الخميس ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٦
بقلم حلمي الزواتي

فهمي مقبل سنديانة فلسطين

شرَّفني المُحْتفى به، أخي وصديقي العلامة الأستاذ الدكتور فهمي توفيق مقبل بتصدير هذا الكتاب، الذي يضم شهادات كوكبة من أعلام الفكر والأدب على مسيرتيه الأكاديمية والعلمية. قـُدِّمتْ هذه الشهادات تلبية لدعوة كريمة من رابطة الكتاب الأردنيين، التي دأبت لسنوات طويلة على تكريم العلماء والمبدعين في أردننا الحبيب. فكان أن تداعى هؤلاء النجوم يوم السبت 24/11/1437هـ، الموافق 27/8/2016م إلى حفل كريم في مدينة إربد الجميلة، تناوبوا فيه على إلقاء كلمات التقدير والثناء على مسيرة هذا العالم الجليل العلمية والأدبية والإنسانية، واختتم الحفل بتسليمه درع الرابطة تقديرا ووفاءً لجهوده المتميزة في هذه الحقول.

لم يكن هذا التصدير محاولتي الأولى للكتابة عن إبداعات هذا العالم الفذ. فلقد سبق لي أن حاولت التعليق على بعض أعماله المتميزة التي تشرفت بقراءتها والإفادة منها، ولكنني في كل مرة كنت أشفق على نفسي من التصدي لأي منها، فأغمد قلمي على أمل أن أستجمع قواي وأعود إليها في وقت لاحق. وما يزيد في عنائي اليوم أنني التزمت بتصدير هذا العمل، وأنا أعلم يقينا أن لغتي أعجز من أن تعبّر عما يجول في خاطري من تقدير وإعجاب يليقان بما أنجزه البروفيسور فهمي مقبل على مدى العقود الأربعة الماضية.

تعود صلتي بالدكتور فهمي إلى حِقبة من حِقب الزمن الجميل، وكان ذلك قبل أربعين عاما إلا قليلا. وحكاية الزمن الجميل هذه تذكرني بما كتبته مؤخرا للأديبة المبدعة الأستاذة الدكتورة هند أبوالشعر حول هذا المصطلح، فقلت: أسميها حِقبة من حِقب الزمن الجميل ليس لجمالها، فنحن جيل النكبة لم نعرف للحياة جمالا، فقد وُلِدنا مَسلوبي الفرح، ولو غافل أحدُنا نفسه وعلت محياه ابتسامة أو ضحكة خجولة استغفر الله وطلب منه أن يعطيه خير ذلك اليوم.*** ولكنني أراها جميلة لأنها كانت تختزن في أرجائها الضيقة مساحة صغيرة لأحلامنا المشروعة في حقنا في الحياة الكريمة، وفي النضال لاستعادة وطننا المغتصب، وذلك قبل أن تضيق علينا الأرض بما صغرت، وقبل أن تـُسلبَ إرادتنا، وتـُحجبَ عقولنا باسم سياسة الأمر الواقع، وفن الممكن، وقبل أن نـُساقَ إلى بيت الطاعة مُكرهين. نعم، لقد صار لزاما على أحدنا أن يسير على كفيه ليرى هذا العالم صحيحا!

يجيء هذا التكريم ونحن في حِقبة سوداء، وجهها وظهرها كقطع الليل المظلم. لقد أصبحت الخيانة اليوم وجهة نظر، وهذا ما كان يَخشاه ويُحذر منه صديقنا المُغتال ناجي العلي قبل ثلاثين عاما! كما أصبح الطعن بثوابت الشرع والأمة وجهة نظر أيضا، تكفلها حرية الرأي وحق التعبير! ومن ثم تحولنا إلى وحوش ينهش بعضنا بعضا. لقد فقدنا الإنسان في ذواتنا، حتى أصبح الوطنُ العربيُّ مرآة مهشمة نخاف أن ننظر فيها. لقد حلت الفئوية والعشائرية مكان الوطنية والقومية؛ والطائفية والتطرف بدلا من التسامح؛ وأصبح اللص سيد الأمين؛ والطبيب عدو المريض؛ والجاهل يقود المتعلم؛ والقاضي عدو العدل؛ والشرطي عدو الأمن .... وبرز بيننا تياران نصّب كل واحد منهما نفسه محاميا مفوضا باسم الشيطان: تيار من يدّّعونَ الإسلام ولا يفهمونَ جوهره، حيث زندقوا مُخالفيهم، واتهموهم بالكفر والإلحاد، فأهدروا دماءهم واستباحوا أموالهم وأعراضهم. وأصحاب التيارالثاني لا دينيّون تنكروا لقيم العدالة وحقوق الإنسان التي أصمّوا آذاننا بها، فوضعوا أيديهم بأيدي قتلة الأطفال والنساء ومغتصبي السلطة، واقتصرت علمانيتهم على مناكفة المسلمين، كل المسلمين بلا استثناء، والاستهزاء بقيمهم العليا، وتسفيه أحلامهم، وشيطنتهم، ووصمهم بالإرهاب دون دليل أو مبرر، مما استفز عقلاء الناس وأكثرهم اعتدالا! إلى أين وصلنا، وإلى أين سننتهي؟ إما تكفيريون دمويون، وإما علمانيون إقصائيون، لا خلاق لهم، ويََسْتـَعدونَ كلَّ من خالفهم! إلى متى هذا الخراب، وإلى أين نحن سائرون؟ لا أدري كم طفلا سيذبح، وكم امرأة سينتهك عرضها، وكم شابا ستتناثر أشلاؤه حتى يقف هذا الجنون المبرمج؟

التقيت أبا باسم في بيروت للمرة الأولى والوحيدة صيف عام 1980، بعدما خبت نار الحرب الأهلية اللبنانية الضروس، التي التهمت الأخضر واليابس على مدى خمس سنوات خلت. قابلته فيها ثلاث مرات خلال أسبوع واحد؛ مرة في مكتبه، وثانية في بيته، وأخرى على مائدته في أحد مطاعم بيروت الجميلة. فتعانقت روحانا إذاك ولم نفترق، مع أننا لم نلتق مرة أخرى وجها لوجه منذ ذلك الحين. لقد بقينا على تواصل مستمر لم تنقطع عراه كما لو كنا نعيش في بيت واحد. وأبو باسم ليس الوحيد من أحبائي الذين لم ألتق بهم على مدى العقود الأربعة الماضية، فلي أخوة وأقارب لم ألتق بهم منذ أكثر من خمسة وأربعين عاما. ألم أقل لكم أن الأرض ضاقت علينا بما صغرت؟

خلال هذه السنوات العجاف جسد الدكتور فهمي أصدق معاني النبل والإخاء قولا وفعلا. همته العالية، وإيثاره الذي لا يُجارى، ومسارعته في الخيرات لا يتسع لها مقال ولا عدة أسفار. تكاد كلمة "لا" تختفي من قاموسه إلا في وجه الباطل. متواضع إلى أبعد الحدود، وكريم حد الإسراف، عزيز نفس في مواطن العزة، ومتبسط سهل لأهله وأحبّائه على كل حال. ولا أذكر يوما أحوجني فيه لمفاتحته في طلب أمر ما. كان ولا يزال لمّاحا يتسلل بصفاء عقله وطيبة قلبه إلى أبعد مما أريد، فيفاجئني به كما لو كنا قد تدارسناه منذ أمد بعيد. ما أطيب قلب أبي باسم، وما أنقى سريرته! ولعل هذا يفسر إخفاق لغتي في التعبير عما يدور في وجداني من تكريم يستحقه هذا العالم الجليل والأخ الأنبل.

لقد نذر الدكتور فهمي نفسه لوطنه ودينه مجاهدا في ريعان شبابه، وعالما مبدعا في ربيعه الثاني، فسخر أبحاثه القيمة الكثيرة لخدمة هذا الهدف النبيل. إن حبه لفلسطين ولعروبته، وأسلوبه الأدبي الراقي يذكرني على الدوام بكتابات الصديق العلامة الراحل البروفيسور الأديب المؤرخ شاكر مصطفى طيب الله تعالى ثراه. عندما كنت أشفق على أبي الحكم وهو يتفانى في خدمة من يتصل به من أهل فلسطين، كان يقول لي: "لن آلو جهدا، لا يكسرني أحد إلا الفلسطيني!". وكتب ذات مرة: "فِلسـطينُ وَقُدسُها التي تـُمْطِرُ سَلاماً وَأَنبِياء، وَأَرضُها المُفعَمَةُ بِالعِطر الإلهي، وَمآذِنهُا المَقهورَةُ بِالحُزْن، وَأََجْراسُ كَنائِسِها التي تـَسْتـَصْرخُ السَّماء. فِلِسْطينُ جُرحي الذي لا يَبْرَأ، وَما كـَتـَبْتُ كَلِمَةً تـَتـَّصِلُ بِها إِلا وَجَدْتُ رُوحي تـَتـَدَفـَّقُ عَلى قَلمي دَماً وَدَمْعاً وَهبَّةَ إِباء. وَعَهْداً أَبَدِيَّاً إِنْ نـَسيتـُكِ يا قـُدْسُ فَليَنـْْسَني اللهُ في مَلكوتِه".**** رحم الله تعالى الدكتور شاكر مصطفى، العالم المؤرخ والأديب المبدع، وأسكنه الفردوس الأعلى. الحمد لله أنه غادر دنيانا قبل أن يقضي حزنا وكمدا على ما ألم بوطنه الحبيب سوريا.

واليوم وأنا اتجول في ربوع ما سطره الأساتذة الأجلاء في تكريم الدكتور فهمي، مستمعا تارة وقارئا تارة أخرى، وجدتني أمام بحر زاخر بالحب والتقدير لشخصه وفكره. لقد ألفيت الكلمات مقطوعة موسيقية واحدة متناغمة وإن تعدد العازفون. هذا اللحن الجميل الخالد يريح النفس والعقل والقلب. ولهذا أعلن عجزي ثانية عن التعليق عليها، فالموسيقى العذبة كاللوحة الجميلة، تـُسمع... تـُشاهد.... ولا تـُشرح. هنيئا لأبي باسم هذا الحب الذي أجمع عليه جل من عرفه، رجلا شريفا مخلصا، وعلامة نابغة احتلت أبحاثه مساحة واسعة ومرموقة في المكتبة العربية، حتى باتت محط إعجاب القريب والبعيد.

أرجو للدكتور فهمي، سنديانة فلسطين، موفور الصحة ومزيد العافية، وأن يبارك الله تعالى في عمره ليرى بلدته السنديانة، ابنة حيفا وجارة الكرمل، وكل قرى فلسطين ومدنها حرة عربية، وما ذلك على الله بعزيز.

* أعدت هذه الورقة لتكون تصديرا لكتاب سيصدر قريبا عن رابطة الكتاب الأردنيين في عمان. يضم الكتاب أوراقا قدمها عدد من أصحاب الفكر والأدب تكريما للأستاذ الدكتور فهمي توفيق مقبل، وتقديرا لمساهماته العلمية والأدبية.

** دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، دكتوراة في الاقتصاد السياسي الدولي للطاقة، شاعِر وأديب، وفقيه وأستاذ في القانونِ الدّولي المـُقارن، وَمُحامٍ دولي لحقوقِ الإنسان. انظر موقع وزارة الثقافة الأردنية على هذا الرابط: http://goo.gl/BFCVef وكذلك موسوعة ويكيبيديا الحرة على هذا الرابط: https://goo.gl/0fKMjm وكذلك راضي صدوق، شعراء فلسطين في القرن العشرين (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000) ص ص 204-205؛ طلعت سقيرق، دليل كتاب فلسطين، الطبعة الأولى (دمشق: دار الفرقد، 1998) ص 65؛ محمد عمر حمادة، موسوعة أعلام فلسطين، 3 مجلدات (دمشق: دار قتيبة، 1985) المجلد الثاني، ص ص 215-217؛ معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، 6 مجلدات (الكويت: مؤسسة البابطين، 1995) المجلد الثاني، ص ص 158-159.

*** حلمي الزواتي، "زهرة ذاكرة الجرح المفتوح على أوجاع الوطن،" مجلة فنون، العدد 39 (ربيع 2013) ص 71.

**** شاكر مصطفى، "هجرة في الجرح: تأملات في أعمال حلمي الزواتي الشعرية الكاملة،" جريدة الوطن، عدد 5464 (الخميس، 3 أيار/مايو 1990) ص 3. أعيد نشرهذه الدراسة كاملة في مجلة ديوان العرب. متوفرة على هذا الرابط: goo.gl/ojaJcm انظر ص 1. تم النظر في هذه الدراسة يوم 7 تشرين اول/أكتوبر 2016.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى