الاثنين ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٦
بقلم إبراهيم البوزنداكي

عمى الرموز

إلى أحد مكاتب التصويت، القريب جدا من مركز المدينة، حيث يقطن الكبراء، دخل. كان في نيته أن يقاطع الانتخابات كغيره من الشباب الذين كفروا بديمقراطية البلد. إلى ليلة الانتخابات تفكر في هذا القرار فاهتدى إلى أنه غير سليم تماما، لأن المقاطعين يساهمون من حيث لم يشعروا بفوز من ليس يليق به الفوز. حسب الأمر في ذهنه جيدا ثم قرر في آخر يوم قبل الانتخابات الإدلاء بصوته، لعله أن يميل كفة الميزان لجهة الصالحين.

وجد المكتب مكتظا بالناخبين من الرجال و النساء، فانتظر دوره مطلقا لذهنه العنان. كان رأسه يموج بكثير من الأفكار و الذكريات و المشاريع التي يسوفها في كل مرة. فمثلا كانت لديه القدرة على شراء آلة أو آلتين و فتح تعاونية للأركان تستفيد منها نساء قريته و رجالها أيضا، و لكنه سوّف و أجّل، و انتهى الأمر إلى صرف النظر.

نبهه أحد أعضاء المكتب إلى أن دوره قد حان. نهض بتثاقل نحو طاولة التصويت حيث يجلس مدير المكتب و أعوانه. نظر إلى الصندوق الزجاجي الكبير الذي انتصف بالأوراق و تساءل في أعماقه إن كان رمز الحزب الذي يزمع أن يصوت لصالحه من بين هذه الأوراق المكومة داخل الصندوق؟
صحيح أنه حزب غير تاريخي، لكنه برهن عن دينامية عالية ووطنية راسخة، و أعضاؤه من الأكفاء، يرحلون جنوبا و شمالا للسهر على المصالح.

مد إليه مدير المكتب ورقة التصويت الطويلة الملأى بالرموز، و أشار بيده إلى المعزل. أخذ الورقة و القلم و اتجه إلى المعزل حيث ينفرد هو و ربه بالورقة ليختار رمز الحزب الذي يثق بكونه أهلا ليتولى المسؤولية.

علق مدير مكتب التصويت بعد أن دخل الناخب إلى المعزل:

أعرف هذه الشاكلة جيدا، أغلبهم يأتون فقط للحضور ويفكرون في كونهم أذكياء. لا يصوتون لأحد، أوراقهم تلغى لا يفيدون و لا يستفيدون.

ما إن أكمل كلمته و قبل أن يجيبه أحد خرج الناخب من المعزل بسرعة غريبة و اتجه نحوهم و في عينيه تساؤل.

قال للمدير بصوت هامس:

سيدي ربما أواجه مشكلة مع هذه الورقة، فأنا لا أرى إلا رمزا واحدا متكررا.

اتسعت عينا المدير عن آخرهما و بدا منظره غريبا إذ أشبه البومة. قال بعد ثوان:
هذا غريب أرني الورقة.

أعطاه الورقة فامسكها بيديه و قلبها في كل الاتجاهات دون أن يرى أي رمز متكرر. مررها للأعضاء يريها بعضهم لبعض. قال المدير بعد فترة صمت:

يبدو أن المشكلة في عينيك يا صديقي، فربما أنت مريض بأحد تلك الأمراض الغريبة التي تصيب أعصاب العين أو مركز الرؤية. ربما يكون مرضك هو عمى الرموز على غرار عمى الوجوه و عمى الألوان. ففي حالة عمى الوجوه مثلا يكون بصر الشخص عاديا في رؤية الأشياء المنفردة، فهو يرى كل ملامح الوجه متفرقة. يرى الأنف وحده و يرى العين وحدها و يرى الخد منفردا، لكن مركز رؤيته يعجز عن تركيب وجه من هذه الملامح، فكل الوجوه تتشابه في عين هذا المريض. كذلك ربما تكون عيناك ترى الرموز كلها رمزا واحدا لخلل فيها. قل لي، نسيت أن أسألك، ما هو الرمز الذي تراه متكررا؟ أهو الميزان أم الوردة أم النخلة أم الصنبور؟

قال صديقنا الناخب بعدما تابع كلام المدبر بانتباه ملفت:

بل هو رمز المطرقة يا سيدي.

اتسعت عينا المدير و عيون معاونيه دهشة مرة أخرى قبل أن يغرقوا في الضحك متناسين هيبة المكان و الزمان دون أن يشاركهم الناخب الذي بدت الجدية في قسمات وجهه البعيدة عن السخرية، مما أجبر المدير و من معه على قطع ضحكهم و الالتفات للناخب العجيب.
قال المدير:

أتتكلم جادا يا سيدي؟؟

نعم، أتكلم عن جد، لا أرى ميزانا و لا جرارا و لا وردة و لا حمامة. كل ما أراه متكررا في طول الورقة وعرضها هو المطرقة.

حسن يا سيدي، ربما أنت بحاجة لطبيب نفسي يكشف عليك، لأن ورقة التصويت التي أعطيتك إياها سليمة تماما كغيرها من الأوراق.

حسن جدا، أعطني ورقة أخرى لعلي أرى فيها بعض الرموز الأخرى لئلا أغادر دون أن أؤدي هذا الواجب الوطني.

أعطاه أحد الأعضاء ورقة أخرى. نفضها في يده و كأنها منشفة ثم اتجه تلقاء المعزل.

مضى وقت و المدير يتناقش مع الأعضاء في موضوع هذه الحالة الفريدة. دخل رجال و نساء قاموا بالتصويت و خرجوا. أما صاحبنا الناخب العجيب فلم يخرج من المعزل إلا بعد أن ذهب إليه أحد الأعضاء يستحثه بقوله:

هل نمت يا سيدي، أسرع. يوجد أناس آخرون ينتظرون هذا المعزل.

خرج و اتجه نحو طاولة التصويت، و في يده الورقة و قد طواها على أربع. أسقطها في الصندوق و تنفس الصعداء و كأنه قام بعمل متعب.

سأله المدير و على شفتيه ابتسامة:

ترى هل رأيت رموزا في الورقة غير مطرقتك؟؟

أجابه دون أن يرد على ابتسامته:

أجل يا سيدي، لقد رأيت. يبدو أنني لم أدقق النظر في المرة الأولى، لكن رمز المطرقة لم يتكرر في كل الورقة، كان هناك رمز آخر في أقصى أركانها اليسرى، و هو الذي اخترته.

ظهر فضول كبير على وجوه المدير و أعوانه، مما حدا بأحد الأعضاء أن يسأله بشكل سريع:

و ما هذا الرمز العجيب الذي سيتقاسم الورقة مع المطرقة؟؟

نظر في وجوههم نظرة غريبة جوفاء لا حياة فيها ثم تمتم:

رمز المشنقة ، عمود طويل و في أعلاه عارضة يتدلى منه حبل مفتول على شكل مشنقة. كان ذاك اختياري.

قال ذلك و انطفأت نظرته أكثر من ذي قبل. اتجه ناحية الباب يتبعه صوت المدير و أعوانه:

الله يستر.. الله يستر..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى