؤاها مع طبيعة الشخصيات الروائية من أحداث، ومواقف، ورؤى؛ وهذا يدلنا على أن التكامل الجمالي جوهر فاعلية هذه القصائد في تحقيق إثارتها، وتحفيزها الجمالي، لاسيما في تضافر الشخصيات مع المواقف الرؤيوية الجديدة ،وحراكها المشهدي؛ مما يعني أن هذه القصائد مضمار خلاق للمكتشفات الرؤيوية والجمالية في منعرجاتها ورؤاها كافة،خاصة فيما يتعلق بالشخصية الرئيسة والأحداث الوجودية المحتدمة في تفعيل دورها ورؤاها كافة.

وبتقديرنا: إن التكامل الجمالي على مستوى الأفكار، والرؤى النصية من أبرز ما يحرك الشخصية الروائية، ويبث مؤثراتها الفنية التي تشتغل على الحدث الشعري الجديد، والموقف الرؤيوي المتغير؛ ولهذا، تتفاعل هذه القصائد في رؤاها مع المتغيرات الوجودية، التي تباغت القارئ بالمشهد المتحرك الذي يتلاعب بالأحداث الجزئية، ومحركاتها الرؤيوية، بما يخدم جوهر الحدث الروائي، والحدث الشعري في آن معاً، وإبراز متنفسها الإيحائي الخلاق، وهذا ما يحقق لهذه القصائد القيمة العظمى في الاستثارة والخلق الموحي، ومثالنا على ذلك قصيدته(الأخوة الأعداء)لحميد سعيد، وفيها يتمثل رواية( الأخوة الأعداء) لنيكوس كازنزاكي .وأبرز ما يقول فيها الباحث مصلح مخلف الحديثي القول النقدي المناسب:"من المواقف الإنسانية في هذه القصيدة ، تناول مأساة الحرب الأهلية في اليونان، واختلاف الرأي بشأنها بين الأب وابنه، وبين الأشقاء، والصراع المسلح بين قرية وأخرى في الوطن الواحد ، ويفصح الشاعر عن إدراك بأن أحداث الرواية نعيشها نحن الآن من خلال الصراع بين مواطن ومواطن. قصيدة – الأخوة الأعداء – هي الوردة الدامية التي نراها ولا نستطيع قطفها وإزالتها حتى تتفتح وردة الحب في حدائقنا، ولقد عملت الصور الشعرية على تجسيد واقع نعيشه"(12).
وتعد هذه القصيدة –مثالاً- حياً على التكامل الرؤيوي – الجمالي التي تتأسس على وعي وتكامل فني على مستوى الرؤى، والأفكار، والمؤولات النصية ، إنها ،ترسم الواقع الروائي، وتعكس فاعلية هذا الواقع على واقعنا الراهن، ولهذا، تتحرك الرؤية النصية على أكثر من محرق نصي، ومؤولة نصية، كلها تصب في مجرى الحرب اليونانية، وتصارع الفئات، وعكس الشاعر هذا الواقع على واقعنا العربي الحالي بكل الاقتتالات الدائرة بين الأخوة الأشقاء العرب، وهذا ما يظهره قوله:

يخرجُ من كلِّ بيتٍ إمامان..
يفتي الأب القادمُ من صفحات كتابٍ عتيقٍ..
بغير فتوى ابنه الداخلِ في كذبٍ الحاضِرِ..
يختلفانْ
كُلٌ له من قراءاته الفاسدهْ
لغةٌ باردهْ
ويَقتَتِلُ الأخوةُ.. كلُّ الذين يموتونَ..
جاءوا إلى الموت .. من مدن الفقراء
والفقهاءُ ..
يغتنمون الأساطيرَ والوهمَ..
من أجل متعتهم بالدماءْ"(13)

لاشك في أن التكامل الجمالي على مستوى الرؤى، والأفكار في أية قصيدة شعرية يعد قيمة جمالية مؤثرة في خلق الإثارة الجمالية، لاسيما إذا أدركنا أن مولدات الاستثارة الجمالية تبدأ من الوعي الجمالي في الإفادة من الفكرة ، أو الرؤية المستنبطة من الفضاء الروائي، وتوظيفها في فضائها الشعري الجديد، وهنا ،يعكس الشاعر الاقتتال في اليونان ،لاسيما بين الأطراف المتقاربة والتي تنتمي إلى بعضها البعض انتماء الأخوة والقرابة الحقيقية، وقد جاء امتصاص الشاعر للأجواء الروائية بغاية الشفافية، ليعكس الواقع العربي الفاسد الذي يضج بالافتاءات المغلوطة التي تبيح إراقة الدماء، بفتاوى باطلة ،كل يفتي على هواه،وهذا الواقع أظهره بانتقاد لاذع لما يجري في عالمنا العربي من جهل وتخلف ديني حقيقي:) يخرجُ من كلِّ بيتٍ إمامان.. يفتي الأب القادمُ من صفحات كتابٍ عتيقٍ.. بغير فتوى ابنه الداخلِ في كذبٍ الحاضِرِ.. يختلفانْ كُلٌ له من قراءاته الفاسدهْ لغةٌ باردهْ)؛ ثم يخلق التكامل الجمالي في رفد الفكرة، وتعميقها بالفكرة الداعمة في حيزها الرؤيوي،وهو اقتتال الأخوة ، رغبة في استشفاف الدم،وإبراز السطوة والأنوية الزائدة،كما في قوله:(ويَقتَتِلُ الأخوةُ.. كلُّ الذين يموتونَ ..جاءوا إلى الموت .. من مدن الفقراء والفقهاءُ ..يغتنمون الأساطيرَ والوهمَ.. من أجل متعتهم بالدماءْ)؛والواقع أن كل منعكسات الرؤية الشعرية تبرز في هذا التكامل الجمالي في الرؤى والأفكار تعبيراً عن المعاناة الحقيقية، بين الآباء والأبناء، واختلاف رؤاهم، واقتتالهم ،مدعماً الأجواء الروائية بالأجواء الشعرية، ورصد الواقعين معاً، في مقاربة رؤيوية فاعلة تبين مهارة الشاعر في عكس الواقع الشعري على الواقع الروائي، والواقع الروائي على الواقع الشعري، بمداخلة رؤيوية كاشفة عن الكثير من المواقف والرؤى الفنية المعرية لهذا الواقع المأساوي المؤلم، الذي تعيشه أقطارنا العربية من تنازع وصدام وحروب؛ ولهذا جسد الواقع الراهن من خلال الواقع الروائي برؤى مشتركة تشي بالتداخل والاقتران:

"يقفُ الأبُ بين بنيه وبينَ بنيهْ
لا يُفَرِّقُ من أيِّ أبنائهِ .. اخترقتهُ الرماحْ
كأنَ الكلامَ بين أخٍ وأخيه .. انتهى
ليسَ من لغةٍ ..
بينَ مَنْ فَرَقّتهمْ أساطيرُ سوداءُ ..
غير السلاحْ"(14).

بادئ ذي بدء، نقول: إن التكامل الجمالي على صعيد الرؤى والأفكار ليس مجرد إفراز جمالي على صعيد الفكر، والمخيلة الشعرية فحسب، وإنما إفراز رؤيوي على صعيد الرؤيا الخلاقة والإحساس الجمالي المبدع، ودليلنا أن الشاعر هنا قد ربط بفاعلية رؤيوية خلاقة رؤى القصيدة وقد تحكم بمنعرجاتها الدلالية، من خلال ربط الرؤيتين معاً الرؤيا الروائية، والرؤيا الشعرية، ،وقد عكس من خلالهما الواقع العربي المتصدع الذي يقوم على الضغينة والفساد حتى ضمن أجواء العائلة الواحدة والشعب الواحد، والأخوة، والأبناء، وضياع العلاقات وتداخل الدماء، فلا يكاد يميز أب من بنيه الظالم من المظلوم، لقد تاهت الحدود الفاصلة بينهما، واختلفت الأحكام والمعايير، وضاعت الأشياء في خضم موج متلاطم من التية والغي والضياع، والدليل المرجعي على ذلك قوله:( كأنَ الكلامَ بين أخٍ وأخيه .. انتهى ليسَ من لغةٍ ..بينَ مَنْ فَرَقّتهمْ أساطيرُ سوداءُ ..غير السلاحْ"، وهكذا، تلاحمت الرؤى والأفكار بتكامل جمالي في تعميق الرؤيتين الواقعية والروائية معاً، ثم يعود ليناور مناورة فنية رائعة ليرصد الواقع العربي منذ القدم ،والواقع الأسطوري الذي جسدته الرواية بتداخل فني غاية في الحساسية والتكامل الجمالي، كما في قوله:

على هامشٍ من كتاب.. الأساطير تمحو الأساطير
يكتبُ شيخُ الطريقة .. يأتي زمانٌ على هذه البلادِ
يُسَفِّهُ فيه المعريُّ شعرَ المعريِّ..
تُسفِّهُ فيه النساءُ النساءْ
يعمُّ البلاءْ
ويهجرها الشعراءْ
يعتزلُ الوردُ أكمامهُ والحدائقَ والماءَ
كانَ تبرّأَ من عطرهِ
أتُرى سيغادرُ ألوانِهُ ويهاجرُ .. معتزلاً
ضَيِّقٌ.. ضَيِّقٌ .. ضَيِّقٌ
في المنافي الفضاءْ"(15).

إن التكامل الجمالي بالرؤى والأفكار - في هذه القصيدة- من محركاتها الجمالية، فالشاعر عبر- بعمق وأسى جارح - عن الواقع العربي المنهار، والحالة المزرية التي وصلت إليها بلادنا العربي منذ القدم، من تخلف، وجهل، وضياع، وتجاهل، وتسفيه، والضرب بآراء بعضهم البعض، للنيل من خصومهم، وكذلك حالة الفوضى والاقتتال على الحكم، والنفي والتشرد والضياع؛ ولذلك، جاء تعبيره صادحاً:( ضَيِّقٌ.. ضَيِّقٌ .. ضَيِّقٌ في المنافي الفضاءْ)، للتعبير عن صعوبة الواقع العربي المعيش، وحالة الضياع التي هو عليها؛ وكأن ثمة تلاقياً تاماً بين واقعنا العربي الماضوي القائم على التسفيه، والضياع، وواقعنا الراهن المنهار بالمنافي،والاغتراب، والاحتلال؛ وهذا يعني أن الشاعر بتكامل رؤيوي عجيب يجمع أواصر القصيدة، محققاً تفاعلها التام وتكاملها الجمالي الآسر، وبهذا الربط الفني الإيحائي الموحي يستثير محاور القصيدة، ويحقق تكاملها الرؤيوي البليغ، لاسيما في رصد المشاهد الدامية والصور الكابوسية الدموية المؤلمة ، إذ يقول:

"يتوارى القتيلُ والقاتلُ خلفَ تواريخ رعناء
ينسبها قائلٌ غامضٌ . . لرواة غلاظْ
وينسبُهُم – أيّ أكذوبة يتوارثها الجهلاءُ –
إلى ملكوت السماء!!
كلُّ ما جاء في كتاب الأساطير تمحو الأساطير ..
ليس سوى كذب وافتراءْ
ليس سوى مرجعٍ.. يستظلُّ به القتلهْ
هل سيعرفُ بعد فوات الأوان .. أخٌ وأخوه يقتتلانْ
أين هي المعضلهْ ؟!"(16).

إن فاعلية التكامل تظهر -بوضوح- في خلق الانسجام التام بين مؤشرات الرؤيا الروائية ، ومؤشرات الرؤيا الشعرية، فكما جاءت الرواية لتركز على التناحر، والحروب الرهناء بين فئات الشعب اليوناني منذ القديم، كذلك جاءت القصيدة لتربط الواقع الروائي بالواقع العربي، بفواعل رؤيوية مشتركة كاشفة عن الكثير من الرؤى والمواقف الاحتجاجية الرافضة، وهذا يعني أن التكامل الرؤيوي الجمالي تبدى في هذا الحراك الدافق الخلاق بين الرؤى الروائية،والرؤى الشعرية التي تبثها القصيدة، مما يدل على وجاعة، وأسى جارح، خاصة في قوله الصارخ الذي تشي به المؤولة التالية:( هل سيعرفُ بعد فوات الأوان .. أخٌ وأخوه يقتتلانْ أين هي المعضلهْ ؟)؛ وهذا التساؤل الاحتجاجي الصارخ يفتح بوابة الاستهجان والاحتجاج المرير على واقعنا العربي الموبوء بالغدر والضغينة والجهل والفساد. وهكذا، تتأسس رؤيا القصيدة على التكامل الجمالي في الرؤى والأفكار لتصب في مجرى الرؤيا الكلية للقصيدة في مصبها النهائي، وهي رفض الواقع الدموي الذي تعيشه شعوبنا العربية، وتعرية الواقع الفاسد الذي نعيشه في ظل واقع مرير، فرضته الظروف علينا من الخارج، ومن الداخل، من بوابة جهلنا وتشردنا وضياعنا وراء السلطة والمطامع الدنيوية الزائفة.

وصفوة القول: إن التكامل الجمالي من مؤثرات الرؤيا الجمالية، التي تتـأسس عليها الحركة النصية في إبراز شعرية القصيدة، وإبراز ملمحها الجمالي الآسر. ولهذا، يعد هذا التكامل من أبرز ما يحرك قصائد( أولئك أصحابي) على المستوى الجمالي؛ إذ إن الشاعر لا يحرك الأحداث يعيداً عن دائرة الواقع، وإنما يفعلها لإبراز الحدث الواقعي، بطزاجته الشعورية، وحرارة الموقف الاغترابي الراهن، والإحساس الصادق بالواقع العربي المنهار، مما يدل على بلاغة في الرؤية، ودقة في التعبير، لدرجة أن القصيدة- لديه- تشكل لحمة واحدة في تكامل رؤاها ودلالاتها على المستوى الرؤيوي- الجمالي، وهذا من مصدر غناها وخصوبتها الجمالية.

التكامل الجمالي على مستوى الأحداث، وكثافة المشاهد المتتابعة:

لاشك في أن مثيرات التكامل المشهدي على مستوى الأحداث، وكثافة المشاهد المتتابعة من الفواعل النشطة التي تثيرها قصائد( أولئك أصحابي)في حركتها الرؤيوية الجمالية، مما يدل على أن شعرية هذه القصائد تتعزز بالمشاهد المكثفة التي ترصد تراكم الأحداث، والرؤى، وتواليها الإيحائي النشط، وهذا يدل على أن شعريتها تنبع من فواعل أحداثها، وكثافة مردودها الإيحائي الجمالي على صعيد الرؤيا، والموقف الشعري الجديد الذي اتخذته الشخصية الروائية المستحضرة من أحداث الرواية نقطة تمفصل المشهد الشعري المكثف، ومركز حركة الدلالات، وفواعلها النشطة في جل هذه القصائد، ولهذا تتحرك هذه القصائد على مثيرات الحدث والحبكة الشعرية المراوغة، وتراكم المواقف، والأحداث نقطة تفعيل المشهد الشعري، ونقطة تمثل الحدث الروائي، بإيحاء وفاعلية رؤيوية بالغة، ودليلنا على ذلك قصيدة(ربما كان زوربا)؛لحميد سعيد، وفيها يتمثل شخصية "زوربا" بطل رواية" زوربا اليوناني"لنيكوس كازنزاكي، إذ،يكثف الشاعر فيها الأحداث، التي تحيط بالشخصية الروائية، وينتقل في مسار الشخصية الروائية( زوربا اليوناني) من حالة إلى حالة، ومن صورة إلى أخرى، ليتجاوز شخصيته الروائية، وينفتح في مسارها ورؤاها ويحملها من الرؤى والدلالات الشيء الكثير، وهنا، عمق الشاعر من فاعلية الشخصية الروائية ،لتمثل أكثر من شخصية، وأكثر من مرحلة، فهو تارة يبيع الخبز، وتارة يساوم بائعات الخبز، وتارة يلهو بالرقص والغناء ،وتارة يثير الشجار، وتارة يقرأ الكف، وهو بهذا التحول في مسار الشخصية يباغت القارئ بتلوين الأدوار، والملامح والكاشفة عن مسارها الرؤيوي العميق؛ وكأن الشاعر يخلق الشخصية خلقاً رؤيوياً متخيلاً بفواعل رؤيوية نشطة غاية في المواربة والاختلاف، كما في قوله:

" ورأيتُهُ يوماً..
يُساوٍمُ بائعات الخبز في السوق القديم
وبعد عامين التقيت به يبيع الخُبزَ
كنتُ أظنّهُ رجلاً مُقيماً..ثمَّ غابَ عن المدينةِ
وانتهى ماكانَ منه..
ضَجيجُهُ الليليُّ..فِطنتُهُ.. الحواراتُ التي لا تنتهي
وشراسةُ الذئب المحاصر.. في الشجارْ"(17).

إن ملامح التكامل الجمالي تتبدى – بوضوح- في إبراز أوجه التحول في مسار الشخصية الزرباوية، فهي متحولة بتحول الحياة وانفتاحها، وصخبها الوجودي، ولهذا وجد صديقه (باسيل) في هذه الشخصية ملامح الجسارة، والعظمة، والقوة فأحبه كثيراً، وجعله مصدر ثقته ليستثمر أمواله الضخمة في منجم للفحم، وقد نجح الشاعر في ابراز أوجه التلاقح الفني بين فكر الرواية، ورؤية القصيدة، بتكامل جمالي يرسم ملامحه الشاعر بعدسة مونتاجية ترصد الحدث والمشاهد المتتابعة التي تحيط بالشخصية عن قرب، وفق المشاهد المتتابعة التالية:

وقال لي..
مَن كان يُغضبٌهُ بما يُبديه من فتَنِ التعالي
كنتُ في " يَلَوا" ..
وقد غادرتُ اسطنبول أَبحثُ عن مُهاجرةٍ أُحِبُّ..
تُقيمُ فيها
ثُمَّ فاجأَني برفقتها هناك.. يَضُمُّها كغزالةٍ بيضاء ناعمةٍ
وأَسرعتُ الخُطى حتى إذا قاربتُ ظِلَّهما..
وكدتُ أقولُ ما في النفس.. غابا..
ثُمَّ قال..
وفي الطريق إلى القرى العذراء .. في الأناضول
فاجأني بهيئته المُريبة..
عمَّةٌ خضراءُ.. شالٌ أخضرٌ.. وعباءةٌ خضراءُ
كانَ بشاربين كبلبلين مُبللين.. ولحيةٍ حمراء
يكتبُ للنساء.. رٌقىً وأدعيةً
مَدَدتُ يدي إلى أوراقه الصفراء.. أكشفُ ما بها
اختلطت عليه.. قوافلٌ وجحافلٌ..
مدنٌ .. وجوهٌ ..لم يُفرِّق بينها
فمضى إلى غيبوبةٍ بيضاء.. تحملُهُ إلى ..
بيروت في الزمن الجميلِ
يتخَطَّف العشاقُ فتنتها.. ولم تبخل بحبٍّ مستحيلِ
والتقينا..
كنتُ منكسراً.. وكان كما الجواد يُجدّد الفرحَ المكابرَ..
بالصهيلِ"(18).

إن التكامل الجمالي في تكثيف المشاهد المتحولة، وإبراز ملمحها الرؤيوي من الفواعل النشطة المحركة للشعرية في هذه القصيدة، مما يدل على أن الشعرية تتأكد فاعليتها بالتكامل المشهدي عبر الانتقال من مشهد إلى آخر، ومن صورة إلى أخرى، ومن حدث إلى آخر،ومن موقف إلى موقف أكثر احتدماً وكثافة ورؤيا؛ وهذا التحول في مسار الشخصية الروائية من مسار نصي إلى آخر، يكثف فواعل الرؤيا النشطة، ويبعث درجات خصوبة المشهد الشعري، وهذا الملمح الجمالي في وصف الشخصية الزرباوية وتحولاتها يشي بتفاعل مشهدي مكثف، يرافق الشخصية الروائية في تحولاتها الوجودية ومغامرتها الحياتية، كما في قوله:( فاجأني بهيئته المُريبة..عمَّةٌ خضراءُ.. شالٌ أخضرٌ.. وعباءةٌ خضراءُ كانَ بشاربين كبلبلين مُبللين.. ولحيةٍ حمراء يكتبُ للنساء.. رٌقىً وأدعيةً)؛ وهذا التكثيف المشهدي في توصيف المشاهد المحيطة بالشخصية الزرباوية يحقق للقصيدة بعدها الإيحائي، وهذا من شأنه أن يرفع من فاعلية الشخصية الروائية في القصيدة، ويكثف متنفسها الإيحائي.
والملاحظ أن التكامل الجمالي على مستوى الأحداث وكثافة المشاهد المتحولة، من فواعل الرؤيا الجمالية في توظيف الشخصية ببعدها الإيحائي والمشهدي، على شاكلة التنويع المشهدي في ترسيم الأحداث، وتحقيق منتجها الإيحائي بين الفينة والأخرى،وكأن القصيدة نقطة توقف وتفعيل مشهدي على مستوى الأحداث والرؤى والتحولات المحيطة بالشخصية الروائية، كما في قوله:

على ضفاف الأبيض المتوسط ..
اقتربتْ سفينتُهُ من الميناءِ ..
في هذا المدى البحريِّ .. تندفعُ الطيور البيضُ نحو القادمين
كأنّها انتظرتهُ..
حتى يستعيد قراءة الأحجار والأشجارِ
ما أبقى على الأبواب من أسراره ..
ما كان من وجعٍ
أيرقصُ مرّةً أخرى ..وقد طردته مملكةُ الغناءْ؟!
واختارَ منفى لا تمرُّ به النساءْ
على ضفاف الأبيض المتوسط..
اقترنت خطاهُ بمأزقِ خَطِرٍ
على الأرض التي احتضنت سريراً ..
ضَمَّ " باسيفي" بكل شرورها.. والطُهرَ في" مينوس"
هل كانت طرائده تقودُ خُطاه في المدن التي عرفته ..
للتفاحة الأولى ..
شميمٌ لاذعٌ وعواصفُ سودٌ
رأى في كلِّ من فتحت له أبوابها.. تفّاحةً أولى
فيقضمها..
وها هو.. بعد أن جفَّتْ ثمارَ حقوله ..
قَضَمَتهُ....
 
ذلك قبرُهُ ..
في كلِّ مقبرةٍ مررتُ بها
وفي كلٍّ البلادْ"(19).

بادئ ذي بدء؛ نشير إلى أن التكامل الجمالي على مستوى الأحداث، و المشاهد المتحولة، من مغريات قصائد (أولئك أصحابي) التي تسعى أن تعرية المواقف المحتدمة، والرؤى المتحولة، وكأن كل حدث شعري أو مشهد شعري، يرصد تحول الشخصية في بعدها الإيحائي، والنفسي، والوجودي معاً، وهذا يعني تكامل المواقف الجمالية في إبراز كل ملمح من ملامح الشخصية الزرباوية في تكثيفها الإيحائي، ومشهدها المأزوم الذي تظهر عليه في كل مرحلة من المراحل؛

واللافت أن الشاعر لم يركز على الشخصية الروائية لتكون مركز الرؤيا التكاملية جمالياً،وإنما ركز على المواقف والأحداث والتحولات الوجودية التي طرأت على الشخصية الروائية لتخليق إبداعها ومضمونها الجمالي الآسر. ومن هنا يمكن القول: إن شعرية أية قصيدة من قصائد أولئك أصحابي تتأسس على الرؤى المشهدية المتحولة، وتتابع المشاهد التي تحيط بالشخصية، لتكون الشخصية الروائية مركز حساسية الرؤيا ومبعث خصوبة التحولات الوجودية المقترنة بها في إحالاتها الجديدة، ومنظوراتها المتغيرة.

وبالعودة إلى مضمار القصيدة، نلحظ أن الشخصية الزرباوية تشكل محور القصيدة، ومنبع ثقلها الرؤيوي، ومردودها الجمالي، فالشاعر يدرك أن اللعبة الشعرية أن يمتلك الشاعر زمام الرؤيا المحركة للشخصية الروائية، ليكسبها حضوراً جديداً موقظاً للرؤى والدلالات الجديدة، مما يعني أن تفاعل الشاعر مع الشخصية الروائية تفاعل وجودي، وليس تفاعلاً متخيلاً للشخصية الروائية بما يجريه الخيال على الشخصية والأحداث الكائنة في الرواية.وهذا يعني أن قوة هذه القصائد جمالياً بمجرياتها التفصيلية من جهة والإحالات المضافة عليها في السياق الشعري؛ وهذا ما يكسبها هذه القوة وهذا الحضور الجمالي في حركتها وتحولاتها ضمن مسار القصيدة.

واللافت أن الشاعر يعود في شخصيته الزرباوية إلى سياقها الروائي، وهو ولعه بالرقص، واللهو وحب النساء، وهذا التحول والمناورة في الاقتراب من الشخصية الروائية والابتعاد عنها هو الذي ساهم في تحريك الشخصية جمالياً عبر تلوين الأحداث، والرؤى المواربة، ليجعل المشاهد مكثفة متتابعة في سياقها وحراكها الرؤيوي النشط، وهذا يضمن شعرية الشخصية وبلاغة الأحداث، وقيمتها في تكثيف الرؤيا الشعرية جمالياً. فالقيم الجمالية لا تتولد من رؤى الرواية ومجريات الأحداث المروية المكتسبة من سياقها الروائي، وإنما من النواشط الرؤيوية البليغة التي تحركها الإحالات والأحداث الجديدة المضافة إلى الشخصية الروائية؛ ومن هذا المنطلق، أدى التكامل الجمالي على مستوى الأحداث والمشاهد المتتابعة دوراً تحفيزاً مهماً في تفعيل الشخصية الزرباوية في القصيدة، لتتعدى زمانها،وأحداثها الماضوية المتوقعة، وتدخل زمن الشاعر المتغير وأحداثه المتغيرة، وهذا الزمن المتغير هو الذي يؤسسه الشاعر لإبراز القيم الوجودية المتغيرة، بما في ذلك المحاورة والتفعيل في الشخصية الزرباوية، وتأسيساً على هذا يمكن أن نعد التكامل الجمالي على مستوى الأحداث، وكثافة المشاهد المتتابعة من مؤشرات الحراك المشهدي، وفاعلية الشخصية الروائية، وقيمة الحدث الشعري الذي تدخل فيه، ولذلك لا عجب أن نجد حيازة شبه كاملة لهذه القصائد لمولدات الاستثارة الجمالية، التي تخلق أواصر تكاملها الجمالي على مستوى المشاهد، والأحداث، والشخصيات، لاسيما حين تتعدى الشخصيات دورها الروائي المباشر، لتدخل عمق الرؤيا في الصميم.

وصفوة القول: إن التكامل الجمالي في قصيدة ( ربما كان زوربا) مؤسس على التلاعب بالأحداث، والمشاهد، واللقطات، والرؤى المتحولة التي ظهرت عليها الشخصية الزرباوية في مسارها الشعري ضمن القصيدة، أي تعدت أحداث الرواية، لتدخل عالم الشاعر المتحول الذي يدل على الانتقال، والقلق الوجودي، والترحال الزمكاني اللامحسوب. وهكذا، تنامت فواعل الاستثارة الجمالية عبر تقنية التكامل الجمالي التي زادت من فاعلية القصيدة، وبلاغة رؤيتها رغم أنها متشعبة الأحداث والمجريات، الأمر الذي قد يشتت رؤى القارئ، ويتيه في خضم أحداثها المتداخلة ومشاهدها المكثفة. لكن الشاعر بفضل هذه التقنية ازدهت قصيدته، تنامت أواصر التفاعل والتكامل بين محاورها ورؤاها لتحقق قيمتها الرؤيوية البليغة، وموقفها الرؤيوي المتحول، على أكثر من رؤية، ودلالة تصيبها في الصميم. وهذا ما جعلها من القصائد المثلى في تحقيق شعرية التكامل الجمالي في رؤاها ومحاورها كافة.

التكامل الجمالي على مستوى الرؤيا والموقف الشعوري الضاغط:

لا شك في أن الشعرية المعاصرة اليوم لم تقف حدَّ الشكل النصي والمضمون الجمالي فحسب، وإنما دخلت فضاء الرؤيا، وآفاق التجريب، وتعد قصائد( أولئك أصحابي) أنموذجاً جمالياً رؤيوياً لمنظومة التكامل الجمالي في شكل التعبير، ومضمون التعبير، ولهذا، لم تكن هذه القصائد بعيدة عن الشخصيات الروائية في رؤاها ومجرياتها وكثافة أحداثها ومتعلقاتها الوجودية، وإنما كانت الشخصيات الروائية متنفس القصائد رؤية وإحساساً، وفضاءَ رؤيا، ومسرح تجريب وحياة، فهي ممتدة على أفاق رؤيوية مفتوحة، أو فضاء لامتناهٍ من الرؤى والإحالات الجديدة؛ ويخطئ من يظن أن هذه القصائد لم تكن ركيزة إبداعها رؤيتها الجمالية وتكاملها الجمالي وتفاعل أحداثها وشخصياتها ضمن القصيدة، ولهذا، تظل هذه القصائد حقلاً خصباً للكشف، والمغامرة، والارتياد الفاعل، لرؤى جديدة، ومواقف لا محسوبة تظهر بعد كل قراءة لهذه القصائد، تنال أفقها الجمالي من قريب أو بعيد. فهذه القصائد ليست رهينة زمن محدد ومكان ثابت، إنها رهينة زمنها الإبداعي المتجدد المفتوح، ولهذا ما قد نكتشفه اليوم في رؤاها ومدلولاتها قد نمحوه غداً لنعلن انفتاحاً رؤيوياً متحولاً في حركتها وتناميها وانفتاحها الرؤيوي الجمالي المتغير دوماً بمواقف ورؤى، ومحركات جديدة تمتد امتداد فاعليتها وتأثيرها الإبداعي الخلاق. وهذا قد يمتد ويمتد أشواطاً كثيرة غير متوقعة في انفتاحها ورقعتها الزمنية.

وبتقديرنا: إن قارئ قصائد (أولئك أصحابي) تنفتح أمامه قنوات رؤيوية واسعة، كلها تصب في دائرة الرؤيا وأفقها التكاملي المفتوح، فقصائد هذه المجموعة ليست مجرد شخصيات روائية محاطة بمجموعة أحداث، ورؤى، وتجارب، وإنما هي شخصيات حية تفيض بدلالات لا حصر لها كلما تعمق بها القارئ، أدرك حيازتها لكم هائل من الرؤى والدلالات المفتوحة، التي تنفتح على رؤى عديدة، تغري القارئ لارتيادها، وتحميلها من الرؤى مالا تحتمل.

ومن أبرز القصائد الدالة على فاعلية التكامل الجمالي على مستوى الرؤيا والموقف الشعري الضاغط قصيدة (صمت البحر ثانية)، وفيها يتمثل الشاعر حميد سعيد رواية" صمت البحر" ل" فيركور" وهو اسم مستعار للرسام والكاتب جان بريلير، وأبرز مظاهر التكامل في هذه القصيدة تكامل رؤاها، ومواقفها، وموحياتها في بث الكثير من الصيحات الاحتجاجية التنديدية الغاضبة على الواقع العراقي الراهن، بمقارنة شعرية تجمع بين الواقعين( الروائي/ والشعري) معاً، بمكاشفة ترصد مظاهر الإجرام والاحتلال الممارسة على الشعوب المستضعفة بالقهر: (الجيش الألماني النازي لفرنسا) و(الجيش الأمريكي للعراق)،ومن خلال هذين الواقعين تتضح شعرية التكامل الجمالي في مسار القصيدة على مستوى الرؤيا والموقف الشعري الضاغط، وهذا ما نستدل عليه من خلال قوله:

"ظلَّ يدفَعُ عنه مخاوِفَهُ .. بالتذكُّرِ
ماذا تَبَقّى له؟
والبلادُ تُفارِقهُ .. وسيرحلُ بعدَ قليلٍ..
إلى أين؟
. . . . . .
. . . . . .
توقظهُ رشقةٌ من رصاصٍ..
يرى كلَّ ما كانَ في بيته..
قبلَ أن يدخل الجنودُ إليهِ..
على غيرِ ما كانَ
إذْ لمْ يَجِدْ ساعة الجدار التي طالما شاركَتْهُ الليالي..
إلى الفجرِ
لا صورة المتنبّي.. التي رافقته من زمن القرنفل البابليِّ
إلى اللحظة الأخيرةِ ..
هذا الحُطامُ الذي يملأُ الأرضَ
كان فضاءُ القصيدةِ
تُقبِلُ من كوكبٍ بعيدٍ .. إليهْ
تُغافِلُهُ
ثمَّ تدنو مُشاكِسَةً .. لتُريه مفاتِنها
تُشعل النار في ما تبقّى من الوقت..
وتتركُ جمرتَها في يديهْ"(20).

إن بلاغة التكامل الجمالي - على مستوى الرؤيا والموقف الشعوري الضاغط- من مؤثرات هذه القصيدة ونقطة تمفصلها الجمالي والإيحائي، ودليلنا أن الشاعر يربط بفاعلية إيحائية عالية أحداث الرواية، بأحداث شخصيته الروائية، ويرصد الواقع الروائي، ويعكسه على الواقع الشعري، أي يتحد الشاعر بواقعه الروائي والشعري، وتزداد قيمة التكامل الجمالي إثارة وعمقاً، كلما اتحدت الرؤيتان معاً، وازدادت أواصر التكامل والتفاعل بينهما، وقد ظهرت ملامح التكامل والتفاعل بينهما من خلال رصد واقعه ورحلة اغترابه المريرة يوم غادر بغداد هرباً من جنود الاحتلال بعدما دمروا منزله، وسرقوا مقتنياته، ومزقوا مخطوطاته، ومكتبته، برابط رؤيوي مشترك بين الجنود الألمان الذين اقتحموا شقة الجد وابنته ليقيموا فيه، دون أن يأبهوا بحرمة البيت الذي دخلوا إليه عنوة وأقاموا فيه، لكن ما كان من الجد وحفيدته إلا الصمت احتجاجاً ورفضاً لهذا الاحتلال، وهذا ما فعله الشاعر عندما أعلن احتجاجه وصمته وغادر البلاد تاركاً صورته الصامتة، وصوته المخنوق، دلالة على قسوة الاحتلال، وعمق الأسى، والصراخ الداخلي المرير، الذي يمزق القلب ،ويدمي الروح، ولم تسعفه في التعبير عن ذلك سوى كلماته على صفحاته الشعرية. ولهذا، وظف الشاعر تقنية المونتاج التصويري المشهدي المركب لرصد تفاصيل المشهد، بعدسة مونتاجية تقرب الأحداث، وتثير الحركة التصويرية الحسية المباشرة، كما في قوله:

"قبلَ أنْ تبدأ القصيدةُ.. طقسَ الحِدادِ
رأى الضابطَ الأمريكيَّ .. مُرتبِكاً
ضائعاً في تضاريسها..
مثلما ضاعَ في ما يرى..
رجلٌ غائبٌ وظلالُ ابنةٍ غائبهْ
رجلٌ واحدٌ.. تتدافعُ في ذهنهِ صورٌ شاحِبهْ
لماذا يجيءُ إلى بيته الضابطُ الأمريكيُّ ؟!
ماذا جرى..
ليرى أصابعَ العريفِ الملوَّنِ..
تعبثُ بالمُعجَمِ العربيِّ؟!
يدوسُ ببسطاله كتبَ الجاحظِ وابنَ المقفَّعِ وابن هشامْ
وما ضمَّتْ المكتبهْ
من فرائدَ..
هل كان بين العريف الملوَّنِ والطبرّي..
عداءٌ قديمْ؟
لماذا تَخَيَّرَ تاريخَه واستباحَ الفصولْ ؟
لوحةٌ من سمرقّند .. حيث المدينة حشدُ قَبابْ
وأخرى..
عجوزٌ يدبُّ على الثلج من أصفهانْ
كلُّ ماكانَ في البيتِ.. غطّى شذاه الدخانْ"(21).

إن القارئ يلحظ الإسقاط الجمالي للحدث الروائي على الحدث الشعري، ويلحظ الاستشفاف الجمالي للواقعين الروائي والشعري معاً، إذ إن الشاعر يجمع الحدثين معاً، والرؤيتين في خانة واحدة، وإحساس واحد، وموقف موحد، وهذه القوة الدافعة في تحفيز القصيدة هي التي حركت الأحاسيس، ونقصد بالقوة الدافعة قوة الإسقاط الجمالي للحدثين معاً، ودمجهما في بوتقة واحدة من التكثيف والإيحاء الشفيف، وكأن تحول الشاعر من شخص القصيدة( الجندي الأمريكي) إلى شخص الرواية( الضابط النازي) دليل تداخل المشاهد والأحداث وتكاملهما جمالياً في التعبير عن الواقعين الروائي والشعري بدقة وتفصيل، فكما دُمِرَت مكتبته ومنزله وانتهكت مقتنياته وأشيائه الثمينة من قبل الجنود الأمريكان؛ فكذلك اقتحم الضباط بيت الجد وحفيدته ليقيموا فيه عنوة، دون أن يجدوا لهم من مانع سوى جدار من الصمت الرهيب الذي خيم على البيت إثر امتناعهما عن الكلام، إلى أن أحسوا بالخيبة تلازم أرواحهم فغادروا خائبين، والملاحظ أن الشاعر استثمر الأجواء الروائية ليقول كلمته الصارخة ،ويعلن احتجاجه الصارخ المرير كما فعل الجد وحفيدته في رواية (صمت البحر) وهو إعلان الصمت احتجاجاً عميقاً عما يعتصر القلب،والملاحظ أن الأفق الرؤيوي المفتوح الذي يمتلكه حميد سعيد قد جعل من هذه الرواية مسرحاً ارتدادياً يرتد من خلاله من حيز الواقع إلى الماضي ،ومن الحدث الراهن إلى الحدث الماضوي الواهن، ليجمع بمداخلة رهيبة أحداث الرواية بأحداث القصيدة، وتتلون الدلالات الصارخة، وتزداد القوى الإيحائية فاعلية كلما تغور القارئ في منعرجات القصيدة، وأمعن في موحياتها ومؤثراتها الجمالية،كما في قوله:

كأنَّ الذي كانَ.. كلّ الذي كانَ..
صارَ سؤالاً..
أما زلتَ بعد الذي كان.. كلّ الذي كانَ..
تَزعمٌ إنَّ الجمالَ
يرفعُ راياته في مواجهة القوّة الغاشمه ْ؟!
منذُ سقراط والفلسفهْ
تَتَخَيَّلُ فردوسها.. وتُسَيِّجُهُ بالملاحم والشعر والمعرفهْ
وفي كلِّ عصرٍ يجيْ الغزاةُ . . بما تحملُ الآزِفَهْ !!
فتمحو السطورَ التي خطّها الحكماءُ ..كما تفعل العاصفهْ"(22).

لاشك في أن للشعر بلاغة ورؤية لاسيما عندما تتكامل الرؤى الجمالية في القصيدة، وتتفاعل الرؤى ضمن مسار القصيدة، فالشاعر هنا، التجأ إلى الأسلوب الالتفاتي، إلى الزمن الماضي ليربط ما حدث له بالأمس إلى ما حدث له الآن في واقعه الراهن، ويربط تاريخه الثقافي وحضارته الماضوية بواقعه الحالي من تخلف، ودمار، وغزاة، وقتل، واحتلال، وكأن المرارة والوجاعة والاحتلال رهينة الشعوب العربية التي كانت ومازالت ضحية القوى الغاشمة التي تتسلط على خيراتها وأراضيها وواقعها الموبوء بالتعفن والفساد منذ القدم، لتكون بلادنا أرض خصبة للمفاسد والطامعين والغزاة على مر التاريخ:( وفي كلِّ عصرٍ يجيْ الغزاةُ . . بما تحملُ الآزِفَهْ !! فتمحو السطورَ التي خطّها الحكماءُ ..كما تفعل العاصفهْ)، وقد وظف الشاعر بعض الأسماء الدالة على الواقع الروائي والشعري معاً، لتكون القصيدة مدونة وجودية تاريخية أو مرجعاً رؤيوياً في توجيه الأحداث والعمل على تكثيف مؤثراتها للدلالة على مرحلة وجودية كاملة، أو واقع معاصر بكل متغيراته وأحداثه المتشعبة؛ كما في قوله:

بينَ صحوٍ وغيبوبةٍ..
جاءَ – ورنرفون – من صفحاتٍ مُمَزَّقَةٍ
وطروسٍ مُحَرَّقَةٍ..
وأناشيد َ بيضْ
هادئاً ونحيلاً
وغابَ العريفُ الملوَّنُ والضابطُ الأمريكيُّ
كأنَّ الرُكامَ الذي كان بيتاً جميلاً..
يعودُ إلى البيتِ
يستقبلُ الهادئ النحيلَ الذي فاجأته الدماءْ
أيّها الهادئ النحيلُ.. كيفَ وصلتَ؟!
وكيفَ ارتضى صاحباكَ.. باخ وموزارتْ ..
أَنْ يشهدا ما شهِدتَ ؟
يَمُدُّ الرصاصُ مخالبهُ في النشيد الألهي..
أو في المقامِ العراقيِّ..
في ما تُغَنّي النساءُ .. لأطفالهنَّ
وينزلُ سيلُ دمٍ من ربابي
تغصُّ به صفحاتُ كتابي"(23).

هنا، يحقق التكامل الجمالي أقصى غاياته عندما يدمج أحداث الرواية بأحداث القصيدة، بواقعه العراقي المرير، وينقل مجرى الأحداث من أجواء الرواية إلى أجواء الواقع، ولذلك، تتحرك القصيدة على أكثر من حدث، أو مشهد، أو مغزى، وهذا يعني أن فضاء الرواية أكثر غنى ومدلولية، بالأحداث المتداخلة والتكامل الجمالي بين الأحداث، بالالتفات من الحدث الروائي إلى الحدث الشعري، ومن الحدث الشعري إلى الحدث الروائي، مما يحقق للقصيدة منتهى الإثارة والتكثيف والإيحاء، وهذا يضمن للقصيدة قوتها البليغة ومسعاها المؤثر.

واللافت أن شعرية القصيدة في تكاملها الفني تتأسس على الوعي الفني بمجريات الأحداث، ومؤثراتها البليغة؛ التي تتمحور على الموقف، والحدث، والمشهد المتحرك، وتأسيساً على هذا تتفاعل أواصر الخصوبة الرؤيوية إثر تفاعل الأحداث، والمشاهد، والرؤى الشعرية، وتكاملها في مشهد واحد، يثير الحساسية، ويرفع وتيرة الشخصيات في القصيدة، لتحكي معاناة الشاعر واغترابه وإحساسه المأزوم من جهة، ومجريات الأحداث الروائية ومشاهدها المكثفة من جهة ثانية، وهذا يضمن لقصائده عمق التكثيف، والفاعلية، وخصوبة الإيحاء؛ ولهذا جاء قوله في الختام غاية في العمق والشفافية والابتكار، كما في قوله:

"بين صحوٍ وغيبوبةٍ.. جاءَ
الفضاءُ الرماديُّ أغلقَ باب الصباحِ ..
من أينَ جاءَ؟
الطريق إليه يَمُرُّ قريباً من الشجرِ المستباحِ..
من اينَ جاءَ ؟
رآهُ.. يُجَمِّعُ أوراقَهُ
ويمسحُ عنها الدماءْ"(24).

لابد من الإشارة بداية إلى أن شعرية التكامل الجمالي تتحدد بفاعلية الرؤيا، ومحفزاتها الجمالية، والشاعر هنا، استطاع ببراعة نسقية أن يثير القارئ بالمشاهد المتحركة التي ترصد الواقعين الروائي والشعري في آن معاً، وكأن الشاعر لا يستعيد الأحداث الروائية بحذافيرها، وإنما يستعيد مجرياتها وتفاصيلها الجزئية محققاً أعلى مظاهر الفاعلية والقيمة الجمالية في القصيدة، بين ماضوية الأحداث الروائية ومتحققاتها الوجودية المكتسبة،والواقع الشعري الراهن بالأحداث الجديدة والرؤى المتغيرة، وهذا ما يحسب لها على الصعيد الإبداعي أنها قصائد متكاملة في فضائها الرؤيوي والجمالي، لا سيما في إبراز تحولات الرؤيتين معاً، وتجسيد اقع الشخصية الروائية؛ سواء في الرواية أم في مسار القصيدة وأحداثها المكثفة .

واللافت أن مجريات الأحداث المكثفة – في هذه القصائد- تعود إلى عمق متخيلها الروائي ومقدرة الشاعر الفائقة على تمثل الشخصية الروائية، بإحساس جمالي وخصوبة إيحائية عالية يعكس من خلالها مجريات حياته العاصفة بالحرقة، والأسى، والاغتراب؛ ولهذا، تعد تقنية التكامل الجمالي من أكثر التقنيات إثارة في تحقيق شعرية القصيدة، وتلوينها بالأنساق المبتكرة.

نتائج أخيرة

إن شعرية التكامل الجمالي في قصائد (أولئك أصحابي) ترتكز على تفاعل المشاهد، والأحداث، والشخصيات، وتكاملها معاً في تعميق شعرية القصيدة، وتكثيف مردودها الجمالي.

إن التكامل الجمالي في قصائد (أولئك أصحابي) يطال الأحداث الواقعية، والرؤى الجديدة التي تتأسس عليها الحركة الجمالية في هذه القصائد، ولذلك، فإن بلاغة (التكامل الجمالي) تتحدد في إبراز الحدث الشعري، وتعميق الموقف الشعري، لاسيما عندما ينتقل الشاعر من الحدث البسيط إلى الحدث المركب، ومن المشهد الأحادي إلى المشهد المركب؛ وهكذا، تتلون الأحداث والمشاهد والرؤى الشعرية، لتصل إلى عمق الرؤيا وبكارتها الشعرية.

إن بلاغة التكامل الجمالي في قصائد (أولئك أصحابي)، لا تتحدد بالفضاء الرؤيوي المبتكر، وتآلف الرؤى، والأحداث، ونواتجها الإيحائية النشطة، وإنما بتآلف المشاهد والأحداث الواقعية، وكأن الحدث الروائي هو تمهيد للحدث الشعري، وكأن الحدث الشعري ناتج من نواتج الحدث الروائي، وهذا ما يجعل التكامل خاصية هذه القصائد في أحداثها الروائية، وأحداثها ورؤاها الشعرية، وهذا ما يضمن لها فاعلية التأثير والشفافية، والخصوبة، وسحر الإيحاء.

إن التكامل الجمالي في قصائد (أولئك أصحابي) تتعدى الفضاء النصي لتدخل عمق الحدث الشعري، وعمق الرؤيتين الواقعية والشعرية في آن معاً، ومن هذا المنطلق، تزداد شعرية القصيدة بتلوين الأنساق الشعرية، وتكاملها الجمالي الفاعل على مستوى الرؤى، والأفكار، وتناغمها في إبراز الحدث الجديد، والمشهد البؤري الذي ترتكز عليه القصيدة في حراكها وتناغمها الرؤيوي المركز.

وصفوة القول: إن شعرية التكامل الجمالي في قصائد (أولئك أصحابي) تبقى في توالد إيحائي فاعل، لاسيما عندما ترتفع المؤثرات الرؤيوية في القصيدة، وتتلون الإيحاءات، تبعاً لعمق الحدث، وفاعلية الرؤيا، ودرجة حساسية الموقف الشعري الجديد الذي تسقطه الشخصية الروائية على الواقع الراهن، وهذا بالتأكيد يضمن بلاغة الشعرية، ومؤثراتها النشطة في جل هذه القصائد، مما يجعل من كل قصيدة كينونة وجود وحركة حياة، يعيشها الشاعر في عالمه الوجودي كجزء لا يتجزأ من مجريات حياته وأحداثها العاصفة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى